أول إعلان لحقوق الإنسان في خطبة الوداع
في خطبة الوداع وقف نبينا الكريم في حشد كبير جاوز المائة ألف من أصحابه يعلن أول وثيقة لحقوق الإنسان وهذا الإعلان لم يكن مجرد شعارات يرفعها أو يتاجر بها، بل كانت هي مبادئه منذ فجر الدعوة يوم كان وحيداً مضطهداً، وأصحابه من حوله قليل مستضعفون في الأرض يخافون أن يتخطفهم الناس، وهي نفس المبادئ التي يعلنها وهو في هذا المقام ، لم تتغير في القلة والكثرة، ولم تتفاوت من الحرب إلى السلم ( أي شهر هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس
ذو الحجة؟ قلنا: بلى، قال: فأي بلد هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس البلدة الحرام؟ قلنا: بلى. قال: فأي يوم هذا؟ قلنا الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى. قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا، في شهركم هذا ) صحيح مسلم
لقد كان يوم عرفة هو يوم الإعلان العالمي عن الحرمات والحقوق الإنسانية!
فلقد أعلن فيه الرسول ( حق الإنسان في الحياة، وفي الملكية، والكرامة البشرية،
تعظيم أمر الدماء والأموال والأعراض، وتغليظ العقوبة عليها :
ولعل في فجائع البشرية المعاصرة، ومسلسل الانتهاكات المتتابعة للحرمات في المشارق والمغارب، وتحول ذلك إلى سمة عامة في هذا العصر ما يحملنا على التأمل في تعظيمه ( لحرمة الدماء والأموال والأعراض، وذلك في هذا التشبيه البليغ الذي جمع لهم فيه بين حرمة الزمان والمكان.
ومناط التشبيه في قوله (: «كحرمة يومكم» وما بعده ظهوره عند السامعين، لأن تحريم البلد والشهر واليوم كان ثابتاً في نفوسهم ـ مقرراً عندهم، بخلاف الأنفس والأموال والأعراض فكانوا في الجاهلية يستبيحونها، فطرأ الشرع عليهم بأن تحريمهم دم المسلم وماله وعرضه أعظم من تحريم البلد والشهر واليوم.
حرمة الدماء في الإسلام شريعة عامة:
وهذا التعظيم للدماء في الإسلام شريعة عامة، لا يفرق فيها في الأصل بين مسلم وغيره، فرغم أن الخطاب في الحديث النبوي يتوجه إلى أهل الإسلام في المقام الأول، إلا أن هذا التحريم يمتد وتتسع دائرته لتشمل المسلمين والمعاهدين على حد سواء، سواء أكانوا مقيمين داخل ديار الإسلام أم كانوا خارجها. فللإنسان في شريعة الإسلام حرمة ذاتية باعتبار بشريته مهما كانت هويته، ومهما كان دينه أو لونه، وأيا كان موقعه وموطنه، فحرمة الدماء لا تقتصر على أهل الإسلام وحدهم، فإن الدماء تعصم بالإيمان أو بالأمان، فبالإيمان تعصم دماء أهل الإسلام، وبالأمان تعصم دماء بقية الأمم والشعوب، لا يستثنى من هذا إلا من أعلن الحرب على الإسلام وأهله، والدستور المحكم في هذا
وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ) البقرة: 190
. وفي الحديث الصحيح ( من قتل نفسا معاهدة لم يجد رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة مائة عام )مسند أحمد
وعلى هذا فإن العصمة التي تثبت للمسلم بمقتضى إيمانه يثبت مثلها للمعاهد بمقتضى أمانه، سواء أكان عهده دائما من خلال الذمة أم كان مؤقتا من خلال تأشيرات الدخول التي تعطى لدخول الدول الاسلامية المختلفة .
ولا تنسي ذاكرة التاريخ ما وقع من شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عندما تغلب التتار على الشام وذهب الشيخ ليكلم ملك التتار قطلو شاه في إطلاق الأسرى، فسمح بإطلاق أسرى المسلمين وأبى أن يسمح له بإطلاق أسرى أهل الذمة، فلم يكن من شيخ الإسلام إلا الرفض القاطع لذلك قائلا: لا نرضى إلا بافتكاك جميع الأسرى من اليهود والنصارى، فهم أهل ذمتنا، ولا ندع أسيرا لا من أهل الذمة ولا من أهل الملة، فلما رأى إصراره وتصلبه أطلقهم له.
وتمتد الحرمة لتشمل الأموال والأعراض، فأموال أهل الإسلام معصومة بإيمانهم، وأموال غير المسلمين معصومة بأمانهم، وهو الأمان الذي دخلت فيه شعوب العالم بأسرها منذ أن ارتبطت بمواثيق دولية من خلال الأمم المتحدة، ومن خلال التمثيل الدبلوماسي المتبادل بين الدول في واقعنا المعاصر.
وللشريعة الإسلامية فضل السبق على كافة المواثيق والإعلانات والاتفاقيات الدولية في تناولها لحقوق الإنسان وتأصيلها لتلك الحقوق منذ أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان، وأن ما جاء به الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والاتفاقيات الدولية اللاحقة ومن قبلها ميثاق الأمم المتحدة ما هو إلا ترديد لبعض ما تضمنه الشريعة الإسلامية الغراء.
وحقوق الإنسان كما جاء بها الإسلام حقوق أصيلة أبدية لا تقبل حذفاً ولا تعديلاً ولا نسخاً ولا تعطيلاً، إنها حقوق ملزمة شرعها الخالق سبحانه وتعالى، فليس من حق بشر كائناً من كان أن يعطلها أو يتعدى عليها، ولا تسقط حصانتها الذاتية لا بإرادة الفرد تنازلاً عنها ولا بإرادة المجتمع ممثلاً فيما يقيمه من مؤسسات أياً كانت طبيعتها وكيفما كانت السلطات التي تخولها.
أما فيما يتعلق بالقيمة القانونية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان فهو ليس إلا مجرد تصريح صادر عن الأمم المتحدة غير ملزم.
فيتضح أن حقوق الإنسان في المواثيق الدولية عبارة عن توصيات أو أحكام أدبية، أما في الإسلام فحقوق الإنسان عبارة عن فريضة تتمتع بضمانات جزائية، فللسلطة العامة في الإسلام حق الإجبار على تنفيذ هذه الفريضة، خلافاً لمفهوم هذه الحقوق في المواثيق الدولية التي تعتبرها حقاً شخصياً مما لا يمكن الإجبار عليه إذا تنازل عنه صاحبه.
إن كل ما صدر عن الأمم المتحدة والمنظمات والهيئات بخصوص حقوق الإنسان يحمل طابع التوصيات ولا يعدو كونه حبراً على ورق يتلاعب به واضعوه حسبما تمليه عليهم الأهواء والشهوات.
أما في الإسلام فقد اعتمد المسلمون في مجال حماية حقوق الإنسان على أمرين أساسين، وهما:
1- إقامة الحدود الشرعية، إذ إن من أهم أهداف إقامة الحدود الشرعية في الإسلام المحافظة على حقوق الأفراد.
2- تحقيق العدالة المطلقة التي أمر الله بها ورسوله صلى الله عليه وسلم وحثا عليها في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة. قال تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإحْسَانِ} [النحل:90].
وقد امتثل رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ربه في إقامة العدل فكانت حياته كلها عدل، وعلم أصحابه العدل وأوصى أمته به وحذرهم من الظلم، ووضع منهج الإسلام في إقرار العدل والمساواة والمحافظة على الحقوق وحمايتها.
والإسلام له نظرته الخاصة للإنسان، فهو ينظر إليه على أنه مخلوق مخاطب بالتكاليف ومسؤول عنها، وعليه واجبات لا بد أن يؤديها قبل أن يطالب بحقوقه، فالإنسان في الإسلام يقول: ماذا عليّ؟ أما في الغرب المادي فالإنسان هناك يقول: ماذا لي؟.
وفلسفة الإسلام في جانب حقوق الإنسان تقوم على قاعدة اساسية مؤداها أنه إذا أُديتْ الواجبات روعيت الحقوق، وكل حق يقابله واجب، وما ضاعت حقوق الناس إلا حينما ضيع الناس الواجبات.
عقيدة التوحيد
إن عقيدة التوحيد التي نادى بها الإسلام ورسخها في قلوب وعقول معتنقيه تعد الأساس الأول لحقوق الإنسان، حيث ترسخ هذه العقيدة لحرية الإنسان وتنهي دعوى تأليه البشر التي ترسخت على أيدي الفراعنة والأكاسرة والقياصرة والأباطرة وغيرهم من الجبابرة، فالإسلام رفع الجباه بالدعوة إلى ترك عبادة العباد إلى عبادة الواحد الديان، فلا خضوع ولا ذل ولا انكسار إلا لله الخالق الرازق المتكفل بعباده، وقد طبق رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه القاعدة في مخاطباته إلى الملوك والقياصرة، حيث اختتمت رسائله إليهم جميعا بقول الله عز وجل: «قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون»،آل عمران 64 دعوة لعدم اتخاذ البعض أربابا من دون الله رسخها الإسلام لتكريم الإنسان وتحقيق المساواة بين البشر فلا فضل ولا تفاضل بين البشر إلا بالتقوى.
وقد أعلن النبي هذا الميثاق حين نادى في الشهر الحرام (فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا، في شهركم هذا ) و (يا أيها الناس ! إن ربكم واحد ، وإن أباكم واحد ، ألا لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي ، ولا لأحمر على أسود ، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } ، ألا هل بلغت ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ! قال : فيبلغ الشاهد الغائب ).
إن الرب واحد والأب واحد وإن الدماء والأعراض والأموال مصونة لا يجوز أن يعتدى عليها وأن الناس سواسية كأسنان المشط ،فهنا قررت حقوق الإنسان على أن الإنسان عبيد لرب واحد ….وهذا هو التوحيد الذي جاء به الإسلام .
الإنسان ليس حيواناً
والإنسان مكرم في الإسلام من حيث هو إنسان بغض النظر عن دينه أو جنسه أو لونه، حيث ميزه الله تعالى بالروح التي نفخها فيه والتي هي مناط التكليف الذي عبرت عنه الآية الكريمة «إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا»، بل إن الله تبارك وتعالى أعطاه من العلم ما تفوَّق به على الملائكة وأسجدهم له تكريما ورفعا لقدر الإنسان الذي جعله خليفة في الأرض.
و نظرة الإسلام لا تقوم على أنه حيوان ناطق كما نظرت إليه الحضارة اليونانية، أو على أنه حيوان منتج كما في النظرة الماركسية، فالإنسان في الإسلام مخلوق مكرم مكلف بأمانة يجب عليه أن يؤديها شكرا لخالقه ورازقه وليس لأحد من الخلق الذين ساوى بينهم وألغى كل تمايز يقوم على غير التقوى.
الضروريات الخمس
وإذا نظرنا إلى مقاصد الشريعة الكلية لوجدنا أنها تركز على حماية ثلاثة أمور تكفل للإنسان العيش بكرامة وحرية، وهي: الضروريات والحاجيات والتحسينات، ولو نظرنا إلى الضروريات التي اعتبرها البعض خمسا وزاد البعض فاعتبرها ستا، وهي الدين والنفس والنسل والعقل والمال والعرض، وهذه الضروريات تشكل أساس حقوق الإنسان، فحرية العقيدة وعدم الإكراه على الدين اساس حماية الدين، وصيانة الحياة بحماية النفس البشرية من حيث هي نفس أمر رسخه الإسلام، وأقر مبدأ القصاص ليحمي حق الحياة وحق الضحية وأوليائه في القصاص العادل من المجرم ليردع غيره عن الإقدام على مثل هذا الفعل.
إن إلغاء عقوبة الإعدام في المجتمعات الغربية فيه ظلم كبير حيث فيه مراعاة لخاطر المجرم على حساب الضحية وأهله، فالقاتل المجرم تراعى حقوقه والمقتول المظلوم لا حق له، وقد أقر الإسلام حق القصاص حفظا لحق المظلوم وأهله وحثهم في الوقت نفسه على العفو سواء العفو المطلق أم المرتبط بعوض وهو الدية، احتراما لحق الحياة الذي تشدد فيه الإسلام كثيرا، بل صان الحياة في جميع مراحلها حتى المرحلة الجنينية فلا يجوز القصاص من المرأة الحامل إن قتلت نفسا إلا بعد أن تضع حملها، وكذلك لا تجوز إقامة الحد على الزانية إلا بعد أن تضع حملها ويستغني عنها، احتراما لحق الحياة للجنين وإن جاء بطريقة غير مشروعة.
ميزات حقوق الإنسان في الإسلام
وحقوق الإنسان في الإسلام لها العديد من الميزات، أولها أنها واجبات يحتمها الدين على الفرد والجماعة، وثانيها أن هذه الحقوق منطقية تتوافق مع العقل والفطرة السليمة، والميزة الثالثة أن هذه الحقوق ليست حبرا على ورق بل إنها مقننة ومطبقة من خلال الحدود والتعزيرات والقواعد التي تنظم علاقة الفرد بالجماعة وعلاقة الجماعة بالفرد.
والإسلام ينظر إلى الإنسان على أنه مكرم من قبل خالقه، وهذا التكريم لكونه نفسا إنسانية، وقد وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم لجنازة، فقيل إنها ليهودي، فقال: أليست نفسا، وهو موقف رائع، فالإنسان من حيث هو إنسان مكرم مصون الحق في الإسلام.
هذا ما جاء به الإسلام وطبقه المسلمون تطبيقا عمليا ،ولم يكن مجرد فلسفة مجردة أو أفكار نظرية ….في المسجد نجد الكل سواسية ،في الحج الجميع سواسية ، أذاب الإسلام بشعائره كل الفوارق التي تميز الناس بعضهم من بعض وقد وضع النبي قاعدة العدل والمساواة فقال (وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها )متفق عليه
الناس ولدوا أحراراً
واقعتين حدثتا مع سيدنا عمر بن الخطاب أمير المؤمنين رضي الله عنه:
الأولى مع جبلة بن الأيهم وكان ملكا من ملوك بني غسان، وقد أسلم وأراد الحج، وبينما يطوف حول البيت إذ عثر بثوبه أعرابي فلطمه على وجهه، فرفع الأعرابي أمره إلى أمير المؤمنين، فقال له عمر: ياجبلة إما أن تدعه يقتص منك أو أن ترضيه، فقال مستنكرا: أتسوّي بيني وبينه وأنا ملك وهو سوقة، فقال له عمر: إن الإسلام سوّى بينكما يا جبلة، فتظاهر بقبول إرضائه، ثم هرب وارتد عن الإسلام ومات كافرا، وكل ذلك لأن عمر رضي الله عنه لم يقبل أن يظلم فرد من الأمة على يد أي كانت منزلته، فالإسلام سوّى بين الجميع.
الثانية : قصة القبطي الذي ضربه ابن عمرو بن العاص والي مصر، ووصل القبطي إلى المدينة واقتص له عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال قولته التي تفتتح بها جميع المواثيق التي تعنى بحقوق الإنسان، والتي خلدها الدهر «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا».