ما الحكمة من خلق إبليس؟
يتساءل البعض قائلا : لماذا خلق الله خلقا يدفعني إلى معصيته ويبعدني عن الله عز وجل؟
للإجابة عن هذا السؤال لابد من مقدمة ، وهي أن نفهم طبيعة المخلوقات التي خلقها الله عز وجل:
خلق الله تعالى الملائكة وجعلها مجبولة (مفطورة)على طاعته فالملائكة لا تعرف إلا طاعة الله ، ليس عند الملائكة خيار الطاعة والمعصية أو الإيمان والكفر ، قال تعالى : ( يسبحون الليل والنهار لا يفترون )- [الأنبياء/20]
فالملائكة في عبادة دائمة لله عز وجل لا يأكلون ولا يشربون ولا ينامون وليس فيهم ذكور وإناث ، وبالتالي لا زواج ولا ذرية ، هكذا خلقوا من الله عز وجل بكلمة كن فكانوا .
ثم خلق الله الجن والإنس ، وهؤلاء خلقهم الله مختارين في طاعته ، ليسوا مجبولين على الطاعة فقط كالملائكة ؛ ولا مجبرين على المعصية كما يعتقد الجبرية الذين قالوا: إن الإنسان مجبر على أفعاله كلها .
فألهمها فجورها وتقواها:
خلق الله فينا القدرة على فعل الأمرين معا ، الطاعة والمعصية ، الخير والشر ، وهذا معنى التكليف وهذا معنى قول الله تعالى : -( ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها )- [الشمس7 /8] الإلهام هنا ليس معناه التوفيق للفجور معاذ الله، إنما الإلهام هنا هو الإلهام الغريزي كإلهام الله للنحل -( وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون )- [النحل/68]
فالإنس والجن عندهم القدرة على الإيمان والكفر ، الطاعة والمعصية ، الفعل والترك ، ومن هنا جاء التكليف من الله والاختيار من العبد، ولذلك نحن معشر الجن والإنس نعلم أننا كلفنا من الله سبحانه وتعالى بالإيمان به والعمل الصالح وفق منهجه وأمره ، وأجرى الله هذه الحياة الدنيا بمثابة لجنة للاختبار قال تعالى : -( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور )- [الملك/2] ثم الحساب والجزاء غدا بين يدي الله يوم يقوم الناس لرب العالمين.
الشيطان من الجن:
وخلق الله الجن قبل الإنس كما في قوله تعالى : -( والجان خلقناه من قبل من نار السموم )- [الحجر/27] ومنهم الشيطان ، الشيطان من الجن ، ولما خلق الله آدم أمر الملائكة بالسجود له -( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين )- [البقرة/34]
وإبليس كان مع الملائكة وشمله الأمر الإلهي بالسجود لآدم ، ولم يكن من الملائكة طرفة عين كما في قوله تعالى : -( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه )- [الكهف/50] فإبليس لم يكن من الملائكة وقد جاء النص واضحا في القرآن -( فسجد الملائكة كلهم أجمعون )- [الحجر/30] كل الملائكة سجدوا وأكد ذلك بقوله: أجمعون .
وإبليس كان مشمولا بالأمر الإلهي بالسجود لآدم ، والقرآن الكريم يترك مساحة ذهنية للقاريء أو السامع ليفهم هذا ولذلك قال تعالى له -( قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك)- [الأعراف/12] لم يقل إبليس رغم وقاحته وبجاحته مع رب العزة لم يقل لم تأمرني أو أنك أمرت الملائكة فقط ، فإبليس شمله الأمر بالسجود لآدم وهذا ما نفهمه من السياق القرآني ، فالله تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم فسجدوا إلا ( إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين )- [البقرة/34]
وإبليس قال بعد ذلك معللا عدم سجوده لآدم -( قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين )- [ص/76] فلم يقل لقد خلقتني من نور كالملائكة إنما قال أنا مخلوق من نار ، وهذه حجة باطلة ، فهو ليس من الملائكة لأنها خلقت من نور والجن خلقوا من نار قال تعالى : -( والجان خلقناه من قبل من نار السموم )- [الحجر/27]
الجن مثلنا تماما في التكليف :
ومن أراد أن يعرف عن الجن أكثر وأكثر فليقرأ سورة الجن ففيهم المؤمن والكافر ، وفيهم كل الطوائف والطرائق وكل شيء موجود عندنا نحن معشر الإنس عند الجن ايضا، وفيهم من صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجالسه وهذا معلوم بنص القرآن -( قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا )- [الجن/1] ومعلوم من السنة مقابلة النبي -صلى الله عليه وسلم- لهم أكثر من مرة ، ففيهم صحابة جالسوا النبي -صلى الله عليه وسلم- وتعلموا منه ، وفيهم ، كما ذكرت المؤمنين والكفار والعصاة والفسقة وكل ما عندنا نحن الإنس .
ما هو محل إبليس من الجن ؟
إبليس كافر من كفرة الجن ، وهو إبليس واحد أنظره الله (أمهله الله ) -( إلى يوم الوقت المعلوم )- [الحجر/38] ثم ذريته شياطين وفي الآية ( أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا )- [الكهف/50] لكن ليس كل الجن شياطين كما يعتقد البعض ، والرسول -صلى الله عليه وسلم- لما قرأ سورة الرحمن على أصحابه قال : ما لي أراكم سكوتا لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن مردودا منكم كنت كلما أتيت على قوله فبأي آلاء ربكما تكذبان قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد “
إذن الإنس والجن مكلفين عندهم القدرة على الاختيار بين الطاعة والمعصية ، وإبليس رفض السجود لآدم فلعنه الله وطرده من رحمته وطلب أن ينظره الله أن يمهله -( قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون )- [الحجر/36] فقال له الله : -( قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم )- [الحجر37 /38]
لم يجبر إبليس على معصية الله:
عمل إبليس وذريته من الشياطين إضلال بني آدم وإيقاع الناس في المعاصي ، ومن هنا نعلم أن الله سبحانه وتعالى لم يخلق إبليس مجبرا على الكفر بالله وإلا لانتفى التكليف ، فلم يجبر إبليس على معصية الله ورد الأمر على الله ، لكن الله أقدره على ذلك بما أودعه من قدرة في الجن والإنس ، بمعنى أنا عندي قدرة في الحواس والجوارح ، أستطيع أن أسلطها في الخير أو الشر؛ لساني هذا فيه القدرة على الكلام ، ممكن أن أقول : لا إله إلا الله فأدخل بها الإسلام ، وأنجو ويختم لي بها فأدخل الجنة ، ونفس اللسان قادر على أن ينطق بكلام كفر والعياذ بالله ، الزواج ينعقد بكلمة : زوجيني نفسك ، قبلت ، ونفس اللسان ينطق بكلمة الطلاق فتصير الزوجة الحلال حراما، وهكذا ، فأنا عندي القدرة أستطيع أن أنطق بالإيمان وأن أنطق بالكفر لا مكره لي على شيء ، يدك فيها القدرة أن تمتد بالخير وتعمل وتكد وتكسب من عرق جبينك ، ونفس اليد ممكن تمتد بالإساءة والظلم والعدوان والسرقة ، ونفس الحال في سمعي أو بصري .
إذن فالله سبحانه وتعالى لم يجبرنا على معصيته إنما أقدرنا (جعل فينا القدرة) على الطاعة والمعصية ، ففينا القدرة على الفعل والترك ، وأرسل إلينا رسوله وبين لنا منهجه وفيه افعلوا كذا ولا تفعلوا كذا ، الشيطان قال لرب العزة -( قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين )- [الحجر/39] فالله لم يجبرإبليس على الغواية إنما أقدره على الغواية ، وكان لإبليس أن يطيع الله ، وكان له أن يسجد لآدم ، وكان له أن يرجع عما فعل لكنه ( أبى واستكبر وكان من الكافرين )- [البقرة/34] رفض وتعالى عن الاستجابة لأمر الله ، فالله لم يجبر إبليس على الغواية ،إنما أقدره على أن يستجيب لأمر الله أو يرفض ، كما أن هناك الكثير من عصاة الجن والإنس وأيضا فيهم المؤمن والكافر ، وسعهم الله في ملكه وأقدرهم على طاعته أو معصيته ، ففينا أولياء الله وفينا أولياء الشيطان .
هذه مسألة مهمة جدا وإلا لو قلنا إن الإنس والجن مجبرين لا حول لهم ولا قوة وأن الشيطان كتب عليه أن يكون كذلك فأجبر على أن يكون كذلك ، فمعنى هذا أن السارق مطيع لله ، ولي من أولياء الله ، لماذا سرقت يا فلان ؟ والله قد جعل الله رزقي في جيوب الناس أنا أسرق طاعة لله ، وهذا كذب .
لماذا قتلت نفسا بغير حق ؟ لأن الله قدر أن يموت على يدي !! وهذا كذب !!!
ونفس الحال لو سألت أحدهم لماذا زنيت سيقول : إن الله قدر هذا علي !!
نقول له لا إن الله سبحانه وتعالى قال : -( ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا )- [الإسراء/32]
إذن حتى يجعل الله للتكليف عاقبة وجزاء بالجنة أو النار جعل فينا القدرة على الفعل والترك ، على الخير والشر ، ليس هناك رسول أرسله الله جاء ليكره الناس على الإيمان بالله قال تعالى : -( لا إكراه في الدين )- [البقرة/256] فلو أراد الله ذلك لفعلها بذاته وجلاله قال تعالى : -( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين )- [يونس/99] فالله سبحانه وتعالى قادر أن يجعلنا كالملائكة ، إنما أراد الله سبحانه وتعالى أن يعبد اختيارا لا اضطرارا ، أن تأتي إلى الله باختيارك بلا اضطرار لطاعته أوإكراه ، فمن أطاع الله من الإنس والجن أحبوا الله وعبدوه اختيارا ، تركوا الحرام والمعاصي والشهوات والكبائر والفواحش لله ، والذين كفروا أنظرهم الله وأمهلهم في هذه الدنيا ووسعهم في ملكه ويرزقهم كما يرزق المؤمنين ويعم الجميع بعطاء الربوبية الذي يتسع للمؤمن والكافر قال تعالى : -( كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا )- [الإسراء/20] لأن المجازاة تكون في الآخرة .
هل هناك حكمة من خلق إبليس ؟
نعم هناك حكمة ، فما من شيء قدره الله ووقع في كونه إلا لحكمة ، من الممكن أن نعلمها ، ومن الممكن أن نجهلها ، فإذا علمناها فهذا من فضل الله عز وجل ، وإذا جهلناها سلمنا لله الأمر أن له حكمة خفيت علينا ، أو كما يقول ابن القيم : تسيء الظن بنفسك وتحسن الظن بربك ، يعني أنا أجهل لماذا خلق الله كذا ؟ لماذا قدر الله كذا ؟
فجهلك بالحكمة لا يعني أنه ليس هناك حكمة ، فالحكمة موجودة لكنها خفيت عنك ، أراد الله أن تخفى حتى يكون العباد دائما على تسليم لأمره ، فنحن لا نعبد الأسباب ولا العقول ، إنما نعبد الله عز وجل .
ولذلك قدرالله سبحانه وتعالى عبادات مفهومة المعنى وعبادات غير مفهومة المعنى ، لأنك تفهم الحكمة من الأمر الفلاني كذا …ثم الأمر الآخر لم تفهم الحكمة منه ، لماذا ؟ حتى تسلم لأمر الله وتحقق معنى العبودية الكاملة لله .
التربية العسكرية:
في جو الحرب والقتال الأمر لا يحتمل المناقشة وماذا وراء الأمر وفهم الأسرار العسكرية للجميع ، أول ما يتربى العسكري يتربى على الطاعة المطلقة الثقة في القيادة ، فإذا جاءه الأمر لا يناقشه بل ينفذه طواعية بلا نقاش ، فعنده ثقة في القيادة وتنفيذ للأوامر بدون نقاش ، وأحيانا خلال التدريب يأمرونه بأشياء يرفضها العقل أو يستحيل فعلها ، وهذا كله من باب التمرين على طاعة الأوامر ، حتى وإن كان عقله من داخله يرفضها ولا يقبلها ، هذا بالنسبة لفعل البشر مع البشر .
فالله سبحانه وتعالى يقدر أمورا لا يدرك العقل لها حكمة لتثق في ربك وأمره سبحانه وتعالى ، وتسلم له عز وجل ، وهذا معنى الإسلام ، فهو الاستسلام التام لأمر الله .
على سبيل المثال :
لماذا نصلي الظهر أربع ركعات ولم يكن ثلاثة ولا خمسة ؟
لماذا المغرب ثلاث ركعات ؟ وليس أربع ؟
لماذا الطواف بالكعبة سبعة أشواط وليس ستة أو عشرة ؟
لماذا السعي بين الصفا والمروة فقط وليس بغيرهما ؟
لماذا الوقوف بعرفة يوم التاسع من ذي الحجة وليس الخامس عشر أو العاشر من محرم أو رمضان ؟
هذا هو التسليم لأمر الله قد نبحث عن الحكمة فنهتدي إليها وقد نبحث ولا نهتدي فعلينا أن نسلم لله عز وجل وهذا معنى إسلام الوجه لله ، يعنى الانقياد التام لأمره سبحانه وتعالى .
وهذه مسألة مهمة لأن بعض الناس يقول : إما أن أفهم الموضوع من الناحية العقلية وإما لن أطيع الله !!!الله غني عنك وعن عبادتك .