شرح الحديث
هذا الحديث هو خاتمة الأربعين حديثاً التي جمعها الإمام النووي رحمه الله والتي عرفت باسم (الأربعين النووية) وقال النووي وقد أنهى كتابه ” الأذكار” بكتاب الاستغفار: “اعلم أن هذا الباب من أهم الأبواب التي يعتني بها، وتحافظ على العمل به، وقصد بتأخيره التفاؤل بأن يختم الله الكريم لنا به”.. وفيه إشارة إلى تغليب حسن الظن بالله تعالى في آخر العهد بالدنيا وأول العهد بالآخرة.
النداء الأول:(قال الله تعالى: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي)
قوله: (يا ابن آدم) هذا نداء عام، لم يُقصَد به فرد بعينه، بل يشمل جميع بني آدم، وهذا النداء تكرر ثلاث مرات في الحديث:
النداء الأول: للتنبيه على الرحمة الواسعة.
النداءان الآخران: لتأكيد ما فُهِم من النداء الأول وزيادة التأكيد.
ما دلالة النداء بـ “يا ابن آدم” ؟
يدل على رفعة المنادى (ابن آدم)، لأن الله يدعوه للإقبال عليه، ولا يطلب الإقبال إلا من هو عظيم في المقام، وهذا هو سر التكرار في النداء، فهو لإظهار أهمية الرسالة المُلقاة إليه، ولفظ “الابن” يُستخدم بمعنى الولد، وهو شامل للذكور والإناث.
لماذا لم يُقل: “يا عبادي”؟
اختيار النداء “يا ابن آدم” يُظهر شرف الإنسان وتميزه عن سائر المخلوقات، والتعميم باستخدام “يا عبادي” قد يوهم دخول الملائكة، وهم غير معنيين بالاستغفار والمغفرة لأنهم معصومون.
معنى لفظ “آدم”: “آدم” هو اسم علم على أبي البشر عليه الصلاة والسلام؛ غير منصرف لعِلَميته ووزنه الذي يشبه وزن الأفعال.
أصله “أأدم” بهمزتين: الأولى متحركة، والثانية ساكنة للتخفيف أُبدلت الهمزة الثانية ألفًا.
أصل التسمية: “آدم” ليس اسمًا أعجميًا، بل هو مأخوذ من “أديم الأرض” (ظاهر وجهها)، لأن آدم عليه السلام خُلق من أديم الأرض.
يُروى عن ابن عباس وابن مسعود أن آدم خُلق من أديم الأرض، كما ورد في الحديث:“خلق الله آدم من أديم الأرض كلها، فخرجت ذريته على نحو ذلك؛ منهم الأبيض والأسود والأحمر والأصفر، والسهل والحزن…” وقوله“الحزن”:الحزن هنا يشير إلى الشخص غليظ القلب القاسي، الذي لا يُرجى منه خير ولا يُؤمَن شره.
والمقصود بـ “أديم الأرض”:هو سطح الأرض الظاهر، ويُقصد به ما يبدو من وجهها، سواء كان ترابًا أو صخرًا، والكلمة تُستخدم للإشارة إلى الطبقة الخارجية أو الغطاء الذي يواجه الإنسان عند النظر إلى الأرض، من حيث الألوان والطبائع، فكما أن الأرض متنوعة في مكوناتها (طين، تراب، صلصال، حمأ مسنون، وكذلك الألوان الأبيض والأسمر والأصفر…)،وهذا يدل على تنوع البشر في صفاتهم وألوانهم وأحوالهم تبعاً لأصل الخلق.
و قوله: ” إنك ما دعوتني ورجوتني”: أي: إنك ما دعوتني في أي وقت من ليل أو نهار أو على أي حال من سر أو علانية غفر لك.
و(ما) هنا مصدرية ظرفية، أي: مدة دعائك إياي ورجائك فيما عندي، وقد تكون (ما) هنا شرطية، وفعل الشرط: (دعا) في قوله: “دَعَوتَنِي” وجواب الشرط: “غَفَرْتُ” وإذا أردنا أن نعرف: (ما) الشرطية نجعل مكانها: (مهما) فلو قلت: مهما دعوتني ورجوتني غفرت لك لصح المعنى .
وليس المقصود أن المغفرة تحتمل في وقت الدعاء ومدته، إنما المراد أي وقت دعوتني، لا تقييد المغفرة بزمن الدعاء .
و”الدعاء”: رفع الحاجات إلى رفيع الدرجات، وإظهار العجز والمسكنة بلسان التضرع.
تفسير آخر في معنى “ما دعوتني”: أي: ما دمت تعبدني، لأن الدعاء هو العبادة، وقد فسر الدعاء في القرآن بالعبادة، كما قال تعالى: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) [غافر:90]
دفع شبهة: فإن قيل فما فائدة الدعاء مع أن القضاء لا مرد له؟
فالجواب ما قاله الغزالي: “فاعلم أن من جملة القضاء رد البلاء بالدعاء، فإن الدعاء سبب رد البلاء ووجود الرحمة، كما أن البذر سبب خروج النبات من الأرض، وكما أن الترس يدفع السهم؛ كذلك الدعاء يرد البلاء”، وقال السندي: “يكفي في فائدة الدعاء أنه عبادة وطاعة، وقد أمر به العبد، فكون الدعاء ذا فائدة لا يتوقف على ما ذكر ” أ.هـ من شرح السندي لسنن ابن ماجة.
ويشهد لذلك: حديث سلمان قال: قال رسول الله : ” لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر” أخرجه الترمذي وحسنه الألباني
وقال العز بن عبد السلام: “من زعم أنه لا يحتاج إلى الدعاء فقد كذب وعصى، ويلزمه أن يقول: لا حاجة لنا إلى الطاعة والإيمان؛ لأن ما قضاه الله تعالى من الثواب والعقاب لابد منه، وما يدري هذا الأحمق أن الله تعالى قد رتب مصالح الدنيا والآخرة على الأسباب، ومن ترك الأسباب بناء على أن ما سبق به القضاء لابد منه ألزمه ألا يأكل إذا جاع ولا يشرب إذا عطش، ولا يلبس إذا برد، ولا يتداوى إذا مرض، وأن يلقي الكفار بلا سلاح ويقول في ذلك كله: ما قضاه الله تعالى لا يرد وهذا لا يقوله مسلم ولا عاقل” شرح الجرادني (ص 279).
(ورجوتني) في اللغة: الرجاء بالمد: الأمل، واصطلاحا: تعلق القلب بمرغوب في حصوله في المستقبل مع الأخذ في أسباب الحصول.
وما الفرق بينه وبين الطمع؟
الطمع ليس فيه أخذ بالأسباب، وهو مذموم، وقل أن يظفر صاحبه بمقصوده.
قال ابن الجوزي: (مثل الراجي مع الإصرار على المعصية كل من رجا حصادا أو ولدا وما زرع وما نكح).
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس
وقد يطلق الرجاء على الخوف ومنه قوله تعالى: (وارجوا اليوم الأخر ) [العنكبوت:36] و (ما لكم لا ترجون لله وقارا) [نوح:13]؛ أي: لا تخافون عظمة الله.
وقد يستعمل الطمع بمعنى الرجاء في قوله: (والذي أطمع أن يغفر إلى خطيئتي يوم الديني [الشعراء:82]
مسألة: وهل الأفضل للشخص تغليب الرجاء لئلا يغلب عليه داء اليأس من رحمة الله؟ أو تغليب الخوف لئلا يغلب عليه داء الأمن من مكر الله؟
الراجح عند الشافعية أن يكون رجاؤه وخوفه مستويين، وإن كان مريضا فالرجاء أفضل لقوله صلى الله عليه وسلم: “لا يموت أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله “رواه مسلم.
وعند الحنفية: إن كان عاصيا فالخوف أفضل، وإن كان مطيعا فالرجاء أفضل، أو إن كان قبل الذنب فالخوف أفضل، وإن كان بعده فالرجاء أفضل، أو إن كان صحيحا فالخوف أفضل)
قوله: (غفرت لك على ما كان منك): أي: من المعاصي غير الشرك، حيث سيأتي في النداء الثالث تقييد المغفرة بعدم الشرك.
(على ما كان منك): أي غفرانا مشتملا مستعليا لسعته على ما كان منك.
(ولا أبالي): تعني أن الله تعالى لا يكترث أو يستكثر الذنوب التي يغفرها؛ فمهما تنامت في كثرتها لا تتعاظم الله سبحانه وتعالى فهوغني عن خلقه، لا يُعجزه شيء، ولا تؤثر كثرة الذنوب في قدرته على المغفرة؛ كما قال تعالى:﴿مَا خَلَقَكُمْ وَلَا بَعْثَكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ [لقمان: 28].أي أن خلق الجميع وبعثهم جميعًا بالنسبة إلى الله كخلق نفس واحدة.
لماذا خُصَّت المغفرة بالذنوب؟ مع أن الله يجيب دعاء عباده في كل الأمور؟
من أعظم ما يُسأل الله في الدعاء هو مغفرة الذنوب، لأن المغفرة تستلزم:النجاة من النار، ودخول الجنة.
النداء الثاني: ( يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك)
قوله : (يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك) العنان بفتح العين هو السحاب، والمعنى: أن الخطايا لو صارت جسما له حجم وكتلة فبلغت بحجمها إلى أن ملأت الأرض بل ووصلت للسحاب إشارة إلى كثرتها.
(ثم استغفرتني) أي: طلبت مني مغفرتها بصدقٍ وإخلاص وافتقار، وقد امتدح الله عز وجل عباده المتقين بقوله: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ ولم يصروا على مافعلوا وهم يعلمون.) آل عمران 135.
فلا ينبغي لعبد أن يستعظم ذنبا بجانب عفو الله ، فيقول: لن يغفر الله لي، لن يقبلني الله عز وجل ، فمهما كان ذنبك وخطؤك طالما دعوته واستغفرته فإنه يغفر لك ، قال تعالى:( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ) [الزمر/53]
وعد العلماء من جملة الكبائر اليأس من رحمة الله كما قال يعقوب لبنيه -( يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون )- [يوسف/87] فالله يغفر الذنوب جميعا ولا يرد سائلا أبدا .
الشافعي عند موته:
دخلوا على الشافعي رحمه الله في مرضه الذي مات فيه، فقيل له: كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟
قال: أصبحت من الدنيا راحلا، ولإخواني مفارقا، ولكأس المنية شاربا، ولا أدري إلى الجنة تصير روحي فأهنيها، أم إلى النار فأعزيها.
ثم قال:
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعل الرجا مني لعفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظم
فضل الاستغفار :
تعهد سبحانه أن يغفر لمن استغفره کما في هذا الحديث، وكما قال تعالي: “ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما (النساء:110) ،وأمر به في مواضع؛ كقوله سبحانه: ” واستغفروا الله إن الله غفور رحيم “[البقرة:199] ، ومدح المستغفرين بالأسحار فقال سبحانه : “والمستغفرين بالأسحار” [آل عمران:17]
وكثيرا ما يقرن الاستغفار بالتوبة، كما في قوله سبحانه : (وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ) (هود:3] فيكون الاستغفار حينئذ عبارة عن طلب المغفرة باللسان، والتوبة عبارة عن الإقلاع عن الذنوب بالقلوب والجوارح.
وأفضل الاستغفار: ما اقترن به ترك الإصرار، وهو حينئذ توبة نصوح.
ويستحب الاستغفار على الدوام؛ كما ورد في حديث أبي هريرة به عن النبي صلى الله عليه وسلم : “أذنب عبد ذنبا فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبا فيعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله ثم أصاب ذنبا، فقال: رب أذنبت آخر فاغفره لي، فقال تبارك وتعالى: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله ثم أصاب ذنبا، قال:: رب أذنبت ذنبا آخر فاغفره لي، فقال تبارك وتعالى: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به غفرت لعبدي فليعمل ما شاء”أخرجه مسلم.
و قال الحسن: “أكثروا من الاستغفار في بيوتكم، وعلى موائدكم، وفي طرقكم، وفي أسواقكم، وفي مجالسكم أينما كنتم، فإنكم ما تدرون متی تنزل المغفرة.
قال النووي رحمه الله: واعلم أن الاستغفار معناه طلب المغفرة وهو استغفار المذنبين وقد يكون عن تقصير في أداء الشكر وهو استغفار الأولياء الصالحين، وقد يكون لا عن واحد منها بل يكون شكرا وهو استغفاره واستغفار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
والاستغفار التام الموجب للمغفرة: هو ما قارن عدم الإصرار، كما مدح أهله، ووعدهم المغفرة، قال بعض العارفين: “من لم يكن ثمرة استغفاره تصحیح توبته؛ فهو كاذب في استغفاره”، وقال بعضهم: “استغفارنا هذا يحتاج إلى استغفار كثير”، وهذا هو استغفار من استغفر بلسانه وقلبه مصرّ على المعصية.
مسألة: وهل التوبة والاستغفار بمعنى واحد أم لا؟
الذي يظهر من النصوص الواردة في الباب أن التوبة والاستغفار يفترقان في المعنى عند اجتماعها، ويغني أحدهما عن الآخر عند الانفراد، فإذا قال الشخص أستغفر الله؛ فهذه توبة، وإذا قال: أتوب إلى الله أو رب تب علي فهذا شامل للاستغفار وطلب العفو والمغفرة.
وشروط التوبة : الإخلاص ، والندم على ما حصل ، والإقلاع عن المعصية التي تاب منها ، والعزم على أن لا يعود، وأن تكون التوبة وقت قبول التوبة ، ومن الإقلاع عن المعصية تدارك الواجبات و إرجاع الحقوق لأصحابها .
وأفضل أنواع الاستغفار : أن يبدأ العبد بالثناء على ربه، ثم يثني بالاعتراف بذنبه ثم يسأل الله المغفرة كما في حديث شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : “سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت” أخرجه البخاري
وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال : يا رسول الله، علمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال: “قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم”.أخرجه البخاري ومسلم
ما العلاقة بين الغفران والعفو؟
قيل: مترادفان. وقيل: الغفران لما لم يطلع عليه أحد، والعفو لما اطلع عليه، ويشهد لذلك سياق الآية:” واعف عنا واغفر لنا ” [البقرة : 286]؛ فإنه يقتضي المغايرة بينها، وقيل: بينهما عموم وخصوص من وجه. فإن المغفرة من الغفر وهو الستر، والعفو بمعنى المحو، ولا يلزم من الستر المحو ولا عكسه، لكن الله تعالى إذا ستر عفا.
“بقراب الأرض”: بضم القاف أشهر من کسرها؛ أي: بقرب ملئها أو بملئها، وهو أبلغ في سعة العفو.
هل معنى ذلك أن لو مات المسلم على التوحيد فقط يكفيه ليغفر الله له؟
أسباب المغفرة الواردة في الحديث:
الله سبحانه وتعالى ذكر في الحديث ثلاثة أسباب رئيسية لغفران الذنوب، حتى لو بلغت عنان السماء، وهي:
1- الدعاء مع الرجاء بحسن الظن بالله ورجاء رحمته.
2-الاستغفار: الصادق الذي يعبر عن التوبة النصوح.
3- التوحيد الخالص لله سبحانه وتعالى.
فوائد من الحديث
1- بين الحديث أن أسباب المغفرة ثلاث :1- الدعاء مع الرجاء. 2- الاستغفار. 3- التوحيد ونفي الشرك.
2- الحديث أصل في باب التوبة والحث عليها، وطلب العفو والمغفرة منه سبحانه.
3- أن الذنوب وإن عظمت إذا استغفر الإنسان ربه منها غفرها الله له.