(8) آداب الصيام
إن الصيام عبادة عظيمة لا تقتصر على الامتناع عن الطعام والشراب، بل تشمل كل الجوارح، ليكون الصائم نموذجًا للأخلاق الكريمة والسلوك الحسن. فليس الصيام مجرد عادة، بل هو تربية للنفس، وتهذيب للأخلاق، واختبار للصبر. وقد قال النبي ﷺ: (من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه” [البخاري].
فأدب الصيام لا يتحقق إلا بالتحلي بأخلاق الصائمين من حفظ اللسان، وكف الأذى، وإظهار الرحمة، والحرص على الطاعات، والابتعاد عن كل ما يفسد صوم الإنسان من الغيبة والنميمة وسوء القول، وجاء في الحديث: (رُبّ صائمٍ ليس من صيامه إلا الجوع والعطش، ورُبّ قائم ليس له من قيامه إلا السهر) فالعبرة ليست بصورة العبادة ما لم تكن لها حقيقة، ما لم يتأدب العبد بآدابها حتى تترتب عليها آثارها التي رتبها الله –عز وجل- عليها وربطها بها جريا على سنة الله –عز وجل- في ربط المسببات بمسبباتها.
فلنتعرف على آداب الصيام لعلنا ان نتأدب بها فيؤثر الصيام فينا أثره ونتأهل لمغفرة الله وجنته.
آداب الصيام منها ما هو واجب، يلزم العبد أن يحافظ عليها ويلتزم بها، ومنها ما هو مستحب يزداد العبد بفعلها أجراً وثواباً.
أولا / من الآداب الواجبة:
- أن يقوم الصائم بما أوجب الله عليه من العبادات القولية والفعلية، ومن أهمها الصلاة المفروضة، التي هي آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين، فيجب على الصائم المحافظة عليها، والقيام بأركانها وشروطها، وأدائها مع جماعة المسلمين، وكل ذلك من التقوى التي شُرع الصيامُ من أجلها.
- أن يجتنب الصائم جميع ما حرم الله عليه من الأقوال والأفعال، فيحفظ لسانه عن الكذب والغيبة والنميمة ، ويحفظ بصره عن النظر إلى المحرمات، ويحفظ أذنه عن الاستماع للحرام، ويحفظ بطنه عن كل مكسب خبيث محرم.
وليس من العقل والحكمة أن يتقرب العبد إلى ربه بترك المباح كالطعام والشراب، ولا يتقرب إليه بترك ما حُرِّم عليه في كل حال، ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) وأُمِر الصائم بحفظ لسانه عن اللغو وفحش القول والجهل على الناس حتى وإن تعرض للأذى من غيره، يقول صلى الله عليه وسلم: (الصيام جُنَّة، وإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفُث، ولا يصخب، فإن سابَّه أحد، أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم) متفق عليه.
ويقول جابر رضي الله عنه مبيناً حقيقة الصيام: “إذا صمتَ فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمآثم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء”.
- أن يتجنب السب والشتم وفحش القول؛ ففي الحديث قال عليه الصلاة والسلام: “الصيام جنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب (وفي رواية: ولا يجهل) فإن سابه أحد أو قاتله، فليقل: إني امرؤ صائم” متفق عليه ، وفي رواية: مرتين.
والرفث: الكلام المتعلق بالنساء وأمور الجنس، وقيل: الفحش في الكلام عامة. والصخب: الصياح ورفع الأصوات، شأن الجهال، وهذا معنى (ولا يجهل).
وعلى الصائم أن يدفع السيئة بالحسنة، وأن يقول لمن سبَّه أو شتمه: إني صائم، يقول ذلك بقلبه ولسانه، يخاطب بذلك نفسه ليلجمها بلجام التقوى، ويخاطب بذلك شاتمه ليكفَّ شره، ويُطفئ غضبه بماء الحلم والدفع بالتي هي أحسن.
- تجنب الغضب :
كثير من الناس -مع الأسف- يفقدون السيطرة على أنفسهم عند الصيام، إذا أحسّ بالجوع غضب، وما يريد أن يكلمه أحد، وهذا ما عرف قيمة هذا الوقت وما عرف الغاية من الصيام؛ وهو تهذيب النفس، وما عرف أنه مما يجب عليه في الصيام أن يتعلّم أدبا من الآداب؛ وهو الصبر وكظم الغيظ وتحمُّل المشاق، فعلى المرء المسلم أن يسيطر على نفسه وعلى مشاعره وأعصابه فلا يغضب؛ وما تعانيه من تعب وجوع وعطش تثاب عليه من الله –سبحانه وتعالى-، وإذا كنت لا تستطيع أن تضبط نفسك من السب والشتم فعلى الأقل اسكت، فإنّ السكوت سلامة وغنيمة.
ثانيا/ الآداب المستحبة:
- تعجيل الإفطار
يستحب للصائم تعجيل الإفطار، فقد رغب في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، بقوله وفعله؛ ففي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: “لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر” متفق عليه
وإنما أحب التعجيل لما فيه من التيسير على الناس، وكره التأخير لما فيه من شبهة التنطع والغلو في الدين، والتشبه بأهل الأديان الأخرى الذين كانوا يغلون في دينهم؛ فعن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: ” لا يزال الدين ظاهرًا ما عجل الناس الفطر، لأن اليهود والنصارى يؤخرون” رواه أبو داود
ومعنى التعجيل: أنه بمجرد غياب قرص الشمس من الأفق يفطر، وفي الحديث الصحيح: “إذا أقبل الليل من ههنا، وأدبر النهار من ههنا، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم” متفق عليه
- الإفطار على تمرات:
وكان من سنته العملية عليه الصلاة والسلام: ما رواه أنس خادمه: (أنه كان يفطر على رطبات قبل أن يصلي، فإن لم تكن رطبات، فعلى تمرات، فإن لم تكن حسا حسوات من ماء ) رواه أحمد
وقال عليه الصلاة والسلام: “من وجد التمر فليفطر عليه، ومن لم يجد التمر، فليفطر على الماء، فإن الماء طهور” رواه عبد الرزاق
والبلاد التي لا يوجد فيها الرطب أو التمر، يغني عنها بعض الفواكه الأخرى أو شيء من الحلو.
- السحور وتأخيره:
السحور: ما يؤكل في السحر، أي بعد منتصف الليل إلى الفجر، ومما سنَّه النبي صلى الله عليه وسلم للصائم أن يتسحر، وأن يؤخر السحور، وأراد بذلك أن يكون قوة للصائم على احتمال الصيام، وجوعه وظمئه، وخصوصًا عندما يطول النهار، ولذا قال: “تسحروا فإن في السحور بركة” متفق عليه
وفيه تمييز كذلك لصيام المسلمين عن غيرهم، وفي الصحيح: “فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب: أكلة السحر” مسلم
والأصل في السحور أن يكون طعامًا يؤكل، ولو شيئًا من التمر، وإلا فأدنى ما يكفي شربة من ماء، كما روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم: “السحور كله بركة، فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء، فإن الله عز وجل وملائكته يصلون على المتسحرين” حسنه الألباني.
ويستحب أن يجعل في سحوره تمرًا:روى أبو داود – بسند صحيح – عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نِعْمَ سحورُ المؤمن التمرُ).
ومن بركة السحور:أنه – بجوار ما يهيئه للمسلم من وجبة مادية – يهيئ له وجبة روحية، بما يكسبه المسلم من ذكر واستغفار ودعاء، في هذا الوقت المبارك، وقت السحر الذي تنزل فيه الرحمات، عسى أن يكون من المستغفرين بالأسحار.
ومن السنة تأخير السحور، تقليلاً لمدة الجوع والحرمان، قال زيد بن ثابت: تسحرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قمنا إلى الصلاة، فسأله أنس: كم بينهما؟ قال: قدر خمسين آية ) متفق عليه
وقوله تعالى: (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) [البقرة : 187]ت فيد جواز الأكل إلى أن يتبين الفجر.
- الإكثار من ذكر الله تعالى، والاستغفار:
وهذا مُستحب للمسلم في كل وقت، ولكنه في رمضان أكثر استحبابًا، حتى لا يتسرب منه الشهر الكريم يومًا بعد يوم، دون أن ينال حظه فيه من المغفرة والعتق من النار، ولله كل ليلة فيه عتقاء من النار.
- الإكثار من تلاوة القرآن الكريم:
قال تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [البقرة: 185]
وروى الترمذي – وقال: حسن صحيح – عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَن قرأ حرفًا من كتاب الله، فله به حسنةٌ، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: الم حرفٌ، ولكن ألفٌ حرفٌ، ولامٌ حرفٌ، وميم حرف)
- الحرص على الجود في رمضان:
من المستحب في رمضان الإكثار من الجود وفعل الخير، وبذل المعروف للناس، وإطعام الطعام؛ فهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة ) رواه البخاري
ومن هنا اعتاد المسلمون من قديم مد الموائد لتفطير الصائمين في رمضان، لما فيها من الثواب الجزيل.
- الدعاء طوال النهار وخصوصًا عند الإفطار:
يستحب للصائم أن يرطب لسانه بذكر الله ودعائه طوال يوم صومه، فإن الصوم يجعله في حالة روحية تقربه من الله تعالى، وتجعله في مظنة الاستجابة لدعائه.
والذكر والدعاء مطلوب من الصائم طوال نهاره، ولكنه مطلوب بصورة خاصة عند الإفطار.
وأولى ما يقوله الصائم عند فطره ما رواه ابن عمر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا أفطر: “ذهب الظمأ وابتلّت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله تعالى” رواه أبو داود، والدارقطني وحسن إسناده
والعمل بهذا الخبر أولي من خبر أنس وابن عباس أنه كان يقول: “اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت، سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم تقبل منا إنك أنت السميع العليم” رواه الدارقطني، لأن سنده ضعيف.
ويدعو عند الإفطار بما أحب لدينه ودنياه وآخرته، لنفسه ولذويه وللمسلمين فهو وقت تُرجى فيه الإجابة.
فقد روى ابن ماجة عن عبد الله بن عمرو: “أن للصائم عند فطره دعوة ما ترد” رواه ابن ماجة وذكر البوصيري في الزوائد: أن إسناده صحيح
وكان عبد الله بن عمرو يجمع بنيه عند الإفطار ويدعو قائلا: اللهم أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي ذنوبي.
وروى أبو هريرة: “ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حين يفطر، ودعوة المظلوم” رواه الترمذي وحسنه
وفي رواية: “والصائم حتى يفطر”.
- الاجتهاد في العبادة في العشر الأواخر من رمضان :
روى البخاري ومسلم عن عائشة -رضي الله عنها-: أن النبي -ﷺ : “كان إذا دخل العشر الأواخر أحيا الليل، وأيقظ أهله، وشد المئزر. وفي رواية لمسلم: “كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره”. وروى الترمذي وصححه عن علي -رضي الله عنه- قال: “كان رسول الله -ﷺ- يوقظ أهله في العشر .
- استحباب تفطير الصائمين:
روى الترمذي، وقال: حسن صحيح عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَن فطَّر صائمًا كان له مثلُ أجره، غير أنه لا ينقصُ مِن أجر الصائم شيئًا)
- الحرص على صلاة التراويح:
ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مَن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدَّم من ذنبه)
- الاعتكاف:
ففي الصحيحين عن عبدالله بن عُمر رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان)
هذه بعض آداب الصيام، فلتحرص -أخي الصائم- على التأدب بها، وأن تحفظ صومك من كل ما يجرحه، أو ينقص أجره، نسأل الله أن يرزقنا حسن الأدب معه، وأن يتقبل منا صيامنا وقيامنا، إنه جواد كريم.