(2)الهلال بين الرؤية والحساب الفلكي
لماذا فرض الله الصوم شهرًا قمريًا؟
فرض الله الصيام شهرًا قمريًا لجملة حكم وأسباب، منها :
1- أن توقيت المسلمين كله بالأشهر القمرية، كما في حول الزكاة، والحج، وعِدَد النساء، وغيرها، قال تعالى: (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) (البقرة :189).
2- أن توقيت المسلمين بالأشهر القمرية، توقيت طبيعي، تدل عليه علامة طبيعية هي ظهور الهلال.
3- أن الشهر القمري يتنقل بين فصول العام، فتارة يكون في الشتاء، وطورًا يكون في الصيف، وكذا في الربيع والخريف، فمرة يأتي في أيام البرد، وأخرى في شدة القيظ، وثالثة في أيام الاعتدال، وتطول أيامه حينًا، وتقصر حينًا، وتعتدل حينًا.
وبذلك يتاح للمسلم ممارسة الصوم في البرد والحر، وفي طوال الأيام وقصارها.
وفي هذا توازن واعتدال من ناحية، وإثبات عملي لطاعة المسلم لربه وقيامه بواجب العبادة له في كل حين، وفي كل حال.
الشهر (29) أو (30) يومًا
والشهر القمري لا ينقص عن 29 يومًا، ولا يزيد عن 30 يومًا، ثبت ذلك بنصوص الشرع، كما ثبت باستقراء الواقع.
وسواء كان الشهر ثلاثين أم تسعة وعشرين، فإن الأجر عند الله واحد في الصيام والقيام والعمل الصالح، وهذا معنى الحديث المتفق عليه: “شهران لا ينقصان، شهرًا عيد: رمضان وذو الحجة” وإنما خصهما بالذكر لتعلق فريضتين عظيمتين من فرائض الإسلام بهما، فالأول شهر الصوم، والثاني شهر الحج.
بم يثبت دخول الشهر؟
بظهور الهلال في الأفق، فالهلال هو العلامة الحسية لدخول الشهر، وكذلك خروجه بظهور هلال شوال.
ولكن: ما الوسيلة لإثبات ظهور الهلال؟
الوسيلة هي رؤية الهلال بالأبصار.
فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: صوموا لرؤيته (أي الهلال)، وأفطروا لرؤيته، فإن غَبِي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين” متفق عليه
ومعنى “غَبِي”: من الغباء، وهو الغبرة في السماء ، وفي لفظ (غم عليكم ) أي خفي وغطاه سحاب.
ويثبت دخول رمضان بأحد طريقين :
1- رؤية الهلال.
2- أو إكمال عدة شعبان ثلاثين.
فأما الرؤيةُ:
فقد اختلف فيها الفقهاء : أهي رؤية واحد عدل، أم رؤية عدلين اثنين، أم رؤية جم (جمع )غفير من الناس ؟
فمَنْ قال : يقبل شهادة عدل واحد، استدلَّ بحديث ابن عمر، قال : تراءى الناس الهلال، فأخبرت النبي أني رأيته، فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر الناس بصيامه رواه أبو داود
ومَنْ اشترط في الرؤية عدلين، استدل بما روى الحسين بن حريث الجدلي قال : خطبنا أمير مكة الحارث بن حاطب، فقال : أمرَنَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن ننسكَ لرؤيته، فإن لم نَرهُ فشَهدَ شاهدان عدلانِ نَسَكْنا بشهادتيهما رواه أبو داود.
وقياسًا على سائر الشهود، فإنها تثبت بشهادة عدلين ..
أمّا من اشترط الجم الغفير أو الجمع الكثير فهم الحنفية، وذلك في حالة الصحو(السماء صافية )، فقد أجـازوا في حالة الغيم أن يشهد برؤيته واحد، إذ قد ينشقُّ عنه الغيم لحظـة فيراه واحـد، ولا يراه غيره من الناس .
ولكن إذا كانت السماءُ صافية، ولا سحابَ ، ولا حائل يحول دون الرؤية، فما الذي يجعل واحدًا من الناس يراه دون الآخرين ؟
لهذا قالوا: لابد من إخبار جمع عظيم؛ لأن التفرد من بين الجم الغفير بالرؤية ـ مع توجههم طالبين لما توجه هو إليه، مع فرض عدم المانع، وسلامة الأبصار ـ وإن تفاوتت في الحدة ظاهر في غلطه (ذكره في حاشية ابن عابدين نقلا عن البحر 92/2).
وأما خبر ابن عمر والأعرابي ـ وفيهما إثبات الهلال برؤية واحد ـ فقد قال العلامة رشيد رضا في تعليقه على ” المغني” : (ليس في الخـبرين أن الناس تراءوا الهلالَ، فلم يره إلا واحد، فهما في غير محل النزاع، ولاسيما مع أبي حنيفة، وبهذا يبطل كل ما بني عليهما). (انظر التعليق على المغني مع الشرح 93/3).
ومن الواجب على المسلمين التماس الهلال يوم التاسع والعشرين من شعبان عند الغروب ؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، إلاَّ أنه واجب على الكفاية .
والطريقة الثانية:
إكمال عدة شعبان ثلاثين يوما، سواء كان الجو صحوًا أم غائمًا، فإذا تراءوا الهلال ليلة الثلاثين من شعبان ولم يره أحد، استكملوا شعبان ثلاثين .
كما قال الحديث : ” إذا غم عليكم فاقدروا له “، فما معنى ” اقدروا له”؟
قال أبو حنيفة والشافعي وجمهور السلف والخلف : معناه : قدروا له تمام العدد ثلاثين يومًا .
واحتج الجمهور بالروايات التي ذكرناها، وكلها صحيحة صريحة : ” فأكملوا العدة ثلاثين “، ” فاقدروا له ثلاثين “، وهي مفسرة لرواية : ” فاقدروا له ” المطلقة)
إذا رُؤى الهلال في بلد، فهل يلزم جميع المسلمين ؟
في هذه المسألة ثلاثة أقوال لأهل العلم:
الأول: إذا رأى الهلال أهل بلد لزم جميع البلاد الصوم دون اعتبار اختلاف المطالع:
وهذا هو المعتمد عند الحنفية، ومذهب المالكية، وبعض الشافعية، والمشهور عند الحنابلة .
– قالوا: لأن الخطاب في قوله صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته » لكل المسلمين، ولأن ذلك أقرب إلى اتحاد المسلمين وتوحيد كلمتهم .
الثاني: أن لكل بلد رؤيتهم:
وقد نقله ابن المنذر عن عكرمة والقاسم وسالم وإسحاق ، ودليلهم حديث كريب -مولى ابن عباس- قال: «قدمت الشام واستهل عليَّ هلال رمضان، وأنا بالشام، فرأينا الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني ابن عباس، ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ قلت: رأيناه ليلة الجمعة، فقال: أنت رأيته ليلة الجمعة؟ قلت: نعم ورآه الناس، وصاموا، وصام معاوية، فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه، فقلت: ألا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم» رواه مسلم
وقوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} سورة البقرة: 185.
ومفهومه أن من لم يشهده لا يصوم حتى يراه أو يكمل عدة شعبان.
الثالث: أنه يجب الصوم على البلاد التي لا تختلف مطالعها:
وهذا أصح الأوجه عند الشافعية ومذهب بعض المالكية والحنفية وقول عند الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام وهذا هو القول الوسط في المسألة، فإن المطالع تختلف باتفاق أهل المعرفة، فإن اتفقت لزم الصوم، وإلا فلا.
وعلى الرغم من أني أقول بالقول الأول (الكلام على لسان الشيخ القرضاوي) وأعتقد رجحانه وهوإذا رأى الهلال أهل بلد لزم جميع البلاد الصوم دون اعتبار اختلاف المطالع ، إلا أنه رأي نظري لم يأخذ طريقه إلى التطبيق الفعلي في تاريخ المسلمين منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا تعلم فترة جرى فيها توحيد المسلمين على رؤية واحدة إلا أن يكون حصل ذلك عرضاً ودون ترتيب لذلك الأمر .
وقد يستغرب بعض الناس هذا الكلام ولكنه الواقع ، لأن جمع المسلمين على رؤية واحدة عند الصيام أو عند الأعياد ، يحتاج إلى وسائل إتصالات حديثة وسريعة حتى يصل الخبر خلال ساعات إلى جميع أنحاء العالم الإسلامي ليصوموا في نفس اليوم ، وهل هذا الأمر كان متوفراً للمسلمين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد الخلفاء من بعده ؟!
ونحن نعلم أن وسائل الاتصال الحديثة قريبة العهد ،ولا شك أنني آمل أن يتحقق جمع المسلمين على رؤية واحدة وأن هذا الأمر لسهل ميسور في هذا الزمان مع تقدم وسائل الإتصال ولكن إلى أن يتحقق هذا الأمل ، أقول : بأنه يجب على أهل كل بلد من بلدان المسلمين أن يصوموا في يوم واحد وأن يكون عيدهم في يوم واحد .
وضابط هذا الأمر هو الإلتزام بما يصدر عن أهل العلم في ذلك البلد وهم أولوا الأمر من العلماء وطاعتهم في ذلك طاعة في المعروف وإن كان هذا مخالفاً لرؤية أهل بلد آخر ، لأن الأصل في الصوم أن يكون مع جماعة المسلمين وعامتهم لما ثبت في الحديث من قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون ) رواه الترمذي وأبو داود والبيهقي وهو حديث صحيح .
وبما أن المسألة خلافية ، فإن حكم الحاكم يرفع الخلاف ، فيجب على من رأى أن المسألة مبنية على المطالع، ألا يظهر خلافاً لما عليه الناس.
ويقول الدكتور يوسف القرضاوي : إن السعي إلى وحدة المسلمين في صيامهم وفطرهم، وسائر شعائرهم وشرائعهم، أمر مطلوب دائمًا، ولا ينبغي اليأس من الوصول إليه ولا من إزالة العوائق دونه، ولكن الذي يجب تأكيده وعدم التفريط فيه بحال، هو: أننا إذا لم نصل إلى الوحدة الكلية العامة بين أقطار المسلمين في أنحاء العالم، فعلى الأقل يجب أن نحرص على الوحدة الجزئية الخاصة بين أبناء الإسلام في القطر الواحد.
فلا يجوز أن نقبل بأن ينقسم أبناء البلد الواحد، أو المدينة الواحدة، فيصوم فريق اليوم على أنه من رمضان، ويفطر آخرون على أنه من شعبان، وفي آخر الشهر تصوم جماعة، وتعيّد أخرى فهذا وضع غير مقبول.
فمن المتفق عليه أن حكم الحاكم، أو قرار ولي الأمر يرفع الخلاف في الأمور المختلف فيها.
فإذا أصدرت السلطة الشرعية المسؤولة عن إثبات الهلال في بلد إسلامي – المحكمة العليا، أو دار الإفتاء، أو رئاسة الشؤون الدينية، أو غيرها – قرارها بالصوم أو بالإفطار، فعلى مسلمي ذلك البلد الطاعة والالتزام، لأنها طاعة في المعروف، وإن كان ذلك مخالفًا لما ثبت في بلد آخر، فإن حكم الحاكم هنا رجح الرأي الذي يقول: إن لكل بلد رؤيته.
وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون” رواه الترمذي
وفي لفظ: “وفطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون” أبو داود
هل يجوز الأخذ بالحساب الفلكي ؟
ذهب بعض كبار العلماء في عصرنا إلى إثبات الهلال بالحساب الفلكي العلمي القطعي، وكتب في ذلك المحدث الكبير العلامة أحمد محمد شاكر – رحمه الله – رسالته، في ” أوائل الشهور العربية : هل يجوز إثباتها شرعًا بالحساب الفلكي ؟ ”
وسنعود لنقل رأيه مفصلا ، ومـن المنـادين بهـذا الرأي في عصــرنا الفقــيه الكـبير الشــيخ مصطـفى الزرقـــا – حفظه الله -.
والذي يظهر من الأخبار أن الذي رفضه الفقهاء من علم الهيئة أو الفلك، هو ما كان يسمى ” التنجيم ” أو ” علم النجوم ” وهو ما يُدَّعَى فيه معرفة بعض الغيوب المستقبلية عن طريق النجوم، وهذا باطل، وهو الذي جاء فيه الحديث الذي رواه أبو داود وغيره عن ابن عباس مرفوعًا : ” مَنْ اقتبس علمًا من النجوم اقتبس شعبة من السحر “. رواه أبو داود
ولكن علم الفلك الحديث يقوم على المشاهدة بوساطة الأجهزة وعلى الحساب الرياضي القطعي ، والذي غدا يملك من الإمكانات العلمية والعملية ” التكنولوجية ” ما جعله يصل بالإنسان إلى سطح القمر، ويبعث بمراكز فضائية إلى الكواكب الأكثر بعدًا، وغدت نسبة احتمال الخطأ في تقديراته (1 – 100000 )” واحدًا إلى مائة ألف ” في الثانية ؛ وأصبح من أسهل الأمور عليه أن يخبرنا عن ميلاد الهلال فلكيًا، وعن إمكان ظهوره في كل أفق بالدقيقة والثانية، لو أردنا .
رؤية الهلال لإثبات الشهر وسيلة متغيرة لهدف ثابت: إن الحديث الشريف أشار إلى هدف، وعيّن وسيلة ، أما الهدف من الحديث فهو واضح بين، وهو أن يصوموا رمضان كله، ولا يضيعوا يومًا منه، أو يصوموا يومًا من شهر غيره، كشعبان أو شوال، وذلك بإثبات دخول الشهر أو الخروج منه، بوسيلة ممكنة مقدورة لجمهور الناس، لا تكلفهم عنتًا ولا حرجًا في دينهم.
وكانت الرؤية بالأبصار هي الوسيلة السهلة والمقدورة لعامة الناس في ذلك العصر، فلهذا جاء الحديث بتعيينها ؛ لأنه لو كلفهم بوسيلة أخرى كالحساب الفلكي – والأمة في ذلك الحين أمية ولا تحسب – لأرهقهم من أمرهم عسرا، واللَّه يريد بأمته اليسر ولا يريد بهم العسر، وقد قال عليه الصلاة والسلام عن نفسه : ” إن اللّه بعثني معلمًا ميسرًا، ولم يبعثني معنتًا “. (رواه مسلم وغيره).
فإذا وجدت وسيلة أخرى أقدر على تحقيق هدف الحديث، وأبعد عن احتمال الخطأ والوهم والكذب في دخول الشهر، وأصبحت هذه الوسيلة ميسورة غير معسورة، ولم تعد وسيلة صعبة المنال، ولا فوق طاقة الأمة، بعد أن أصبح فيها علماء وخبراء فلكيون وجيولوجيون وفيزيائيون متخصصون على المستوى العالمي، وبعد أن بلغ العلم البشري مبلغًا مكن الإنسان أن يصعد إلى القمر نفسه، وينزل على سطحه، ويجوس خلال أرضه، ويجلب نماذج من صخوره وأتربته ! فلماذا نجمد على الوسيلة – وهي ليست مقصودة لذاتها – ونغفل الهدف الذي نشده الحديث ؟ !
لقد أثبت الحديث دخول الشهر بخبر واحد أو اثنين يدعيان رؤية الهلال بالعين المجردة، حيث كانت هي الوسيلة الممكنة والملائمة لمستوى الأمة، فكيف يتصور أن يرفض وسيلة لا يتطرق إليها الخطأ أو الوهم، أو الكذب، وسيلة بلغت درجة اليقين والقطع، ويمكن أن تجتمع عليها أمة الإسلام في شرق الأرض وغربها، وتزيل الخلاف الدائم والمتفاوت في الصوم والإفطار والأعياد، إلى مدى ثلاثة أيام تكون فرقا بين بلد وآخر (في رمضان هذا العام (1409هـ) ثبت دخول رمضان يوم الخميس الموافق السادس من أبريل 1989 م في المملكة العربية السعودية، والكويت، وقطر، والبحرين، وتونس وغيرها، كلها برؤية المملكة، وثبت دخوله في مصر والأردن والعراق والجزائر والمغرب وغيرها يوم الجمعة، أما باكستان والهند وعمان وإيران وغيرها فصاموا يوم السبت !!.)، وهو ما لا يعقل ولا يقبل لا بمنطق العلم، ولا بمنطق الدين، ومن المقطوع به أن أحدها هو الصواب والباقي خطأ بلا جدال .
إن الأخذ بالحساب القطعي اليوم وسيلة لإثبات الشهور، يجب أن يقبل من باب ” قياس الأولي”، بمعني أن السنة التي شرعت لنا الأخذ بوسيلة أدني، لما يحيط بها من الشك والاحتمال – وهي الرؤية – لا ترفض وسيلة أعلى وأكمل وأوفي بتحقيق المقصود، والخروج بالأمة من الاختلاف الشديد في تحديد بداية صيامها وفطرها وأضحاها، إلى الوحدة المنشودة في شعائرها وعباداتها، المتصلة بأخص أمور دينها، وألصقها بحياتها وكيانها الروحي، وهي وسيلة الحساب القطعي .
يقول العلامة المحدث الكبير الشيخ أحمد شاكر – رحمه اللّه – في رسالته ” أوائل الشهور العربية ” : (فمما لا شك فيه أن العرب قبل الإسلام وفي صدر الإسلام لم يكونوا يعرفون العلوم الفلكية معرفة علمية جازمة، كانوا أمة أميين، لا يكتبون ولا يحسبون، ومن شدا منهم شيئًا من ذلك فإنما يعرف مبادئ أو قشورا، عرفها بالملاحظة والتتبع، أو بالسماع والخبر، لم تبن على قواعد رياضية، ولا على براهين قطعية ترجع إلى مقدمات أولية يقينية، ولذلك جعل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مرجع إثبات الشهر في عبادتهم إلى الأمر القطعي المشاهد الذي هو في مقدور كل واحد منهم، أو في مقدور أكثرهم . وهو رؤية الهلال بالعين المجردة، فإن هذا أحكم وأضبط لمواقيت شعائرهم وعباداتهم، وهو الذي يصل إليه اليقين والثقة مما في استطاعتهم، ولا يكلف اللّه نفسًا إلا وسعها .
لم يكن مما يوافق حكمة الشارع أن يجعل مناط الإثبات في الأهلة الحساب والفلك، وهم لا يعرفون شيئًا من ذلك في حواضرهم، وكثير منهم بادون لا تصل إليهم أنباء الحواضر، إلا في فترات متقاربة حينا، ومتباعدة أحيانا، فلو جعله لهم بالحساب والفلك لأعنتهم، ولم يعرفه منهم إلا الشاذ والنادر في البوادي عن سماع إن وصل إليهم، ولم يعرفه أهل الحواضر إلا تقليدًا لبعض أهل الحساب، وأكثرهم أو كلهم من أهل الكتاب .
ثم فتح المسلمون الدنيا، وملكوا زمام العلوم، وتوسعوا في كل أفنانها، وترجموا علوم الأوائل، ونبغوا فيها، وكشفوا كثيرًا من خباياها، وحفظوها لمن بعدهم، ومنها علوم الفلك والهيئة وحساب النجوم .
وكان أكثر الفقهاء والمحدثين لا يعرفون علوم الفلك، أو هم يعرفون بعض مبادئها، وكان بعضهم، أو كثير منهم لا يثق بمن يعرفها ولا يطمئن إليه، بل كان بعضهم يرمي المشتغل بها بالزيغ والابتداع، ظنا منه أن هذه العلوم يتوسل بها أهلها إلى ادعاء العلم بالغيب – التنجيم – وكان بعضهم يدعي ذلك فعلا، فأساء إلى نفسه وإلى علمه، والفقهاء معذورون، ومن كان من الفقهاء والعلماء يعرف هذه العلوم لم يكن بمستطيع أن يحدد موقفها الصحيح بالنسبة إلى الدين والفقه، بل كان يشير إليها على تخوف .
هكذا كان شأنهم، إذ كانت العلوم الكونية غير ذائعة ذيعان العلوم الدينية وما إليها، ولم تكن قواعدها قطعية الثبوت عند العلماء.
وهذه الشريعة الغراء السمحة، باقية على الدهر، إلى أن يأذن اللّه بانتهاء هذه الحياة الدنيا، فهي تشريع لكل أمة، ولكل عصر، ولذلك نرى في نصوص الكتاب والسنة إشارات دقيقة لما يستحدث من الشئون، فإذا جاء مصداقها فسرت وعلمت، وإن فسرها المتقدمون على غير حقيقتها .
وقد أشير في السنة الصحيحة إلى ما نحن بصدده، فروى البخاري من حديث ابن عمـر عـن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ” إنـا أمـة أمية، لا نكتب ولا نحسب، الشهـر هكـذا وهكذا … ” يعني مرة تسعة وعشرين، ومرة ثلاثين (رواه البخاري في كتاب الصوم) . ورواه مالك في الموطأ (الموطأ 1/ 269) . والبخاري ومسلم وغيرهما بلفظ : ” الشهر تسعة وعشرون، فلا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له ” .
وقد أصاب علماؤنا المتقدمون رحمهم اللّه في تفسير معنى الحديث ، وأخطأوا في تأويله، ومن أجمع قول لهم في ذلك قول الحافظ ابن حجر (فتح الباري 108/4، 109).: المراد بالحساب هنا حساب النجوم وتسييرها، ولم يكونوا يعرفون من ذلك إلا النزر اليسير .
فعلق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية، لرفع الحرج عنهم في معاناة التسيير، واستمر الحكم في الصوم ولو حدث بعدهم من يعرف ذلك . بل ظاهر السياق ينفي تعليق الحكم بالحساب الأصلي، ويوضحه قوله في الحديث الماضي : ” فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين “، ولم يقل : فسلوا أهل الحساب، والحكمة فيه كون العدد عند الإغماء استوى فيه المكلفون، فيرتفع الاختلاف والنزاع عنهم، وقد ذهب قوم إلى الرجوع إلى أهل التسيير في ذلك، وهم الروافض .
(لا ندري من ذا يريد الحافظ بالروافض ؟ إن كان يريد الشيعة الإمامية فالذي نعرفه من مذهبهم أنه لا يجوز الأخذ بالحساب عندهم، وإن كان يريد ناسًا آخرين فلا ندري من هم !! أحمد شاكر : أقول : أظن أن المراد بهم الإسماعيلية ، فقد نقل أنهم يقولون بذلك “القرضاوي”)
ونقل عن بعض الفقهاء موافقتهم، قال الباجي : وإجماع السلف الصالح حجة عليهم، وقال ابن بزيزة : وهو مذهب باطل، فقد نهت الشريعة عن الخوض في علم النجوم؛ لأنها حدس وتخمين، ليس فيها قطع ولا ظن غالب مع أنه لو ارتبط الأمر بها لضاق، إذ لا يعرفها إلا القليل
فهذا التفسير صواب، في أن العبرة بالرؤية لا بالحساب، والتأويل خطأ، في أنه لو حدث من يعرف استمر الحكم في الصوم- أي باعتبار الرؤية وحدها ـ لأن الأمر باعتماد الرؤية وحدها جاء معللا بعلة منصوصة، وهي أن الأمة ” أمية لا تكتب ولا تحسب “، والعلة تدور مع المعلول وجودًا وعدمًا، فإذا خرجت الأمة عن أميتها، وصارت تكتب وتحسب، أعني صارت في مجموعها ممن يعرف هذه العلوم، وأمكن الناس – عامتهم وخاصتهم – أن يصلوا إلى اليقين والقطع في حساب أول الشهر، وأمكن أن يثقوا بهذا الحساب ثقتهم بالرؤية أو أقوي، إذا صار هذا شأنهم في جماعتهم وزالت علة الأمية : وجب أن يرجعوا إلى اليقين الثابت، وأن يأخـذوا في إثبات الأهلـة بالحسـاب وحـده، وألا يرجعوا إلى الرؤية إلا حين استعصى عليهم العلم به، كما إذا كان ناس في بادية أو قرية، لا تصل إليهم الأخبار الصحيحة الثابتة عن أهل الحساب .
وإذا وجب الرجوع إلى الحساب وحده بزوال علة منعه، وجب أيضًا الرجوع إلى الحساب الحقيقي للأهلة، وإطراح إمكان الرؤية وعدم إمكانها، فيكون أول الشهر الحقيقي الليلة التي يغيب فيها الهلال بعد غروب الشمس، ولو بلحظة واحدة.
(المرجح أن يبقى بعد الغروب مدة يمكن فيها ظهوره، بحيث يمكن رؤيته بالعين المجردة، وذلك نحو (15) أو (20) دقيقة على ما ذكر أهل الاختصاص، “القرضاوي”).
وما كان قولي هذا بدعًا من الأقوال : أن يختلف الحكم باختلاف أحوال المكلفين فإن هذا في الشريعة كثير، يعرفه أهل العلم وغيرهم، ومن أمثلة ذلك في مسألتنا هذه : أن الحديث : ” فإن غم عليكم فاقدروا له ” ورد بألفاظ أخر، في بعضها : ” فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين ” ففسر العلماء الرواية المجملة : ” فاقدروا له ” بالرواية المفسرة: ” فأكملوا العدة ” ولكن إمامًا عظيمًا من أئمة الشافعية، بل هو إمامهم في وقته، وهو أبو العباس أحمد بن عمر بن سريج ( “سريج” بالسين المهملة المضمومة وآخره جيم، ويكتب خطأ في كثير من الكتب المطبوعة ” شريح ” بالشين والحاء، وهو تصحيف . وأبو العباس هذا توفي سنة 306 هـ وهو من تلاميذ أبي داود صاحب السنن، وقال في شأنه أبو إسحاق الشيرازي في طبقات الفقهاء ص 89 : ” كان من عظماء الشافعيين وأئمة المسلمين، وكان يفضل على جميع أصحاب الشافعي، حتى على المزني ” وله تراجم جيدة في تاريخ بغداد للخطيب 4 /278 – 290، وطبقات الشافعية لابن السبكي 2/ 67 – 96)، جمع بين الروايتين، بجعلهما في حالين مختلفين : أن قوله : ” فاقدروا له ” معناه : قدروه بحسب المنازل، وأنه خطاب لمن خصه اللّه بهذا العلم، وأن قوله : ” فأكملوا العدة “خطاب للعامة (انظر : شرح القاضي أبي بكر بن العربي على الترمذي 3 /207، 208، وطرح التثريب 4/ 111 – 113 وفتح الباري 4/ 104).
فقولي هذا يكاد ينظر إلى قول ابن سريج، إلا أنه جعله خاصًا بما إذا غم الشهر فلم يره الراؤون، وجعل حكم الأخذ بالحساب للأقلين، على ما كان في وقته من قلة عدد العارفين، وعدم الثقة بقولهم وحسابهم، وبطء وصول الأخبار إلى البلاد الأخرى، إذا ثبت الشهر في بعضها، وأما قولي فإنه يقضي بعموم الأخذ بالحساب الدقيق الموثوق به، وعموم ذلك على الناس، بما يسر في هذه الأيام من سرعة وصول الأخبار وذيوعها . ويبقي الاعتماد على الرؤية للأقل النادر، ممن لا يصل إليه الأخبار، ولا يجد ما يثق به من معرفة الفلك ومنازل الشمس والقمر .
ولقد أرى قولي هذا أعدل الأقوال، وأقربها إلى الفقه السليم، وإلى الفهم الصحيح للأحاديث الواردة في هذا الباب).
(رسالة ” أوائل الشهور العربية ” ص 7 – 17 نشر مكتبة ابن تيمية)
هذا ما كتبه العلامة شاكر منذ أكثر من نصف قرن ـ ذي الحجة 1357 هـ الموافق يناير 1939 م ، ولم يكن علم الفلك في ذلك الوقت قد وصل إلى ما وصل إليه اليوم من وثبات استطاع بها الإنسان أن يغزو الفضاء، ويصعد إلى القمر، وانتهى هذا العلم إلى درجة من الدقة، غدا احتمال الخطأ فيها بنسبة واحدة إلى مائة ألف في الثانية !!
كتب هذا الشيخ شاكر وهو رجل حديث وأثر قبل كل شيء، عاش حياته -رحمه اللّه- لخدمة الحديث، ونصرة السنة النبوية، فهو رجل سلفي خالص، رجل اتباع لا رجل ابتداع، ولكنه -رحمه اللّه- لم يفهم السلفية على أنها جمود على ما قاله من قبلنا من السلف، بل السلفية الحق أن ننهج نهجهم، ونشرب روحهم، فنجتهد لزمننا كما اجتهدوا لزمنهم، ونعالج واقعنا بعقولنا لا بعقولهم، غير مقيدين إلا بقواطع الشريعة، ومحكمات نصوصها، وكليات مقاصدها .
وقد كنت ناديت منذ سنوات بأن نأخذ بالحساب الفلكي القطعي – على الأقل – في النفي لا في الإثبات، تقليلاً للاختلاف الشاسع الذي يحدث كل سنة في بدء الصيام وفي عيد الفطر، إلى حد يصل إلى ثلاثة أيام بين بعض البلاد الإسلامية وبعض .
ومعنى الأخذ بالحساب في النفي أن نظل على إثبات الهلال بالرؤية وفقا لرأى الأكثرين من أهل الفقه في عصرنا، ولكن إذا نفى الحساب إمكان الرؤية، وقال : إنها غير ممكنة، لأن الهلال لم يولد أصلاً في أي مكان من العالم الإسلامي – كان الواجب ألا تقبل شهادة الشهود بحال؛ لأن الواقع – الذي أثبته العلم الرياضي القطعي – يكذبهم .
بل في هذه الحالة لا يطلب ترائي الهلال من الناس أصلاً، ولا تفتح المحاكم الشرعية ولا دور الفتوى أو الشؤون الدينية أبوابها لمن يريد أن يدلي بشهادة عن رؤية الهلال.
نقلا عن كتاب تيسير فقه الصيام باختصار للشيخ يوسف القرضاوي