الوسطية في الإسلام (وكذلك جعلناكم أمة وسطا)

تاريخ الإضافة 20 يناير, 2024 الزيارات : 9742

الوسطية في الإسلام(وكذلك جعلناكم أمة وسطا)

??????????????????????????????

معنى مصطلح الوسطية:

مأخوذ من الوسَط بمعنى: العدل أو الخيار، ويقال: فلان أوسط قومه وواسطتهم: أي خيارهم

إذن الوسطية تعني: الموقف المعتدل بين طرفين ، فلا تميل إلى طرف دون آخر وإنما تقف الموقف الذي يقتضيه الميزان القسط ، ولا تسمح بطغيان طرف على آخر ، فلا إفراط ولا تفريط ولا غلو ولا تقصير ، وكما قيل : الوسط فضيلة بين رذيلتين ، وقد قيل أيضًا : خير الأمور أوسطها .

الوسطية في الإسلام :

الوسطية من أبرز خصائص الإسلام، “، ويعبر عنها أيضا بـ “التوازن”، ونعني بها التوسط أو التعادل بين طرفين متقابلين أو متضادين، بحيث لا ينفرد أحدهما بالتأثير، ويطرد الطرف المقابل، وبحيث لا يأخذ أحد الطرفين أكثر من حقه، ويطغى على مقابله ويحيف عليه.

 

مثال الأطراف المتقابلة أو المتضادة: الربانية والإنسانية، الروحية والمادية، الأخروية والدنيوية، الوحي والعقل، الواقعية والمثالية، الثبات والتغير، وما شابهها.

ومعنى التوازن بينها: أن يفسح لكل طرف منها مجاله، ويعطي حقه بالقسط بلا غلو ولا تقصير.

كما أشار إلى ذلك كتاب الله بقوله: (والسماء رفعها ووضع الميزان، ألا تطغوا في الميزان، وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان)الرحمن 55 وما بعدها

عجز الإنسان عن إنشاء نظام متوازن:

يعجز الإنسان عن إحداث نظام متوازن لعقله المحدود، وعلمه القاصر، ؛ ولهذا لا يخلو منهج أو نظام يصنعه بشر ـ فرد أو جماعة ـ من الإفراط أو التفريط، كما يدل على ذلك استقراء الواقع وقراءة التاريخ.

إن القادر على إعطاء كل شيء في الوجود ـ ماديا كان أو معنويا ـ حقه بحساب وميزان، هو الله الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا، وأحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا، ووسع كل شيء رحمة وعلما.
ولا عجب أن نرى هذا التوازن الدقيق في خلق الله، وفي أمر الله جميعا، فهو صاحب الخلق والأمر، فظاهرة التوازن، تبدو فيما أمر الله به، وشرعه من الهدى ودين الحق، أي: في نظام الإسلام ومنهجه للحياة، كما تبدو في هذا الكون الذي أبدعته يد الله فأتقنت فيه كل شيء.
وكذلك جعلناكم أمة وسطًا :

وقد جاء وصف الأمة في القرآن بالوسطية صريحًا في قوله تعالى : ” وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا ” [البقرة:143].

ومعنى الآية : وكما أن الكعبة وسط الأرض، كذلك جعلناكم أمة وسطا، والوسط الخِيار أو العدْل ، قال المفسرون الوسط هو العدل الخيار وهذه الأمة ولله الحمد عدول وخيار كما شهد الله لها بذلك لأن هذه الأمة ستشهد على الأمم يوم القيامة والشاهد يشترط فيه أن يكون عدلاً فهذه الأمة تحملت هذه الشهادة لما من الله عليها به من بعثة هذا الرسول محمد صلى الله عليه وسلم يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين .

وقد ورد عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”يدعى نوح يقوم القيامة فيقول:لبيك وسعديك يا رب، فيقول هل بلغت؟ فيقول:نعم، فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك؟ فيقول:محمد و أمته فيشهدون أنه قد بلغ”،”ويكون الرسول عليكم شهيدا” فذلك قوله-جل ذكره-: “وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا”

  الوسطية في السنة النبوية :
وعندما نستعرض سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم نجد فيها خاصية الوسطية واضحة جلية ، فانظر مثلاً :
*
ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم للنفر الذين آلوا على أنفسهم أن يصوموا فلا يفطروا ، وأن يقوموا فلا يناموا ، وألا ينكحوا النساء، إنه قال منكرًا عليهم تطرفهم : ” أما إني أخشاكم لله ، وأتقاكم له ، ولكني أصوم وأفطر وأقوم وأنام ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني ” ، وفي هذا تأكيد على خط الاعتدال الذي هو سمة هذا الدين في مواجهة من أرادوا أن يختاروا طرفًا واحدًا على حساب الطرف الآخر ، فردهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى حد الاعتدال وهو الوسط بين الطرفين .

ولنتأمل دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : ” اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي ، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي ، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير ، واجعل الموت راحة لي من كل شر ” .
إن هذا الدعاء يكشف عن توازن عجيب بين الدين والدنيا ، فهو لا يطلب الحياة الدنيا على حساب الآخرة ولا الآخرة على حساب الدنيا ونجد مصداق هذا في دعاء القرآن ، في قوله تعالى : ” ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ” ، فلا تطرف ولا إفراط ولا تفريط ، إنما هو وسطية واعتدال .

كذلك نجد قول النبي صلى الله عليه وسلم : ” إن المنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى ” ، يشبه المتشدد في العبادة بذلك المسافر الذي أرهق دابته من أمرها عسرًا ، وتجاوز حد الاعتدال في سوقها فكانت النتيجة أن نفقت (هلكت وماتت) دابته في الطريق ولم يصل إلى غايته ، وهذا شأن المتشدد في عبادته المتجاوز فيها حد الاعتدال فلا هو الذي أرضى ربه ، ولا هو الذي أبقى على نفسه ، شأن المنبت أي المنقطع في الطريق ، ولا يخفى ما في هذا التشبيه النبوي من دعوة إلى الوسطية والاعتدال .

 

أهمية الوسطية :
الإسلام في أيامنا هذه أحوج ما يكون إلى من يحسن عرضه على الناس والدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة وجوهر ذلك الاعتدال في الخطاب والحرص على كسب العقول والقلوب ؛ وذلك لا يتأتى إلا بالابتعاد عن الغلو والتفريط .

إن إبراز خصائص الإسلام وعلى رأسها الوسطية ، أمر في غاية الأهمية ونحن نرى أعداءه يرمونه بما ليس فيه من تطرف وإرهاب وإقصاء للآخرين وبث للكراهية والتعصب ، ومما يؤسف له أن نفرًا ممن ينتسبون لهذا الدين يساعدونهم في ذلك من خلال إساءتهم لتطبيق الإسلام تطبيقًا بعيدًا عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذلك يسيئون إلى هذا الدين من خلال عرضه عرضًا سيئًا كما أشرنا آنفًا .

إن الإسلام جاء ليرفع عن الناس الإصر والأغلال ، ويضمن لهم حياة طيبة ملؤها السعادة والاستقرار ، فكتابه الكريم يقول : ” وما جعل عليكم في الدين من حرج ” ، ” يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ” ، ونبيه صلوات الله وسلامه عليه هو الذي ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ، وفقهاؤه العباقرة هم الذين استنبطوا القواعد الفقهية التي تضمن سعادة الناس واستقرارهم من خلال استقرائهم لنصوص الشريعة وأحكامها ، فقالوا : المشقة تجلب التيسير ولا ضرر ولا ضرار ، والضرورات تبيح المحظورات ، ودرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة …. إلخ

من مظاهر الوسطية في الإسلام:
وإذا كان للوسطية كل هذه المزايا، فلا عجب أن تتجلى واضحة في كل جوانب الإسلام، نظرية وعملية، تربوية وتشريعية.

وسطية الإسلام في العقيدة :
إن المتأمل لمنظومة العقائد الإسلامية يجد أنها وسط بين من يتبعون الخرافة والأسطورة مهملين العقل والدليل مصدقين بكل شيء يصل إليهم تقليدًا وإتباعًا أعمى ، وبين الماديين الذين ينكرون كل شيء وراء الحس ولا يأبهون أيضًا بنداء الفطرة والأشواق الروحية ، إن الإسلام يقيم عقائده على براهين مقنعة وأدلة ساطعة ، فمثلا .. يقول الله تعالى : ” ومن يدع مع الله إله آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه ” ، نجد في هذه الآية أن القرآن إمعانًا منه في التأكيد على أهمية الدليل والبرهان يطالب به على قضايا قد ثبت فسادها وبطلانها ، فمن المعلوم أنه لا برهان على وجود إله آخر مع الله إنما هي دعوى لا تستند إلى أساس ،

والإسلام وسط في عقيدته بين من لا يرون إلا هذا العالم المحسوس وينكرون ما وراءه من غيب ، وبين أولئك الذين يعتبرون أن هذا العالم وهم لا حقيقة له ، ويقيمون عقيدته على أن هذا العالم حقيقة إلا أن هناك حقيقة أكبر منه ، فهو يصل من الكون إلى المكوِّن ومن الخلق إلى الخالق ، وفي ذلك يقول القرآن : ” هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه ” ، ويقول أيضًا : ” فتبارك الله أحسن الخالقين ” .
والإسلام أيضًا وسط بين من يؤمنون بالعقل وحده مصدرًا للمعرفة ومن ينكرون قيمة العقل ويقولون بالإلهام أو الأوهام ، إذ أن الإسلام يقف موقفًا مميزًا في الربط بين العقل والوحي ، فهو يعتبر أن بينهما علاقة كعلاقة البصر بالنور ، فالبصر يغدو عديم الفائدة في غياب النور ، كما أن النور لا جدوى منه إذا سار في ضوء أشعته أعمى ، فالعقل بصر والوحي نور وهي كما نرى عقيدة وسط بين هؤلاء وأولئك .

وسطية الإسلام في العقل:

كذلك الإسلام وسط بين الغلاة في العقل الذين جعلوه مصدر المعارف والحقائق في الوجود وما وراء الوجود، وبين الجفاة الذين تنكروا له وانزلقوا وتعلقوا بالإلهامات، وعَمَت أبصارُهم.

فمع الأسف جمع الماديون بين التعلق بالمادة، والتعلق بالعقل، فما أوصلتهم إليه عقولُهم قبلوه، وما لم تقبله عقولهم ردُّوه، كما أنه يقابلهم طرف آخر أفرطوا، فألغوا عقولهم بالكلية، فتعلقوا بالأوهام، وتعلقوا بالخرافات، فالإسلام وسط من ذلك، فهناك أمور غيبية لا يدركها العقل فيُسَلِّم بها بضوابطها، وأمور معقولات، وقد جعل الله عزَّ وجلَّ لنا عقولاً، وجعلها هي محطة التكليف.

إذاً نحن أهل الإسلام ديننا دين وسط في ذلك، فالعقل له منزلته، بل العقل هو محطة تكليف، وفي المقابل نحن لا نغلو بحيث ما لم تصدقه عقولنا لا نقبله؛ لأننا نعلم أن العقل محدود، كما أن طاقاتنا كلها محدودة، فقوة اليد، والبصر، والسمع كلها محدودة، كذلك قوة العقل محدودة، لكنها قوة نعترف بها في حدودها.

وسطية الإسلام في التشريع :

والإسلام وسط كذلك في تشريعه ونظامه القانوني والاجتماعي .

فهو وسط في التحليل والتحريم بين اليهودية التي أسرفت في التحريم ، وكثرت فيها المحرمات ، مما حرمه إسرائيل (يعقوب)على نفسه ، ومما حرمه الله على اليهود ، جزاء بغيهم وظلمهم كما قال الله تعالى : ” فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ، وبصدهم عن سبيل الله كثيرا . وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل ” سورة النساء :160 ، 161 .

وبين المسيحية التي أسرفت في الإباحة ، حتى أحلت الأشياء المنصوص على تحريمها في التوراة ، مع أن الإنجيل يعلن أن المسيح لم يجيء لينقض ناموس التوراة ، بل ليكمله ؛ ومع هذا أعلن رجال المسيحية أن كل شيء طاهر للطاهرين !

فالإسلام قد أحل وحرم ، ولكنه لم يجعل التحليل ولا التحريم من حق بشر ، بل من حق الله وحده ، ولم يحرم إلا الخبيث الضار ، كما لم يحل إلا الطيب النافع . ولهذا كان من أوصاف الرسول عند أهل الكتاب أنه : ” يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ” سورة الأعراف : 157 ..

والتشريع الإسلامي وسط في شؤون الأسرة ، كما هو وسط في شئونه كلها ؛ وسط يبن الذين شرعوا تعدد الزوجات بغير عدد ولا قيد ، وبين الذين رفضوه وأنكروه ولو اقتضته المصلحة وفرضته الضرورة والحاجة .

فقد شرع الإسلام هذا الزواج بشرط القدرة على الإحصان والإنفاق ، والثقة بالعدل بين الزوجتين ، فإن خاف ألا يعدل ، لزمه الاقتصاد على واحدة . كما قال الله تعالى : ” فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ” سورة النساء : 3 .

وهو وسط في الطلاق بين الذين حرموا الطلاق ، لأي سبب كان ، ولو استحالت الحياة الزوجية إلى الجحيم لا يطاق ، كالكاثوليك ، وقريب منهم الذين حرموه إلا لعلة الزنا والخيانة الزوجية كالأرثوذوكس .. وبين الذين أرخوا العنان في أمر الطلاق ، فلم يقيدوه بقيد ، أو شرط ، فمن طلب الطلاق من امرأة أو رجل كان أمره بيده ، وبذلك سهل هدم الحياة الزوجية بأوهى سبب ، وأصبح هذا الميثاق الغليظ أو هي من بيت العنكبوت .

إنما شرع الإسلام الطلاق ، عندما تفشل كل وسائل العلاج الأخرى ، ولا يجدي تحكيم ولا إصلاح .

ومع هذا فهو أبغض الحلال إلى الله ، ويستطيع المطلق مرة ومرة أن يراجع مطلقته ويعيدها إلى حظيرة الزوجية من جديد . كما قال تعالى : ” الطلاق مرتان فامساك بمعروف أو تسريح بإحسان ” (سورة البقرة : 229 . .

وسطية الإسلام في العبادات والشعائر:
الإسلام وسط في عباداته، وشعائره بين الأديان، بين شطحات الرهبان وأصحاب الرياضات الذين يُعذِّبون الأجساد ويُمِيتون الحياة من جهة، وبين الماديين من إباحيين وشيوعيين ورأسماليين الذين يُلْغُون الرُّوح ويعبُدون الشهوات ويتجاهلون الآخرة.
فالتكاليف في حدود الاستطاعة، لم يكلفنا الله عزَّ وجلَّ إلا في حدود قدرتنا لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] في الصلوات، في الزكاة، في الصيام، في الحج، في سائر المطلوبات الشرعية، بل الذين أرادوا أن يشددوا على أنفسهم في العبادة، نهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقف منهم موقفاً شديداً، كما في قصة الثلاثة الذين جاءوا إلى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه عن عبادته: {فكأنهم تقالُّوها، فقال أحدهم: أما أنا فأصلي ولا أنام، وقال الآخر: أصوم ولا أفطر، وقال الثالث: لا أتزوج النساء، فقام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ما بال أقوام يقولون كذا وكذا، أما أنا فأصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي، فليس مني }.
وعن ابن عباس قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه”. فهذا يدل على سماحة ويسر الشريعة.

إذاً هو وسط في التكاليف، بل -في التكاليف- إذا طرأ عليك ظرف خَفَّفَ الله عليك، فإذا جاء ظرف سواء أكان شاقاً أو في الأسباب التي قررها الشرع كالسفر مثلاً، قد لا يكون شاقاً، لكن لو حصل ظرف شاق فإنه يأتي التخفيف.

فإذاً التكاليف وسط، ولهذا المداومة على العبادة تكون في حدود ما تطيق {عليكم من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا }، {وأحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه، وإن قلّ } ولهذا ابن الجوزي رحمه الله يعلق على قضية المداومة، فيقول: إنما أحب الله الدائم لمعنيين:

أحدهما: أن التارك للعمل بعد الدخول فيه كالمعرض بعد الوصل، فهو متعرض للذم، ولهذا ورد الوعيد في حق من حفظ آية، ثم نسيها، وإن كان من قبل حفظها لا يتعين عليه.

ثانيهما: أن مداوم الخير ملازمٌ للخدمة، وليس من لازم الباب في كل يومٍ وقتاً كمن لازم يوماً كاملاً، ثم انقطع.

خطورة المبالغة في الترغيب والترهيب :

ومن الوسطية أن نتبع خير الهدي وأفضله هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد عنى بعض الوعاظ بذكر بعض الأمثلة في الترغيب والترهيب على سبيل المبالغة بروايات أغلبها غير صحيح وإن صح فهو مخالف لخير الهدي وأفضله وأتمه هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم

ومن ذلك :

1-    الأثر المروي عن أبي بكر الصدِّيق رضي الله عنه ” لو أن إحدى قدمي في الجنة والأخرى خارجها ما أمنت مكر الله ” : فمع أنه أثر مشهور متداول، إلا أني لم أقف عليه مسنداً لا بسندٍ صحيح ولا ضعيف ،وهو يتنافى مع ما ورد عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قال النبي – صلى الله عليه وسلم – : يقول الله تعالى : ( أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم ، وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعا ، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا ، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة ) فلا يتصور مؤمن أبدا أن عبدا من عباد الله وضع أحد قدميه في الجنة ثم يقول له الله ارجع فلن تدخلها !!!

2-    كان عمر بعد أن ولي الخلافة لا ينام نهاراً ولا ليلاً فقيل له في ذلك فقال (إذا نمت نهاراً ضيعت رعيتي وإذا نمت ليلاً ضيعت نفسي فجعلت النهار لرعيتي وجعلت الليل لربي ) وهذا كله كذب ومن المبالغات التي لا تصح فكيف لعمر أن يخالف هدي رسول الله الذي قال (وأقوم وأرقد) وهل يعقل أن عمر ظل طوال فترة الخلافة لا ينام  .

3-    ومن هذا الباب زعمهم أن أبا حنيفة ظل أربعين سنة يصلى العشاء بوضوء الفجر ، وهذا كذب لا أصل له ولو صح لكان مخالفا أيضا لهدي رسول الله الذي قال (وأقوم وأرقد)

4-    ومن المبالغات قولهم في الترغيب في تلاوة القرآن في رمضان :

كان الشافعي يختم القرآن في شهر رمضان ستين ختمة وفي كل شهر ثلاثين ختمة ، وفلان كان له أربع ختمات ، وأبو حنيفة كان له ختمة بالليل وختمة بالنهار وختمة داخل الصلاة وختمة خارجها

فهذه الآثار مخالفة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يلتفت إليها كثيراً لنهيه عليه السلام عبدالله بن عمرو أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاث، يقول عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اقْرَإِ الْقُرْآنَ فِي شَهْرٍ قُلْتُ إِنِّي أَجِدُ قُوَّةً حَتَّى قَالَ فَاقْرَأْهُ فِي سَبْعٍ وَلَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ . رواه البخاري .

َوقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يَفْقَهُ مَنْ قَرَأَهُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد

فأعدلُ شيءٍ وأحسنُه عدمُ ختمِه في أقلَّ من ثلاث.. وكلما زادت سرعتُك في القراءة.. قلَّ تدبرُك له، وللمقارنة: مصحف الشيخ الشريم -والمسجلُ من صلاة التراويح- استغرق أكثرمن ست عشرة ساعة مع أنه يقرأ حدرًا(بسرعة) ولكي يختم مرتين بهذه السرعة.. يحتاج ثلاثًا وثلاثين ساعة تقريبًا.. واليومُ أربعٌ وعشرون ساعةً! لكن مع الصلوات والواجبات الأخرى أنَّى يمكن ختمُه مرتين إلا إذا كانت القراءةُ هذًّا كَهَذِّ الشِّعر! وختمُه مرةً واحدة في اليوم أيضًا صعبٌ مع التدبر إن لم يكن مستحيلًا.

و لا يصح الاستدلال بالبركة ، فالبركة حقا إنما تكون مع من قرأ القرآن بتدبر وفقهٍ كما قال سبحانه وتعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ).وأكرر خير الهدي هدي رسول الله .

5-    ومن ذلك ما ورد عن الْفُضَيْل بْن عِيَاض أنه لما مات ولده مَشَى فِي جِنَازَته وَهُو يَضْحَك !!!
فكَيْف يَبْكِى رَسُوْل الله صلى الله عليه وَسَلَّم- ابْنَه إِبْرَاهِيْم بَيْنَمَا يَضْحَك الْفُضَيْل فِي جِنَازَة ابْنَه ، وَأَيُّهُمَا أَوْلَى بِالْرِّضَا ألْنَّبِي- صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم- أَم الْفُضَيْل ، ولنسمع لكلام العلماء :

يقول شَيْخ الْإِسْلَام ابن تيمية – رَحِمَه الله-لما سئل عن ذلك : (هُدِي نَبِيِّنَا أَكْمَل ، لِأَن نَبِيَّنَا- صَلَّى الله عَلَيْه وَسَلَّم- أَدَّى الْعُبُوْدِيَّة عَلَى وَجْهِهَا ، فَهُنَاك عُبُوْدِيَّة الْرَّأْفَة وَالْرَّحْمَة وَهُنَاك عُبُوْدِيَّة الْرِّضَا ، فَأَدَّى عُبُوْدِيَّة الْرَّأْفَة وَالْرَّحْمَة فَبَكَى عَلَى ابْنِه ، وَأَدى عُبُوْدِيَّة الْرِّضَا فَقَال:” وَلَا نَقُوُل مَا يُغْضِب الْرَّب ” ، لَكِن ضَاق قَلْب الْفُضِيل بْن عِيَاض عَن اسْتِيْعَاب الْعُبُوْدِيَتَين جَمِيْعاً فَقَدِم عُبُوْدِيَّة الْرِّضَا عَلَى عُبُوْدِيَّة الْرَّأْفَة وَالْرَّحْمَة )

فَهَدَي نَبِيِّنَا أَكْمَل ، وَالْبُكَاء لَا يُعَد مِن عَدَم الْرِّضَا ، إِنَّمَا الْبُكَاء رَحِمَه وَلِذَلِك قَال رَسُوْل الله صلى الله عليه وَسَلَّم-: ” إِن الله لَا يُعَذِّب بِدَمْع الْعَيْن ولا بحزن القلب “

والأمثلة كثيرة وما ذكرناه فيه الكفاية إن شاء الله

وسطية الإسلام في الأخلاق:
جاء الإسلام وسطا في أخلاقياته ، فلم ينظر إلى الإنسان باعتباره خيرا محضا أو شرا محضا ، أي لم يكن تعامله مع الإنسان على أنه ملك أو شيطان … وإنما تعامل معه بما يتوافق مع أصل فطرته وطبيعة تكوينه ، فهو مخلوق مكلف مختار ، صالح للطاعة أو المعصية ، فيه الجانب المادي والجانب الروحي ، وسأضرب مثالا واحدا على ذلك :

إذا وقع اعتداء على إنسان ما ، فإن النصرانية مثلا تدعوه إلى الإفراط في التسامح والعفو ، وفي هذا يقول إنجيلهم : (من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الخد الأيسر ) ويقول : ( أحبوا أعداءكم ، باركوا لاعنيكم ، أحسنوا إلى مبغضيكم ) ولا شك أنها نظرة مثالية محمودة ، ولكنها ليست متوازنة لأن الإنسان بطبيعته وفطرته يميل إلى الدفاع عن نفسه ورد الاعتداء الواقع عليه ، والانتقام ممن أهانه أو غض من كرامته ، فإذا وقع الاعتداء ، وطلب منه إلزاما أن يعفو ويصفح ، فلا شك أنه سيكبت غضبه وغيظه على كره ومضض ، وسيحاول التنفيس عن غضبه وغيظه حينما تسنح الفرصة المناسبة .

أما الإسلام ، فلأنه دين متوازن وواقعي ، فإنه سيأتي وسطا في هذه القضية ، بأن يراعي في النفس البشرية نوازع الرغبة في الانتقام والثأر ، فأباح للمعتدى عليه أن يرد الاعتداء بمثله فقط ، بحيث لا تنتقل المسألة من خانة رد الاعتداء إلى خانة التشفي والظلم ، يقول تعالى : ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ) ويقول سبحانه : ( جزاؤا سيئة سيئة مثلها …. )الشورى 40

ولكن الإسلام وهو يبيح رد الاعتداء ، فإنه يرغب في العفو والتسامح ، أي أنه يطلب من المعتدى عليه أن يتسامى بغريزة رد الاعتداء إلى مستوى أعلى وأفق أرحب ..

ويتضح ذلك مما يلي :

(1) أطلق الإسلام على عملية رد الاعتداء ، صفة ” الاعتداء ” كما بينت الآية المذكورة آنــفا ( فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ) وصــفة ” السوء ” كما قال في الآية الأخرى ( سيئة مثلها ) .. مع أن الأصل أن لا يطلق على رد الاعتداء صفة ” الاعتداء ” ولا على رد السيئة ولا على رد السيئة ” سيئة ” .. لكن هذا ـ في حقيقة الأمر ـ ترغيب في العفو والمسامحة من طرف خفي ، فالمسلم بطبيعته ينأى بنفسه بعيدا عن الاعتداء وعن السيئة ، فهو يؤثر العفو والتسامح .

(2) اشترط الإسلام تحقق ” المثلية ” في عملية رد الاعتداء ، وأكد عليها ، وحذر من تجاوزها .. وهذا أيضا في واقع الأمر دعوة إلى العفو والتسامح إذ أن المسلم الورع الذي يخشى الله ويراقبه ، يخاف أن لا يلتزم بهذه ” المثلية ” ويخاف أن تدفعه غزيرة الانتقام إلى رد الصاع صاعين ، والتشفي من غريمه .. لذا فإنه يؤثر السلامة ، ويجنح إلى العفو والتسامح .. خاصة وأن الله عز وجل قد استجاش فيه مشاعر التقوى ، حينما قال في نهاية الآية الأولى ( واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين ) البقرة 194.

(3) بين الإسلام أن العفو والتسامح هو المسلك الأولى والأجدر بالقبول ، وذلك في ختام الآية الثانية ( فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين ) الشورى 40

(4) ثم يحث الإسلام على السمو إلى منزلة أعلى ومكانة أسمى ، وذلك حينما لا يكتفي بالترغيب في العفو ، وإنما يرغب في الإحسان إلى المسيء ، ومواجهة السيئة لا بسيئة مثلها وإنما بحسنة تزيل أسباب العداوة وتمحو دوافع البغضاء .. ( فمن عفا وأصلح فأجره على الله ) ويقول سبحانه : ( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم . وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم . وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم ) فصلت 63، ويقول جل شأنه : ( .. والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ) (سورة آل عمران : جزء من الآية ( 134 ) .

ويقول ( ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ) سورة الشورى الآية : ( 43 ) .

وبهذا أقام الإسلام التوازن في خلق المسلم ، فلا إفراط ولا تفريط.  

وسطية الإسلام بين الدنيا والآخرة :

يبالغ الكثير من الخطباء في ذم الدنيا وأهلها فيفهم السامعون أن مقتضى هذا الكلام ترك الدنيا كلها بما فيها رغم أننا نتلو في آيات القرآن “هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ” هود 61

أي طلب منكم عمارتها .

والدنيا لم تذم في القرآن إلا لسببين : إذا ألهت عن ذكر الله وطاعته ،أو إذا توصل الإنسان إليها بالحرام الممنوع دون الحلال المشروع .

أما الدنيا هذه البسيطة التي نحيا عليها فقد أمرنا الله بالسعي فيها والأكل من رزقه وعمارتها ، وليس الزهد معناه الفقر وقلة ذات اليد ، إنما الزهد أن تكون الدنيا في يدك لا في قلبك ،أن تملك المال ولا يملكك ، وقد يكون هناك غنى مع الزهد (كما رأينا في صحابة الرسول كأبي بكر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف )وقد يكون فقير غير زاهد .

وكما نتمنى الموت في سبيل الله فلنجعل من أمنياتنا أيضا أن نعيش في سبيل الله وهذا هو التوازن الذي تعلمناه من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم الذي ذكر في بداية الموضوع ” اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي ، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي ، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير ، واجعل الموت راحة لي من كل شر ” .
وكما قال الشاعر :

مَا أَجْمَلَ الدِّينَ وَالدُّنْيَا إِذَا اجْتَمَعَا —- وَأَقْبَحَ الكُفْرَ وَالإِفْلاَسَ بِالناس

و من أقوال الشيخ محمد الغزالي رحمه الله ” المسلمون طلقوا الدنيا فتزوجها الغرب” وهذا لا يتنافى مع ما ورد عن علي بن أبي طالب في قوله :

إن لله عبادا فطنا طلقوا —- الدنيا وخافوا الفتنا

فإن عباد الله لا تشغلهم الدنيا عن طاعة الله ولا يجعلون الدنيا أكبر همهم ولا مبلغ علمهم ولا غاية قصدهم بل يجعلونها ممرا للآخرة، والمعنى الخاطئ هو رفض الدنيا بالكلية وعدم التزود من حلالها وترك عمارتها فبعد أن أسس أجدادنا في القرون السابقة المفضلة أروع حضارة عرفها الإنسان تخلف المسلمون في عصور الانحطاط الحضاري والثقافي إلى أن صاروا يستجدون الشرق والغرب في باب الحضارة الدنيوية والوسائل المادية، وإلا فمن الذين عمروا عواصم العالم بالعلم والمعرفة إلا المسلمون الأوائل؟

أما أرسل أجدادنا أشعة النور والرقي والتمدن من مكة والمدينة والقاهرة ودمشق وبغداد والزيتونة والقيروان وقرطبة والحمراء والزهراء وأقاموا أقسام الفقه والتأريخ وعلم الاجتماع والكيمياء والفيزياء والأحياء والطب والهندسة ؟

يقول الشيخ محمد عبده : ذهبت إلى الغرب فوجدت مائة أسطول ودينهم يقول : إذا صفعك أحدهم على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر فعدت إلى الشرق فوجدت مائة مسطول ودينهم يقول : ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل )!  

فأين تطبيقنا للقرآن وهو يدعونا للعمل والجد والمثابرة وعمارة الأرض واستخراج خيراتها والإنتاج والإتقان والإبداع.

ولكن الأمل معقود في الله وبشائر الأمل موجودة في جيل جديد موهوب صاعد مسلم أصبح الآن في بلادنا وغيرها يأخذ مقعده اللائق به في كل مجالات التقدم والرقي والحضارة والمدنية.


اترك ردا

بدريك الإلكتروني لان يتم نشره.


قناة فتاوى أون لاين

تم إنشاء قناة جديدة تحت عنوان فتاوى أون لاين للإجابة على الفتاوى الشرعية
رابط الانضمام

رابط تيليجرام

الواتس اب

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر مشرف الموقع

هو الشيخ  الدكتور/ حسين محمد عامر من مواليد بلبيس بمحافظة الشرقية -مصر-عام 1976 م . الشهادات العلمية : 1- أتم حفظ القرآن وهو ابن الرابعة عشر عاما ، وحصل على إجازة برواية حفص بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على يد شيخه يوسف عبد الدايم -رحمه الله- . 2-  حصل على الإجازة

تاريخ الإضافة : 14 مايو, 2024 عدد الزوار : 1034 زائر

خطبة الجمعة

تفسير القرآن العظيم

شرح صحيح البخاري

شرح مدارج السالكين

جديد الموقع