حكم مشاركة المسلمين في الانتخابات في بلاد الغرب دراسة شرعية وردّ شبهات

تاريخ الإضافة 27 أبريل, 2025 الزيارات : 20

حكم مشاركة المسلمين في الانتخابات في بلاد الغرب

دراسة شرعية وردّ شبهات

أولا/ فتوى القائلين بالتحريم:

الديمقراطية، المشتقة من الكلمتين اليونانيتين “ديموس” (الشعب) و”كراتوس” (الحكم)، هي نظام يقوم فيه الناس بالتشريع لأنفسهم. إنها “حكم الشعب بالشعب ومن أجل الشعب”.في هذا النظام، يحدد البشر الحق والباطل بناءً على رأي الأغلبية.
لكن في الإسلام، التشريع حق خالص لله، وإعطاء هذا الحق للبشر يُعد شركاً وعبادة لغير الله.﴿إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون﴾ (يوسف 40)﴿أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله﴾ (الشورى 21)﴿يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً﴾ (النساء 60)﴿ولا يشرك في حكمه أحدا﴾ (الكهف 26)

لماذا تعتبر الديمقراطية شركًا؟﴿لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم﴾ (البقرة 256)﴿ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت﴾ (النحل 36)الطاغوت: هو كل ما يُعبد من دون الله.والمسلم يجب أن يكفر بالطاغوت كله، سواء كان تشريعاً بشرياً أو نظاماً ديمقراطياً.الكفر بالطاغوت هو الشرط الأول في شهادة أن لا إله إلا الله. فالإيمان بالله وحده لا يكفي لدخول الإسلام بدون الكفر بالطاغوت.﴿والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد﴾ (الزمر 17)النفي والإثبات:نفي: “لا إله”إثبات: “إلا الله”

ما هو الطاغوت؟

﴿اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون﴾ (التوبة 31)ورد في الحديث أن عدي بن حاتم، وكان نصرانياً، جاء إلى النبي ﷺ وهو يضع صليباً فضياً حول عنقه، فتلا النبي ﷺ هذه الآية.قال عدي: “لم يكونوا يعبدونهم”.قال النبي ﷺ: “بلى، كانوا يحللون لهم الحرام ويحرمون لهم الحلال، فيتبعونهم، فذلك عبادتهم لهم”.

الشرك بالطاعة:
وهو أن يطيع الإنسان بشراً في تحريم الحلال أو تحليل الحرام، ويعتبر ذلك عبادة لغير الله دون أن يشعر.﴿فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحدا﴾ (الكهف 110)

هل التصويت في الانتخابات الديمقراطية شرك؟

عندما يصوّت المسلم، فهو يُعترف بالنظام الديمقراطي ويعترف بأن البشر مشرعون، وهذا شرك أكبر.لأن التشريع حق لله وحده، وأي نظام يشاركه فيه غيره يناقض التوحيد.

قال العلامة محمد الأمين الشنقيطي (ت 1393 هـ):“اعلموا رحمكم الله أن الشرك في التشريع والشرك في العبادة معناه واحد، لا فرق بينهما. فمن اتبع تشريعاً مخالفاً لشريعة الله فقد أشرك كما يشرك الذي يسجد لصنم، وكلاهما سواء.”

﴿ولا يشرك في حكمه أحدا﴾ (الكهف 26)

هل قاعدة “ارتكاب أخف الضررين” تنطبق على الشرك؟

الشرك أعظم الذنوب، ولا يجوز اقترافه بحجة “ارتكاب أخف الضررين”،بل لا يجوز إلا تحت الإكراه الشرعي (كخوف القتل أو التعذيب الشديد)، بشرط أن يظل القلب مؤمناً.﴿من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم﴾ (النحل 106-107)بعض الناس يدّعي أن التصويت للحزب الأقل ضرراً “ضرورة”، ولكنهم يجهلون أن الشرك أعظم من أي ضرر دنيوي.﴿والفتنة أشد من القتل﴾ (البقرة 191)وقد قال كبار المفسرين: “الفتنة هنا تعني الشرك”، أي أن الشرك أشد من القتل.

هل يجوز دعوة السياسيين إلى المساجد؟

المسجد مخصص لعبادة الله وحده، وهو مكان خالص من الكفر والشرك.دعوة شخص يدعو الناس إلى الشرك أو الكفر (بالتشريع أو التصويت) إلى المسجد، كفر ومخالفة للشريعة.على المسلم أن ينكر المنكر قدر استطاعته أو يغادر المجلس حتى لا يُحسب من القوم.﴿وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا﴾ (الجن 18) ﴿وقد نزّل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يُكفر بها ويُستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم﴾ (النساء 140)

ثانيا / الرد على الفتوى وتحليلها

مقدمة

أثار بعضُ المتشددين شبهةً خطيرة مفادها أن المشاركة في الانتخابات الديمقراطية تُعدُّ شركًا بالله، خصوصًا فيما يتعلق بمشاركة المسلمين المقيمين في الدول الغربية. تزعم هذه الفكرة أن التصويت يعني قبول التشريع لغير الله والرضا بالنظام الديمقراطي بوصفه نظامًا كفريًا.

 وقد ترتب على ذلك دعواتٌ لمقاطعة الانتخابات بدعوى حماية التوحيد.

غير أنَّ جمهور العلماء المعاصرين – أفرادًا ومجامعَ فقهية – خالفوا هذا الرأي المتشدد، وأجازوا بل حثّوا المسلمين في الغرب على المشاركة السياسية بضوابطها الشرعية، نظرًا لما تفضي إليه من مصالح راجحة في حفظ حقوق المسلمين ودفع المظالم​.

فقد قررت المجامع الفقهية المعتبرة – مثل المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي، ومجمع فقهاء الشريعة بأمريكا، والمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث – جواز المشاركة، بل وصنّفتها ضمن مسائل الاجتهاد المبنية على الموازنة بين المصالح والمفاسد.

 وسنتناول في البحث المحاور التالية:

  • الفرق بين التشريع الإلهي المطلق والتشريع الوضعي المقيد ودلالاته.
  • مفهوم الشرك في التشريع وحدوده، وهل ينطبق على المشاركة السياسية؟
  • قاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد وتطبيقها على التصويت.
  • قاعدة اختيار أخف الضررين كأساس شرعي للمشاركة عند الحاجة.
  • أهمية العمل السياسي للمسلمين كأقلية لتحصيل حقوقهم ودفع الظلم عنهم.
  • الشروط والضوابط الشرعية التي وضعها العلماء لجواز المشاركة في الانتخابات.

الفرق بين التشريع المطلق والتشريع الوضعي المقيد

من المهم ابتداءً تفكيك مصطلح “التشريع” وبيان أنواعه حتى يتضح محل النزاع.

 فالإسلام يقرّر بوضوح أن التشريع المطلق من حق الله تعالى وحده؛ فهو سبحانه المشرّع الأعلى الذي له الحكم والأمر ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾.

وهذا التشريع المطلق يشمل تحليل الحلال وتحريم الحرام ووضع الأحكام الكلية النهائية التي لا يملك البشر تغييرها​.

وكل من ادّعى لنفسه حق التحليل والتحريم المطلق أو إعطاء نفسه مقام التشريع الأعلى فقد وقع في شرك الربوبية بلا ريب.

بالمقابل، هناك نوع آخر يمكن تسميته التشريع الوضعي المقيد، والمقصود به سنّ القوانين والتنظيمات البشرية في الأمور الدنيوية والإدارية لتحقيق مصالح الناس ضمن حدود الشريعة وأصولها.

هذا التشريع البشري المقيد ليس تشريعًا دينيًا مستقلًا عن الله، بل هو خاضع لمقياس الشرع في الحل والحرمة، وجعله الشرع من باب الإدارة والتنظيم المباح ما لم يصادم نصًا قطعيًا أو أصلاً شرعيًا.

ومن أمثلته إصدار القوانين المرورية وتنظيم شؤون الاقتصاد والعلاقات الدولية بما يحقق العدل والمصلحة العامة، فهذه كلها اجتهادات بشرية لتنزيل مقاصد الشريعة في الواقع المتغيّر.

لقد فرّق العلماء بين من يشرّع من دون الله تشريعًا مطلقًا يضاهي به الشرع، وبين من يضع تنظيمات بشرية لضبط أمور الحياة دون ادعاء لمقام الألوهية في التشريع .

فالأول هو الذي ورد فيه الوعيد ووصِف فعلُه بالشرك، أما الثاني فداخل في نطاق الاجتهاد المباح أو المطلوب شرعًا بحسب ما يؤدي إليه من خير أو شر​.

وعلى ذلك، فمجرد المشاركة في سنّ قوانين وضعية لا يعني بالضرورة منازعة الله في حق التشريع إذا كان الإطار العام هو تحقيق العدل ومنع الظلم، ولم يعتقد المشاركون حِلَّ ما حرّم الله أو حُرمة ما أحلَّ الله.

وقد أشار المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث إلى هذا الفرق عند بيانه أن السياسة الشرعية هي “تحقيق مصالح الناس وفق الأحكام الشرعية التي تستنبط من النص أو الاجتهاد”، وأن القوانين التي تنظم شؤون المجتمع المدني جائزة ما دامت لا تهدد الهوية والشخصية الإسلامية للمسلم​.

إن البرلمانات الديمقراطية في البلاد الغربية تسنّ قوانين لتنظيم حياة الناس، وكثير من هذه القوانين يدخل في دائرة المباح أو ما يسمى عند الفقهاء منطقة الفراغ التشريعي، أي المسائل التي لم يرد فيها نص ملزم، فيجتهد البشر في تقنينها وفق مبادئ العدل .

 فمثلاً، قوانين الضرائب أو البناء أو المرور ليست تشريعًا دينيًا يناقض حكم الله، بل هي تدابير إدارية لتحقيق مصالح المجتمع.

نعم، قد تصدر تلك المجالس تشريعات مخالفة للشريعة (كإباحة ما حرّم الله)، وهذا منكر وضلال بلا شك؛ لكن السؤال: هل مجرد وجود قوانين مخالفة للشرع يجعل المشاركة في العملية التشريعية كلها أمرًا محظورًا أو شركًا؟

يرى جمهور العلماء أن الواجب على المسلم في هذه الحالة أن يسعى لتقليل المخالفة الشرعية ما استطاع، إما برفضها أو تعديلها أو منع صدورها ابتداءً عبر المشاركة الإيجابية، لا أن يهجر الساحة تمامًا ويتركها لغيره​.

فالمشاركة حينئذ تكون سعيًا لتقريب القانون الوضعي من مبادئ الشريعة قدر الإمكان، وليس رضًا بالتشريع المخالف أو إقرارًا له.

وقد فهم كبار العلماء المعاصرين هذا التوازن بوضوح.

حتى ممن عُرفوا بصرامة الموقف من القوانين الوضعية – كالشيخ أحمد شاكر رحمه الله – نجد عندهم تفريقًا بين التشريع المطلق الذي يعدّ شركًا، وبين دخول البرلمانات بنية تحكيم شرع الله. يقول أحمد شاكر (وكان من أشد الناس إنكارًا على التشريع المناقض للإسلام): “إذ ذاك سيكون السبيل إلى ما نبغي من نصر الشريعة: السبيل الدستوري السلمي… ثم نصاولكم عليها في الانتخاب… فإذا وثقت الأمة بنا… واختارت أن تحكم بشريعتها طاعةً لربها، وأرسلت منا نوابها إلى البرلمان… فنجعل القوانين كلها مستمدة من الكتاب والسنة.([1])

 فهذا العالم الجليل رغم تشديده في إنكار الحكم بغير ما أنزل الله، لم يعدّ دخول البرلمان سبيلاً لتحكيم الشريعة أمرًا محظورًا، بل رآه طريقًا للإصلاح الدستوري التدريجي.

الخلاصة: التشريع المطلق حق لله لا ينازعه فيه مسلم، أما التقنين البشري المقيد للمصالح العامة فمجاله أوسع، والمعتبر فيه موافقته لمقاصد الشرع وعدالة أحكامه وعدم مخالفته القطعيات. والمشاركة في سنّ القوانين لإقرار العدل أو تقليل الظلم ليست خروجًا عن هذا الإطار، بل قد تكون واجبة أو مستحبة إن كانت وسيلة لإحقاق الحق.

الشرك في التشريع وحكم المشاركة السياسية

انطلاقًا مما سبق، تتضح الإجابة عن مسألة الشرك في التشريع: هل تُعدُّ المشاركة السياسية (ترشحًا أو تصويتًا) دخولا في التشريع بغير ما أنزل الله، وبالتالي شركًا أكبر؟

إن الشرك في التشريع يتحقق عندما يُضفي الإنسانُ صفة الشرعية الدينية على حكم بخلاف شرع الله، كأن يستحلّ الحرام أو يحرّم الحلال اتباعًا لقانون بشري وهو يعلم حكم الله فيه. أما المسلم الذي يدخل العملية السياسية متمسكًا بعقيدته، مقرًّا بأن شريعة الله هي الحق وأن ما خالفها فهو باطل، فهذا لا يمكن تكفيره لمجرد عمله السياسي.

وقد قرر ذلك مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا وغيره من المجامع، حيث أكدوا أنه لا تلازم بين مجرد الدخول في المجالس النيابية وبين الوقوع في الشرك الأكبر، بل الأمر مرتبط بنيّة المشارِك وغرضه

وجميع من أباح الدخول في تلك المجالس نبّه على هذا”​ أي أن هناك فرقًا واضحًا بين من يشارك راضيًا مستحسنًا للقوانين المناقضة للإسلام، وبين من يشارك كارها لها ساعيًا لتغييرها.

لقد صرّح الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله – بهذا التفريق بجلاء. فحين سُئل عن حكم الترشيح لمجلس يُشرّع بغير ما أنزل الله وعن استخراج بطاقة انتخاب بنيّة انتخاب الصالحين، أجاب: “لا حرج في الالتحاق بمجلس الشعب (البرلمان) إذا كان المقصود من ذلك تأييد الحق وعدم الموافقة على الباطل، لما في ذلك من نصر الحق والانضمام إلى الدعاة إلى الله.

 كما أنه لا حرج كذلك في استخراج البطاقة التي يُستعان بها على انتخاب الدعاة الصالحين وتأييد الحق وأهله.

وبناءً عليه أوضح أن حكم المشاركة يختلف باختلاف النية؛ فإن دخل بنية الموافقة على الباطل المحرّم كان حرامًا، وإن دخل بنية إنكار المنكر وتقليل الشرور فليس بحرام​ ولم يعتبِر ابن باز مجرد الدخول شركًا، بل عده معصيةً أو طاعةً حسب قصد الداخل وموقفه من أحكام الله​،  وهذا نقله الشيخ مناع القطان في كتابه عن معوقات تطبيق الشريعة مؤيدًا له.

ونجد الموقف نفسه عند الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله – الذي لم يكتفِ بالجواز، بل ذهب إلى وجوب المشاركة درءًا للمنكر؛ قال في فتوى له بشأن الانتخابات في بلد إسلامي: “أرى أن الانتخابات واجبة، يجب أن نعيّن من نرى أنّ فيه خيرًا، لأنه إذا تقاعس أهل الخير، من يحل محلهم؟ أهل الشر؟ … فلابد أن نختار من نراه صالحًا. فإذا قال قائل: اخترنا واحدًا لكن أغلب المجلس على خلاف ذلك، نقول: لا بأس، هذا الواحد إذا جعل الله فيه بركة وألقى كلمة حق في هذا المجلس سيكون لها تأثير ولابد ([2]).”​

فقوله “واجبٌ أن نختار من فيه خير” صريحٌ في أن ترك الساحة لأهل الباطل لا يجوز شرعًا إذا تيسر وجود من يمثل الحق.

وهذا عين ما نراه في واقع المسلمين بالغرب؛ فإن مقاطعة الانتخابات بالكلية لا تؤدي إلا إلى فسح المجال أمام من قد يسيء للمسلمين ويهضم حقوقهم، بخلاف المشاركة التي تعطي فرصة لإيصال أصواتهم ودفع الشر عنهم.

من ناحية عقدية، يستدل مثيرو شبهة الشرك بقوله تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ﴾ [الشورى:21]، وبقوله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا﴾ [التوبة:31].

وهي نصوص صحيحة المعنى في ذم من يُضفون صفة الديانة على تشريعات باطلة أو يتبعون الأحبار في تحليل الحرام وتحريم الحلال.

 لكن تطبيقها ينصرف إلى من اتبع تشريعًا مخالفًا لهدى الله على أنه دينٌ له وطاعة.

أما المسلم الذي يضطر للتعامل مع نظام قانوني مخالف، دون أن يعتقد بصحته دينيًا، بل يسعى لتغييره بالوسائل المشروعة، فلا تنطبق عليه هذه الآيات.

وأوضح دليل على ذلك ما فعله العبد الصالح النجاشي (ملك الحبشة) الذي حكم قومه بالعدل وهو على دين النصرانية ثم أسلم سرًا، ولم يكن قادرًا على تطبيق أحكام الشريعة كاملة في قومه، ومع ذلك صلّى عليه النبي ﷺ لما علم بإسلامه​ .

فهذا مثالٌ على شخص مؤمنٍ لم يستطع تغيير نظام غير إسلامي بالكامل، ولم يُعتبر كافرًا أو مشركًا بسبب منصبه. وعلى النهج نفسه يُقاس المسلم الذي يدخل برلمانًا أو يصوّت في انتخابات بنيّة دفع الظلم مع بقائه معتزًا بعقيدته؛ فهو لم يجعل المشرعين أربابًا من دون الله، بل اتخذ موقفًا لتقليل الباطل قدر الإمكان.

ولهذا قالت هيئة كبار العلماء بالسعودية (اللجنة الدائمة) في فتوى رسمية: “لا يجوز للمسلم أن يرشح نفسه [لحكومة تحكم بغير ما أنزل الله]… إلا إذا كان من رشّح نفسه ومن ينتخبونه يرجون بالدخول الوصول إلى تحكيم الشريعة… على ألا يعمل المرشَّح بعد دخوله إلا في مناصب لا تتنافى مع الشريعة الإسلامية.

فهذا استثناء صريح يبيح الدخول بقصد تغيير النظام من داخله، ويشترط عدم الوقوع فيما يخالف الدين أثناء العمل.

. فالتعميم بدون تفصيل يتجاهل نية المشاركين ومقاصدهم الواضحة في كثير من الأحيان.

ومعظم العلماء الذين أباحوا التصويت والترشّح نبّهوا على ضرورة إنكار القلب لكل تشريع مخالف، واتخاذ المشاركة سبيلًا لإحقاق الحق لا لممالأة الباطل​.

وعليه، فالمشاركة السياسية بحد ذاتها ليست شركًا ولا كفرًا، بل حكمها تابع لغاية المشارِك ومآل فعله: فإن كان قصده وجُهده دعم الباطل حُرم عليه ووقع في الإثم، وإن كان قصده نصرة الحق وتقليل الباطل كان مأجورًا إن شاء الله. وفي الحالة الأخيرة لا يتحقق أي معنى من معاني الشرك، لأن قلبه وسعيه مطمئنّان لحاكمية الله ودينه، وإنما يتخذ من الوسيلة المتاحة ما يخدم به دينه وأمّته.

قاعدة المصالح والمفاسد وتطبيقها على الانتخاب

قرر الفقهاء عبر القرون أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد أو تقليلها​.

وهذه قاعدة عظيمة تسمى قاعدة جلب المصلحة ودرء المفسدة، مستدلين عليها بنصوص كثيرة مثل قوله ﷺ: (لا ضرر ولا ضرار) (حديث صحيح رواه ابن ماجه).

 وعند النظر إلى حالة المسلمين في الغرب، نجد أن المشاركة في الانتخابات وسيلة لتحقيق مصالح شرعية لا يمكن تجاهلها، وكذلك وسيلة لتجنب مفاسد كبيرة قد تقع إن ترك المسلمون الساحة السياسية.

 لذلك اعتبرت المجامع الفقهية المعاصرة هذه المسألة من مسائل الاجتهاد المصلحي التي تختلف حسب الظروف.

جاء في قرار المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة عام 2007م ما نصه: “مشاركة المسلم في الانتخابات مع غير المسلمين في البلاد غير الإسلامية من مسائل السياسة الشرعية التي يُتقرر الحكم فيها في ضوء الموازنة بين المصالح والمفاسد، والفتوى فيها تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال.([3])

فهذا الإطار المنهجي يعني أن الحكم ليس ثابتًا بالمنع أو الوجوب في كل ظرف، وإنما يراعي نتائج المشاركة في كل بلد وزمان.

وقد وضّح المجمع نفسه نتيجة الموازنة العامة بقوله في القرار ذاته: “يجوز للمسلم الذي يتمتع بحقوق المواطنة في بلد غير مسلم المشاركة في الانتخابات النيابية ونحوها لغلَبة ما تعود به مشاركته من المصالح الراجحة، مثل تقديم الصورة الصحيحة عن الإسلام، والدفاع عن قضايا المسلمين في بلده، وتحصيل مكتسبات الأقليات الدينية والدنيوية، وتعزيز دورهم في مواقع التأثير، والتعاون مع أهل الاعتدال والإنصاف لتحقيق التعاون القائم على الحق والعدل.

في هذه العبارة يعدد كبار العلماء جملةً من المصالح الكبيرة المترتبة على مشاركة المسلم في الانتخابات الغربية، منها: تحسين صورة الإسلام وإظهار انخراط المسلمين الإيجابي في مجتمعهم، والدفاع عن قضاياهم وحقوقهم المدنية والدينية، ونيل مكاسب للأقلية المسلمة (كحماية حريتهم الدينية وتأمين متطلباتهم كالذبح الحلال وتعليم أبنائهم)، وتعزيز تمثيلهم في مواقع صنع القرار حتى لا يُتخذ قرار مصيري دون صوت لهم. يضاف إلى ذلك التعاون مع المنصفين من غير المسلمين لتحقيق العدل – كتعاون المسلمين مع ساسة معتدلين ضد سياسات تمييزية أو ظالمة – وهذا أيضًا مصلحة شرعية معتبرة لأن العدل مطلوب مع كل أحد والظلم مرفوض على كل أحد.

في المقابل، ما هي المفاسد المحتملة من المشاركة؟

قد يذكر المعارضون أنها إقرار بالباطل أو تعريض لدين المسلم للفتنة .

لكن هذه المفاسد ليست حتمية في كل مشاركة، بل يمكن تفاديها بالضوابط (كما سيأتي).

أما لو قورنت المفاسد المتحققة من ترك المشاركة بالمفاسد المتوقعة من المشاركة، لاتضح أن ترك الساحة أسوأ بكثير.

فمن مفاسد المقاطعة: استفراد أهل الأجندات المعادية للإسلام بالسلطة دون أي معارضة، وسنّهم قوانين ربما تضيّق على المسلمين في عباداتهم أو مؤسساتهم، وعدم اكتراث السياسيين بمصالح الجالية المسلمة.

من ناحية أخرى، لو افترضنا أن في المشاركة بعض المفسدة (مثل التعرض لحملة إعلامية أو تنازلات طفيفة)، فإن فقه الموازنات يقتضي النظر: هل هذه المفسدة أعظم أم المفسدة المقابلة المترتبة على المقاطعة؟ الغالب عقلاً وشرعًا أن مفسدة التخلّي عن الساحة السياسية أكبر وأخطر من مفسدة الدخول مع تحفّظ.

 ولهذا أصل شرعي متين؛ فقد أقر النبي ﷺ صلح الحديبية مع ما فيه من بنود مجحفة بالمسلمين، نظرًا لما يترتب عليه من مصالح أعظم (وقف الحرب ونشر الدعوة)، فكان قبول بعض الشروط المزعجة أقلّ مفسدةً من استمرار القتال وقتها. وكذلك وافق ﷺ على إعطاء ثلث ثمار المدينة لعيينة بن حصن عام الخندق دفعًا لشره عن المدينة، ثم صرفه الله عن ذلك ولم يتم؛ والمقصود أنه راعى المصلحة الأعظم​.

. فإذا كان الشرع يجيز التنازل عن بعض المصلحة أو تحمل شيء من المفسدة في سبيل تحقيق مصلحة أعلى أو دفع مفسدة أعظم، فبالأولى أن يجوز خوض العمل السياسي غير المثالي لتحقيق مصالح الدين والدنيا للمسلمين ودفع مظالم جسيمة عنهم.

وخلاصة الأمر وفق قاعدة المصالح والمفاسد: إذا غلبت المنافع المرجوة للمسلمين من المشاركة على المضار المحتملة، كانت المشاركة مشروعة بل قد تصل للوجوب.

أما إن غلبت المفاسد في حالة خاصة – كأن تؤدي المشاركة إلى فتنة أكيدة في الدين دون أي نفع يُرجى – فحينها قد يُقال بالمنع المؤقت.

قاعدة “اختيار أخف الضررين” كأساس فقهي

يرتبط بقاعدة الموازنة مبدأ فقهي أصيل هو ارتكاب أخف الضررين لتفويت أشدهما.

هذه القاعدة متفرعة عن القواعد الكبرى وعبّر عنها العلماء بقولهم: “إذا تعارضت مفسدتان رُوعي أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما.​

ومعناها أنه إذا وجد أمام المكلف طريقان كلاهما ينطوي على ضرر أو شر، فإنه يجب عليه سلوك الطريق الذي فيه الضرر الأخف لدفع الضرر الأشد.

وفي حالة المسلمين في بلاد الغرب، قد يقول البعض إن المشاركة في نظام تشريعي غير إسلامي تحمل ضررًا على الهوية أو نوعًا من التنازل.

حتى لو سُلّم بوجود شيء من الضرر في المشاركة (جدلًا)، فإن الضرر المقابل للترك أشد وأعظم كما بيّنا: ترك المجال بالكلية يعرّض المسلمين لضرر الاستضعاف وضياع الحقوق وربما فتنة الدين تحت ضغط القوانين الجائرة.

فلو وُجدت مفسدة ما في التصويت (كاضطرار لاختيار مرشح غير مسلم مثلًا أو حزب علماني لكنه الأقل عداءً للدين)، فإن هذه المفسدة مغمورة في جنب مفسدة نجاح مرشح أشد عداوة أو صدور قوانين أشد ظلمًا للمسلمين إن لم يصوتوا. لذا يكون التصويت هنا من باب ارتكاب أخف الضررين ولا حرج فيه شرعًا، بل هو الحكمة والصواب.

وقد طبّق العلماء المعاصرون هذه القاعدة صراحةً في شأن الانتخابات. فمثلاً، قرر المجلس الأوروبي للإفتاء أن الأصل جواز الترشيح والتصويت، بل قد يجب إذا تعيّن سبيلًا لتحقيق مصلحة أو دفع مفسدة.

​ وأكد المجلس في بيان له أن ترك الانتخابات أحيانًا يسبب ضررًا أعظم من المشاركة مع التحفظ، لذا وجب على المسلمين اختيار السياسات التي تخفف الشر عنهم ولو كانت غير مثالية.

كما أفتى الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي – وهو من كبار علماء موريتانيا المعاصرين – بأن المشاركة في الانتخابات واجبة في حال كان أحد المرشحين سيئًا والآخر أسوأ بكثير؛ ففي هذه الحالة يتعين دعم الأقل سوءًا تفاديًا لانفراد الأسوأ بالحكم، وهذا من باب ارتكاب أخف الضررين (الفتوى مشهورة عنه في سياق انتخابات بعض الدول الإسلامية).

 وذكر أهل العلم قاعدةً ذات صلة: “ما لا يُدرك كله لا يُترك جله”، أي إذا لم نستطع تحقيق الكمال (تطبيق الشرع كاملاً عبر السلطة) فلا ينبغي أن نترك تحقيق ما أمكن من الخير أو تقليل الشر.

 فالمشاركة السياسية قد لا توصل لكل ما يريد المسلم من تطبيق أحكام دينه، لكنها تضمن على الأقل تقليل الشرور وحفظ الحد الأدنى من الحقوق الدينية والدنيوية، وهذا خير من العدم.

والجدير بالذكر أن من يرفضون مبدأ “أخف الضررين” في الانتخابات يقعون في تناقض عملي، لأنهم سيضطرون إليه في شؤون حياتهم الأخرى. فمن يقاطع الانتخابات مثلاً قد يضطر لمسايرة قوانين أشد سوءًا فُرضت عليه نتيجة مقاطعته، فيكون قد وقع في ضرر أكبر.

 ومن هذا المنطلق، نقول لمسلمي الغرب: إذا وُجد مرشح أو حزب يناصبكم العداء ويهدف لتقييد حريتكم الدينية، وآخر – وإن لم يطبق الشريعة – لكنه أكثر عدلًا ويَعِد بصيانة حقوقكم، فإن الواجب الشرعي اتخاذ موقف فعّال لدعم الخيار الذي فيه ضرر أقل، دفعًا للضرر الأكبر المتمثل بفوز المعادي المتشدد.

من جهة أخرى، العمل السياسي المنظم يجنّب الأقلية المسلمة حالة الانعزال ويعطيها صوتًا مسموعًا.

فإذا ظُلِمت مجموعة مسلمة أو اعتُدي على حق من حقوقها، كان وجود ممثلين عنها في البرلمان أو المجالس المحلية عاملًا أساسيًا في رفع الظلم، عبر سن قوانين تجرّم التمييز مثلاً، أو استصدار قرارات لصالحهم.

وقد شهدنا حملات معادية للمسلمين (كظاهرة الإسلاموفوبيا) يتم مواجهتها حاليًا بالقانون والمؤسسات في الغرب، ولن يكون للمسلمين تأثير حقيقي في صد هذه الحملات إلا باشتراكهم في العملية السياسية.

وقد ذكرت إحدى الدراسات أن نسبة المشاركة الانتخابية للمسلمين أصبحت مؤشرًا لصانعي القرار؛ فكلما ارتفعت، زاد اهتمام السياسيين بمخاطبة مطالبهم وإدراجها ضمن البرامج​.

 وهذا ينعكس إيجابًا على نيل المسلمين حقوقهم الدستورية كاملةً وعدم التفريط فيها.

حكم الاستعانة بغير المسلمين لتحقيق مصالح المسلمين

من الشبهات المطروحة كذلك القول بأن تعاون المسلمين مع غير المسلمين في العمل السياسي محرّم أو لا يجوز شرعًا.

وهذه الشبهة تُدحض بالرجوع إلى السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي، فضلاً عن فهم المقاصد الشرعية. فقد استعان النبي ﷺ نفسه بغير المسلمين في مواقف مختلفة مع ضمان عدم تأثيرهم السلبي على دين المسلمين.

من ذلك أنه استعان بدليل مشرك ليهديه طريق الهجرة إلى المدينة المنورة، وائتمنه على ذلك​

. وفي عهد النبي ﷺ أيضًا كان هناك حلف قائم بين المسلمين وبعض القبائل اليهودية في المدينة (صحيفة المدينة) يضمن التعاون على الدفاع عن المدينة ضد المعتدين.

هذه كلها أمثلة شرعية على جواز الاستعانة بغير المسلم في تحقيق مصلحة راجحة للمسلمين، بشرط ألا يكون في ذلك ضرر أو فتنة.

وفي واقع المسلمين اليوم في الغرب، تحصيل مصالحهم وحمايتها يستلزم التعاون مع جيرانهم ومواطنيهم من غير المسلمين.

وبالتالي لابد من بناء تحالفات مع الفئات العادلة والمنصفة في المجتمع لتحقيق الخير العام ودرء الشر​.

أما أدلة المانعين (كحديث “لا نستعين بمشرك”) فهي حالات خاصة في ظروف القتال وعند عدم الثقة بصدق ولاء ذلك المشرك.

 أما إن كان غير المسلم مسالمًا أو حليفًا، وجلبُ عونه يحقق مصلحة عامة دون أن يترتب عليه ضرر ديني، فلا حرج في الاستفادة من دعمِه.

وقد قبل الرسول ﷺ جوارَ بعض المشركين لحمايته في مكة (كجوار المطعم بن عدي)

​ وقبل هدايا بعض الملوك غير المسلمين. كل ذلك يؤكد عدم التعارض المبدئي بين الاستعانة بغير المسلم وتحقيق التوحيد، إذا كان قصد المسلم ابتغاء مصلحة راجحة لدينه أو جماعته.

وفي الواقع السياسي، قد يكون المرشح الأفضل للمسلمين غير مسلم لكنه عادل ومنصف، وانتخابه يجلب مصالح أكبر من مرشح آخر مسلم لكنه فاسد أو ظالم أو لا وزن له.

فرعاية مصلحة الجماعة المسلمة حينئذ تقتضي اختيار العادل الكفء ولو كان غير مسلم، وهذا جائز شرعًا.

الشروط والضوابط الشرعية للمشاركة السياسية

اتفق العلماء المجيزون للمشاركة السياسية على أنها ليست إذنًا مفتوحًا بلا ضوابط، بل وضعوا شروطًا وتحفظات تضمن بقاء المشاركة في الإطار الشرعي وعدم انزلاق المسلم فيما حرم الله. ومن أهم الشروط والضوابط التي قررتها المجامع والفتاوى الجماعية في هذا الباب ما يلي:

  • تصحيح النية والقصد: ينبغي أن يقصد المسلم بمشاركته خدمة مصالح المسلمين ومصالح المجتمع المشروعة ودفع المفاسد عنهم​ فالنية منصرفة إلى نصرة الحق وإنكار المنكر ما أمكن، لا طلب الجاه أو المنفعة الشخصية.
  • ترجيح المصلحة المتوقعة: يشترط غلبة الظن عند المسلم المشارِك بأن مشاركته ستحقق نتائج إيجابية أو تمنع ضررًا بيّنًا​ فإن غلب على الظن عكس ذلك (كأن تكون المشاركة صورية لا تأثير لها، أو يترتب عليها أذى أكبر)، جازت المقاطعة حينئذ.
  • عدم التنازل في أمور الدين: وهذا قيد جوهري، إذ لا يجوز أن تؤدي المشاركة إلى تفريط المسلم في شيء من دينه​ فإن طلب من المرشح المسلم مثلًا أن يُقرّ بخطأ نص شرعي قطعي أو أن ينبذ ولاءه لدينه، حرم عليه ذلك ولا خير في منصب يأتي عبره.
  • وكذلك لا يسوغ للمنتخَب أن يُصوّت صراحةً لصالح قانون يناقض أصلًا قطعيًا من الدين (كإلزام المسلمين بمعصية)، بل عليه إن لم يستطع منعه أن يسجّل اعتراضه على الأقل، وبشكل عام، الثوابت غير قابلة للمساومة، أما المسائل الاجتهادية أو السياسية البحتة فيعمل فيها بفقه الموازنة.
  • الالتزام بالأخلاق الإسلامية في العملية السياسية: نبه العلماء أن المشاركة لا تعني تبني أساليب السياسة غير المشروعة. فلا غشّ ولا تزوير ولا سباب ولا خيانة​، فعلى المسلم أن يكون قدوة في الصدق والأمانة والوفاء بالعهود، وأن يحترم خصمه السياسي ضمن حدود الأدب ولو اختلف معه.
  • التنافس النزيه وتجنب التشهير الشخصي​ فالمسلم يصون لسانه ويده عن المحرمات خلال الحملة الانتخابية وبعد الفوز، وهذا في الحقيقة يظهر سماحة الإسلام وينزع فتيل التوتر، فيجعل خصومه يحترمونه وربما يقبلون كلمته، ويدخل في هذا أيضًا احترام القوانين النافذة ما دامت لا تجبر على معصية، لأن الالتزام بالقانون من الوفاء بالعهد (فالمسلمون حين قبلوا المواطنة قبلوا قانون البلد في الجملة). فلا يجوز مثلاً شراء الأصوات بالغش أو انتهاك قوانين الاقتراع، بل يتحرى الطرق المشروعة، مستحضرًا قول النبي ﷺ: (من غش فليس منا)
  • اختيار المرشحين الأكفاء الصالحين: على الناخبين المسلمين تحرّي أفضل المرشحين أو الأحزاب من حيث عدالتهم وخدمتهم للناس وخاصة موقفهم من قضايا المسلمين. فإن وجد مسلمٌ كفء نزيه فهو أولى بالدعم. وإن لم يوجد مسلم ذو حظوظ، اختير أنفع غير المسلمَين للمصلحة العامة​، وهذا مبني على قاعدة أخف الضررين التي سبق شرحها.
  • مراعاة فقه الأولويات: أي تقديم الأهم فالمهم في العمل السياسي. فمثلًا، أولوية حماية حرية الدعوة وبناء المؤسسات الدينية مقدمة على أولوية الحصول على مناصب رفيعة. فإن اضطر المسلمون للمفاضلة ركزوا على صيانة هويتهم وحقوقهم الأساسية أولاً. وكذلك يقدمون مرشحًا يدعم قضاياهم الوجودية (كالأمن وحرية الدين) على مرشح يعدهم بمكاسب مادية أقل أهمية. هذا الفقه ضروري حتى لا ينشغل المسلمون بقضايا فرعية وينسوا ما هو أخطر.
  • عدم الذوبان والتنازل المستمر: إذ يحذّر العلماء المشاركين من خطورة الافتتان بالمنصب أو اللعبة السياسية. فالسلطة لها بريق، والبيئة من حول المسؤول قد تضغط عليه ليقدّم تنازلات متتالية. لذا يجب أن يكون ذو حصانة إيمانية واستقامة معروفة، وأن يُذكَّر دائمًا من إخوانه بخطورة أي خطوة انحراف. إنما أباحوا المشاركة لتحقيق الخير لا ليتلوّن المسلم مع كل ريح. فإن وجد في نفسه ضعفًا شديدًا وخشي الوقوع في الحرام، فليترك المنصب ويسلم منه دينه. لكن الأصل مع التربية الإيمانية الصحيحة أن يكون السياسي المسلم أثبت من غيره على المبدأ لقوة يقينه واحتسابه الأجر من الله.
  • النساء شقائق الرجال في هذا الواجب: فقد نص الفقهاء على أن مشروعية المشاركة تشمل المرأة المسلمة كالرجل​ فللمرأة المسلمة البالغة حق التصويت وحق الترشح وفق الضوابط الشرعية (كالحشمة وأن تكون الوظيفة ملائمة لطبيعتها). وكم من سيدة مسلمة في الغرب أثبتت كفاءة في العمل العام وكانت نصيرة لقضايا الجالية. فالقول بجواز المشاركة يشمل الجميع دون تمييز، بل قد يكون للنساء دور أكبر أحيانًا في إيصال صوت الأسرة المسلمة.

هذه أهم الضوابط، وقد أكّدتها قرارات المجلس الأوروبي للإفتاء​ والمجمع الفقهي بمكة​ وغيرهما بصيغ متقاربة. ويلخّص مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا شروط المشاركة بثلاثة: إخلاص النية للمصلحة العامة، وغلبة الظن بالنفع، وعدم التفريط في الدين​ فإن التزم المسلمون بهذه الضوابط، كانت مشاركتهم مأجورة محمودة، تعود بالخير عليهم وعلى مجتمعهم، ويندفع بذلك كثير من الشر والظلم.

خاتمة

بعد هذا العرض المفصل، يتبيّن ضعف قول من حرّم مشاركة المسلمين في الانتخابات الديمقراطية ووصمها بالشرك.

لقد ثبت بالأدلة الشرعية والنقول عن كبار العلماء أن المشاركة السياسية للأقلية المسلمة جائزة بل قد تصبح واجبة، وليست في ذاتها كفرًا ولا شركًا ما دام المسلم محافظًا على ولائه لدينه ومحكّمًا قيمه في مشاركته​ وفهمنا الفرق الجوهري بين التشريع الرباني المطلق الذي لا يجوز صرفه لغير الله، وبين التشريع البشري المقيد الذي يسنه الناس لتنظيم شؤون دنياهم تحت مظلة المقاصد الشرعية.

وتبيّن أن المسلم يستطيع الدخول في نظام ديمقراطي بنية إصلاحه وتقويمه، دون الرضا بعوجه، فلا يقع في أي محرّم عقدي.

كما أن قاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد تؤيد وجوب انتهاز الفرصة السياسية لنفع المسلمين ودفع الأذى عنهم، وقاعدة أخف الضررين تجيز تحمل مخالفة جزئية لدفع مفسدة كلية أعظم.

وقد رأينا إجماعًا معاصرًا من جهات متعددة على هذه الخلاصة: المجمعات الفقهية العالمية، والهيئات الأوروبية والأمريكية للإفتاء، وكبار العلماء من مختلف الاتجاهات – كلهم أقروا مشروعية مشاركة المسلمين في الانتخابات في الدول غير الإسلامية ضمن الضوابط الشرعية​ بل إن التصويت والانتخاب أصبح وسيلة من وسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باللسان واليد (من خلال التأثير في القوانين والسياسات).

إن تكفير المسلمين أو تخويفهم من الشرك بسبب عمل سياسي مشروع هو من التنطّع في الدين الذي حذّر منه النبي ﷺ بقوله: )هلك المتنطعون(. وقد أدى ذلك الفكر المتشدد في فترة سابقة إلى عزوف الكثيرين عن المشاركة، فخسرت الجاليات المسلمة مكاسب مهمة لا تعوض.

أما اليوم، فمع وعي المسلمين وفقههم بفتاوى العلماء ، أدركوا أن حق التصويت أمانة ومسؤولية عليهم أداؤها تحقيقًا للعدل وحفظًا للحقوق.

وأخيرًا، نؤكد أن المشاركة السياسية للمسلمين في الغرب بابٌ من أبواب الاجتهاد والمصالح المرسلة التي يجب مراعاتها بمرونة وحكمة.

 فإن ظهرت في الواقع سلبيات، عولجت بالنصح والتصحيح، لا بنسف المبدأ من أساسه.

 وقد أثبتت التجارب أن وجود المسلمين في المشهد السياسي يزيد من تفهم المجتمعات الغربية للإسلام ويصحح الصور المغلوطة، ويتيح للمسلمين الدفاع عن عقيدتهم وثقافتهم ضمن الأطر القانونية المتاحة. وبذلك يسهمون في تحقيق العدل والخير المشترك الذي هو غاية كل شرع سماوي وكل عقل سليم.

 نسأل الله تعالى أن يلهم المسلمين رشدهم، ويهيّئ لهم من أمرهم مرفقًا، وينصر الحق وأهله حيث كانوا إنه نعم المولى ونعم النصير. والله أعلم.

تمت الدراسة الفقهية بحمد الله تعالى

وكتبه /د. حسين عامر
27 إبريل 2025
لافال – كندا


([1]) alabasirah.comalabasirah.com

([2]) المرجع السابق

([3]) https://islamqa.info/ar/answers/111898/%D9%85%D8%B4%D8%A7%D8%B1%D9%83%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%86%D8%AA%D8%AE%D8%A7%D8%A8%D8%A7%D8%AA-%D9%85%D8%B9-%D8%BA%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86#:~:text=1,%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%87%D8%A7%D9%85%20%D9%81%D9%8A%20%D8%AA%D8%AD%D8%B5%D9%8A%D9%84%20%D9%85%D8%B5%D8%A7%D9%84%D8%AD%20%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86%D8%8C

 


اترك ردا

بدريك الإلكتروني لان يتم نشره.


قناة فتاوى أون لاين

تم إنشاء قناة جديدة تحت عنوان فتاوى أون لاين للإجابة على الفتاوى الشرعية
رابط الانضمام

رابط تيليجرام

الواتس اب

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

هو الشيخ  الدكتور/ حسين محمد عامر من مواليد بلبيس بمحافظة الشرقية -مصر-عام 1976 م . الشهادات العلمية : 1- أتم حفظ القرآن وهو ابن الرابعة عشر عاما ، وحصل على إجازة برواية حفص بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على يد شيخه يوسف عبد الدايم -رحمه الله- . 2-  حصل على الإجازة

تاريخ الإضافة : 16 أبريل, 2025 عدد الزوار : 14070 زائر

خطبة الجمعة

تفسير القرآن العظيم

شرح صحيح البخاري

شرح مدارج السالكين