خطبة عيد الأضحى :يوم الحج الأكبر

تاريخ الإضافة 14 يونيو, 2024 الزيارات : 7905

بالأمس وقف الحجيج على صعيد عرفات وقد باهى الله بهم ملائكته وقال انظروا إلى عبادي أتوني شعثا غبرا ضاحين من كل فج عميق يرجون رحمتي و لم يروا عذابي أشهدكم أني قد غفرت لهم )

يوم عرفة هذا اليوم الذي أتم الله فيه النعمة باتمام الدين ونزل قول الحق سبحانه (اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام ديناً)
في الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً من اليهود له: يا أمير 

المؤمنين آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً فقال: أي آية: قال: { اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام ديناً ) فقال عمر : إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه ، و المكان الذي نزلت فيه : نزلت و رسول الله صلى الله عليه و سلم قائم بعرفة يوم الجمعة . )

واليوم هو يوم الحج الأكبر يوم النحر، العاشر من ذي الحجة، وهو المشار إليه في قوله تعالى: ( وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ ) (التوبة: 3 ) وسُمي بذلك لكثرة الأعمال فيه.

و يومنا هذا يوم النحرمن أفضل الأيام لحديث عبد الله بن قرط ” عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : (أعظم الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم النفر ) ، خرجه الإمام أحمد

ويوم النفر هوالثاني عشر من ذي الحجة ؛ لأنه يجوز النفر فيه لمن تعجل.

الحج دروس وعبر

وفي الحج دروس كثيرة نتوقف مع بعضها :

أثر الحج في غرس عقيدة التوحيد:

فالحج هو أحد الشعائر التي شُرِعت لتحقيق العبودية لله تعالى وحده، والبراءة من الشرك وأهله. والحاج لا يدعو نبيًا، ولا وليًا، ولا كعبة، ولا قبرًا، ولا حجرًا… ولكنه يدعو الله تعالى وحده، فيقول: “لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك”.

وهو – وإن طاف بالبيت- فإنما يطوف طاعة لله تعالى، وتعظيمًا لشعائره، وإن قبَّل الحجر الأسود، فإنما يُقَبِّله كما كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يُقَبِّله، وقد قَبَّله عمر – رضي الله عنه -، وقال: “إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يُقَبِّلك ما قَبَّلتك”.

وإن رمَى الجمار، فإنما يرميها لإقامة ذكر الله تعالى، كما في حديث عائشة الذي سبق: “إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله – عز وجل -“.

ولعل من الحقائق التاريخية الدامغة الواقعة أن الكعبة المشرفة والحجر الأسود هما الشيئان الوحيدان اللذان لم يعبدهما العرب قط على رغم جاهليتهم الجهلاء؛ فقد عبدوا الأشجار، والأحجار، والأوثان، واللات، والعزى، ومناة الثالثة الأخرى… ولكن لم يَرِد أنهم عبدوا الكعبة أبدًا، ولا عبدوا الحجر الأسود، ولا عبدوا تلك المشاعر. وهذه آية بينة باقية دامغة على كل من يَدَّعون الوثنية في الحج ، أو يَدْعون إليها.

الدرس الثاني المسلمون أمة واحدة

لقد حرص الإسلام على إعلاء قيمة وحدة المسلمين، وارتباطهم ببعضهم البعض في كل الصور؛ لذلك ربط العبادات في معظمها بذلك الرباط الذي يجمع المسلمين معًا، فهم يتجهون إلى قبلة واحدة مهما تعددت أماكن إقامتهم؛ وهي الكعبة المشرفة بمكة المكرمة وهم يعبدون إلهًا واحدًا، وينبذون غيره من الأنداد والشركاء، ويشهدون له بالوحدانية كل يومٍ عدة مرات، وهم يصومون شهرًا واحدًا مهما اختلفت مطالع الشهر في بلدانهم، إلا أنهم يشتركون في صيام غالب أيام الشهر في مظهر بديع؛ ولكنهم في الحج يجتمعون معًا في يوم واحد على صعيد واحد؛ عرفات- يهتفون بهتاف واحد- مهما تعددت اللغات واللهجات- يقصدون ربًّا واحدًا، يطلبون طلبًا مشتركًا للجميع وهو مغفرة الذنوب ورضوانه، قبل أي مطالب أخرى، ويعيشون معًا في منى، ويرجمون نصب الشيطان معًا لإظهار العداوة له والبراءة منه.

هذا كله عمل مشترك لملايين المسلمين باختلاف ألوانهم وأشكالهم وتعدد لغاتهم ولهجاتهم وتنوع طبقاتهم وثرواتهم وهمومهم، يجسد معنى وحدة أمة الإسلام، وهو أعلى أنواع الدروس أثرًا في النفوس، فهل استفاد المسلمون من فريضة الحج لاستعادة تلك الوحدة على أرض الواقع؟

إن النفس لتحزن وإن العين لتدمع على تفرق المسلمين وتشرذمهم وانقسامهم، رغم تكرار ذلك الدرس عامًا بعد عام، ويزداد التفكك والانقسام حتى يصل إلى البلد الواحد كالعراق والسودان ، وفي حين نرى العالم كله يحرص على الوحدة والاجتماع، ودول كالصين تسعى بكل قوة لاستعادة أجزاء انفصلت عنها بعوامل الاستعمار والتاريخ مثل “هونج كونج”، و”تايوان”، وترفض بكل حزم دعاوى الانفصال أو التفرق في “التبت” و”تركستان الشرقية”

وأوربا كلها توحدت في اقتصادها وعملتها من خلال الاتحاد الأوربي .

إذا كان الشعور بإحساس الأمة الواحدة من الأهداف الرئيسة للحج، ولن يتواجد هذا الشعور والخلاف والشقاق منتشر بين أجزاء هذه الأمة، فتجده بين أبناء البلد الواحد، والمدينة الواحدة، بل وبين أبناء البيت الواحد أحيانًا..

الدرس الثالث “مظهر المساواة بين المسلمين“.

في الحج كما في الصلاة نرى حرص الإسلام على إعلاء قيمة المساواة بين البشر وبين المسلمين، فالكل لآدم وآدم من تراب، ولا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى والعمل الصالح.

نجد مظاهر المساواة في الحج عديدة، فالرجال جميعًا يتجردون من ملابسهم العادية، ويلبسون ثوبين إزارًا ورداءً، والأصل في تلك الثياب هو أن تكون بيضاء، والكل عاري الرأس، يلهج بالذكر والدعاء فقيرًا إلى الله، تجرد من جاهه ونسبه وثروته ومكانته، لا حرس ولا حماية ولا منصب ولا استعلاء.

والكل يطوف بالبيت، ويسعى بين الصفا والمروة، ويصعد إلى عرفات، ويرمي الجمار، ويبيت في صحراء منى في مساواة تامة في المناسك.

والكل يشعر بحاجته إلى مغفرة الله ورضوانه، ويتمنى أن يصدق أحد الحجاج في تقواه ودعواته ليشمل الله الجميع بالرحمة والقبول.

مظهر الحجيج والمعتمرين يجسد قيمة المساواة بين البشر، حيث يظهرون كالأمواج البشرية التي لا يتمايز فيها أحد من أحد، في صورة رائعة حول البيت الحرام أو عند المشعر الحرام أو بين الصفا والمروة أو على صعيد عرفات، كتلة واحدة تتحرك كالجسد الواحد في انسجام تام.

هل أدركنا قيمة تلك المساواة، وأن التفاضل بين البشر يوم القيامة سيكون كما في الحج بالتقوى والعمل الصالح، وليس بالمال والجاه والنسب؟

إن الله عزَّ وجلَّ رسّخ معنى المساواة بين البشر في أصل الخلق وفي نهاية العمر ويوم البعث، وجعل التنافس بينهم في الدنيا لأجل العودة إلى الآخرة بزاد التقوى.

لذلك فالكل أمام شريعة الله متساوون، والكل أمام الله يوم الحشر متساوون، يظل سبحانه في ظل عرشه من استجاب له بطاعته، ويذل يوم الحشر الذين تكبروا على عباده الضعفاء؛ فيكونون مثل الذر من الصغار.

رابع هذه الدروس هو التذكير بالموت والحشر والعرض على الله.

في الحج لو يعلم الناس تذكرة بليغة بالموت والحساب.

فالحاج يتجرد من ثيابه كما يتجرد الميت عند تغسيله، والرداء والإزار اللذان يلبسهما الحاج أشبه ما يكون بأكفان الموتى حتى في اللون، والافتقار إلى رحمة الله ومغفرته ورضوانه وفضله وكرمه الذي يدفع الناس إلى بذل الجهد والتعب، واحتمال المشقة والنصب في أداء المناسك أشبه ما يكون بافتقار العبد الميت المتجرد من الدنيا إلى رحمة الله، وعفوه عند دخول قبره.

والحاج يعود من ذنوبه كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم كيوم ولدته أمه، بصفحة جديدة مثل الميت الذي طويت صحيفته، ويتمنى لو رجع إلى الدنيا ليملأ صحيفة أخرى بعمل صالح ينفعه يوم القيامة، فها هو الحاج فتحت له صحيفة جديدة، فتأمل أيها المسلم قبل أن تتمنى الرجوع فلا يستجاب لك(حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) المؤمنون

وأخيرًا: كم في الحج من دروس، وكم في العبادات من تربية وتزكية

نسأل اللهَ تعالى أن يتقبل من الحجاج والمعتمرين، وأن ييسر لهم أداء المناسك، وأن يحفظهم من كل سوء وضر وفتنة، وأن يغفر لهم أجمعين، وأن يكتب لنا المغفرة والرحمة بدعائهم، ويجعلنا بمشيئة الله وقدرته من حجاج بيته الحرام في قابل الأيام.. آمين


اترك ردا

بدريك الإلكتروني لان يتم نشره.


قناة فتاوى أون لاين

تم إنشاء قناة جديدة تحت عنوان فتاوى أون لاين للإجابة على الفتاوى الشرعية
رابط الانضمام

رابط تيليجرام

الواتس اب

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر مشرف الموقع

هو الشيخ  الدكتور/ حسين محمد عامر من مواليد بلبيس بمحافظة الشرقية -مصر-عام 1976 م . الشهادات العلمية : 1- أتم حفظ القرآن وهو ابن الرابعة عشر عاما ، وحصل على إجازة برواية حفص بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على يد شيخه يوسف عبد الدايم -رحمه الله- . 2-  حصل على الإجازة

تاريخ الإضافة : 14 مايو, 2024 عدد الزوار : 1020 زائر

خطبة الجمعة

تفسير القرآن العظيم

شرح صحيح البخاري

شرح مدارج السالكين

جديد الموقع