أعيدوا صلاتكم فإن الإمام قد كفر
هذه القصة يرويها العلامة المحدث أحمد محمد شاكر -رحمه الله-، قال:
كان من خطباء المساجد التابعين لوزارة الأوقاف، خطيب فصيح متكلم مقتدر، وهو خطيب مسجد عزبان، وكان السلطان حسين كامل مواظبا على صلاة الجمعة في حفل فخم جليل، يحضره العلماء والوزراء والكبراء.
فصلى الجمعة يوما ما بمسجد المدبولي القريب من قصر عابدين العامر، وندبت وزارة الأوقاف ذاك الخطيب لذلك اليوم، وأراد الخطيب أن يمدح عظمة السلطان، وأن ينوه بما أكرم (طه حسين) عندما أرسل إلى أوربا، وحق له أن ينوه بعظمة السلطان، ولكن خانته فصاحته، وغلبه حب التعالي في المدح والتغالي فيه، فزل زلة لم تقم له قائمة من بعدها، إذ قال في أثناء خطبته:
جاء الأعمى، فما عبس في وجهه وما تولى!!
يريد أن طه حسين جاء إلى السلطان، فما عبس السلطان في وجهه وما تولى.
كان من شهود هذه الصلاة والدي الشيخ محمد شاكر، وكيل الأزهر سابقا -رحمه الله-، فقام بعد الصلاة يعلن للناس في المسجد أن صلاتهم باطلة، وأمرهم أن يعيدوا الجمعة ظهرا فأعادوها؛ وذلك بأن الخطيب كفر بما شتم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- تعريضا لا تصريحا، أين الشتم؟ أين سب هذا الخطيب رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم-؟
الذي قاله: إن عظمة السلطان جاءه الأعمى فما عبس في وجهه وما تولى، وقصد أن طه حسين لما جاء إلى السلطان حسين، ما عبس في وجهه وما تولى.
فكيف يكون هذا سبا وانتقاصا من جناب رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم-؟
قال: شتم رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، تعريضا لا تصريحا؛ لأن الله سبحانه عتب على رسول الله –صلى الله عليه وسلم- حين جاءه ابن أم مكتوم الأعمى، وهو يحدث بعض صناديد قريش، يدعوهم إلى الإسلام، فأعرض عن الأعمى قليلا حتى يفرغ من حديثه، فأنزل الله عتاب رسوله –صلى الله عليه وآله وسلم- في هذه السورة الكريمة.
ثم جاء هذا الخطيب الأحمق الجاهل، يريد أن يتملق عظمة السلطان، وهو عن تملقه غني، فمدحه بما يوهم السامع أنه يريد إظهار منقبة لعظمته بالقياس إلى ما عاتب الله عليه رسوله –صلى الله عليه وسلم-.
وأستغفر الله من حكاية هذا، فكان صنع الخطيب المفتون تعريضا برسول الله –صلى الله عليه وسلم-، لا يرضى به مسلم، وفي مقدمة من ينكره السلطان نفسه.
ثم ذهب الوالد -رحمه الله- (الشيخ محمد شاكر) فورا إلى قصر عابدين، وقابل محمود شكري باشا، وهو له صديق حميم، وكان رئيس الديوان، وطلب منه أن يرفع الأمر إلى عظمة السلطان، أن يبلغه حكم الشرع بإعادة الصلاة.
وعلم الخطيب المفتون فجنح إلى الكبراء والعظماء، فأوعزوا إليه أن قم برفع دعوة عليه؛ لأنه قام بتكفيرك.
ماذا طلب الشيخ محمد شاكر -رحمه الله-؟
قال: أطلب أن نتحاكم إلى المستشرقين الذين يشتغلون بخدمة اللغة العربية، سواء كانوا يخدمونها للمصالح الدنيوية أم للمصالح الدينية التي تخصهم هم، و لن أطلب الاحتكام إلى علماء اللغة من العرب المسلمين، وإنما أتحاكم إلى المستشرقين، هل هذا الذي قاله هذا الخطيب يعد تعريضا برسول الله –صلى الله عليه وسلم- وسبا وانتقاصا من جنابه العالي أو لا يعد؟!!
عظة وعبرة:
ولم يدع الله لهذا المجرم جرمه في الدنيا قبل أن يجزيه جزاءه في الأخرى، قال: فأقسم بالله: لقد رأيته بعيني رأسي بعد بضع سنين، وبعد أن كان متعاليا متنفخا مستعزا بمن لاذ بهم من العظماء والكبراء.
رأيته مهينا ذليلا، خادما على باب مسجد من مساجد القاهرة، يتلقى نعال المصلين، يحفظها في ذلة وصغار!! حتى لقد خجلت أن يراني، وأنا أعرفه وهو يعرفني، لا شفقة عليه، فما كان موضعا للشفقة، ولا شماتة فيه، فالرجل النبيل يسمو على الشماتة، ولكن لما رأيت من عبرة وموعظة.