حسبنا الله ونعم الوكيل
ورد هذا الدعاء في القرآن الكريم في حكاية الله عز وجل عن الصحابة الكرام في أعقاب معركة أُحُد ، في غزوة ” حمراء الأسد “، وذلك حين خوَّفهم بعضُ المنافقين بأن أهل مكة جمعوا لهم الجموع التي لا تهزم ، وأخذوا يثبِّطون عزائمهم ، فلم يزدهم ذلك إلا إيمانا بوعد الله ، وتمسكا بالحق الذي هم عليه ، فقالوا في جواب جميع هذه المعركة النفسية العظيمة :
حسبنا الله ونعم الوكيل
يقول عز وجل : ( الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ . الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ) آل عمران/172-174.
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : ( حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ : قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ حِينَ أُلْقِي فِي النَّارِ ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالُوا : ( إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ )صحيح البخاري
معنى هذا الدعاء:
حسبنا الله : أي الله كافينا ، فالحسب هو الكافي أو الكفاية ، والمسلم يؤمن بأن الله عز وجل بقدرته وعظمته وجلاله يكفي العبد من كل ما أهمه وأصابه ، ويرد عنه بعظيم حوله كل خطر يخافه ، وكل عدو يسعى في النيل منه .
وأما معنى : ( نعم الوكيل )، أي : أمدح من هو قيِّم على أمورنا ، وقائم على مصالحنا ، وكفيل بنا ، وهو الله عز وجل ، فهو أفضل وكيل ؛ لأن من توكل على الله كفاه ، ومن التجأ إليه سبحانه بصدق لم يخب ظنه ولا رجاؤه ، وهو عز وجل أعظم من يستحق الثناء والحمد والشكر لذلك .
“فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ ” وجاءت“فضل” هنا نكرة في سياق الاثبات على اعتبار أن تكون مطلقة ؛ وكان يمكن أن يقول فانقبلوا“بنعمة وفضل” لكن أضاف “من الله” لكي يشعر قيمة هذه النعمة، فهى نعمة خاصة جدا مميزة جدا” بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ” أي كل سوء، “لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيم” فرضى عنهم ربهم وأرضاهم ولا شك هذا هو الفوز.
وهذا الدعاء من أعظم الأدعية فضلا ؛ لأنه يتضمن حقيقة التوكل على الله عز وجل ، ومَن صَدَق في لجوئه إلى ربه سبحانه حقق له الكفاية المطلقة ، الكفاية من شر الأعداء ، والكفاية من هموم الدنيا ونكدها ، والكفاية في كل موقف يقول العبد فيه هذه الكلمة يكتب الله عز وجل له بسببها ما يريده ، ويكتب له الكفاية من الحاجة إلى الناس ، فهي اعتراف بالفقر إلى الله ، وإعلان الاستغناء عما في أيدي الناس .
حسبنا الله وحده
أثنى الله سبحانه على أهل التوحيد والتوكل من عباده حيث أفردوه بالحسب، فقال تعالى: “الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ” آل عمران: 173.
ولم يقولوا: حسبنا الله ورسوله، ونظير هذا قوله تعالى : ” وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ ” [التوبة: 59].
فتأمل كيف جعل الإيتاء لله ولرسوله، كما قال تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحشر: 59]. وجعل الحسب له وحده، فلم يقل: وقالوا: حسبنا الله ورسوله، بل جعله خالص حقه، كما قال تعالى: إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ [التوبة: 59] ولم يقل: وإلى رسوله، بل جعل الرغبة إليه وحده.
التوكل ورعاية الأسباب
عن أنس بن مالك قال: جاء رجل على ناقة له، فقال: يا رسول الله؛ أدعها وأتوكل؟ أو أرسلها وأتوكل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (اعقلها وتوكل).
ويقول صلى الله عليه وسلم: (لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً، وتروح بطاناً) ، وفيه إشارة إلى التسبب، لأنه لم يضمن لها الرواح بطاناً، إلا بعد أن غدت خماصاً، والغدو حركة وانتشار.
وأحاديثه عليه الصلاة والسلام – في الدعوة إلى العمل والكسب الحلال، عن طريق الزرع والغرس، والصناعة والتجارة والاحتراف -ولو بالاحتطاب- كثيرة وشهيرة. وحسبنا منها قوله: (ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وأن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده) ، وحديثه الآخر: ( إن قامت الساعةُ وفي يد أحدكم فَسِيلة، فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسَها؟ فليغرسْها).وقد رأيناه صلى الله عليه وسلم يعد العدة، ويهيئ الأسباب في غزواته وسراياه، ويتخذ الاحتياطات اللازمة لسلامة جيشه، والمحافظة على جنوده، ويبعث العيون والطلائع لمعرفة أخبار الأعداء، والتعرف على نقاط الضعف عندهم. وهذا بيِّن لمن قرأ سيرته، ودرس مغازيه صلى الله عليه وسلم.
ومن روائع ما قرأناه في سُنَّته وسيرته صلى الله عليه وسلم في الأخذ بالأسباب: استخدامه “أُسلوب الإحصاء” منذ وقت مبكر من إقامة الدولة الإسلامية، أي بعد الهجرة إلى المدينة. فقد روى البخاري ومسلم عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أحصوا لي كم يلفظ بالإسلام) حتى لفظة “الإحصاء” استعملها.
وفي رواية للبخاري في صحيحه أنه قال: (اكتبوا لي من يلفظ بالإسلام من الناس). قال حذيفة : فكتبنا له ألفا وخمسمائة رجل. ويبدو أن إحصاء الرجال القادرين على حمل السلاح كان هو المقصود بالقصد الأول.
فهو ليس إذن عداً شفهياً. بل هو إحصاء كتابي -لقوله: ( اكتبوا لي )- يُراد تدوينه وتسجيله، ليعرف منه عليه الصلاة والسلام مقدار القوة البشرية الضاربة التي يستطيع أن يواجه بها أعداءه المتربصين به، وما أكثرهم.
كما أن من سيرته وسُنَّته صلى الله عليه وسلم التخطيط للمستقبل، وإعداد العدة للغد.
وليست هذه سُنَّة محمد -عليه الصلاة والسلام- وحده، بل هي سُنَّة رُسُل الله وأنبيائه من قبله، كما هو بيِّن من قصص القرآن عنهم.
وسواء أكان يخشى عليهم العَيْن -كما قيل- أو يخشى أمراً آخر يتعلق بالسياسة، فقد أعطى الأسباب حقها، وترك النتائج لله تعالى، ولحكمه الكوني في الخلق، وما يكون التوكل حقاً: (عليه توكلت، وعليه فليتوكل المتوكلون).
وقد قام يوسف بهذه المهمة، ونجى الله على يديه مصر وما حولها من البلاد، ببركة هذا التخطيط المحسوب، ولا يضير ذلك أن كان أساسه رؤيا صادقة، فالمهم أن الرؤيا أفادت علماً بمشكلة وأزمة، فطلبت حلاً، وكانت خطة يوسف هي الحل، ولم يكن في ذلك ما ينافي التوكل على الله تعالى، كيف وقد قام عليه نبي مرسل، وسجَّله الله في أعظم كتبه.
ونجده عليه السلام حين سار ومعه فتاه ليلقى العبد الصالح -الخضر عليه السلام- عند مجمع البحرين، يصحب معه زاده وغداءه، ويقول لفتاه: (آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً) (الكهف: 62). وحين أمره الله بالخروج من مصر قال له: (فأسر بعبادي ليلاً إنكم متبعون) (الدخان: 23) وذلك ليكون الليل ستاراً له من فرعون وملئه.
توكل على الرحمن في الأمر كله … ولا ترغبن في العجز يوماً عن الطلب
ألم تر أن الله قال لمريم: … وهُزِّي إليك الجذع يسَّاقط الرطب؟
ولو شاء أن تجنيه من غير هزة … جنته، ولكن كل شيء له سبب
ومن المشهور عنه: أنه رأى جماعة يقعدون في المسجد بعد صلاة الجمعة، فأنكر عليهم، وقال: لا يقعدنَّ أحدكم عن طلب الرزق، ويقول: اللهم ارزقني، وقد علم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضةً! إنما يرزق الله الناس بعضهم من بعض. أما قرأتم قول الله تعالى: (فإذا قُضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله)؟ (الجمعة: 10)
وروى الخلَّال عن أبي بكر المروزي قال: قلت لأبي عبد الله: هؤلاء المتوكِّلة يقولون: نقعد وأرزاقنا على الله عزَّ وجلَّ! فقال: هذا قول رديء. أليس قد قال الله تعالى: (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع) (الجمعة: 9)، ثم قال: إذا قال: لا أعمل، وجيء إليه شيء قد عُمل واكتُسِب، لأي شيء يقبله من غيره؟!
فقام إليه شقيق وقبَّل يده وقال: أنت أستاذنا يا أبا إسحاق!
إنها الحالة التي وجدها موسى عليه السلام، حين قال له أصحابه: “إنَّا لمدركون” (قال كلا، إن معي ربي سيهدين) (الشعراء: 62).
إنها الحالة التي وجدها النبي صلى الله عليه وسلم في الغار حين أشفق عليه أبو بكر، فقال له: (لا تحزن إن الله معنا) (التوبة: 40).
إنها الحالة التي وجدها إبراهيم الخليل حين ألقي في النار، فلم يشتغل بسؤال مخلوق من إنس أو ملك! ولم يشتغل إلا بقوله: حسبي الله ونعم الوكيل .
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “حسبنا الله ونعم الوكيل” قالها إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له: (إن الناس قد جمعوا فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل).
إنها الحالة التي وجدتها هاجر حين وضعها إبراهيم مع ابنها إسماعيل بواد غير ذي زرع، في مكة عند مكان البيت المحرم، ولا أنيس ولا جليس، ثم ودعها قافلاً، فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: هو إذن لا يضيعنا!
وفي حديث سنده ضعيف لكن معناه صحيح: “من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله، ومن سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، ومن سره أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده”
فهو يقف موقف التحدي للمشركين وآلهتهم المزعومة، معتمداً على ربه ورب كل شيء، فهم جميعاً في جانب، وهو وحده في جانب، معهم القوة والعدد، وليس معه من الخلق أحد، بيد أن معه القوة التي لا تقهر، قوة الله الغالب، الآخذ بناصية كل دابة، الحكيم في صنعه وتدبيره، فلا يفعل شيئاً عبثاً، ولا يدع شيئاً اعتباطاً: (إن ربى على صراط مستقيم).
فالمتوكل هنا عزيز بغير عشيرة، غني بغير مال، ملك بغير جنود ولا أتباع .
أجل هو ملك، ولكنه من ملوك الآخرة، لا من ملوك الدنيا. فملوك الدنيا يشعرون بحاجتهم إلى من حولهم من الأتباع والأنصار، كما يشعرون بالخوف على ملكهم أن يزول بالكيد من الداخل، أو بالغزو من الخارج، أو بالموت الذي لا يفرق بين ملك وسوقة .
أما ملوك الآخرة فقلوبهم معلقة بالله تعالى، لا يرجون إلا رحمته، ولا يخافون إلا عذابه. فهم كما وصفهم الشاعر:
وبيَّن أن طلب العزة من عند غيره إنما هو شأن المنافقين المدخولين في إيمانهم: (بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً * الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعاً) (النساء: 138، 139).
وبعضهم جعل “الرضا” جزءاً من ماهية التوكل، أو درجة من درجاته .
وسئل يحيى بن معاذ: متى يكون الرجل متوكلاً؟ فقال: “إذا رضي بالله وكيلاً”.
قال: وكان شيخنا -رضى الله عنه- يقول: المقدور يكتنفه أمران: التوكل قبله، والرضا بعده، فمن توكل على الله قبل الفعل، ورضي بالمقضي له بعد الفعل، فقد قام بالعبودية. أو معنى هذا.
ومن لوازم الرضا وتوابعه: الفرح والروح، وهو ما روى في حديث ابن مسعود مرفوعاً: “إن الله عز وجل بقسطه وعدله جعل الفرح والروح في الرضا واليقين، وجعل الغم والحزن في السخط والشك”.
إن المتوكل موقن أن تدبير الله خير له من تدبير نفسه وأنه أبداً في كفاية الله تعالى وكفالته ووكالته، وكفى بالله وكيلاً، وكفى بالله كفيلاً. ولهذا ألقى حموله وهمومه عند باب ربه فاستراح من الهم والعناء وأنشد مع الشاعر :
إن رباً كفاك بالأمس ما كا … ن سيكفيك في غدٍ ما يكون
فالمتوكل على الله لا يعرف القنوط إلى قلبه سبيلاً، ولا يغلبه اليأس. فقد علمه القرآن أن القنوط من لوازم الضلال، واليأس من توابع الكفر .
قال تعالى على لسان إبراهيم: (قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون) (الحجر: 56).
وقال على لسان يعقوب: (يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله، أنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) (يوسف: 87).
قال ذلك إبراهيم في مقام إنجاب الشيخ الهرم بعد أن أصابه الكبر .وقال ذلك يعقوب في مقام البحث عن يوسف وأخيه بعد أن طال فراقه ليوسف، وانقطاع أخباره عشرات السنين، ولكنه لم يفقد الأمل، قال: (عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً، إنه هو العليم الحكيم) (يوسف: 83).
إن المتوكل على الله يعلم أن الملك كله بيد خالقه ومدبر أمره، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير .
إن شاء أغنى الفقير، وأفقر الغني، وقوى الضعيف، وأضعف القوي، ونصر المظلوم، وأخذ الظالم، وشفى المريض، ويسر على المعسر، وأعز الذليل، وأذل العزيز، قد يفعل ذلك بأسباب معتادة معروفة، وقد يفعله بأسباب غير مألوفة، لا حجر على مشيئته، ولا ينازعه أحد في سلطانه. قد يستدرج الظالم ويملي له سنين، حتى يتوهم أن الله قد نسيه! وقد يأخذه في لمح البصر أو هو أقرب. وقد يغيث الملهوف، وينفس عن المكروب، من حيث لا يحتسب هو ولا يحتسب الناس من حوله .
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها … فرجت، وكنت أظنها لا تفرج
وقد وجدنا النبي صلى الله عليه وسلم أوسع الناس أملاً في الغد، ورجاءً في النصر، حتى في يوم الهجرة، وهو راحل من بلده، مطارداً من قومه، يقول لسراقة ابن مالك الذي يطارده رغبة في جائزة قريش: “كيف بك إذا ألبسك الله سواري كسرى”؟ فيقول الرجل: كسرى بن هرمز؟! فيقول: “نعم كسرى بن هرمز”
وقد تحقق كل ما بشر به النبي سراقة وخباباً .
(وأيوب إذ نادى ربه أنى مسني الضر وأنت أرحم الراحمين * فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين * وإسماعيل وإدريس وذا الكفل، كل من الصابرين * وأدخلناهم في رحمتنا، إنهم من الصالحين * وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين * فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين) (الأنبياء: 83 – 88)
قال في “التنوير” فإن اعتززت بالله دام عزك، وان اعتززت بغير الله فلا بقاء لعزك، إذ لا بقاء لمن أنت به متعزز.
فإن اعتززت بمن يمو … ت فإن عزك ميت
قال تعالى – عن الشيطان الرجيم -: ﴿ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [النحل: 99]، وقال صلى الله عليه وسلم: (مَن قال – يعني إذا خرج من بيته -: بسم الله توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، يُقال له: كُفيت ووُقيت وهُديت، وتنحى عنه الشيطان، فيقول لشيطان آخر: كيف لك برجلٍ قد هُدِي وكُفي ووقِي)رواه الترمذي، وصحَّحه الألباني.
5- التخلص من التشاؤم والإقبال على التفاؤل:
فالإيمان باسم الله الوكيل يُلقِي السكينة والطمأنينة في قلوب المتوكِّلين، ويجعلهم يسيرون هادئين غير مبالينَ بشيءٍ، لأن التشاؤم من أفعال الجاهلية، ومن صفات الذين لا يؤمنون بالله، وقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، وقال: (الطِّيرةُ شركٌ، ولكن الله يُذهِبها بالتوكل) رواه الترمذي، وصحَّحه الألباني.
6- حصول الكفاية والتخلص من القلق:
قال بعض السلف: جعل الله تعالى لكلِّ عمل جزاءً من جنسه، وجعل جزاءَ التوكل عليه كفايتَه لعبده، فقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق: 3]، ولم يقل: نُؤْتِه كذا وكذا من الأجر، بل جعل نفسه سبحانه كافِيَ عبده المتوكِّل عليه وحسبَه وواقيه”.
ألم ترَ قول النبي صلى الله عليه وسلم لصاحبِه وهما في الغار: (ما ظنُّك يا أبا بكر باثنينِ اللهُ ثالثُهما) متفق عليه.
ألم ترَ قول الله تعالى عن مؤمنِ آل فرعون حين قال لقومه: ﴿ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [غافر: 44].
ألم ترَ قولَ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حين اجتمعَتْ عليهم قريش؛ قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ﴾ [آل عمران: 173، 174].
7- زوال الهموم وتفريج الأحزان والغموم:
يَحكِي أحدُ الدعاة أن رجلًا فُصِل من وظيفته، تنكدت عليه معيشته، وصار في حزن وهمٍّ، قال الشيخ: وشاء الله أن يقابلني، فسألني عن فلان الذي يتوسط له في إرجاعه إلى وظيفته، قلت: لا أعرف الذي تريد، ولكن أعرف مَن يحل لك مشكلتك ويكفيك همك، فقال الرجل في لهفة وشوق: أيؤثِّر على فلان رئيس الإدارة؟ قلت: نعم يؤثِّر عليه، قال: تعرفه؟ قلت: نعم أعرفه، قال: تستطيع أن تكلمه؟ قلت: نعم أُكلمه، وتستطيع أن تكلمه أنت كذلك، قال: مَن هو؟ قال: الله عز وجل، قُمْ في السَّحَر واشكُ له ما عندك.
قال: فتأثَّرت وقمت من الليل، وصليت، ودعوت الله، ولُذتُ به وكأني أراه، ثم أصبحت وذهبت تلقائيًّا إلى رئيس الإدارة، وإذا به يقوم من مقعده ويرحِّب بي، ويسأل عن أحوالي، ولم تكن بيني وبينه عَلاقة، فقلت له: والله موضوعي كذا وكذا، ففعل لي ما طلبت وكانت مشكلتي لم تُحل منذ ثلاثة أشهر، فقمت وأنا لا أصدق نفسي، وقلت: مَن تعلق بالمخلوق جفاه، ومَن توكل على الخالق كفاه.
وصدق مَن قال: من اعتمد على مالِه قلَّ، ومَن اعتمد على عقله ضلَّ، ومَن اعتمد على جاهِه ذلَّ، ومَن اعتمد على الله لا قلَّ ولا ضلَّ ولا ذلَّ.
4- صلاة الاستخارة عند الهم بأمر :
من صور التوكل على الله وهو من أسباب السعادة ، وفي المسند من حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من سعادة ابن آدم استخارته الله تعالى ، ومن سعادة ابن آدم رضاه بما قضاه الله ، ومن شقوة ابن آدم تركه استخارة الله عز وجل ، ومن شقوة ابن آدم سخطه بما قضى الله ) قال ابن القيم فالمقدور يكتنفه أمران : الاستخارة قبله، والرضا بعده .