ثلاثة أسباب تجلب الهم
يلح على الناس في هذه الأيام الخوف الدائم من المستقبل، ماذا في غد؟
والتقلبات السريعة التي نتعرض لها جعلت الناس دائما يشعرون بانعدام التوازن وعدم الجرأة على اتخاذ قرارات مصيرية في الحياة، وأدى ذلك إلى قلق وتوتر في كل يوم يأتي أو يمر!!
أنا اليوم هنا لأضع النقاط فوق الحروف وأتناول الموضوع من الناحية الإيمانية، طبعا أنا لن اتكلم عن موضوع التخطيط للمستقبل واعداد الخطط والتدبير والترتيب، سواء على مستوى الفرد والاسرة أو على مستوى الأمة، هذا كلام له من يحسن الكلام فيه…
أنا أريد أن أربط الموضوع من الناحية الإيمانية، ولذا أقول هناك أسباب كثيرة تجلب الهم، سأركز منها على أهم ثلاثة فقط:
السبب الأول: الجهل بحقيقة الدنيا:
فأكبر سبب يجعل الناس في قلق دائم من المستقبل هو تغافلهم عن حقيقة الدنيا، فنحن لسنا في دار السلام الجنة نحن في دار الابتلاء، ودار الابتلاء ليس فيها شيء ثابت، فالدنيا ذات أغيار، كل شيء فيها متقلب متغير، ليس فيها شيء دائم القوة أو دائم العلو أو دائم الغنى، وهذا على صعيد الجماعات والأمم والدول وعلى سبيل الأفراد… لا تدوم القوة لأحد ولا يدوم العز والغنى لأحد هذه طبيعة الدنيا.
والإنسان في هذه الدنيا يسعى وسعيه فيه كد وتعب ومشقة، قال تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ﴾ [البلد: 4]، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾ [الانشقاق: 6] هذه هي طبيعة الدنيا دار ابتلاء دار متقلبة، دار لا تثبت على حال.
وما نراه في واقعنا المعاصر ربما لجهلنا بالتاريخ نظن أنه نهاية الدنيا، كما يروج البعض بين الحين والآخر أن القيامة اقتربت والساعة ستكون بعد سنوات، وظهرت علامة كذا ظهر كذا، لو قرأنا التاريخ لرأينا ما هو أبشع وأفظع مما يمر بنا الآن، سواء كان حروب أو مجاعات أو مذابح أو غلاء أسعار أو ابتلاء بحاكم ظالم، أو ما شابه ذلك مما يحدث في الدنيا، لو قرأنا التاريخ فالتاريخ ملآن، ولم تقم الساعة كما يروج الكثيرون.
السبب الثاني: الاستجابة لوساوس الشيطان:
الكثير منا في خلده أن الشيطان يوسوس فقط بالمعاصي، وهذا صحيح، الشيطان يوسوس بالمعاصي، لكن ليس هذا هو عمله الوحيد، الشيطان من ضمن أساليبه إدخال الحزن على المسلم فيتفنن كيف يحزنك!
ترى كل شيء في يدك قليل فتحزن، وتسخط على الله عز وجل، ويعدك بمستقبل مظلم كئيب، وأولادك سيضيعون، وأنت أب فاشل لم تترك لأبنائك لا ممتلكات ولا عقارات ولا آلاف في البنك، قال تعالى: ﴿ٱلشَّيۡطَٰنُ يَعِدُكُمُ ٱلۡفَقۡرَ وَيَأۡمُرُكُم بِٱلۡفَحۡشَآءِۖ وَٱللَّهُ يَعِدُكُم مَّغۡفِرَةٗ مِّنۡهُ وَفَضۡلٗاۗ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ﴾ [البقرة: 268]
فهو دائما يتفنن في إدخال الحزن على المسلم فإذا أدخل الحزن على المسلم كان هذا مرتعا خصبا يتغذى منه الشيطان، والشيطان يتملك ابن ادم من خلال الحزن ومن خلال الخوف، ومن خلال الغضب ومن خلال الشهوة.
هذه أربعة أسباب يتملكنا الشيطان فيها: الحزن والغضب والخوف والشهوة، الشهوة الحرام طبعا (الانشغال باللذات والمعاصي)
فلما يلقي هذه الهواجس عليك أنك غدا ستصاب بالسرطان ابنك فلأن سيموت، أن الشركة التي تعمل بها ستفلس، أن الوضع الاقتصادي سيسوء أكثر وأكثر، أن الأسعار سترتفع إلى مدى لا تستطيع معه أن تنفق على بيتك وأولادك، ….. الخ، وساوس وساوس وساوس!!!
سؤال هل الشيطان يعلم المستقبل؟
كلا، من الذي يعلم المستقبل؟
لا يعلم المستقبل أحد إلا الله، أو من أطلعه الله إذا كان نبيا يوحى إليه، أو رؤيا يراها المسلم، أما تفصيلات المستقبل فهذا شيء في علم الله، فالله عز وجل لم يطالبنا بالمستقبل، ولن يحاسبنا على المستقبل.
ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم كان يوميا وهذا من أذكار الصباح والمساء يتعوذ بالله من الهم والحزن.
الحزن ناتج عن شيء مضى.
والهم هو الخوف على شيء سيأتي.
الحزن في الماضي الغم في الحاضر الهم في المستقبل،
فالشيطان يقلب عليك الماضي ليحزنك، ويقلقك من المستقبل ليصيبك بالهم، فتظل حبيس الأحزان والهموم، فتعوذ النبي من حزن يبكيك على الماضي وهم يسخطك أو يقلقك على المستقبل، (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن) ربنا فطر الإنسان على أنه يكون عنده هم، وهذا شيء طبيعي ، وفي الحديث عن أبي وهب الْجُشَمِيِّ قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-:( تَسَمَّوْا بأسَماءِ الأنبياء ، وأحَبُّ الأسماءِ إلى الله: عَبدُ الله وعبدُ الرحمن ، وأصدَقُها: حارِثٌ وهَمَّامٌ ، وأقْبَحُها: حَرْبٌ ومُرَّة ) .رواه البخاري في “الأدب المفرد”
فحارث وهمام فيهما مطابقة لواقع الإنسان، فأي إنسان يحرث، أي يكتسب سواء حرثَ في أمر الدنيا أو في أمر الآخرة، وكذلك كل إنسان يَهمُّ ، من الهم ، أي العزم والإرادة ، فهو من هممت بالشيء ، إذا أردته ، وليس من أحد إلاّ وهو يهم بشيء، والهم بالخير والشيء الإيجابي مما يحمد عليه الإنسان ،أما الهم من الناحية السلبية بالاستجابة لهواجس الشيطان وزيادة المخاوف فهذا الذي تعوذ النبي منه ، والمعادلة في الدنيا ليست لإبليس فقط ؛ بل عليك أن تؤمن أن للكون ملكا هو الله عز وجل، هو الذي يدبر الأمر قال تعالى : ﴿تَبَٰرَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلۡمُلۡكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ﴾ [الملك: 1] وقال تعالى : ﴿فَسُبۡحَٰنَ ٱلَّذِي بِيَدِهِۦ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيۡءٖ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ﴾ [يس: 83]
فاللحظة المقبلة أنا وأنت لا نعلم ما فيها، فكيف نصدق الشيطان؟ ونفقد الثقة في الله؟ هل تعلم أنك قبل أن تولد قسم الله لك رزقك، ودبر لك سعيك وهيأ لك معاشك ولن تموت ولن تغادر هذه الدنيا حتى تستكمل رزقك وتستوفي أجلك، إذا لماذا تخاف؟ لماذا تصاب بالتوتر والقلق؟
والله الموضوع الفلاني كذا وكذا، اه والله طيب خائف من كذا؟
إذا كثرت مخاوفك فلذ بجناب الله، عندك قلق؟ قل يا رب، يا رب!
الحسن البصري رحمه الله لما سألوه ما سر زهدك في الدنيا؟
قال علمت أن رزقي لن يأخذه غيري فاطمئن قلبي، وعلمت أن الموت حق فأعددت الزاد للقاء ربي، وعلمت أن الله يراني فكرهت أن يراني على معصية، وعلمت أن عملي لن يقوم به غيري فانشغلت به وحدي.
إذا فهو عنده يقين أن عمله سيقوم به وأن رزقه مقسوم ومقدر، وأن الموت حق وأن الله يراه.
السبب الثالث: هو عدم القناعة:
عدم القناعة عدم الرضا أن دائما الإنسان متمرد متطلع طماع، إلا من رحم الله، طبعا في فرق بين الطموح والطمع، الطموح فقير فاطمح إلى أن أكون غني، أني ساكن في شقة بالإيجار اطمح أن أتملك شقة أو بيت، أن عندي سيارة قديمة ومتعبة وفيها أعطال أشتري سيارة جديدة بدون أعطال…
هذا طموح، الطمع هو والعياذ بالله مرض في القلب صاحبه لا يشبع أبدا لا يشبع أبدا دائم الطمع، يحب أن يجمع ويجمع كما قال الله (الذي جمع مالا وعدده) همته فقط زيادة المال، عنده مليون وقلق، عنده مليار وقلق،
الطمع لا حل له أبدا لأنه لا يتوقف يعني لا يأتي إلى حد معين ويقول أنا شبعت الآن، فالطماع دائما قلق، الطماع يخاف من الفوات، الطماع يرى المجتمع حوله فيحقد على كل من حوله، حتى أنه ربما يحسد فقير على فقره، سبحان الله العظيم.
ما هو العلاج؟
أول أمر تقوية الصلة بالله:
اجعل قلبك دائما معلق بالله، كن على اتصال دائم بالله، إذا أحسنت العلاقة بالله يحدث التوازن، في حياتك بين قلب متعلق بالله وجوارح تأخذ بالأسباب، والله تعالى وعدنا فقال ﴿ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمۡ يَلۡبِسُوٓاْ إِيمَٰنَهُم بِظُلۡمٍ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمُ ٱلۡأَمۡنُ وَهُم مُّهۡتَدُونَ﴾ [الأنعام: 82]
من امتلأ قلبه توحيدا لله من غير شرك فهذا وعده الله بالأمن، فكل مخاوفك أمان، لأن القلب موصول بالله.
فلله الحمد ولله المنة أن لنا ربا نلوذ اليه ونلوذ به ونستغيث به ونستجير به، فإذا ضاقت علينا الدنيا فالسعة من الله، وإذا اشتدت بنا فالفرج من الله، وإذا تعسرت الأمور فاليسر من الله فلله الحمد ولله الفضل ولله المنة.
قوانا من ضعف وأعزنا من مذلة وأغنانا من فقر، وهدانا من ضلالة، فلله المنة ولله الفضل ولله الثناء الحسن.
العلاج الثاني: قطع وساوس الشيطان نهائيا:
بعدم الاسترسال والاستجابة التعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إذا جاءك ليحزنك ليقلقك، فاتفل عن يسارك، وتعوذ بالله منه، واعلم أن الذي يوسوس لك كذاب، فاجر لا يعرف شيئا من المستقبل أبدا، ولا يملك لك نفعا ولا ضرا، وأن حظه منك الوسوسة، فإذا طردته عنك فقد طردت عن نفسك أذى كبيرا.
العلاج الثالث: القناعة:
ويلحق بهذا ضرورة أن يوطن المسلم نفسه على القناعة وهي الرضا بما آتاه الله تعالى وسؤاله المزيد، عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عن النبي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قال: «لَيس الغِنَي عَن كثْرَةِ العَرضِ، وَلكِنَّ الغنِيَ غِنَي النَّفسِ» متفقٌ عليه
«العَرَضُ» بفتح العين والراءِ: هُوَ المَالُ
ومعنى الحديث الغنى المحمود غنى النفس وشبعها وقلة حرصها لا كثرة المال مع الحرص على الزيادة لأن من كان طالبا للزيادة لم يستغن بما معه فليس له غنى
فالقناعة مال لا ينفد لأن القناعة تنشأ من غنى القلب بقوة الإيمان ومزيد الإيقان ومن قنع أمد بالبركة ظاهرا وباطنا لأن الإنفاق منها لا ينقطع إذ صاحبها كلما تعذر عليه شيء قنع بما دونه ورضي فلا يزال غنيا عن الناس ولهذا كان ما يقنع به خير الرزق،
وقد عبر النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن هذا المعنى بأبلغ عبارة حينما قال: (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فكأنما حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا) رواه البخاري في “الأدب المفرد” وحسنه الألباني
(في سِربه) أي: في نفسه، وأهله وعياله
(معافى) صحيحاً سالماً من العلل والأسقام،
(عنده قوت يومه) أي: كفاية قوته من وجه الحلال،
(فكأنما حيزت) من الحيازة، وهي الجمع والضم،
وورد بزيادة كلمة” بحذافيرها” أي: بتمامها، والحذافير الجوانب، والمعنى: فكأنما أعطي الدنيا بأسرها “
ومعنى الحديث: من جمع الله له بين عافية بدنه، وأمن قلبه حيث توجه، وكفاف عيشه بقوت يومه، وسلامة أهله، فقد جمع الله له جميع النعم التي من ملك الدنيا لم يحصل على غيرها،
ومن أنفع الأشياء في هذا الموضع استعمال ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنظُرُوا إلى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلا تَنْظُرُوا إلى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ فَأنهُ أَجْدَرُ أن لا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ رواه الترمذي وهو في صحيح الجامع
فأن العبد إذا نصب بين عينيه هذا الملحظ الجليل، رأى نفسه يفوق قطعاً كثيراً من الخلق في العافية وتوابعها، وفي الرزق وتوابعه مهما بلغت به الحال، فيزول قلقه وهمه وغمه، ويزداد سروره واغتباطه بنعم الله التي فاق فيها غيره ممن هو دونه فيها،
وكلما طال تأمل العبد في نِعم الله الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية، رأى ربه قد أعطاه خيراً كثيراً ودفع عنه شروراً متعددة، ولا شك أن هذا يدفع الهموم والغموم، ويوجب الفرح والسرور.