(4)أركان الصيام، مايفطر الصائم
أركان الصيام
إن للصوم ركنين أساسيين هما:
الإمساك والنية
ونعني بالأول: الإمساك عن شهوات الطعام والشراب والمباشرة وما في حكمها طوال يوم الصوم.
والمراد بما في حكم الطعام والشراب: الشهوات التي اعتادها بعض الناس وإن لم تكن طعامًا، ولا شرابًا، مثل التدخين، الذي يراه المبتلون به أهم من الأكل والشرب، فهو ممنوع في الصوم سواء كان عن طريق السيجارة، أو الشيشة، أو المضغ، أو النشوق، أو غيرها، وهذا بإجماع علماء المسلمين في أقطار الأرض، لأنه من أشد الشهوات التي يجب فطام الأنفس عنها في الصيام.
وأشد منه وأبلغ في المنع تناول المخدرات المحرمة أشد التحريم، مثل الحشيش والأفيون والهيروين، والكوكايين ونحوه، وإن أخذت بطريق الشم أو الحقن أو أي طريق كان.
ويدخل في حكم الأكل والشرب: كل ما يتناول قصدًا بالفم، ويصل إلى المعدة، وإن لم يكن مشتهي ولا مستلذًا به، مثل أنواع الأدوية التي تتناول بالفم شربًا أو امتصاصًا، أو ابتلاعًا، وهذا أمر مجمع عليه.
وإذا كان المسلم في حاجة حقيقية إلي شئ من هذه الأدوية، فهو مريض يسعه أن يفطر بإذن الشارع نفسه، ولا حرج عليه ولا جناح.
كما يدخل في حكم المباشرة: إنزال المني بطريق اختياري كالاستمناء والنظر المتعمد المتكرر والتلذذ باللمس والقبلة والعناق ونحوها، مما يعتبر مقدمات للاتصال الجنسي، فإذا أنزل بإحدى هذه الطرق أفطر.
ضرورة النية :
النية في الصيام وفي كل عبادة فريضة لا بد منها.
والمراد بالنية هنا: أن يقوم بالعبادة امتثالاً لأمر الله تعالى، وتقربًا إليه.
فقد يمسك بعض الناس عن الطعام والشراب من الفجر إلى المغرب، ولما هو أكثر، ولكن بقصد الرياضة ونقص الوزن وما شابه ذلك.
وقد يمسك آخرون احتجاجًا علي أمر معين، وتهديدًا بالقتل البطيء للنفس كما يفعل ذلك كثيرًا المضربون عن الطعام في السجون والمعتقلات، وغيرها.
فهؤلاء ليسوا صائمين الصيام الشرعي، لأنهم لم ينووا ولم يقصدوا بإمساكهم وجوعهم وحرمانهم وجه الله تعالى، وابتغاء مثوبته.
ولا يقبل الله عبادة إلا بنية.
قال عز وجل: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء) (البينة: 5).
وقال صلى الله عليه وسلم: “إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى” متفق عليه
وقال: “كل عمل ابن آدم له، قال الله تعالى: إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به، يدع طعامه وشهوته من أجلي” متفق عليه
فمن ترك الطعام والشهوة من أجل شيء غير الله تعالى، فلم يصم الصيام الشرعي.
التلفظ بالنية
والنية محلها القلب، لأنها عقد القلب على الفعل.
والتلفظ باللسان ليس مطلوبًا، ولم يأت في نصوص الشرع ما يدل علي طلب التلفظ بها، لا في الصوم، ولا في الصلاة، ولا في الزكاة، إلا ما جاء في شأن الحج والعمرة.
والإنسان في شؤونه الدنيوية لا يتلفظ بما ينويه، فيقول: نويت السفر إلى بلد كذا، أو نويت أن آكل كذا وكذا…. إلخ فكذلك أمور الدين.
ولهذا لا تُعد النية مشكلة بالنسبة للمسلم الملتزم بالصيام فهو بطبيعته ناوٍ له، مصمم عليه، ولو كلفته ألا ينويه ما استطاع.
ومن دلائل نيته قيامه للسحور، وتهيئته له وإن لم يقم، وإعداده ما يلزم لفطور الغد، وترتيبه أعماله ومواعيده على وفق ظروف الصيام.
فلا داعي للإكثار من الكلام عن النية فهي حاضرة وقائمة لدى كل مسلم معتاد على الصوم.
إنما الذي يحتاج إليها هو من كان له عذر يبيح له الفطر، كالمريض والمسافر فيصوم حينًا، ويفطر حينًا، فإذا صام يحتاج إلى تجديد النية، ليتميز يوم صومه عن يوم فطره.
متى يجب إنشاء نية الصيام
ومن اللازم هنا: تحديد الوقت الذي يجب فيه إنشاء نية الصيام.
وجمهور الفقهاء على أن الواجب هو تبييت النية من الليل، أي إيقاعها في جزء من الليل قبل طلوع الفجر. واستدلوا بحديث ابن عمر عن حفصة مرفوعًا: “من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له” رواه أحمد وأصحاب السنن.
ومعنى يجمع: أي يعزم. يقال: (أجمعت) الأمر، إذا عزمت عليه.
والحديث مختلف في رفعه ووقفه وحسبنا أن البخاري وأبا داود والنسائي والترمذي وابن أبي حاتم صححوا وقفه (ذكر ذلك الحافظ في “التلخيص” المطبوع مع المجموع -304/6).
فلا يصلح إذن للاستدلال على ما اختلفوا فيه.
ولهذا كان ثمت مجال للاختلاف في وقت النية متى هو؟.
فمن أخذ بالحديث المذكور جعل وقتها قبل الفجر.
ومن لم يأخذ به أجازها قبله وبعده كما هو مذهب أبي حنيفة الذي يجيز صوم رمضان بنية من الليل، وإلى نصف النهار.
ومنهم من قصر تبييت النية على الفرض، وأما النفل فأجازوه في النهار إلى ما قبل الزوال.
وحجتهم ما رواه مسلم عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل على بعض أزواجه، فيقول: “هل من غداء؟” فإن قالوا: لا، قال: “فإني صائم” رواه مسلم
وكذلك ما جاء في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم حين فرض صوم عاشوراء أمر رجلاً من أسلم يؤذن في الناس في النهار: “ألا كل من أكل فليمسك، ومن لم يأكل فليصم” رواه البخاري
بل ذهب بعضهم إلى جواز النية بعد الزوال.
ومن الفقهاء – مثل الزهري وعطاء وزفر – من لم يوجبوا النية في صوم رمضان وكأنهم – والله أعلم – يرون أن صوم رمضان لا يحتاج إلى نية من المسلم، فهو بمجرد إمساكه صائم.
وذهب الإمام مالك إلى أن نية الصيام في أول ليلة من رمضان كافية للشهر كله، ومغنية عن تجديد نية لكل ليلة، باعتبار صوم رمضان عملاً واحدًا، وعبادة واحدة، وإن كانت موزعة على الأيام، كالحج تكفيه نية في أوله، وإن كانت أفعاله موزعة على عدد من الأيام، وهو مذهب إسحاق ورواية عن أحمد.
ما يُفطر الصائم وما لا يُفطره :
وحقيقة الصيام المتفق عليها هي: حرمان النفس من شهواتها، ومعاناة الجوع والعطش والامتناع عن النساء، قصدًا للتقرب إلى الله تعالى.
وهذا ما بينه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فلم يجيء فيهما منع الصائم من شيء إلا من الأكل والشرب والمباشرة (أي الجماع) وكذلك من الرفث والصخب والجهل والسب والكذب والزور وسائر المعاصي.
أي أن الصائم منع مما يتنافى مع المعنى المادي للصيام، وهو الأكل والشرب والجماع، وهو الذي نتحدث عنه الآن، ومما يتنافى مع المعنى الأدبي له، وهو الجهل والزور وسائر المعاصي والآثام.
إذن هناك مفطرات دل النص والإجماع على أنها مفسدة للصيام، وهي كما يلي:
1ـ الأكل. 2ـ الشرب. 3ـ إفراغ الشهوة متعمدا سواء كان بالجماع أو الاستمناء 4ـ نزول دم الحيض والنفاس على المرأة .
وهذا واضح في القرآن والسنة.
ففي القرآن قال تعالى: (فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل)(البقرة: 187).
فهذه هي الأشياء الثلاثة المحددة، التي منع منها الصائمون، من تبين الفجر إلى دخول الليل، وذلك بغروب الشمس. كما بينه الحديث.
وأكدت ذلك السنة بما جاء في الحديث القدسي: “كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع الطعام من أجلي، ويدع الشراب من أجلي، ويدع لذته من أجلي، ويدع زوجته من أجلي” (رواه ابن خزيمة في صحيحه برقم -1897 عن أبي هريرة، وإسناده صحيح).
فهذه الثلاثة، وما ألحق بها بالإجماع – مما ذكرناه من تدخين (التبغ) ومضغه ونشوقه.. إلخ، وما هو شر من التبغ من السموم البيضاء والسوداء – هي التي منعتها النصوص واتفقت مع حكمة الصيام.
ودليل الإفطار بنزول دم الحيض أو النفاس حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم)أخرجه البخاري ومسلم
وهنالك أمران اختلف الفقهاء في التفطير بهما، وهما: الحجامة والقيء، نظرًا للاختلاف في مدى صحة الأحاديث من ناحية، ودلالتها من ناحية أخرى ومعارضتها لأحاديث أخرى من ناحية ثالثة.
مالا يفطر الصائم :
1- الحجامة والتبرع بالدم :
فأما الحجامة (وهي سحب الدم الفاسد من الجسم الذي سبب مرض معين او قد يسبب مرض في المستقبل بسبب تراكمة وامتلائه بالاخلاط الضارة والحجم يعني التقليل اي التحجيم اي التقليل من الشيئ.
والحجامة تنقي الدم من الاخلاط الضارة التي هي عبارة عن كريات دم هرمة وضعيفة لا تستطيع القيام بعملها على الوجه المطلوب من امدام الجسم بالغذاء الكافي والدفاع عنه من الامراض فبالحجامة تسحب هذه الاخلاط الضارة من كريات الدم الحمراء والبيضاء ليحل محلها كريات دم جديدة، وكان العرب يتداوون بها .
وقد ذهب إلى التفطير بها أحمد وإسحاق وبعض فقهاء الحديث، وهو مروي عن بعض الصحابة والتابعين. وقد قالوا :يفطر الحاجم والمحجوم، وحجتهم: حديث ثوبان مرفوعًا: “أفطر الحاجم والمحجوم” رواه أبو داود
وجمهور الفقهاء: على أن الحجامة لا تفطر، لا الحاجم ولا المحجوم.
وحجتهم: حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم، احتجم وهو محرم، واحتجم وهو صائم ) رواه البخاري
والظاهر من هذه النقول: أن حديث: “أفطر الحاجم والمحجوم” إن أخذ بظاهره، قد نسخ، بدليل حديث ابن عباس في احتجامه عليه الصلاة والسلام، وهو متأخر، لأنه كان في حجة الوداع وأحاديث الترخيص في الحجامة تدل علي أنها متأخرة، كما في حديث أنس وغيره، وغالب ما يستعمل الترخيص بعد المنع.
كما أن أحاديث الترخيص في الحجامة للصائم أصح وأقوى، وينصرها القياس، كما قال الإمام الشافعي فوجب تقديمها.
وعلى هذا يعرف حكم أخذ الدم من الجسم في الصيام، فعلى رأي الجمهور: لا يُفطر، ولكن قد يكره من أجل الضعف، أي إذا كان يضعف المأخوذ منه.
2- القيء:
وأما القيء فقد جاء فيه حديث أبي هريرة: “من ذرعه القيء وهو صائم فلا قضاء عليه، ومن استقاء فليقض”
(قال الحافظ في التلخيص: رواه الدارمي وأصحاب السنن وابن حبان والدارقطني والحاكم من حديث أبي هريرة، قال النسائي: وقفه عطاء عن أبي هريرة، وقال الترمذي: لا نعرفه إلا من حديث هشام عن محمد عن أبي هريرة، تفرد به عيسى بن يونس، وقال البخاري: لا أراه محفوظًا، وقد روي من غير وجه ولا يصح إسناده. وقال الدارمي: زعم أهل البصرة أن هشامًا أوهم فيه، وقال أبو داود وبعض الحُفاظ لا يراه محفوظًا، وأنكره أحمد وقال في وراية: ليس من ذا شيء، قال الخطابي: يريد أنه غير محفوظ، وقال مهنا عن أحمد: حدث به عيسى بن يونس، وليس هو في كتابه، غلط فيه، وليس هو من حديثه!.
وقال الحاكم: صحيح على شرطهما، وأخرجه من طريق حفص بن غياث أيضًا، وأخرجه ابن ماجه أيضًا. (ا.هـ-. من التلخيص مع المجموع -351/6)
وبهذا نرى أن الذين أوردوه لم يُصححوه، بل ضعَّفوه وأنكروه، فيما عدا الحاكم، وهو كما قالوا: (واسع الخطو متساهل في التصحيح).
فأما حديث أبي هريرة فيكفي أن أحمد أنكره، وقال: ليس من ذا شيء، أي أنه غير محفوظ وقال البخاري: لا أراه محفوظًا، وقد روي من غير وجه، ولا يصح إسناده.
ومما يدل على عدم صحته: أن أبا هريرة راويه كان يقول بعدم الفطر بالقيء، فقد روى عنه البخاري أنه قال: إذا قاء، فلا يفطر. إنما يخرج ولا يولج، قال: ويذكر عن أبي هريرة أنه يفطر. والأول أصح.أ.هـ.
فإن صح موقوفًا: كان رأيًا له رجع عنه.
ونقل ابن بطال عن ابن عباس وابن مسعود عدم الإفطار بالقيء، مطلقًا ذرعه أو تعمده.
وعلَّق البخاري عن ابن عباس وعكرمة قالا: الصوم مما دخل، وليس مما خرج.
وإيراد البخاري لهذه الآثار يدل على أن مذهبه عدم الفطر بالقيء مطلقًا.
3- أن يصبح على جنابة :
وروى البخاري بسنده عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدركه الفجر في رمضان – أي وهو جنب – من غير حلم، فيغتسل ويصوم
ذكر في (باب الصائم إذا أكل أو شرب ناسيًا):.
4- دخول الماء في الحلق دون قصد:
وقال عطاء: إن استنثر فدخل الماء في حلقه لا بأس إن لم يملك (ذكر في (الفتح) هذا الأثر موصولاً عن عبد الرزاق عن ابن جريج: قلت لعطاء: إنسان يستنثر فدخل الماء في حلقه! قال: لا بأس بذلك. قال: وقاله عمر عن قتادة). – أي لم يملك دفع الماء – فإن ملك دفعه فلم يفعل حتى دخل حلقه أفطر.
5- المبالغة في المضمضة والاستنشاق :
المضمضة والاستنشاق في الوضوء، من السنن عند الجمهور، فلا ينبغي تركهما في الوضوء في صيام أو فطر.
كل ما على المسلم في حالة الصيام ألا يبالغ فيهما . كما يبالغ في حالة الإفطار فقد جاء في الحديث: ” إذا استنشقت فأبلغ إلا أن تكون صائمًا ” أخرجه أحمد.
فإذا تمضمض الصائم أو استنشق وهو يتوضأ، فسبق الماء إلى حلقه من غير تعمد ولا إسراف، فصيامه صحيح.
وهنا حديث ” وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا” رواه أبو داود
ويلاحظ على هذا الحديث:أنه لم ينص على أن الماء إذا وصل إلى الجوف من طريق الأنف يفطر، بل كل ما فيه النهي عن المبالغة في حالة الصوم، فقد يدخل الماء عند المبالغة إلى فمه ومن فمه إلى جوفه وقد ينهى عن الشيء وإن لم يفطر، وقد جاء عن بعض السلف في أشياء معينة قالوا: لا تفطر ولكن ينهى عنها.
وقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن دخول الماء بعد الاستنشاق وإن بالغ فيه المتوضئ لا يبطل الصوم مطلقًا، ذكر منهم النووي في المجموع: الحسن البصري، وأحمد وإسحاق وأبا ثور (المجموع -327/6).
6- لو دخل غبار الطريق، أو غربلة دقيق، أو طارت ذبابة إلى حلقه، لأن كل هذا من الخطأ المرفوع عن هذه الأمة ؛ وإن خالف في ذلك بعض الأئمة.
7- المضمضة لغير الوضوء (يعني لترطيب الفم) أيضًا لا يؤثر على صحة الصيام ؛ ما لم يصل الماء إلى الجوف . والله أعلم.
8- دخول الذباب إلى فمه : قال الحسن: إن دخل حلقه الذباب فلا شيء عليه (فتح الباري -155/4).
9- الاغتسال للصائم وبل ثيابه من الحر: قال البخاري وبلّ ابن عمر رضي الله عنهما ثوبًا، فألقاه عليه، وهو صائم.
ودخل الشعبي الحمام وهو صائم.
10 – تذوق الطعام :قال ابن عباس: لا بأس أن يتطعم القِدْر أو الشيء – أي يتذوقه -.
11- استعمال الدهان (المراهم والكريمات والزيوت ) قال ابن مسعود: إذا كان يوم صوم أحدكم فليصبح دهينًا مترجلاً – يعني يدهن شعره ويرجله -.
وقال أنس: إن لي “أبزن” أتقحم فيه وأنا صائم – والأبزن: كلمة فارسية، وهي حجر منقور شبه الحوض-.
12- استعمال السواك ومعجون الأسنان للصائم :
السواك قبل الزوال مستحب كما هو دائمًا، وبعد الزوال اختلف الفقهاء فقال بعضهم: يكره الاستياك للصائم بعد الزوال . وحجته في ذلك أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ” والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ” (رواه البخاري من حديث أبي هريرة) فهو يرى أن ريح المسك هذا لا يحسن أن يزيله المسلم، أو يكره له أن يزيله، ما دامت هذه الرائحة مقبولة عند الله ومحبوبة عند الله، فليبقها الصائم ولا يزيلها، وهذا مثل الدماء … دماء الجراح .. التي يصاب بها الشهيد، قال النبي – صلى الله عليه وسلم – في الشهداء: ” زمّلوهم بدمائهم وثيابهم، فإنما يبعثون بها عند الله يوم القيامة اللون لون الدم والريح ريح المسك ” ولذلك يبقى الشهيد بدمه وثيابه لا يغسل ولا يزال أثر الدم . قاسوا هذا على ذلك . والصحيح أنه لا يقاس هذا على ذلك، فذلك له مقام خاص، وقد جاء عن بعض الصحابة أنه قال: ” رأيت النبي – صلى الله عليه وسلم – يتسوك ما لا يحصى وهو صائم ” فالسواك في الصيام مستحب في كل الأوقات في أول النهار وفي آخره، كما هو مستحب قبل الصيام وبعد الصيام .. فهو سنة أوصى بها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقال: ” السواك مطهرة للفم مرضاة للرب ” (رواه النسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما . ورواه البخاري معلقًا مجزومًا) . ولم يفرق بين الصوم وغيره.
وقال ابن عمر: ويستاك أول النهار وآخره، ولا يبلع ريقه.
وقال ابن سيرين: لا بأس بالسواك الرطب. قيل: له طعم! قال: والماء له طعم، وأنت تمضمض به.
أما معجون الأسنان، فينبغي التحوط في استعماله بألا يدخل شيء منه إلى الجوف وهذا الذي يدخل إلى الجوف مفطر عند أكثر العلماء ؛ ولذا فالأولى أن يجتنب المسلم ذلك ويؤخره إلى ما بعد الإفطار، ولكن إذا استعمله واحتاط لنفسه وكان حذرًا في ذلك ودخل شيء إلى جوفه فهو معفو عنه والله سبحانه وتعالى يقول :“وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به، ولكن ما تعمدت قلوبكم“ (الأحزاب: 5) والنبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: ” رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ” والله تعالى أعلم.
13- الاكتحال : (ولم ير أنس والحسن وإبراهيم بالكحل للصائم بأسًا) فتح الباري -153/4 ط. دار الفكر).
14- المعاصي وتأثيرها على الصيام
الصيام عبادة تعمل على تزكية النفس، وإحياء الضمير، وتقوية الإيمان وإعداد الصائم ليكون من المتقين، كما قال تعالى: (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون).
ولهذا يجب على الصائم أن يُنَزِّه صيامه عما يجرحه، وربما يهدمه، وأن يصون سمعه وبصره وجوارحه عما حرم الله تعالى، وأن يكون عفَّ اللسان، فلا يلغو ولا يرفث، ولا يصخب ولا يجهل، وألا يقابل السيئة بالسيئة، بل يدفعها بالتي هي أحسن، وأن يتخذ الصيام درعًا واقية له من الإثم والمعصية، ثم من عذاب الله في الآخرة ولهذا قال السلف: إن الصيام المقبول ما صامت فيه الجوارح من المعاصي، مع البطن والفرج عن الشهوة.
وهذا ما نبهت عليه الأحاديث الشريفة، وأكده تلاميذ المدرسة النبوية.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب – وفي رواية: (ولا يجهل) – فإن امرؤ سابه أو قاتله فليقل: إني صائم، مرتين ” (متفق عليه عن أبي هريرة).
وقال عليه الصلاة والسلام: ” من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ” (رواه البخاري في كتاب الصوم).
وقال: ” رب صائم ليس – له من صيامه إلا الجوع ” (رواه النسائي وابن ماجه عن أبي هريرة، ورواه عنه أحمد والحاكم والبيهقي بلفظ ” رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش”).
وكذلك كان الصحابة وسلف الأمة يحرصون على أن يكون صيامهم طُهرة للأنفس والجوارح، وتَنزُّهًا عن المعاصي والآثام..
قال عمر بن الخطاب: ليس الصيام من الشراب والطعام وحده، ولكنه من الكذب والباطل واللغو.
وقال جابر بن عبد الله الأنصاري: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب، والمأثم، ودع أذى الخادم، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك ولا تجعل يوم فطرك ويوم صومك سواء..
وروى طليق بن قيس عن أبي ذر قال: إذا صمت فتحفظ ما استطعت. وكان طليق إذا كان يوم صيامه، دخل فلم يخرج إلا إلى صلاة..
وكان أبو هريرة وأصحابه إذا صاموا جلسوا في المسجد، وقالوا: نُطهر صيامنا.
وعن حفصة بنت سيرين من التابعين قالت: الصيام جنة، ما لم يخرقها صاحبها، وخرقها الغيبة!.
وعن إبراهيم النخعي قال: كانوا يقولون: الكذب يفطِّر الصائم!.
وعن ميمون بن مهران: إن أهون الصوم ترك الطعام والشراب (ذُكر هذه الآثار كلها ابن حزم في المُحلى -6 / 475، 476).
فجمهور العلماء: رأوا أن المعاصي لا تُبطل الصوم، وإن كانت تخدشه وتصيب منه، بحسب صغرها أو كبرها.
وذلك أن المعاصي لا يسلم منها أحد، إلا من عصم ربك، وخصوصًا معاصي اللسان ؛ ولهذا قال الإمام أحمد: لو كانت الغيبة تفطّر ما كان لنا صوم!.
هذا والإمام أحمد من هو وهو في ورعه وزهده وتقواه، فماذا يقول غيره؟!.
ويؤكد هؤلاء العلماء: أن المعاصي لا تبطل الصوم، كالأكل والشرب، ولكنها قد تذهب بأجره، وتضيع ثوابه.
والحق أن هذه خسارة ليست هينة لمن يعقلون، ولا يستهين بها إلا أحمق. فإنه يجوع ويعطش ويحرم نفسه من شهواتها، ثم يخرج في النهاية ورصيده (صفر) من الحسنات!.
يقول الإمام أبو بكر بن العربي في شرح حديث: “من لم يدع قول الزور والعمل به فليس للّه حاجة في أن يدع طعامه وشرابه”.
(مقتضى هذا الحديث: أن من فعل ما ذُكر لا يثاب على صيامه، ومعناه أن ثواب الصيام لا يقوم في الموازنة بإثم الزور وما ذكر معه).
فمن لوث صيامه بالمعاصي في سمعه وبصره ولسانه وجوارحه، فقد أضاع على نفسه فرصة التطهر، ولم يستحق المغفرة الموعودة، بل ربما أصابه ما دعا به جبريل عليه السلام، وأمن عليه النبي صلى الله عليه وسلم:” من أدرك رمضان فلم يغفر له، فأبعده الله ” (رواه ابن حبان في صحيحه عن الحسن بن مالك بن الحويرث عن أبيه عن جده، وقد ثبت نحوه من حديث أبي هريرة وكعب بن عجرة).
15- أكل الصائم أو شربه ناسيًا أو مكرهًا
جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: ” .. من نسى وهو صائم فأكل وشرب، فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه ” .. وفي لفظ للدارقطني بإسناد صحيح: ” فإنما هو رزق ساقه الله إليه، ولا قضاء عليه .. ” وفي لفظ آخر للدارقطني وابن خزيمة وابن حبان والحاكم .. ” من أفطر من رمضان ناسيًا، فلا قضاء عليه ولا كفارة ” . وإسناده صحيح أيضًا قاله الحافظ ابن حجر.
وهذه الأحاديث صريحة في عدم تأثير الأكل والشرب ناسيًا على صحة الصوم . وهو الموافق لقوله تعالى: (ربنا لا تؤاخذانا إن نسينا أو أخطأنا) (البقرة: 286) وقد ثبت في الصحيح أن الله أجاب هذا الدعاء.
كما ثبت في حديث آخر: ” إن الله وضع عن هذه الأمة الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه “.
فعلى الصائم الذي أكل وشرب ناسيًا أن يستكمل صيام يومه، ولا يجوز له الفطر.
16- إفطار المكره
كذلك ومن أفطر مكرهًا لا يفطر، سواء أدخل المكره الطعام إلى جوفه بغير فعل من الصائم أم أكره الصائم على أن يأكله هو بنفسه على الصحيح، لحديث: “إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه” رواه ابن ماجه
نقلا عن كتاب تيسير فقه الصيام باختصار للشيخ يوسف القرضاوي