شرح الأربعون النووية
30- إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها
عن أبي ثعلبة الخشني جرثوم بن ناشر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها) حديث حسن رواه الدارقطني وغيره.
ترجمة الراوي:
أبو ثعلبة الخشني جرثوم بن ناشر، قال الدارقطني وغيره: هو من أهل بيعة الرضوان، وأسهم له النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر، وأرسله إلى قومه، وأخوه عمر بن جرهم أسلم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
عن أبي ثعلبة قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، اكتب لي بأرض كذا وكذا بالشام، لم يظهر عليها النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ، فقال: ألا تسمعون ما يقول هذا؟ فقال أبو ثعلبة: والذي نفسي بيده، لنظهرن عليها، فكتب له بها.
قال خالد بن محمد الكندي، سمع أبا الزاهرية: سمعت أبا ثعلبة يقول: إني لأرجو ألا يخنقني الله كما أراكم تخنقون، فبينما هو يصلي في جوف الليل، قبض وهو ساجد، فرأت بنته أن أباها قد مات، فاستيقظت فزعة، فنادت أمها: أين أبي؟ قالت: في مصلاه، فنادته فلم يجبها، فأنبهته فوجدته ميتا، توفي رضي الله عنه سنة خمس وسبعين.
شرح الحديث:
” فرض” أي أوجب قطعا، لأنه من الفرض وهو القطع.
” فرائض” ولا نقول: (فرائضا) لأنها اسم لا ينصرف من أجل صيغة منتهى الجموع.
” فرض فرائض” الفرائض هي الواجبات الشرعية التي أوجبها الله على عباده وألزمهم بها ، ومنها ما يكون واجبا على كل أفراد الأمة ، وهو ما يسمى بالفرائض العينية مثل الصلوات الخمس، والزكاة، والصيام، والحج، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، ومالا يحصى، ومنها ما هو واجب على الكفاية أي : إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين كتغسيل المسلم وتكفينه والصلاة عليه.
” فلا تضيعوها” أي تهملوها فتضيع، بل حافظوا عليها.
“وحد حدودا فلا تعتدوها” الحد في اللغة المنع، ومنه الحد بين الأراضي لمنعه من دخول أحد الجارين على الآخر، وفي الاصطلاح قيل: إن المراد بالحدود الواجبات والمحرمات.
فالواجبات حدود لا تتعدى، والمحرمات حدود لا تقرب.
وقال بعضهم: المراد بالحدود العقوبات الشرعية كعقوبة الزنا، وعقوبة السرقة وما أشبه ذلك.
ولكن الصواب الأول، أن المراد بالحدود في الحديث محارم الله عز وجل الواجبات والمحرمات، لكن الواجب نقول: لا تعتده أي لا تتجاوزه، والمحرم نقول: لا تقربه، هكذا في القرآن الكريم لما ذكر الله تعالى تحريم الأكل والشرب على الصائم قال: (تلك حدود الله فلا تعتدوها) (البقرة: الآية229) ولما ذكر العدة وما يجب فيها قال: (تلك حدود الله فلا تقربوها) (البقرة: 187) .
“وحرم أشياء” (أشياء) منصوبة بدون تنوين لوجود ألف التأنيث الممدودة.
“فلا تنتهكوها” أي فلا تفعلوها، فدعا إلى ترك المعاصي بجميع أنواعها ، مثل: الزنا، وشرب الخمر، والقذف، وأشياء كثيرة لا تحصى.
وإنما عبر هنا بلفظ الانتهاك؛ ليبين ما عليه حال من يقارف المعاصي من تعد وعدوان على أحكام الله عزوجل ، فأتى بهذه اللفظة للتنفير عن كل ما نهى الله عنه.
وطرق التحريم كثيرة، منها: النهي، ومنها: التصريح بالتحريم، ومنها: ذكر العقوبة على الفعل، ولإثبات التحريم طرق.
“وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها” سكت عن أشياء بمعنى لم يقل فيها شيئا، أي لم يحرمها ولم يفرضها، فإذا لم يرد نص في حكم مسألة ما ، فإننا نبقى على الأصل ، وهو الإباحة.
وقوله: “غير نسيان” أي أنه عز وجل لم يتركها ناسيا (وما كان ربك نسيا) (مريم: الآية64) ولكن رحمة بالخلق حتى لا يضيق عليهم.
والنسيان مستحيل على الله، فإن قال قائل: ما الجواب عن قول الله تعالى: (نسوا الله فنسيهم) (التوبة: الآية67) فأثبت لنفسه النسيان؟
فالجواب: أن المراد: النسيان هنا نسيان الترك، يعني تركوا الله فتركهم. فهؤلاء تعمدوا الشرك وترك الواجب، ولم يفعلوا ذلك نسيانا. إذا: (نسوا الله) أي تركوا دين الله (فنسيهم) أي فتركهم؛ أما النسيان الذي هو الذهول عن شيء معلوم فهذا لا يمكن أن يوصف الله عز وجل به، بل يوصف به الإنسان، لأن الإنسان ينسى، ومع ذلك لا يؤاخذ بالنسيان لأنه وقع بغير اختيار.
“فلا تبحثوا عنها” هل هذا النهي في عهد الرسالة، أم إلى الآن؟
في هذا قولان للعلماء الراجح أن هذا خاص في عهد الرسالة، لأن ذلك عهد نزول الوحي، فقد يسأل الإنسان عن شيء لم يحرم فيحرم من أجله، أو عن شيء لم يجب فيوجب من أجله، كما سأل الأقرع بن حابس النبي صلى الله عليه وسلم حين قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الله فرض عليكم الحج” فقام الأقرع وقال: يا رسول الله أفي كل عام؟ وهذا سؤال في غير محله، اللهم إلا إذا كان الأقرع بن حابس أراد أن يزيل الوهم الذي قد يعلق في أفهام بعض الناس، فالله أعلم بنيته، لكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لو قلت نعم لوجبت وما استطعتم، الحج مرة فما زاد فهو تطوع” (اخرجه أبو داود) من أعظم الناس جرما من يسأل عن شيء لم يحرم فيحرم من أجل مسألته، أو لم يوجب فيوجب من أجل مسألته.
أما بعد عهد الرسالة فلا بأس أن يبحث طلبة العلم، لأن طالب العلم ينبغي أن يعرف كل مسألة يحتمل وقوعها حتى يعرف الجواب، وأما إذا لم يكن كذلك فلا يبحث، بل يمشي على ما كان عليه الناس.
ومن ذلك: البحث عما جد من مكونات ومواد تضاف إلى الأطعمة المختلفة، وما جد من معاملات مالية في البنوك والبورصة والعملات الرقمية …الخ.
لكن مع ملاحظة ألا يكون ذلك على سبيل التكلف، فلا يسأل عن الأشياء النادرة، أو التي لا تقع، أو يبعد وقوعها جدا، أو صعاب المسائل التي يسمونها بالأغاليط، فهذا كله السؤال عنه مذموم، ولا يطلب أيضا من المسؤول أن يجيب عليه، ولا يكون ذلك من قبيل كتمان العلم.
الفوائد من هذا الحديث:
1-إثبات أن الأمر لله عز وجل وحده، فهو الذي يفرض، وهو الذي يوجب، وهو الذي يحرم، فالأمر بيده، لا أحد يستطيع أن يوجب مالم يوجبه الله، أو يحرم مالم يحرمه الله.
2- أن على المسلم فعل الفرائض وترك المحرمات.
3- وجوب المحافظة على فرائض الله عز وجل، مأخوذ من النهي عن إضاعتها، فإن مفهومه وجوب المحافظة عليها.
4- أن الله عز وجل حد حدودا، بمعنى أنه جعل الواجب بينا والحرام بينا: كالحد الفاصل بين أراضي الناس.
5- تحريم تعدي حدود الله، لقوله: “فلا تعتدوها”.
6 – انتفاء النسيان عن الله عز وجل، وهذا يدل على كمال علمه، وأنه بكل شيء عليم.
7- أنه لا بأس بعد انقطاع الوحي بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم لا بأس أن يبحث طلبة العلم عما جد من أمور تشمل الطعام والمعاملات المالية، على ألا يكون ذلك على سبيل التكلف، فلا يسأل عن الأشياء النادرة، أو التي لا تقع، أو يبعد وقوعها جدا.