مدخل إلى علم العقيدة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد
فهذه ورقات أعددتها كمدخل لدراسة علم العقيدة لطلاب العلوم الشرعية.
أسأل الله أن ينفع بها كل من قرأها وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل والسر والعلن إنه على كل شئ قدير .
والبحث يحتوي على النقاط التالية :
- تعريف علم العقيدة .
- أسمـــاء علم العقيدة .
- موضوع علم العقيدة .
- حكم علم العقيدة .
- فضل علم العقيدة .
- استمداد علم العقيدة.
- واضع علم العقيدة .
- ثمرة علم العقيدة.
أولا تعريف علم العقيدة
نعرف علم العقيدة باعتبار أنه مركب إضافى، والمركب الإضافى هو: كل اسمين أضيف الأول إلى الثانى حتى صار علما على شىء واحد ، كقولنا أصول الفقه، علوم القرآن،مصطلح الحديث،المدينةالمنورة.
معنى العلم: العلم : لغة الإدراك والمعرفة ،والجزم واليقين ، وهو ضد الجهل .
واصطلاحا :هو إدراك الأشياء والمعلومات اليقينية والظنية بالعقل .
فاليقينية هى القطعية مثل :وحدانية الله- تعالى- وجوب العبادة ،صدق نبوة الرسول،وجوب العدل ،حرمة الزنا ،استنكار الرذائل.
أما المعلومات الظنية فهى المعلومات التى يتطرق إليها التأويل،أو التى تحتمل أكثر من رأى، وأزيد من معنى مثل كلمة قروء وكلمة لامستم.
العقيدة في اللغة : من العَقْدِ ؛ وهو الرَّبطُ ، والإِبرامُ ، والإِحكامُ ، والتَّوثقُ ، والشَدُّ بقوة ، والتماسُك ، واليقين والجزم .
والعَقْد نقيض الحل ، ويقال : عَقَده يعقِده عَقْدا ، ومنه عُقْدَة اليمين والنكاح قال تعالى : ﴿ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ ﴾[ سورة المائدة (الآية 89)]
و كل ما عقد الإِنسانُ عليه قلبه جازما به سواءٌ أكان حقا ، أَم باطلاً ، فهو عقيدة والعقيدة : الحكم الذي لا يقبل الشك فيه لدى معتقده .
والعقيدة اصطلاحاً هي الإِيمان الجازم الذي لا يتطرَّق إِليه شك لدى معتقده .
والعقيدة الإسلامية هي: الإِيمان الجازم بربوبية اللّه تعالى وأُلوهيته وأَسمائه وصفاته، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وسائر ما ثَبَتَ من أُمور الغيب، وأصول الدِّين، وما أَجمع عليه السَّلف الصَّالح، والتسليم التام للّه تعالى في الأَمر، والحكم، والطاعة، والإتباع لرسوله.
وللعقيدة أسماء أخرى لا بأس بذكرها اتماما للفائدة :
ثانيا/أسمـــاء علم العقيدة
المقصود بأسماء العلم ما يطلق عليه من الأسماء المعتبرة عند أهل هذا العلم، والمسمى إذا كثرت أسماؤه دل ذلك على شرفه وفضله وأهميته غالبًا.
(1)علم التوحيد:
لعل السبب في إطلاق اسم التوحيد على هذا العلم، هو أن مبحث وحدانية الله تعالى في ذاته وصفاته وأفعاله هو أهم مباحث هذا العلم، فهو من باب تسمية الكل بأشرف أجزائه، أو تسمية العلم بأشهر بحوثه، ثم إن ما عدا مبحث الوحدانية قائم ومعتمد عليه، فهو الأصل الذي يتفرع عنه غيره.
2– الإيمان:
معنى الإيمان في اللغة: التصديق، كقول الله تعالى( وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ) (يوسف:17) ، أي مصدِّق لنا”.
و اصطلاحا: يطلق على الاعتقاد القلبي، والإقرار اللفظي، والعمل الحسي، امتثالاً للأوامر، واجتنابًا للمناهي.
وهذا الاسم مأخوذ من جواب النبي على جبريل وفيه: “فأخبرني عن الإيمان؟ قال: “أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره”،
3- السنة:
السنة في اللغة تطلق على الطريقة المسلوكة، محمودة كانت أو مذمومة، كما تطلق على العادة الثابتة المستقرة، وعلى غير ذلك.
وكثير من العلماء المتأخرين يخص اسم السنة بما يتعلق بالاعتقاد؛ لأنها أصل الدين والمخالف فيها على خطر عظيم”
وهذا الإطلاق للسنة على العقيدة من باب إطلاق الاسم على بعض مسمياته، فإن الاعتصام بالسنة من أهم أصول أهل السنة.
وقد أطلق اسم السنة على عقيدة أهل السنة والجماعة، هذا بالإضافة إلى أن السنة لغة هي الطريقة، فأطلقت على عقيدة السلف لاتباعهم طريقة النبي والصحابة في الاعتقاد خاصة، واستفاض ذلك المصطلح في الناس حتى إذا قيل: فلان صاحب سنة، كان معناه أنه على معتقد سلفي.
وقد عرفت كتب الاعتقاد باسم كتب السنة، وساد ذلك في القرن الثالث الهجري، في عصر الإمام أحمد رحمه الله، حيث أظهر أهل البدع بدعهم وجاهروا بها تصنيفًا ومناظرة، فألَّف أهل السنة في الرد عليهم كتبًا أسموها كتب السنة؛ وذلك لأنهم لم يكن لهم اسم يتسمون به خصوصًا بخلاف أهل الابتداع، ومن تلك الكتب: “السنة” للإمام أحمد بن حنبل، و”السنة” لأبي بكر بن الأثرم، و”السنة” لابن أبي عاصم رحمهم الله.
4- أصول الدين:
أصول الدين هي المبادئ العامة، والقواعد الكلية الكبرى، التي بها تتحقق طاعة الله ورسوله، والاستسلام لأمره ونهيه،
فأصول الدين بهذا الاعتبار تشمل أركان الإسلام من الأعمال الظاهرة، وأركان الإيمان من الاعتقادات الباطنة، ثم غلب على العلماء المصنفين في الاعتقاد استعمال هذا الاصطلاح في قضايا التوحيد والعقيدة، وعللت هذه التسمية بأن بحوث علم الاعتقاد أصل لما يتلوها من علوم الدين الأخرى كالفقه والحديث، ومن جهة أخرى، فإن هذا العلم يبحث في العقائد التي هي الأصول الواجب على المكلف اعتقادها قبل أن يبدأ العمل، فلا يثمر العمل في الآخرة إلا باعتقاد هذه الأصول في الدنيا.
5– الشريعة:
وهي كل ما شرع الله تعالى لعباده من الأحكام التي جاء بها نبي من الأنبياء صلى الله عليهم وعلى نبينا وسلم، سواء أكانت متعلقة بكيفية عمل أو اعتقاد،.. ويسمى الشرع أيضًا بالدِّين والملَّة، فإن تلك الأحكام من حيث إنها تطاع دين، ومن حيث إنها تملى وتكتب ملَّة، ومن حيث إنها مشروعة شرع، فالتفاوت بينها بحسب الاعتبار لا بالذات.
وقد تطلق الشريعة على ما شرعه الله تعالى لجميع رسله من أصول الاعتقاد والبر والطاعة مما لا يختلف من دعوة لأخرى، قال تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} (الشورى:13) .
ثم أطلقت الشريعة أخيرًا وبإطلاق أخص -كما قال ابن تيمية رحمه الله- على: “العقائد التي يعتقدها أهل السنة من الإيمان، مثل اعتقادهم أن الإيمان قول وعمل، وأن الله موصوف بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله ، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق… إلخ”.
والشريعة هنا كالسنَّة، فقد يراد بها ما سنه الله وشرعه من العقائد، وقد يراد بها ما سنه وشرعه من العمل، وقد يراد بها كلاهما.
وقد ألف بعض العلماء كتبًا في الاعتقاد تحمل اسم الشريعة، ومن أولها:”الشريعة” لأبي بكر الآجري، و”الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة” لابن بطة رحمهما الله تعالى.
6– الفقه الأكبر:
أطلق الفقه في الاصطلاح الأقدم على ما هو أعم من علم الفروع، بحيث يشمل الأصول والفروع، وعن هذا المعنى عبر الإمام أبو حنيفة رحمه الله حين قال: “الفقه: معرفة النفس مالها وما عليها” وذلك من كل ما تنتفع به وتتضرر في الآخرة، من الاعتقادات والأعمال والأخلاق ونحو ذلك، ثم لما أراد أبو حنيفة رحمه الله تمييز الاعتقادات عن غيرها، جاء بهذا الاصطلاح الذي لم يسبق إليه في التعبير عن التوحيد فسماه الفقه الأكبر، تمييزًا له عن الأصغر وهو فقه الفروع.
وفي تعليل هذه التسمية يقول الإمام عبد العزيز الحنفي رحمه الله: “سمي بالفقه الأكبر؛ لأنه أكبر بالنسبة للأحكام العملية الفرعية التي تسمى الفقه الأصغر؛ ولأن شرف العلم وعظمته بحسب المعلوم، ولا معلوم أكبر من ذات الله تعالى وصفاته الذي يبحث فيه هذا العلم؛ لذلك سمي الفقه الأكبر”.
وقال أبو حنيفة: “الفقه الأكبر في الدين أفضل من الفقه في العلم، ولأن يتفقه الرجل كيف يعبد ربه، خير له من أن يجمع العلم الكثير”
7– التصور:
وهذا المصطلح مصطلح محدث أطلقه بعض الباحثين على هذا العلم، كما فعل ذلك سيد قطب رحمه الله في كتابه “خصائص التصور الإسلامي ومقوماته”، حيث قال: “فالتصور الإسلامي يقوم على أساس أن هناك ألوهية وعبودية، ألوهية ينفرد بها الله سبحانه، وعبودية يشترك فيها كل من عداه وكل ما عداه، وكما ينفرد الله سبحانه بالألوهية كذلك ينفرد -تبعًا لهذا- بكل خصائص الألوهية“( خصائص التصور الإسلامي. الأستاذ سيد قطب ص183).
وقد أفصح عن موقفه بجلاء من الفلسفة وعلم الكلام ومنهاجهما، فقال: “وجد بين المفكرين المسلمين من فتن بالفلسفة الإغريقية، وبخاصة شروح فلسفة أرسطو -أو المعلم الأول كما يسمونه- وبالمباحث اللاهوتية، وظنوا أن الفكر الإسلامي لا يستكمل مظاهر نضوجه واكتماله، أو مظاهر أبهته وعظمته، إلا إذا ارتدى هذا الزي -زي التفلسف والفلسفة- وكانت له فيه مؤلفات!”
ثم يقرر منهجه فيقول: “منهجنا إذن في هذا البحث عن خصائص التصور الإسلامي ومقوماته، أن نستلهم القرآن الكريم مباشرة بعد الحياة في ظلال القرآن طويلاً، وأن نستحضر -بقدر الإمكان- الجو الذي تنـزلت فيه كلمات الله للبشر.. ومنهجنا في استلهام القرآن الكريم ألا نواجهه بمقررات سابقة إطلاقًا، لا مقررات عقلية، ولا مقررات شعورية.. ثم إننا لا نحاول استعارة القالب الفلسفي في عرض حقائق التصور الإسلامي.. لابد أن نعرض العقيدة بأسلوب العقيدة، إذ إن محاولة عرضها بأسلوب الفلسفة يقتلها، ويطفئ إشعاعها وإيحاءها.. ومن هنا يبدو التعقيد والجفاف والنقص والانحراف في كل المباحث التي تحاول عرض العقيدة بهذا الأسلوب الغريب على طبيعتها، وفي هذا القالب الذي يضيق عنها”
8 – علم الكلام:
وهذا هو أشهر الإطلاقات عند سائر الفرق الإسلامية من أشاعرة ومعتزلة وغيرهم في القديم والحديث.
ويعلّل المتكلمون تسميتهم للتوحيد بعلم الكلام بعلل شتى، منها: “أن أظهر مسألة تكلموا فيها وتقاتلوا عليها هي مسألة الكلام…” ،
أو “لأن أصحابه كانوا يترجمون لمسائله بقولهم: الكلام في القدرة، الكلام في العلم، الكلام في الوحدانية، فجاءت التسمية من باب الشيوع والذيوع والغلبة”
ويرى أهل السنة هذه التسمية لهذا العلم تسمية مبتدعة، وهي تنطبق على غير علم التوحيد الذي جاء به المرسلون .
ثم إن علماء الإسلام الثقات قد زجروا عن علم الكلام وبالغوا في النهي عنه، فقال الشافعي رحمه الله: “حكمي في أصحاب الكلام أن يضربوا بالجريد ويطاف بهم العشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام”.
وقال أحمد بن حنبل رحمه الله: “لا يفلح صاحب كلام، ولا تكاد ترى أحدًا نظر في الكلام إلا وفي قلبه دخل”، وقال أيضًا: “علماء الكلام زنادقة”
وهذا الإمام الجويني رحمه الله يقول في آخر عمره: “يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به.
، وقال عند موته: “لقد خضت البحر الخضم وخليت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل للجويني، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي، أو قال على عقيدة عجائز أهل نيسابور”( تلبيس إبليس ص104، 105).
وقال الرازي: “لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن.. ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي”.
ثالثا/موضوع علم العقيدة
إن موضوع أي علم هو ذلك المعنى العام الذي يشتمل كل مسائله التي يتخذها دائرة لبحثه دون غيره من العلوم، وذكر موضوع العلم بعد تعريفه مما يزيده تمييزًا عن غيره.
أولاً: ذات الله تعالى أو (الإلهيات):
والبحث في ذات الله تعالى من حيثيات ثلاث، هي:
1- ما يتصف به تعالى من العلم والحياة والقدرة والصفات، وسائر كمالاته تعالى. قال تعالى:{فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَأُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الشورى:11) .
2- ما يتنـزه عنه من الظلم والنقص والعجز والمثالب، وسائر ما لا يليق بجلاله وكماله. قال تعالى:{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (البقرة:255) .
3- حقه على عباده، وهو أن يعبدوه فلا يشركوا به شيئًا، وأن يطيعوه وينقادوا له وحده. قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذريات:56) ، وقال تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (البينة:5) .
ثانيًا: ذوات الرسل الكرام أو (النبوات):
والبحث في ذوات الرسل الكرام من الحيثيات التالية:
– ما يلزمهم ويجب عليهم من صدق وأمانة وبلاغ ونصح لأممهم ونحو ذلك، قال تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} (المائدة:99) .
– ما يجوز في حقهم من أكل ونكاح وأمراض غير منفرة وموت، ونحو ذلك مما يعرض للبشر، قال تعالى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} (الرعد:38) .
– ما يستحيل في حقهم من الكذب والخيانة والكفر والكبائر والموبقات.
– وأخيرًا ما يجب لهم على أتباعهم من الحب والطاعة والاتباع والتعظيم. قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} (النساء:64) .
ثالثًا: السمعيات أو (الغيبيات):
وهي ما يتوقف الإيمان به على مجرد ورود الوحي به، وليس للعقل في إثباتها أو نفيها مدخل، كأشراط القيامة، وتفاصيل البعث والجزاء، ونحو ذلك. والبحث في السمعيات أو الغيبيات يكون من حيث اعتقادها.
رابعا /حكم علم العقيدة
الحق أن تعلم علم العقيدة منه ما هو فرض عين ومنه ما هو فرض كفاية، و هذا شأن العلوم الشرعية عامة، وإن أعظم ما أمر الله به هو التوحيد، قال تعالى:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} {محمد:19} ، وقال سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} {الإسراء:23} .
وفي حديث معاذ رضي الله عنه، قال رسول الله : “يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟”، قلت: “الله ورسوله أعلم”، قال: “حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا” ، وفي حديث معاذ الآخر قال : “فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله”
وفرض العين منه هو: ما تصح به عقيدة المسلم في ربه، من حيث ما يجوز ويجب ويمتنع في حق الله تعالى، ذاتًا وأسماء وأفعالاً وصفات، على وجه الإجمال، وهذا ما يسميه بعض العلماء بالإيمان المجمل أو الإجمالي أو مطلق الإيمان.
وأما فرض الكفاية من علم التوحيد: فما زاد على ذلك من التفصيل والتدليل والتعليل، وتحصيل القدرة على رد الشبهات، وهذا ما يسمى بالإيمان التفصيلي، وهو من أجلِّ فروض الكفايات في علوم الإسلام؛ لأنه ينفي تأويل المبطلين وانتحال الغالين، فلا يجوز أن يخلو الزمان والمكان ممن يقوم بهذا الفرض الكفائي المهم؛ إذ لا شك أن حفظ عقائد الناس أكثر أهمية من حفظ أبدانهم وأموالهم وأعراضهم.
ويشترط للتكليف بالتوحيد أربعة شروط، وهي:
أولاً: العقل:
فإذا زال بالكلية، فقد أصبح الإنسان غير مكلف، وإذا أخذ الله ما وهب أسقط ما أوجب، وفي الحديث: “رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم“( أخرجه أحمد (1187)، والبخاري (5/2019-تعليقًا)
ثانيًا: البلوغ:
ويقصد به انتهاء حد الصغر، وانتقال الصبي من حالة الطفولة إلى حالة الرجولة، وعنده يتم التكليف ويجري القلم، ويدرك الصغير قضاياه المصيرية، ويفكر بجدية في إجابات الأسئلة الضرورية، فإذا مات الصبي قبل البلوغ، فقد مات مرفوعًا عنه القلم وناجيًا عند الله تعالى، سواء في ذلك أبناء المسلمين والكفار على الراجح.
وللبلوغ علامات وأمارات، منها ما يشترك فيها الذكر والأنثى، وهما الإنزال أو الاحتلام وإنبات شعر العانة، و تخص الأنثى بنزول الحيض ، فإن لم يوجد شيء من ذلك فبالسن، فمتى بلغ الصغير خمس عشرة سنة ذكرًا كان أو أنثى، عدَّ بالغًا ما لم يبلغ بأمارة أخرى قبل ذلك.
ثالثًا: سلامة الحواس:
الحواس خمس وهي: السمع والبصر والشم والذوق واللمس، وهي تنقل إلى الأذهان ما تستطيع الإحساس به، “وهذه الحواس لا تستقل بإدراك المعاني والحقائق دون مساعدة العقل أو الدماغ، فالعقل أو الدماغ هو الذي يترجم هذه المحسوسات إلى معان، ودليل ذلك قوله {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} {البقرة:171} ،
حيث شبه الله الكافرين بالبهائم التي يناديها الراعي، فالبهائم تسمع الصوت، لكن لعدم المقدرة العقلية التي تمكنها من التمييز بين الأصوات ومعرفتها، فإن الأصوات عندها سواء، لا تحمل إليها شيئًا من المعاني المعينة”
وأهم الحواس للتكليف حاسة السمع، فإن فقدت قبل حصول العلم فقد انسدت منافذ المعرفة الصحيحة، وامتنع بلوغ الدعوة وقيام الحجة على وجهها التام -وإن أمكن نوع معرفة بالإشارة والكتابة ونحو ذلك-، فعن الأسود بن سريع رضي الله عنه قال: قال رسول الله : “إن أربعة يحتجون يوم القيامة”، وذكر منهم: “أصم لا يسمع شيئًا..، فأما الأصم فيقول: رب قد جاء الإسلام ولا أسمع شيئًا..، فيرسل إليهم أن ادخلوا النار، فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها كانت عليهم بردًا وسلامًا”، وفي رواية أبي هريرة: “فمن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا، ومن لم يدخلها يسحب إليها“( رواه أحمد، وصححه الحافظ في الفتح (3/246) والألباني في صحيح الجامع (881).
رابعًا: بلوغ الدعوة وقيام الحجة:
فلا حساب ولا عذاب إلا بعد قيام الحجة بارسال الرسل وبلوغ الدعوة وقطع العذر على أكمل وجه، قال تعالى: {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} {الاسراء:15} ،
وقال:{رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} {النساء:165} .
والناس بحسب بلوغ الدعوة وقيام الحجة ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:
1- أهل القبلة:
وهم الذين بلغتهم دعوة الرسول فآمنوا وشهدوا بالتوحيد، وماتوا على ذلك، قال النووي رحمه الله: “اتفق أهل السنة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين على أن المؤمن الذي يحكم بأنه من أهل القبلة، ولا يخلد في النار، لا يكون إلا من اعتقد بقلبه دين الإسلام اعتقادًا جازمًا خاليًا من الشكوك، ونطق بالشهادتين“( صحيح مسلم بشرح النووي (1/149)
وفي الحديث أنه قال: “أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة“رواه مسلم من حديث أبي هريرة.
وقال: “ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، إلا حرمه الله على النار” رواه البخاري ومسلم من حديث أنس.
2– أهل الفترة:
وهم كل من لم تبلغه دعوة الرسل، ولم تقم عليه الحجة، أو عاشوا بين موت رسول وبعثة رسول آخر، ولم تبلغهم دعوة الأول، فمن لم تبلغه دعوة الرسول مطلقًا ومات على الشرك فهو معذور في الدنيا، ممتحن في الآخرة -على الراجح- بنار يؤمر باقتحامها، فمن أطاع في الآخرة فإنه من أهل الطاعة في الدنيا لو جاءته الرسالة، ومن عصى في الآخرة فإنه من أهل الكفر في الدنيا لو جاءته الرسالة، وهذا مذهب السلف وعامة أهل السنة، كما نقله ابن القيم رحمه الله في كتابه طريق الهجرتين(ص587، 588 ).
3– الكفار:
وهم كل من سمع بدين الإسلام ونبيه ، فلم يؤمن ظاهرًا وباطنًا، قال تعالى: …ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) آل عمران:85 .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال : “والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولا يؤمن بالذي أرسلت به؛ إلا كان من أهل النار” أخرجه مسلم .
خامسا/ فضل علم العقيدة
تحقيق التوحيد هو أشرف الأعمال مطلقًا فمن المتقرر أن المتعلِّق(بكسر اللام ) يشرف بشرف المتعلَّق(بفتح اللام)، فالتوحيد يتعلق بأشرف ذات، وأكمل موصوف، بالله الحي القيوم، ثم بصفوة خلق الله أجمعين، ومآل العباد إلى جحيم أو نعيم، لأجل هذا سماه السلف الفقه الأكبر.
سئل النبي : “أي العمل أفضل؟”، فقال: “إيمان بالله ورسوله”رواه البخاري، ومسلم من حديث أبي هريرة .
سادسا/ استمداد علم العقيدة
يُستمد علم العقيدة من فهم دلالات ألفاظ الكتاب العزيز والسنة المطهرة، وذلك بمعرفة مناهج الاستنباط، وطرائق الاستدلال، واستخراج الأحكام، وهذا يلزم له إلمام باللغة العربية كما يلزم له إدامة نظر في كتب الشروح والتفسير المأثور للقرآن والحديث.
وعلم العقيدة هو أوثق العلوم الشرعية دليلاً، و تقوم دعائم دلائله على أربعة أمور:
أولاً: صحيح المنقول:
وتشمل الكتاب العزيز والسنة الصحيحة، وسنة النبي يحتج بها مطلقًا -بشرط الصحة-، لا فرق في ذلك بين العقائد والأحكام من حيث حجيتها ومجالها، ولا بين المتواتر والآحاد من حيث ثبوتها وقبولها.
ثانيًا: الإجماع المتلقى بالقبول:
والإجماع مصدر من مصادر الأدلة الاعتقادية؛ لأنه يستند في حقيقته إلى الوحي المعصوم من كتاب وسنة، وأكثر مسائل الاعتقاد محل إجماع بين الصحابة والسلف الصالح، ولا تجتمع الأمة في أمور العقيدة ولا غيرها على ضلالة وباطل، وعلى هذا فإجماع السلف الصالح في أمور الاعتقاد حجة شرعية ملزمة لمن جاء بعدهم، ولا تجوز مخالفته.
ثالثًا: العقل السليم:
العقل مصدر من مصادر المعرفة الدينية، إلا أنه ليس مصدرًا مستقلاً؛ بل يحتاج إلى تنبيه الشرع، وإرشاده إلى الأدلة؛ لأن الاعتماد على محض العقل، سبيل للتفرق والتنازع فالعقل لن يهتدي إلا بالوحي، والوحي لا يلغي العقل.
والنصوص الشرعية قد جاءت متضمنة الأدلة العقلية واضحة، فما على العقل إلا إدراكها، فمن ذلك: قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} {الأنبياء:22} ، وقوله سبحانه:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} {الطور:35} .
والعقل قد يهتدي بنفسه إلى مسائل الاعتقاد الكبار على سبيل الإجمال، كإثبات وجود الله مع ثبوت ذلك في الفطرة أولاً.
أما مسائل العقيدة التفصيلية مما يتعلق بذات الله تعالى وصفاته ورسوله وأنبيائه، فما كانت العقول لتدركها لولا مجيء الوحي، ثم إن كثيرًا من مسائل الاعتقاد بعد معرفتها والعلم بها لا تدرك العقول حقيقتها وكيفيتها، وذلك كصفات الله تعالى وأفعاله، وحقائق ما ورد من أمور اليوم الآخر من الغيبيات التي لا يحيلها أو يردها العقل، ولا يوجبها أو يطلبها.
وأخيرًا فإن العقل الصحيح لا يخالف النقل الصريح؛ لأن الأول خلق الله تعالى والثاني أمره، ولا يتخالفان؛ لأن مصدرهما واحد وهو الحق سبحانه: { أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} {لأعراف:54} ،
رابعًا: الفطرة السوية:
الفطرة فهي خلق الخليقة على قبول الإسلام والتهيؤ للتوحيد، قال تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} {الروم:30} ، قال ابن كثير رحمه الله: “فإنه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده، وأنه لا إله غيره)
وقوله تعالى: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} معناه: أن الله ساوى بين خلقه كلهم في الفطرة على الجبلة المستقيمة، وفي الحديث الصحيح: “كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه “أخرجه البخاري، ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
والفطرة تهتدي إلى تفرده تعالى بالألوهية وإن غشيتها غاشية الإلحاد، يظهر ذلك في أوقات الشدة والمحنة، فإن القلب يفزع إلى خالقه، قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُوراً} {الاسراء:67} .
والعقل والفطرة وإن كانا من دلائل التوحيد، إلا أنه لا تقوم الحجة على بني آدم إلا بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وقطع العذر.
فإن قيل: إذا كان وجود الله وتعظيمه مركوزًا في الفطر، والعقول تستدل على ذلك، فعلام توقف التكليف على مجيء الرسول، وإنزال الكتاب؟
فالجواب: إن الله تعالى تكرمًا منه لا يعاقب قبل بلوغ الحجة الرسالية{ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} {الأنعام:131} ؛ بل تمتنع المؤاخذة حتى يبعث إليهم الرسول، ومن حكمة ذلك أن معرفة الله وإثبات وجوده المركوز في الفطرة والعقول إجمالي لا تفصيلي، فلابد له من وحي يهديه ويرشده، ويبين له معاقد الحل والحرمة في أفعال المكلفين.
سابعا /تاريخ علم العقيدة
لقد مر علم العقيدة في وضعه وتدوينه بدورين:
الأول: دور الرواية (ما قبل التدوين):
لم يكن الصحابة بحاجة إلى التدوين في العلوم الشرعية، فقد كانوا يتلقون عن رسول الله الوحي، ويسألون عما أشكل عليهم من الأسئلة والشبهات فيجيبهم عنها، فكانت مسائل الاعتقاد محفوظة في أذهانهم، ولم يقع بينهم اختلاف بل اجتمعوا على عقيدة صحيحة، فكانوا أقرب إلى أن يوفقوا إلى الصواب من غيرهم بما خصهم الله من الفصاحة ، وسعة العلم، وتقوى الله، لهذا ما كان الصحابة بحاجة إلى تدوين علم العقيدة.
الثاني: دور التدوين:
وبدأ هذا الدور في حياة التابعين بكتابة السنة وتدوين الحديث كما ابتدأ ذلك الزهري رحمه الله تعالى، ثم شاع ذلك في النصف الأول من القرن الثاني الهجري كما فعل الإمام مالك في الموطأ، حيث رتبت الأحاديث على أبواب تتعلق بالتوحيد مثل: باب الإيمان، وباب التوحيد، وباب العلم، الخ… ولعل هذا التبويب للأحاديث كان النواة الأولى في استقلال كل باب فيما بعد بالتصنيف والبحث.
ومما أوقد جذوة التدوين ما وقع في آخر زمن الصحابة من بدع واختلاف في العقيدة، كما في مسألة القدر، وكان أول من تكلم به معبد الجهني (ت:80هـ)، ومسألة التشيع والغلو في آل البيت، وفتنة عبد الله بن سبأ، كما وقعت من قبل بدعة الخوارج وصرَّحوا بالتكفير بالذنوب، وبعد ذلك نشأ مذهب المعتزلة على يد واصل بن عطاء (ت:131هـ)، وصنَّف في مسائل من العقيدة ما خالف به الصحابة والتابعين، وخرج على إجماع خير القرون في الاعتقاد، فتصدى له التابعون بالرد عليه والمناظرة في هذه المسائل.
ثم بدأ التصنيف في عقيدة أهل السنة وكان أول كتاب هو كتاب الفقه الأكبر لأبي حنيفة رحمه الله (ت:150هـ)، ثم تتابع التأليف بعد أبي حنيفة في علم التوحيد ولكن بأسماء مختلفة لهذا العلم.
ثامنا / ثمرة علم العقيدة
1 – البركة، وطيب العيش:
من ثمرات التوحيد ، قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) {الأعراف:96}؛ فالإيمان يثمر طمأنينة القلب وراحته، وقناعته بما رزق الله، وعدم تعلقه بغيره، وهذه هي الحياة الطيبة، فإن أصل الحياة الطيبة راحة القلب وطمأنينته، قال تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} {الرعد:28} ، وفي الصحيح: “عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن“أخرجه مسلم من حديث صهيب الرومي رضي الله عنه.
ولذا قال الفضيل بن عياض: “لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه؛ لجالدونا عليه بالسيوف”
وقال ابن تيمية: “إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة”.
2– معرفة الله تعالى معرفة يقينية:
فكلما ازداد العبد علمًا بالتوحيد، ازداد رقيًّا في الإيمان وارتقى من الإيمان المجمل إلى الإيمان المفصَّل، ومن حال التقليد إلى حال اليقين والإذعان، والتصديق عن حجة وبرهان، وهذا أفضل ما اشتغل بعلمه إنسان.
3- انشراح الصدر وطمأنينة القلب:
وهذا الأمر ثمرة حصول المعرفة الصحيحة بالله تعالى، والإجابة على أسئلة الفطرة حول الكون والحياة، فنفس لا إيمان فيها مضطربة، قلقة، تائهة خائفة، قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} {الزمر:29} . فإذا تعددت الأسياد على المملوك، فقد شقي حاله، واضطرب أمره.
4- هداية العقل واستنارته:
إن دراسة علم التوحيد على منهج السلف الصالح يقضي على الخصومة المفتعلة بين النقل والعقل، وبين الوحي والرأي، وبين النص والفكر، ويبدو هذا جليًّا في النقاط التالية:
أ- إن عقيدتنا تحترم العقل وتعلي من شأنه، وتحث على التعقل والتدبر: قال تعالى:{لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} {يوسف:2}، { أَفَلا تَعْقِلُونَ} {هود:51} ،{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ}{محمد:24}، ويثني على العقلاء:{ وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ}{صّ:43}.
ب- إن هذه العقيدة تذم التقليد الأعمى الذي هو حجاب العقل، وغطاء الفهم، قال تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} {البقرة:170} .
ج- وهي تهدي العقل إلى مجالاته النافعة، قال{أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} {قّ:6} ، وقال تعالى:{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} {الذريات:21} .
د- وهي تحظر على العقل ما لا يمكن الخوض فيه، فتوفر طاقته فيما يطيق ويحسن، قال تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} {الاسراء:85} ، وقال تعالى:{وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} {طـه:110} .
هـ – وهي في شأن العقل وسط بين طرفين، المهملون للعقل -مثل كثير من جهال المتصوفة ، والمقدسون له -كالمتكلمة-، فمن انضبط بمنهج أهل السنة في دراسة العقيدة ، اهتدى عقله، ، وكثر صوابه، وقل خطؤه، وأمن من شرور البدع
4– تحقيق الإخلاص وأعمال القلوب على الوجه الصحيح:
فالإخلاص هو حقيقة الدين، ومفتاح دعوة رسل الله أجمعين، وهو روح التوحيد ولب الرسالة، قال تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} {البينة:5}، والإخلاص هو إفراد الحق سبحانه بالقصد، والإخلاص يتوقف في حصوله وكماله على معرفة العبد لربه، وتعظيمه وتأليهه، ومعرفة أسمائه تعالى وصفاته، وإحصائها والتعبد لله بمقتضاها، فمن كان بالله أعرف كان له أخلص، وفيما عند الله تعالى أرغب، ومن عقوبته أرهب.
5– اشتغال الجوارح بالطاعات:
إذا عمَّر الإخلاص قلب العبد، وتحققت أعمال القلوب من محبة الله ورسوله، والتوكل على الله والصبر له، والخوف منه والرجاء فيما عنده، انطلقت الجوارح ولابد في طاعة الله تعالى، ولا يتخلف ذلك أبدًا، وفي الصحيح: “ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب”، فصلاح الظاهر تابع لصلاح الباطن في الأصل، والارتباط بينهما حاصل.
6– تحصيل القدرة على إرشاد المسترشدين، وهداية المنحرفين، والوقوف أمام التيارات الإلحادية، والأهواء البدعية، وفي ذلك ثواب المنافحة عن الإسلام، والمدافعة عن السنة .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين