شرح أسماء الله الحسنى: 71- الهادي
أولا / المعنى اللغوي
الهادي اسم فاعل من الفعل هدى ومعناه الإرشاد والدلالة بلطف إلى ما يوصل إلى المطلوب ، والهدى ضد الضلالة، والهِداية: الإمالة، هداه أي أماله، أي وجهه نحو الحق، وتُسمى الهديةُ هديةً لأن من شأنها أن تُميل قلب المَهْدي إليه.
ثانيا / المعنى في حق الله تعالى
(الهادي) أي الذي يهدي ويرشد عباده إلى جميع المنافع وإلى دفع المضار، ويعلمهم ما لا يعلمون، ويهديهم لهداية التوفيق والتسديد، ويلهمهم التقوى، ويجعل قلوبهم منيبة، إليه منقادة لأمره .
ثالثا / ورود الاسم في القرآن والسنة
ورد اسمه سبحانه (الهادي) في القرآن الكريم “مرتين” وذلك في قوله تعالى: { وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا } [الفرقان: 31]، وقوله سبحانه: { وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [الحج: 54].
رابعا / تأملات في رحاب الاسم الجليل
أنواع الهداية أربعة أنواع (مستفاد من كلام الإمام ابن القيم)
إحداها: الهداية العامة :
وهي هداية كل نفس إلى مصالح معاشها وما يقيمها،قال سبحانه: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} وضرب ابن القيم عدة صور لبيان هذه الهداية منها :
1- هداية الطفل إلى التقام الثدي عند خروجه من بطن أمه والهداية إلى معرفته أمه دون غيرها حتى يتبعها أين ذهبت.
2- هداية الحيوان إلى قصد ما ينفعه من المرعى دون ما يضره منه .
3- هداية النحل إلى سلوك السبل التي فيها مراعيها على تباينها ثم عودها إلى بيوتها من الشجر والجبال وما يغرس بنو آدم.
4- هداية النمل ، فإن النملة الصغيرة تخرج من بيتها وتطلب قوتها وإن بعدت عليها لطريق فإذا ظفرت به حملته وساقته في طرق معوجة بعيدة ذات صعود وهبوط في غاية من التوعر حتى تصل إلى بيوتها فتخزن فيها أقواتها في وقت الإمكان، فإذا خزنتها عمدت إلى ما ينبت منها ففلقته فلقتين لئلا ينبت فإن كان ينبت مع فلقه باثنتين فلقته بأربعة فإذا أصابه بلل وخافت عليه العفن والفساد انتظرت به يوما ذا شمس فخرجت به فنشرته على أبواب بيوتها ثم أعادته إليها ولا تتغذى منها نملة مما جمعه غيرها.
قال أبو موسى الأشعري: “إن لكل شيء سادة حتى للنمل سادة ومن عجيب هدايتها أنها تعرف ربها بأنه فوق سماواته على عرشه كما رواه الإمام أحمد في كتاب الزهد من حديث أبي هريرة يرفعه قال: “خرج نبي من الأنبياء بالناس يستسقون فإذا هم بنملة رافعة قوائمها إلى السماء تدعو مستلقية على ظهرها فقال ارجعوا فقد كفيتم أو سقيتم بغيركم” ولهذا الأثر عدة طرق ورواه الطحاوي في التهذيب وغيره وقال الإمام أحمد حدثنا قال: “خرج سليمان بن داوود يستسقي فرأى نملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها إلى السماء وهي تقول اللهم إنا خلق من خلقك ليس بنا غنا عن سقياك ورزقك فأما أن تسقينا وترزقنا وإما أن تهلكنا فقال ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم”
ولقد حدثني أن نملة خرجت من بيتها فصادفت شق جرادة(جرادة ميتة) فحاولت أن تحمله فلم تطق فذهبت وجاءت معها بأعوان يحملنه معها قال فرفعت ذلك من الأرض فطافت في مكانه فلم تجده فانصرفوا وتركوها قال فوضعته فعادت تحاول حمله فلم تقدر فذهبت وجاءت بهم فرفعته فطافت فلم تجده فانصرفوا قال فعلت ذلك مرارا فلما كان في المرة الأخرى استدار النمل حلقة ووضعوها في وسطها وقطعوها عضوا عضوا قال شيخنا وقد حكيت له هذه الحكاية فقال هذه النمل فطرها الله سبحانه على قبح الكذب وعقوبة الكذاب.
ويذكر أن سليمان صلوات الله وسلامه عليه لما رأى حرص النملة وشدة ادخارها للغذاء استحضر نملة وسألها كم تأكل النملة من الطعام كل سنة قالت ثلاث حبات من الحنطة فأمر بإلقائها في قارورة وسد فم القارورة وجعل معها ثلاث حبات حنطة وتركها سنة بعد ما قالت ثم أمر بفتح القارورة عند فراغ السنة فوجد حبة ونصف حبة فقال أين زعمك أنت زعمت أن قوتك كل سنة ثلاث حبات فقالت: نعم ولكن لما رأيتك مشغولا بمصالح أبناء جنسك حسبت الذي بقي من عمري فوجدته أكثر من المدة المضروبة فاقتصرت على نصف القوت واستبقيت نصفه استبقاء لنفسي فعجب سليمان من شدة حرصها.
5- وهذا الحمام من أعجب الحيوان هداية حتى قال الشافعي: “أعقل الطير الحمام” وبرد(جمع بريد) الحمام هي التي تحمل الرسائل والكتب … يذهب ويرجع إلى مكانه من مسيرة ألف فرسخ فما دونها .
6- وهذا الثعلب إذا امتلأ من البراغيث أخذ صوفة بفمه ثم عمد إلى ماء رقيق فنزل فيه قليلا قليلا حتى ترتفع البراغيث إلى الصوفة فيلقيها في الماء و يخرج.
وإذا اشتد به الجوع انتفخ ورمى بنفسه في الصحراء كأنه جيفة فتتداوله الطير فلا يظهر حركة ولا نفسا فلا تشك أنه ميت حتى إذا نقر بمنقاره وثب عليها فضمها ضمة الموت.
ومن عجيب أمر الثعلب أنه إذا أصاب القنفذ قلبه لظهره لأجل شوكه فيجتمع القنفذ حتى يصير كبة شوك فيبول الثعلب على بطنه ما بين مغرز عجبه إلى فكيه فإذا أصابه البول اعتراه الأسر فانبسط فيسلخه الثعلب من بطنه ويأكل مسلوخه .
7- ومن هداية الحمار الذي هو من أبلد الحيوان أن الرجل يسير به ويأتي به منزله من البعد في ليلة مظلمة فيعرف المنزل فإذا خلى جاء إليه ويفرق بين الصوت الذي يستوقف به والصوت الذي يحث به على السير.
8- ومن عجيب أمر الفأر أنها إذا شربت من الزيت الذي في أعلا الجرة فنقص وعز عليها الوصول إليه ذهبت وحملت في أفواهها ماء وصبته في الجرة حتى يرتفع الزيت فتشربه .
9- ومن علم الأنثى من الفيلة إذا دنا وقت ولادتها أن تأتي إلى الماء فتلد فيه لأنها دون الحيوانات لا تلد إلا قائمة لأن أوصالها على خلاف أوصال الحيوان وهي عالية فتخاف أن تسقطه على الأرض فينصدع أو ينشق فتأتي ما وسطها تضعه فيه فيكون كالفراش اللين والوطاء الناعم.
هذا بعض ما ذكره ابن القيم رحمه الله في كتابه شفاء العليل ، ومما ذكره غيره من العلماء :
10- كثير من الطيور، يهاجر من جنوب أفريقيا مسيرة 17 ألف كم ويصل إلى بيروت لا يخطىء درجة واحدة، حتى أن علماء الطيور لم يستطيعوا التوصل إلى سر هذا الأمر فاعتقدوا أنه ربما أن هذه الطيور تسير بمحاذاة الشمس، فقاموا بمراقبة الطيور فوجدوا أنها تسير أيضاً في الليل، فقاموا بوضع جهاز لإحدى مجموعات هذه الطيور تقوم بإصدار إشارات كهربائية لرصد إن كان في المخ بوصلة طبيعية، فالطير لو أخطأ ثلاث درجات في مسيرته لابد أنه سيخطىء سيره، فمن الذي هدى هذه الطيور؟ فالعلماء إلى اليوم عاجزين عن تفسير هذه الظاهرة، وأحياناً الإعجاز عن الإدراك إدراك، فتدرك عظمة الله.
11- سمك السلمون، يولد في برك ومستنقعات بجانب مصبات الأنهار في أمريكا الشمالية، يبدأ السلمون الصغير ينمو والأم تقوم على رعايته لمدة سنة، حتى إذا بلغ عامه الأول تموت الأم، ويبدأ هذا السمك الصغير بالخروج من الجدول ثم ينطلق بعد ذلك في رحلة طويلة إلى شواطئ أوروبا حتى سواحل فرنسا في رحلة تصل إلى 3200 كم. يخرج من نهر إلى نهر، يمر بمرتفعات، يسير باتجاه التيار ويصل إلى نفس المكان الذي ولدت فيه أمه؛ لأن مورد رزقه هناك، لو ضل درجة واحدة ينتهي، يُقال أنه أقوى مهاجر في الكون، وأحياناً تكون رحلة العودة في عكس التيار فيبدأ بالقفز ثلاثة أو أربعة أمتار لكي يقاوم الشلالات، حتى يعود إلى مكانه الذي ولد فيه فيضع بيضه فيربيه لمدة سنة وتتكرر العملية، كيف يتم هذا؟!!!
12-النحل واستخراج العسل: ما هي الطريقة التي يقوم بها النحل لاستخراج العسل؟ هل تعلمون أن هناك نحل اسمه النحل المستكشف؟! وظيفته اكتشاف أماكن الرحيق، فيقطع مسافات طويلة، ويقوم بإحضار عينات من هذا الرحيق إلى خليته، ثم إنه يحفظ المسافة جيداً، ودرجة حركة الشمس، ثم يعود إلى الخلية ليتذوق النحل طعم هذه العينة، ثم يقوم بحركات معينة يُعَرِف بها بقية النحل الجهة التي جاء منها بهذ الرحيق، فهل هناك تفسير لهذا؟ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى!!!!
13- ومن بديع ودلائل قدرة الله وعظمته في هداية المخلوقان، أن هناك نباتات خلقها الله تعالى بطريقة عجيبة لتؤمن غذاءها من الحشرات! فلقد زود الله هذه النباتات بغدد خاصة تفرز مادة لاصقة وبنفس الوقت تفرز روائح تجذب الحشرات إليها فتأتي الحشرة لتتغذى على النبات فتلتصق أرجلها بهذا النبات وتعلق وتبقى كذلك لفترة مناسبة ومن ثم تبدأ أوراق النبات بالالتفاف حول الحشرة بطريقة عجيبة. تؤكد أن النباتات تفكر وتعقل وتميز.
إن الطريقة التي يلتف بها النبات حول الحشرة أثارت دهشة العلماء فكيف يستطيع النبات أن يميز هذه الحشرات ويشعر بها ويحني أوراقه في التوقيت المناسب ومن ثم تبدأ عملية الهضم حيث يفرز النبات مواد خاصة تساعده على هضم هذه الحشرة. ويقول العلماء إن هذه النباتات تعتبر نباتات ذكية وحساسة جداً وتعرف كيف تتعامل مع فريستها جيداً.
وهذا ما يدعو العلماء للتساؤل: من أين جاء النبات بهذه المعرفة، ومن الذي علمه وهداه إلى هذا العمل.. ويأتي الجواب من كتاب ربنا تبارك وتعالى على لسان سيدنا موسى : (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) [طه: 50].
فسبحان من بهرت حكمته القلوب والعقول، ومن دبر خلقه بمشيئته وحده لا شريك له، وسبحان من خلق هذه الخلائق، وأسكنهم في ملكه، وأطعمهم من رزقه:
{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ } [الزخرف: 84].
المرتبة الثانية من مراتب الهداية هداية الإرشاد والبيان :
وهذه الهداية تكفل الله بها لجميع الخلق -( رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما )- [النساء/165]
المرتبة الثالثة من مراتب الهداية هداية التوفيق والإلهام:
وهذه تكون لمن قبل هداية البيان -( والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم )- [محمد/17] وهذه هي المنفية عن النبي (صلى الله عليه وسلم) وعن غيره،في قوله تعالى: { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [القصص: 56]، فنفى عنه هذه الهداية ،وأثبت له هداية الدعوة والبيان في قوله: { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [الشورى: 52]. فهي خاصة بالله عز وجل، فهو وحده الذي يوفق، ويسدد من يستحق الهداية والصلاح.
يقول ابن القيم :وهذه المرتبة تستلزم أمرين:
أحدهما: فعل الرب تعالى وهو الهدى بمعنى هداية التوفيق والإلهام.
وثانيهما: فعل العبد، وهو الاهتداء وهو أثر فعله سبحانه، فهو الهادي والعبد المهتدي؛ قال تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ} [الكهف: 17].
ولا سبيل إلى وجود الأثر إلا بمؤثره التام، فإن لم يحصل فعل الله، لم يحصل فعل العبد؛ ولهذا قال تعالى: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [النحل: 37].
هذا النوع خاص بالله تعالى، وهذا النوع من الهداية خاص بالله تعالى وحده، لا يملكه الأنبياء ولا المقربون، ولا أحد من حلقه.
قال تعالى: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [النحل: 37].
وهذا صريح في أن هذا الهدى ليس له صلى الله عليه وسلم ولو حرص عليه، ولا إلى أحد غير الله، وأن الله سبحانه إذا أضل عبدًا لم يكن لأحد سبيل إلى هدايته كما قال تعالى {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ} [الأعراف: 186]. وقال تعالى: {مَنْ يَشَإِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 39].
ومن بلغته هداية البيان فأعرض فهذا محروم مخذول يحرم من هداية التوفيق قال تعالى : -( فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين )- [الصف/5] و -( ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون )- [الحشر/19] هذا قانون إلهي لا يتغير الجزاء من جنس العمل ، من عمل خيرا يجد خيرا -( هل جزاء الإحسان إلا الإحسان )- [الرحمن/60] وكذلك -( من يعمل سوءا يجز به )- [النساء/123] -( نسوا الله فنسيهم )- [التوبة/67]
وفي هذا المعنى يقول القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه: (إذا رأيت الحسنة من الشخص فاعلم أن لها عنده أخوات، وإذا رأيت السيئة من الشخص فاعلم أن لها عنده أخوات.
وقال ابن تيمية : [فإن الحسنة تدعو إلى الحسنة، والسيئة تدعو إلى السيئة، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: “عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق؛ حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب؛ حتى يكتب عند الله كذابا”.
المرتبة الرابعة من مراتب الهداية الهداية إلى الجنة والنار يوم القيامة:
إذا سيق أهلُها إليهما ، قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [يونس: 9]،…
وقال تعالى عن أهل النار:{ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ *مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ } [الصافات: 22 – 23]
طرق الهداية
وللهداية طرق موصلة إليها ،ومفاتيح متعددة تُفتح بها مغاليقها، ومن مفاتيح الهداية وطرقها ووسائلها :
أولها : المجاهدة:
والمجاهدة هي الصبر على الطاعات مهما كانت العقبات، وغابت المحفِّزات، والبعد عن المحرَّمات مهما كثرت الإغراءات والشهوات.
فمن جاهد نفسه في حفظ أوامر الله وحدوده؛ حفظه الله تعالى في بدنه، وماله، وأهله، والأهم من كل ذلك: في دينه، وسلَّمه من الزيغ والضلال،قال تعالى : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) محمد (17)
ثانيها :من مفاتيح الهداية : التقوى :
وقد صرَّح القرآن بأن التقوى مفتاح عظيم من مفاتيح الهداية، فقد وصف الله كتابه بأنه:( ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) البقرة (2) فلا تتعجب بعد اليوم من غياب الهداية ،عمن غابت عنه التقوى، وأشفِق على الفاسقين الذين صنعوا أقفالًا شديدة الإحكام على قلوبهم بفِسْقِهم، وطول بُعدِهم وغيابهم.
ثالثها : من مفاتيح الهداية : الاعتصام بالله :
قال الله تعالى:(وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (آل عمران: 101) وحقيقة الاعتصام: صدق اللجوء إلى الله، ودوام الفرار إليه، واستصحاب الاستغاثة به.. وإلَّا فالوقوع في بئر الضلال والغواية، قال تعالى :(وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) (40) النور، وقال سبحانه (وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ) 97 الاسراء، ، فكيف يفوز بالهداية من لم يعتصم بخالق الهداية وواهبها؟!
رابعها : من مفاتيح الهداية : التخلي عن موانع الهداية :
ومن أهم موانع الهداية : الكفر ، والظلم ، والفسق ، والكذب.
فالكفر: قال الله تعالى: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) البقرة (264)
والظلم: وهو من أكبر موانع الهداية، وفي القرآن آيات ختمها الله بقوله: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) البقرة (258) فالله لا يهدي الظالمين للتوبة والرجوع إلى الإيمان، بل يذرهم في طغيانهم يعمهون؛ حتى يأخذهم بعذاب أليم؛ ولذا قلَّما تجد ظالمًا تاب، أو ردَّ المظالم لأهلها وأناب، وهذا والله من شؤم الظلم على صاحبه، وأشد عقوباته عليه، وقد عرف ربه الهادي مَن دعا ربه أن يجيره من الظلم، فلا يظلِم ولا يُظلَم، وما عرف ربه الهادي مَن ظلم غيره فضلَّ طريق الهداية.
ومن أهم موانع الهداية :الفسق: قال الله تعالى (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) المائدة (108) فحين تجِد ضالًّا لا يهتدي ،رغم سطوع شمس الحقيقة بين يديه، وتتابع البراهين والدلائل عليه، فاعلم أن الفسق قد ملأ ما بين جنبيه.
ومن أهم موانع الهداية الكذب: قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ) الزمر (3) فقد عرف ربه الهادي مَن خاف حرمان الهداية، فلم يكذب، ولم يظلم، ولم يفسق، وما عرف ربه الهادي مَن استوجَب الحرمان من الهداية بكذبه، أو ظلمه، أو فسقه.
خامسها : من مفاتيح الهداية : الدعوة إلى الله :
فكلما دعوت غيرك إلى الخير لتهديه؛ كلما كافأك الله بمزيد الهداية. قال ابن القيم: «كما أَن هدايته للْغَيْر وتعليمه ونصحه يفتح لَهُ بَاب الهداية، فإن الجزاء من جنس العمل، فكلما هدى غيره وعلَّمه هداه الله وَعلَّمه، فيصير هاديا مهديا كما في دعاء النَّبِي (صلى الله عليه وسلم) الَّذي رواه الإمام أحمد وغيره:(اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الإِيمَانِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مَهْدِيِّينَ ) فقم بدلالة الناس على الخير ،مقتفيًا في ذلك أثر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الذي أثنى عليه ربه، فقال تعالى:(وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الشورى : 52) وقال الله تعالى: ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف : 108).
سادسا : من مفاتيح الهداية : الدعاء :
والدعاء من أهم مفاتيح الهداية، ويكفي في فضله قول ربنا في الحديث القدسي كما في صحيح مسلم: (يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ ) أي: اطلبوا مني الهداية، أوفقكم إلى سلوك طريقها، كما سيأتي في ثمار الإيمان باسم الله الهادي.
خامسا/ ثمار الإيمان باسم الله الهادي
1- هداية الفطرة :
الإيمان بأن الله هيأ كل كائن حي إلى ما يصلحه في معاشه وسعيه، وقد سقنا لذلك أمثلة كثيرة بما يغني عن إعادة الكلام.
2- أن الهداية بيد الله وحده لا شريك الله:
فكم من رجل اكتنفته الهداة يدلونه على الصراط المستقيم ويحرصون على هدايته بكل طريق، فما اهتدى! وكم كان حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على هداية قومه حتى قال الله له: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) [الكهف: 6]، وكم كان حرص نوح على هداية ولده، لكنه مات غريقًا كافرًا؛ والسبب: أن الله لم يرد هدايتهم، قال -تعالى-: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) [الأنعام: 125].
3- من أخذ بأسباب الهدى هداه الله:
فالله -تعالى- لا يظلم مثقال ذرة، قال -عز وجل-: (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى) [مريم: 76]، وقال: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) [محمد: 17]، ووعد: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) [العنكبوت: 69].
4- سؤال الله الهداية: ومن الأدعية الواردة:
– (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) الفاتحة (7) ، ومعها يقول الله جل جلاله مجيبًا كما في الحديث القدسي : « قَالَ هَذَا لِعَبْدِى وَلِعَبْدِى مَا سَأَلَ » رواه مسلم ، وهكذا ، فقد فرض الله على عبده أن يسأله الهداية في أفضل أحواله مراتٍ عديدة في اليوم والليلة، وهو ما يدل على رحمة الله بعباده، ويدل كذلك على شدة احتياج العبد وضرورته إلى هذه المسألة، فإنه محتاج إلى الهداية في كل نَفَس وطَرْفَة عَيْن.
– دعاؤك بالهداية قبل صلاة التهجد، كما جاء في صحيح مسلم (حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ سَأَلْتُ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَفْتَتِحُ صَلاَتَهُ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ قَالَتْ كَانَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلاَتَهُ « اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِى مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ».
– « اللَّهُمَّ اهْدِنِي لأَحْسَنِ الأَخْلاَقِ لاَ يَهْدِى لأَحْسَنِهَا إِلاَّ أَنْتَ اصْرِفْ عَنِّى سَيِّئَهَا لاَ يَصْرِفُ عَنِّى سَيِّئَهَا إِلاَّ أَنْتَ» رواه أحمد .
-في قنوت الوتر كما في مسند أحمد وغيره (عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِىٍّ قَالَ عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي قُنُوتِ الْوِتْرِ « اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ وَعافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ وَقِنِى شَرَّ مَا قَضَيْتَ فَإِنَّكَ تَقْضِى وَلاَ يُقْضَى عَلَيْكَ إِنَّهُ لاَ يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وتَعَالَيْتَ »
-ما جاء في صحيح مسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ « اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى ».