قطوف من مدارج السالكين لابن القيم
أصل كتاب ” مدارج السالكين ” :
هذا الكتاب شرح وتعليق على كتاب الإمام أبي إسماعيل الهروي – توفي 481 هـ – المسمَّى ” منازل السائرين ” ، وهو كتاب في أحوال السلوك وطريق السير إلى الله ،
ولم يكن ابن القيم في كتابه مجرد شارح لكلام الهروي يتناوله بالتفسير ، بل كانت شخصيته واضحة أثناء شرحه ، وكأنه اتخذ من شرحه لكتاب الهروي مناسبة ملائمة لبيان آرائه هو ، كما فعل في مقدمة كتابه في الكلام على سورة الفاتحة وجعلها بداية منطلقه في الكلام على منازل السائرين إلى الله ، بل إن ابن القيم لم يصرح في كتابه ” المدارج ” أنه ألفه بقصد شرح كتاب الهروي .
وكتاب الهروي في بعض مواطنه يتسم بالعبارات الغامضة ، وكان ابن القيم مدركاً لذلك فتجده يقول مثلا ” كلام فيه قلق وتعقيد ، وهو باللغز أشبه منه بالبيان ” ، ومع ذلك فقد شرح كثيراً من عبارات الكتاب الغامضة ، وأيضا مع مرور الوقت صارت بعض كلمات ابن القيم غامضة .
ولم يكن دفاع ابن القيم عن الهروي ضد خصومه يعني الموافقة المطلقة له على آرائه ، أو المتابعة الكاملة له ، فقد وجد في آرائه ما تجب مخالفته فيه ، ولكنه كان حريصاً على تقديره وتبجيله ، لما هو معروف عن الهروي من صلابته في السنة ، وشدته على البدع وأهلها . ولذلك عندما علق على خطأ في كلام الهروي فقال ” شيخ الإسلام – أي : الهروي – حبيب إلينا ، والحق أحب إلينا منه ، وكل من عدا المعصوم صلى الله عليه وسلم فمأخوذ من قوله ومتروك …. “
وقد امتاز الكتاب – وهذه من أهم مزاياه – بكلام الإمام فيما يتعلق بتهذيب النفوس وأعمال القلوب ، وهو كلام من قد خالطت هذه المعاني الإيمانية سويداء قلبه ، فقام بترجمتها في هذا المؤلَّف ، وكان كلام ابن القيم في هذه الجوانب كلاماً عظيماً قلَّ من يأتي بمثله فضلاً عن أفضل منه ، خاصة وقد عرفنا أنه ألَّفه في أواخر حياته بعد أن رسخت قدمه في العلم ، وحينما درست الكتاب وجدت أن كثيرا من علمائنا ينقلون عنه كلمات من بين السطور تحتاج إلى تنصيص وتدقيق وعناية وما أجود أن نتناقل هذه الكلمات في مواعظنا نحن الخطباء .
ومن هذا الكتاب ننطلق لجمع بعض الدرر القيمة مما أورده ابن القيم في الكتاب
فاللهم يسر واعن يا كريم
اسم (الرحمن) على وزن فعلان من سعة هذا الوصف وثبوت جميع معناه الموصوف به.
ألا ترى أنهم يقولون: غضبان للممتليء غضبا وندمان وحيران وسكران ولهفان لمن ملىء بذلك ؛ فبناء فعلان للسعة والشمول ولهذا يقرن استواءه على العرش بهذا الاسم كثيرا كقوله تعالى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} و {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} فاستوى على عرشه باسم الرحمن لأن العرش محيط بالمخلوقات قد وسعها والرحمة محيطة بالخلق واسعة لهم كما قال تعالى {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} فاستوى على أوسع المخلوقات بأوسع الصفات فلذلك وسعت رحمته كل شيء وفي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده موضوع على العرش إن رحمتي تغلب غضبي.
تأمل قوله: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} و كيف ذكر هذا عقيب قوله {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ} أي هو ربي فلا يسلمني ولا يضيعني وهو ربكم فلا يسلطكم علي ولا يمكنكم مني فإن نواصيكم بيده لا تفعلون شيئا بدون مشيئته فإن ناصية كل دابة بيده لا يمكنها أن تتحرك إلا بإذنه فهو المتصرف فيها ومع هذا فهو في تصرفه فيها وتحريكه لها ونفوذ قضائه وقدره فيها على صراط مستقيم لا يفعل ما يفعل من ذلك إلا بحكمة وعدل ومصلحة ولو سلطكم علي فله من الحكمة في ذلك ماله الحمد عليه لأنه تسليط من هو على صراط مستقيم لا يظلم ولا يفعل شيئا عبثا بغير حكمة.
من هدى في هذه الدار إلى صراط الله المستقيم الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه هدى هناك إلى الصراط المستقيم الموصل إلى جنته ودار ثوابه وعلى قدر ثبوت قدم العبد على هذا الصراط الذي نصبه الله لعباده في هذه الدار يكون ثبوت قدمه على الصراط المنصوب على متن جهنم وعلى قدر سيره على هذه الصراط يكون سيره على ذاك الصراط.
ولما كان طالب الصراط المستقيم طالب أمر أكثر الناس ناكبون عنه مريدا لسلوك طريق مرافقه فيها في غاية القلة والعزة والنفوس مجبولة على وحشة التفرد وعلى الأنس بالرفيق نبه الله سبحانه على الرفيق في هذه الطريق وأنهم هم الذين {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} فأضاف الصراط إلى الرفيق السالكين له وهم الذين أنعم الله عليهم ليزول عن الطالب للهداية وسلوك الصراط وحشة تفرده عن أهل زمانه وبني جنسه وليعلم أن رفيقه في هذا الصراط هم الذين أنعم الله عليهم فلا يكترث بمخالفة الناكبين عنه له فإنهم هم الأقلون قدرا وإن كانوا الأكثرين عددا كما قال بعض السلف: “عليك بطريق الحق ولا تستوحش لقلة السالكين وإياك وطريق الباطل ولا تغتر بكثرة الهالكين” وكلما استوحشت في تفردك فانظر إلى الرفيق السابق واحرص على اللحاق بهم وغض الطرف عمن سواهم فإنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإذا صاحوا بك في طريق سيرك فلا تلتفت إليهم فإنك متى التفت إليهم أخذوك وعاقوك.
وكثيرا ما كنت أسمع شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} تدفع الرياء {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} تدفع الكبرياء.
فإذا عوفى من مرض الرياء ب{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ومن مرض الكبرياء والعجب ب{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ومن مرض الضلال والجهل ب {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} عوفى من أمراضه وأسقامه ورفل في أثواب العافية وتمت عليه النعمة وكان من المنعم عليهم
وفي سياق كلامه عن الفاتحة وأنها رقية يقول : وأما شهادة التجارب بذلك: فهي أكثر من أن تذكر وذلك في كل زمان وقد جربت أنا من ذلك في نفسي وفي غيري أمورا عجيبة ولا سيما مدةالمقام بمكة فإنه كان يعرض لي آلام مزعجة بحيث تكاد تقطع الحركة مني وذلك في أثناء الطواف وغيره فأبادر إلى قراءة الفاتحة وأمسح بها على محل الألم فكأنه حصاة تسقط جربت ذلك مرارا عديدة وكنت آخذ قدحا من ماء زمزم فأقرأ عليه الفاتحة مرارا فأشربه فأجد به من النفع والقوة ما لم أعهد مثله في الدواء والأمر أعظم من ذلك ولكن بحسب قوة الإيمان وصحة اليقين والله المستعان.
{أَفِي اللَّهِ شَكّ} أي أيشك في الله حتى يطلب إقامة الدليل على وجوده؟ وأي دليل أصح وأظهر من هذا المدلول فكيف يستدل على الأظهر بالأخفى؟ ثم نبهوا على الدليل بقولهم {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض}.
وسمعت شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية قدس الله روح يقول: كيف يطلب الدليل على من هو دليل على كل شيء؟ وكان كثيرا ما يتمثل بهذا البيت
وليس يصح في الأذهان شيء ****إذا احتاج النهار إلى دليل
ومعلوم أن وجود الرب تعالى أظهر للعقول والفطر من وجود النهار ومن لم ير ذلك في عقله وفطرته فليتهمها.
من أراد أن تصدق رؤياه فليتحر الصدق وأكل الحلال، والمحافظة على الأمر والنهي، ولينم على طهارة كاملة مستقبل القبلة، ويذكر الله حتى تغلبه عيناه، فإن رؤياه لا تكاد تكذب ألبتة.
“العبادة” تجمع أصلين: غاية الحب بغاية الذل والخضوع والعرب تقول: طريق معبد أي مذلل والتعبد: التذلل والخضوع فمن أحببته ولم تكن خاضعا له لم تكن عابدا له ومن خضعت له بلا محبة لم تكن عابدا له حتى تكون محبا خاضعا
“الاستعانة” تجمع أصلين: الثقة بالله والاعتماد عليه فإن العبد قد يثق بالواحد من الناس ولا يعتمد عليه في أموره مع ثقته به لاستغنائه عنه وقد يعتمد عليه مع عدم ثقته به لحاجته إليه ولعدم من يقوم مقامه فيحتاج إلى اعتماده عليه مع أنه غير واثق به.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه: “تأملت أنفع الدعاء فإذا هو سؤال العون على مرضاته ثم رأيته في الفاتحة في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
قال الله تعالى {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} قال الفضيل بن عياض: “العمل الحسن هو أخلصه وأصوبه” قالوا: “يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا: لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا: لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص: ما كان للهوالصواب: ما كان على السنة .
أصل العبادة: محبة الله بل إفراده بالمحبة وأن يكون الحب كله لله فلا يحب معه سواه وإنما يحب لأجله وفيه كما يجب أنبياءه ورسله وملائكته وأولياءه فمحبتنا لهم من تمام محبته وليست محبة معه كمحبة من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحبه.
وإذا كانت المحبة له هي حقيقة عبوديته وسرها فهي إنما تتحقق باتباع أمره واجتناب نهيه فعند اتباع الأمر واجتناب النهي تتبين حقيقة العبودية والمحبة ولهذا جعل تعالى اتباع رسوله علما عليها وشاهدا لمن ادعاها فقال تعالى {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه}