حوار عبادةَ بن الصامت مع المقوقس
عندما حاصر عمرو بن العاص حصن “بابليون” أرسل عبادةَ بن الصامت على رأس وفد من المسلمين إلى المقوقس ليحاوره.
وكان عبادُ بنُ الصَّامِتِ أسودَ؛ فلمَّا ركِبُوا السُّفُنَ إلى المُقَوْقَسِ، ودخلوا عليه تقَدَّمَ عبادةُ؛ فهابه المُقَوْقَسُ لسواده، فقال: (نَحُّوا عَنِّي هذا الأسودَ، وقَدِّمُوا غَيْرَهُ يُكَلِّمُنِي).
فقالوا جميعا: إنَّ هذا الأسودَ أفضلنا رأيَا وعلمًا، وهو سيِّدُنا وخيرنُا، والمُقدَّمُ علينا، وإنما نرجع إلى قوله ورأيه، وقد أَمَّرَهُ الأميرُ دُوننا بِمَا أَمَّرَهُ به، وأَمَرَنَا بأن لا نُخالفَ رأيه وقوله.
قال: وكيف رضيتم أن يكون هذا الأسودُ أفضلَكم؟ وإنما ينبغي أن يكون هو دونكم.
قالوا: كلَّا! إنه وإن كان أسودَ كما ترى فإنه من أفضلنا موضعا، وأفضلنا عقلًا ورأيًا، وليس يُنْكَرُ السَّوادُ فينا.
فقال المقوقس لعبادة: تقدم يا أسود، وكلمني برفق؛ فإني أهاب سوادك، وإن اشتدَّ كلامُك عليَّ ازْدَتُّ لذلك هيبةً.
فتقدَّم إليه عبادةُ فقال: وإن فيمن خَلَّقْتُ من أصحابي ألفَ رجلٍ أسودَ كلُّهم أشدُّ سوادًا مني وأفظعُ منظرًا.
ولو رأيتهم لكنتَ أهيبَ لهم منك لي، وأنا قد ولَّيْتُ وأدْبَرَ شبابي، وإني مع ذلك بحمد الله ما أهاب مائة رجل من عدوي لو استقبلوني جميعا، وكذلك أصحابي، وذلك أنا إنما رَغْبَتُنَا وهِمَّتُنَا الجهادُ في الله، واتِّبَاعُ رِضْوَانِه، وليس غزوُنا عدوَّنا ممن حارب اللهَ لرغبةٍ في دُنيا، ولا طلبا للاستكثار منها؛ إلا أن الله قد أحلَّ ذلك لنا، وجعل ما غَنِمْنَا من ذلك حلالا، وما يبالي أحدُنا أكان له قِنْطَارٌ من ذهبٍ، أم لا يملك دِرْهَمًا؛ لأن غايةَ أحدِنا من الدنيا أكلةٌ يأكلها يسُدُّ بها جَوْعَتَهُ لليلِه ونهارِه، وشَمْلَةٌ يَلْتَحِفُهَا؛ فإنْ كان أحدُنا لا يملك إلا ذلك كفاه، وإن كان له قنطارٌ من ذهبٍ أنفقه في طاعة الله، واقتصر على هذا الذي بيده، ويُبَلِّغُهُ ما كان في الدُّنيا؛ لأن نعيم الدنيا ليس بنعيم، ورخاءها ليس برخاء؛ إنما النعيم والرخاءُ في الآخرةِ، وبذلك أمرَنا رَبُّنَا، وأمرَنا به نَبِيُّنَا، وعهد إلينا أن لا تكون هِمَّةُ أحدنا من الدنيا إلا ما يُمسكُ جوعتًهُ، ويسترُ عورتَهُ، وتكونُ همتُّهُ وشُغلهُ في رضاء ربِّهِ وجهاد عدوه.
فلما سمع المقوقسُ ذلك منه قال لمن حوله:هل سمعتم مثل كلام هذا الرجلِ قَطُّ؟ لقد هِبْتُ مَنْظَرَهُ، وإن قولَه لأهيبُ عندي من منظره، إن هذا وأصحابه أخرجهم الله لخراب الأرض، ما أظنُّ مُلْكَهُمْ إلا سيغلبُ على الأرض.