السنن المهجورة (20) سنة الدعاء : ( اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك…)
عن معاذ بن جبل أن رسول صلى عليه وسلم أخذ بيده، وقال: (يا معاذ، والله إني لأحبك، والله إني لأحبك)، فقال: (أُوصيك يا معاذ، لا تَدَعنَّ في دُبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك) صححه الألباني في صحيح أبي داود
أقسم النبي صلى عليه وسلم لمعاذ قائلا : والله إني لأحبك والنبي صلى عليه وسلم أصدق الخلق، ومع ذلك يحلف له أنه يحبه ، والمحب لا شك أنه سينصح للمحبوب، فقال له النبي ﷺ : أوصيك يا معاذ والوصية هي طلب الفعل، أو طلب الترك المؤكد.
هل الأفضل في هذا الدعاء أن يكون قبل السلام أو بعد السلام؟
قوله : (لا تدعن في دبر كل صلاة ) : الحديث عامّ، فيشمل الفريضة والنّافلة، وهذا هو الأصل.
ومعنى ( دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ ) أي عقِبَها وخلفَها، أي: بعد التّسليم، وهذا هو الظّاهر.
وقيل: آخر الصّلاة قبل السّلام، كما أنّ دبر الحيوان آخره.
قال ابن القيّم رحمه الله في “زاد المعاد” (1/305):” ودبر الصّلاة يحتمل قبل السّلام وبعده، وكان شيخنا يرجّح أن يكون قبل السّلام، فراجعته فيه، فقال:” دبر كلّ شيء منه كدبر الحيوان “.
وابن تيمية رحمه الله قد ذكر هذه المسألة في مواضع من الجزء الثّاني والعشرين من “مجموع الفتاوى” ولكنّه لم يجزم بأحد القولين، وحمل هذا الذّكر على نظائره أولى، كالتّسبيح والتّكبير، فإنّ الإجماع انعقد على أنّها تقال دبر الصّلاة بمعنى انقضائها.
وقال ابن عثيمين رحمه الله: الأفضل أن يكون قبل السلام؛ لأنه هكذا ورد في بعض الروايات، ولأن الدعاء يكون قبل السلام؛ كما في حديث ابن مسعود لما ذكر التشهد قال: (ثم ليتخيَّر من الدعاء ما شاء)، وعلى هذا فيقول: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك) قبل أن يُسلِّم، وبعد السلام ماذا قال الله؟ ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ ﴾ [النساء:103]، ما قال: فادعوه.
وأما قول المصلي حينما يُسلم: أستغفر الله، ثلاث مرات؛ فهذا لأن المقصود بهذا الاستغفار ترقيع ما حصل من نقصٍ في الصلاة، فناسَب أن يكون بعد السلام مباشرة؛ لقاء الباب المفتوح (255/22).
قوله : (اللهم أعني) : أعني: بمعنى الاستعانة ، وفي الحديث الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: “احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز“(أَخْرَجَهُ مُسْلِم)
يعني: لا تعتمد على الحرص فقط ولكن مع الحرص استعن بالله -سبحانه وتعالى-؛ لأنّه لا غنى لك عن الله، ومهما بذلْت من الأسباب فإنّها لا تنفع إلاّ بإذن الله -تعالى-، فلذلك جمع بين الأمرين: فعل السبب مع الاستعانة بالله -عزّ وجلّ-.
قال ابن القيم رحمه الله: كثيراً ما كنت اسمع شيخ الإسلام يقول:( إِيَّاكَ نَعْبُدُ) تدفع الرياء (وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) تدفع الكبرياء .
إن أعظم الكرامة أن يمد الله العبد بالعون الذي يجعله مشتاقاً للعبادة متلهفا عليها، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول عن الصلاة: أرحنا بها يا بلال .. قال شيخ الإسلام رحمه الله: (فلم يكرم الله عبداً بمثل أن يعينه على ما يحبه ويرضاه، ويزيده مما يقربه إليه ويرفع به درجته ) .
فنحن نحتاج العون من الله على الذكر وعلى الشكر وحسن العبادة، فالعبد حين لا يعان على الذكر ينغمس في مستنقع الغفلة؛ فيترك القرآن أياماً لا يتلوه؛ ويعجز لسانه أو يغفل عن تسبيحٍ هو من أخف الأعمال وأيسرها على اللسان وأثقلها في الميزان، في حين لا يعجز عن ترديد الأغاني، ولا ينقطع صوته عن الحديث في المجالس بما لا فائدة منه!.
وحين لا يعان العبد على الشكر فإنه لا يرى النعم, ولا يحس بقيمتها, فلذلك يبطرها، فلا عين تُحْفظ عن حرام، ولا لسان يحفظ عن رديء الكلام، ولا رجل تمشي إلى صلاة، ولا يدٌ تمتد بالصدقة والذكر أو ترفع للدعاء .
وحين لا يعان على حسن العبادة فأنه يأتيه ما يشغله عن تحسينها والعناية بها، قال الطيبي: وحسن العبادة المطلوب منه التجرد عما يشغله عن الله . فينشغل ذهنه بما يوهنه، فإن قام إلى الصلاة نقرها نقر الغراب، والتفت فيها التفات الثعلب، وانتهي منها لا يدري ما قرأ، فخرج من صلاته لم يكتب له منها إلا ما عقل.
(أعني على ذكرك)، والذكر يشمل القرآن، وهو أفضل الذكر، ويشمل كل أنواع الذكر من التهليل، والتسبيح، والاستغفار، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والدعاء، والصلاة من الذكر؛ بل هي عون بذاتها، قال الله: ﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ﴾ [البقرة:45].
( وشكرك) أي: شُكر نعمتك الظاهرة والباطنة التي لا يمكن إحصاؤها؛ ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ﴾ [النحل: 18]، والقيام بالشكر يكون بالعمل؛ كما قال اللَّه تعالى: ﴿ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ [سبأ: 13].
ويكون باللسان، بالحمد، والثناء، والتحدث بها؛ قال الله تعالى: ﴿ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ ﴾ [البقرة: 231].
وأعظم الشكر تقوى اللَّه تعالى؛ ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [آل عمران: 123]، ولا شك أن التوفيق إلى الشكر يحتاج إلى شكر آخر، إلى ما لا نهاية.
قال ابن رجب رحمه الله: “كل نعمة على العبد من اللَّه تعالى في دين أو دنيا، تحتاج إلى شكر عليها، ثم التوفيق للشكر عليها نعمة أخرى، تحتاج إلى شكر ثانٍ، ثم التوفيق للشكر الثاني نعمة أخرى يحتاج إلى شكر آخر، وهكذا أبدًا، فلا يقدر العبد على القيام بشكر النعم، وحقيقة الشكر: الاعتراف بالعجز في الشكر.
وقوله: (وحسن عبادتك)، على القيام بها على الوجه الأكمل والأتم، ويكون ذلك من صدق الإخلاص للَّه فيها، واتباع ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعدم الابتداع فيها.
ولم يقل: وكثرة؛ لأن الكثرة قد تكون كغُثاء السيل، وكما في الحديث: (يخرُجُ فيكم قومٌ تَحقِرونَ صلاتَكم معَ صلاتِهم، وصيامَكم معَ صيامِهم، وعملَكم معَ عملِهم، ويقرَؤونَ القرآنَ لا يُجاوِزُ حناجِرَهم، يَمرُقونَ منَ الدينِ كما يَمرُقُ السهمُ منَ الرمِيَّةِ)صحيح البخاري
والمولى سبحانه يقول: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾ [الملك:2]، ليس أكثر، فالنتيجة ليست بالكثرة، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم كَرِه الكثرة؛ لأنها قد تؤدي إلى الملل، ثم العجز فقال (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل)؛ لأن القليل مع الدوام خير من الكثير مع الانقطاع؛ ولذا كان المدار في الأعمال على الإحسان.
وهذا الدعاء جليل القدر، عظيم الشأن لشرف متعلقه، وذلك أن أنفع الدعاء: طلب العون على مرضاته.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : “تأمَّلت أنفع الدعاء، فإذا هو سؤال العون على مرضاته، ثم رأيته في الفاتحة في: “﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾”.لهذا وصى المصطفى صلى الله عليه وسلم حبيبه معاذًا ألا يَدَعَ هذا الدعاء الجليل بعد كل صلاة.