الرسول القدوة ﷺ
عناصر الخطبة:
أولا/ معنى القدوة
ثانيا / القدوة وبشرية الرسول ﷺ
ثالثا/ أسرع طرق التربية القدوة
رابعا/ القدوة في اخلاقه
خامسا/ الاقتداء بالرسول من ثمرات حبه
أولا/ معنى القدوة
كلمة القدوة في اللغة من القدو وهو : الخطو ، فمن يقتدي بفلان يعني يتابع خطواته خطوة خطوة ، يمشي على خطاه في أثره ، فأنا مقتد بالنبي يعني على خطى النبي ﷺ ، ويظهر أثر ذلك في أخلاقك ومعاملاتك .
يقول الله سبحانه وتعالى ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا ) [الأحزاب/21]
والأسوة الحسنة يقصد بها : أنه كان خير مثال يحتذى لتطبيق منهج الله .
فالله تعالى أنزل المنهج وهو القرآن وبعث نبيه محمدا ﷺ هاديا ومعلما ، فكان خير تطبيق لهذا المنهج .
كثير من المناهج والنظريات والأفكار والمبادئ تبقى حبرا على ورق لأنك لا تجد من يطبقها ، لا تجد من يبعث فيها الروح فتتحول من كلمات إلى واقع مرئي ، فتبقى المبادئ والأفكار حبرا على ورق لأنها مجرد كلمات كتبت في لحظة من لحظات الترف الفكري أو الوطنية الزائدة ….أو ما شابه ذلك .
أما منهج الله وهو القرآن فإن الله سبحانه وتعالى أرسل رسولا بشرا يطبق هذا المنهج ويعلمه للناس ويربيهم عليه ، ولذلك امتن الله سبحانه وتعالى على عباده فقال: ( كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ) [البقرة/151]
ثانيا / القدوة وبشرية الرسول ﷺ
والبعض حينما يتكلم عن رسول الله ﷺ يحاول أن ينزع منه صفة البشرية ، وكأنه يريد بذلك أن يرفع قدر النبي ﷺ بفصله عن بني البشر وهذا خطأ كبير ، فإن كل مخلوق خلقه الله لا يتفاضل عند الله سبحانه وتعالى بعنصره الذي خلق منه ، وأول من فعل ذلك إبليس لعنه الله حينما علا على أمر الله ، وتجبر ، ورفض أن يسجد لآدم كما أمره الله وقال في حيثيات رفضه ( أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ) [الأعراف/12]
فحينما نقول إن النبي ﷺ خلق من نور، أو لم يكن بشرا كسائر البشر ، أو أنه كان إذا مشى لم يكن له ظل ، وهذه الأمور أشبه بالأوهام من أن تكون حقائق ، وهذا كله لا يرفع من قدره ، إنما يرفع قدر النبي ﷺ أن نعلم أنه بشر مثلنا شرفه الله بالوحي ( قل إنما أنا بشر مثلكم ) [الكهف/110] فهو بشر مثلنا يأكل ويشرب وينام ويتحرك ويمشي ويصح ويمرض و…الخ
لكن مع بشريته فإن الله قد شرفه بالوحي (يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ) [الكهف:110]
فقدر الله أن يكون النبي ﷺ بشرا لتتحقق فيه القدوة ، فيصلي النبي ﷺ ويقول : ” صلوا كما رأيتموني أصلي ” يصلي الفرائض ، ويتنفل في قيام الليل حتى تتورم قدماه ، ولما يراجع في ذلك يقول : “أفلا أكون عبدا شكورا “
فكان ﷺ قدوة مرئية متحركة يراها الناس فلا تجد شيئا في حياته ﷺ ، ولا قولا قاله بعيدا عن هذا المنهج الرباني “القرآن” ، فكان ﷺ خير معلم وخير مطبق لمنهج الله – سبحانه وتعالى – وربى أصحابه على هذا المنهج حينا بعد حين ، وكان مع هذا كله يتحلى ﷺ بالصبر والحلم والرفق والرحمة ، ولم يكن جبارا عنيدا ، ولا ظالما غليظا ، إنما كان معلما رحيما ﷺ .
إذن وصف النبي بالبشرية هذا وصف لا ينقص من قدره ﷺ ، ونزع هذا الوصف من النبي ﷺ هو نزع لمعنى الاقتداء به ﷺ .
وهناك نغمة سمعتها كثيرا من البعض : وهل نحن مثل النبي ؟ وهل سنكون مثل النبي أو نلحق به ؟
وكأن النبي ﷺ جاء بشيء مستحيل أن يطبق ، أو يفعّل ، فرسول الله بشر يطبق منهج الله ، وأصابه ما يصيب البشر من الأعراض البشرية ، ولما أراد بعض الصحابة عمل بعض الطفرات في العبادة حينما جاؤوا يسألون عن عبادته ﷺ ، فلما أُخبروا بها كأنهم تقالّوها فقالوا: أين نحن من النبي ﷺ ؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً!!!
فجاء رسول الله ﷺ فقال: ( أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني )
ثالثا/ أسرع طرق التربية القدوة
لماذا جعل الله القدوة في نبينا ﷺ ؟علماء التربية يقولون : إن التربية بالقدوة أسرع طريقة من طرق التربية لأن الناس يدركون بأعينهم أسرع من آذانهم،
لما ترى موقفا عمليا متجسدا أمامك الكل يتساوى في الرؤية ، الكل يرى ، لكن حينما تتكلم فالناس يتفاوتون في الوعي والإدراك لما قيل ولما يسمع .
فجعل الله سبحانه وتعالى التربية بالقدوة في شخص نبينا ﷺ ، والاستجابة العاجلة تأتي أكثر من الكلام ،إذا أمرت ابنك بأمر وأنت أبعد ما تكون عنه ستجد فيه تباطؤا أو رفضا داخليا لما أمرته به ،وإذا رآك لما أمرته به فاعلا له تجده سريع الاستجابة ، فكان ﷺ بهذا الشكل.
ومن علامات القدوة في رسولنا ﷺ أنك تجد فيه قدوة لجميع أنواع الناس والأطياف في المجتمع ، فهو قدوة لليتيم الذي نشأ وقد فقد أباه، وقدوة للفقير الذي عانى من الفقر قدر ما عانى في حياته ﷺ ، وهو قدوة للغني الذي أعطاه الله فأغناه فكان يجعل غناه خيرا يفيض على كل من حوله ، وهو قدوة للأب والجد والزوج ، وقدوة للإمام والمعلم والقائد …..
ولذلك سبحان الله العظيم أي واحد يقتدي بأي مربي أو شيخ تجد القدوة في ناحية واحدة ، في العلم الفلاني تتعلم على يديه مهنة أو صنعة ، لكنه لا يكون قدوة لك في العبادة ، أو يكون قدوة في العبادة ، ولا يكون قدوة في الحياة ، لأنها قدوة قاصرة محدودة ، أما رسولنا ﷺ فقد جعله الله قدوة عامة لكل المؤمنين ، فتجد جوانب القدوة متحققة في جوانب حياته كلها ﷺ ،ولذلك عصم الله نبينا من الزلل والخطأ ليتحقق التطبيق العملي للمنهج بقوله : ( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) [النجم3/4] أحيانا الإنسان يغضب ويكره ويصيبه بعض العوارض البشرية فمع الغضب أو الكره أو بعض الضغوط ، تصدر منه بعض الأقوال والأفعال السيئة بسبب ما حدث ، لكن النبي ﷺ في الرضا والغضب مؤيد بوحي السماء ، لا يخطئ ولا يتعمد الخطأ لماذا ؟
حتى يكون المنهج العملي أو القدوة المتحركة لكتاب الله سبحانه وتعالى ،
يقول عبد الله بن عمرو: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله ﷺ أريد حفظه فنهتني قريش ، وقالوا : أتكتب كل شيء تسمعه ، رسول الله ﷺ يتكلم في الرضا والغضب ؟ فأمسكت عن الكتاب ، فذكرت ذلك لرسول الله ﷺ ، فأومأ بإصبعه إلى فيه وقال : ” اكتب فو الذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق ”
القدوة بعد صلح الحديبية :
من الأمثلة على هذا الأمر أن النبي ﷺ خرج في ألف وأربعمائة مسلم، متجهين إلى مكة للقيام بعمرة وعلم النبي استعداد قريش للقتال وبعد مفاوضات أسفرت عن اتفاق سُمِّيَ بصلح الحديبية ، يقضي بأن تكون هناك هدنة بين الطرفين لمدة عشر سنوات، وأن يرجع المسلمون إلى المدينة هذا العام فلا يقضوا العمرة إلا العام القادم…. وغيرها من الشروط.
ولما تم الصلح بين النبي ﷺ – ومشركي قريش قام رسول الله – ﷺ – فقال: ( يا أيها الناس انحروا واحلقوا )، فما قام أحد، ثم اعاد الكلام ثلاث مرات ، فما قام رجل ، فرجع رسول الله – ﷺ –
فدخل على أم سلمة فقال: يا أم سلمة ! ما شأن الناس؟
قالت: يا رسول الله قد دخلهم ما قد رأيت، فلا تكلمن منهم إنساناً، واعمد إلى هديك حيث كان فانحره، واحلق فلو قد فعلت ذلك، فعل الناس ذلك، فخرج رسول الله ﷺ لا يكلم أحدا حتى أتى هديه فنحره ثم جلس فحلق، فقام الناس ينحرون ويحلقون ).
وفي هذا الموقف التأكيد على أهمية القدوة العملية، فقد دعا رسول الله ـ ﷺ ـ إلى أمر وكرره، ومع ذلك لم يستجب أحد لدعوته، فلما أقدم رسول الله ـ ﷺ ـ على الخطوة العملية التي أشارت بها أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ تحقق المراد، فالقدوة العملية أجدى وأنفع، خاصة في مثل هذه المواقف .
رابعا/ القدوة في اخلاقه
وكان النبي ﷺ قدوة محبوبة لين الجانب بالمؤمنين رؤوف رحيم كما قال الله له ” ( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ) [آل عمران/159]
وكلنا يعرف قصة الأعرابي الذي تبول في المسجد فقال النبي ﷺ ” دعوه واهرقوا عليه سجلا من ماء “
فقال الرجل بعد الصلاة ” اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا ” فقال النبي ﷺ ضاحكا ” لقد تحجرت واسعا “
أي ضيقت ما وسعه الله (يقصد رحمة الله ) وخصصت به نفسك دون غيرك .
والآخر الذي سمع من يعطس فشمته في الصلاة وهو معاوية بن الحكم السُّلمي، وقد حكى ذلك بنفسه فقال : بينا أنا أُصلِّي مع رسول الله – ﷺ – إذ عَطَس رجلٌ من القوم، فقلتُ: يرحمك الله، فرماني القومُ بأبصارهم، فقلت: واثُكل أممياه! ما شأنكم تنظرون إليَّ؟! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلمَّا رأيتهم يُصمِّتونني، لكنِّي سكت، فلمَّا صلَّى رسول الله – ﷺ – فبأبي هو وأمي، ما رأيتُ معلِّمًا قبلَه ولا بعدَه أحسنَ تعليمًا منه، فو الله ما كرهني ولا ضَرَبني ولا شتمني، قال: (إنَّ هذه الصَّلاةَ لا يصلح فيها شيءٌ من كلام الناس، إنَّما هو التسبيحُ والتكبير، وقراءة القرآن)
والمواقف كثيرة جدا ، في حلمه ﷺ حينما يأتي أحد الأعراب ، والأعراب سكان الصحراء فيهم جفاوة وقساوة في الطبع فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كنت أمشي مع رسول الله ﷺ، وعليه بردٌ نجرانيٌّ غليظ الحاشية، فأدركه أعرابيٌّ، فجبذه بردائه جبْذَةً شديدةً، حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله ﷺ قد أثَّرت بها حاشية البُرْد مِن شدَّة جَبْذَته، ثمَّ قال: يا محمَّد! مُرْ لي مِن مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله ﷺ ثمَّ ضحك، ثمَّ أمر له بعطاء)
وهذا الذي فعله الأعرابي فيه سوء أدب كبير في حق أي شخص عادي ، فما بالنا برسول الله ﷺ ومكانته ﷺ .
خامسا/ الاقتداء بالرسول من ثمرات حبه
ولذلك أقول : إن من ثمرات حب النبي ﷺ أن يدفع ذلك المسلم إلى الاقتداء به، وهذا الاقتداء يثمر محبة الله، والهداية، ودخول الجنة، وحسن الخلق، والحماية من الفتن، وسعادة القلب.
سأل رجل النبيَّ – ﷺ فقال: متى الساعةُ؟
قال: وما أعددتَ لها؟
قال يا رسول اللهِ، ما أعددت لها كثيرَ صيام، ولا صلاة، ولا صدقة، ولكنِّي أحبُّ اللهَ ورسولَه.
فقال: أنتَ مع مَن أحببتَ) قال أنس: (فما فرحنا بشيء فَرَحَنا بقول النبيِّ – ﷺ: أنتَ مع مَنْ أحببتَ، قال أنس: فأنا أُحِبُّ النبيَّ – ﷺ وأبا بكر وعمرَ، وأرجو أن أَكونَ معهم بحُبِّي إِياهم، وإِن لم أعمَلْ أعمَالَهُم) .
وكما علمنا الرسول ﷺ (ثلاثٌ من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، من كان الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار) فحبنا لرسول الله أن تكون محبة الله ومحبته مقدمة على أي حب، إذا كنت تحب رسول الله ﷺ فما درجة اتباعك له واقتدائك به وتخلقك بأخلاقه ، هذا هو البرهان على أنك محب له وعلى على أثره ﷺ تتابع .
حينئذ أنت ترتقي لدرجة مرافقة النبي ﷺ في الجنة كما قال الله : ( ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ) [النساء/69]
خلاصة الخطبة :
- القدوة لغةً: هي اتباع خطوات شخص ما والسير على خطاه، أي تطبيق ما يقوم به في حياتنا وأخلاقنا.
- الرسول ﷺ هو “أسوة حسنة”، للمؤمنين أي خير مثال لتطبيق منهج الله (القرآن الكريم) وتحويله من مجرد كلمات إلى واقع عملي مرئي.
- وصف الرسول ﷺ بأنه بشر لا ينقص من قدره، بل هو سر كونه قدوة لنا يمكننا الاقتداء بها، لأننا نرى تطبيق المنهج الإلهي في حياته اليومية.
- القدوة أسرع طرق التربية؛ فإن علماء التربية يؤكدون أن التربية بالقدوة أسرع وأكثر تأثيراً من التربية بالكلام، لأن الناس يتأثرون بما يرونه أكثر مما يسمعونه.
- الرسول ﷺ قدوة شاملة ؛ ليس قدوة في جانب واحد، بل هو قدوة لجميع فئات المجتمع في كل الأدوار الحياتية: هو قدوة لليتيم، والفقير، والغني، والأب، والزوج، والقائد، والمعلم.
- عصم الله الرسول ﷺ من الخطأ في أقواله وأفعاله حتى يكون قدوة عملية كاملة للمنهج الإلهي، وحتى لا يشك أحد في صحة ما يأتيه من الوحي.
- الأخلاق النبوية: كان الرسول ﷺ قدوة في أخلاقه السمحة، وكان رؤوفاً رحيماً بالمؤمنين.
- الاقتداء بالرسول من ثمرات حبه، وهذا الاقتداء يؤدي إلى محبة الله، والهداية، وحسن الخلق.
- الاتباع دليل صدق المحبة ، فحب الرسول ليس مجرد شعور، بل هو تطبيق عملي لمنهجه وأخلاقه، وهذا ما يجعل المسلم مؤهلاً لمرافقته في الجنة.