قصة إسلام صفوان بن أمية

تاريخ الإضافة 9 أغسطس, 2021 الزيارات : 1519
قصة إسلام صفوان بن أمية
لم يكن صفوان بن أمية بن خلف يختلف كثيرًا عن عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه؛ فقد كان أبوه من أشد المعاندين للرسول صلى الله عليه وسلم، ومن الذين قُتِلُوا في بدر، وورث صفوان بن أمية هذه الكراهية من أبيه للإسلام والمسلمين، وحارب الرسول صلى الله عليه وسلم بكل طاقته، وكان ممن التفَّ حول ظهر المسلمين في غزوة أحد هو وخالد بن الوليد رضي الله عنه، واشترك اشتراكًا كبيرًا في قتل سبعين من شهداء الصحابة –رضي الله عنهم أجمعين، واشترك أيضًا في غزوة الأحزاب، وكان من الذين شاركوا في عملية القتال في داخل مكة المكرمة.
 
بل إن صفوان بن أمية كان قد دبَّر محاولة لقتل الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت هذه المحاولة بينه وبين ابن عمه عمير بن وهب، وكان وقتها لا يزال كافرًا.. وفيها تعهَّد صفوانُ بن أمية لعمير بن وهب أن يتحمل عنه نفقات عياله، وأن يسدِّد عنه دَيْنه، في نظير أن يقتل عميرٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم..!!
غير أن المحاولة فشلت، وذلك عندما أسلم عمير بن وهب رضي الله عنه في المدينة المنورة بعد أن أخبره الرسول صلى الله عليه وسلم بما دار بينه وبين صفوان في حجر الكعبة!!
بر الرسول مع صفوان بن أمية
ومرَّت الأيام، وجاء فتح مكة، وفرَّ صفوان بن أمية، ولم يجد له مكانًا في مكة المكرمة، وعلم أنه لن يُسْتَقْبَلَ في أي مكان في الجزيرة العربية؛ فقد أصبح الإسلام في كل مكان، فقرَّر أن يُلقِي بنفسه في البحر ليموت، فخرج صفوان في اتجاه البحر الأحمر ومعه غلام اسمه يسار، وليس معه أحد غيره حتى وصل إلى البحر الأحمر، وهو في أشد حالات الهزيمة النفسية، ورأى صفوان من بعيد أحد الرجال يتتبعه، فخاف، وقال لغلامه: ويحك! انظر من ترى؟
قال الغلام: هذا عمير بن وهب.
فقال صفوان: وماذا أصنع بعمير..؟! والله ما جاء إلا يريد قتلي، فهو قد دخل في الإسلام، وقد ظاهر محمدا عليَّ.
ولحق عمير بن وهب رضي الله عنه بصفوان بن أمية، فقال له صفوان: يا عمير، ما كفاك ما صنعتَ بي! حمَّلتني دَيْنَك وعيالَكَ، ثم جئتَ تريد قتلي.
فقال: أبا وهب، جُعِلْتُ فِدَاكَ..! قد جِئتُكَ من عِنْدِ أَبَرِّ الناس، وأوصل الناس.
لقد رأى عمير بن وهب ابن عمه وصديقه القديم صفوان يهرب من مكة فَرَقَّ له، وأشفق عليه، فأسرع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال له: يا رسول الله، سيِّد قومي خرج هاربًا ليقذف نفسه في البحر، وخاف ألاَّ تُؤَمِّنَهُ، فداك أبي وأمي.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «قَدْ أَمَّنْتُهُ»!!
هكذا!! وتمامًا مثلما فعل صلى الله عليه وسلم مع قرينه «عكرمة رضي الله عنه».
قال عمير بن وهب رضي الله عنه لصفوان: إن رسول الله قد أمَّنَكَ.
فخاف صفوان، وقال: لا -والله- لا أرجع معك حتى تأتيني بعلامةٍ أعرفها.
فرجع عمير بن وهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد بذل مجهودًا كبيرًا في السعي من البحر الأحمر إلى مكة، وهي مسافة تقرب من ثمانين كيلو مترًا ذهابًا فقط!
قال عمير رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، جئتُ صفوانَ هاربًا يريد أن يَقْتُلَ نفسه، فأخبرته بما أَمَّنْتَهُ، فقال: لا أرجع حتى تأتيني بعلامة أعرفها.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم في منتهى التسامح: «خُذْ عِمَامَتِي إِلَيْهِ»!!
فأخذ عمير العمامة، وذهب إلى صفوان بن أمية، حتى وصل إليه، وأظهر له العمامة وقال له: يا أبا وهب، جئتك من عند خير الناس، وأوصل الناس، وأبرِّ الناس، وأحلم الناس، مجده مجدك، وعِزُّه عزك، ومُلْكُهُ مُلْكُكَ، ابنُ أمِّك وأبيك، أُذكِّرك اللهَ في نفسك.
فقال له صفوان في منتهى الضعف: أخافُ أن أُقتل!
قال: قد دعاك إلى أن تدخل في الإسلام، فإن رضيت وإلا سَيَّرك شهرين!!
ولننظر إلى هذا العرض السخي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو أسلم صفوان لانتهت القضية، وأصبح له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين، وإن أراد أن يأخذ شهرين كاملين يفكر فيهما، فهو في أمان!
فرجع صفوان بن أمية مع عمير بن وهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل الحرم، والرسول صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس صلاة العصر فوقفا معًا، حتى ينتهي الرسول صلى الله عليه وسلم من الصلاة، فقال صفوان لعمير بن وهب: كم تُصلون في اليوم والليلة؟
قال: خمس صلوات.
قال: يصلي بهم محمد؟
قال: نعم.
فلما سلم الرسول صلى الله عليه وسلم وانتهى من صلاته، صاح صفوان يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم من بعيد: يا محمد، إن عمير بن وهب جاءني بعمامتك، وزعم أنك دعوتني إلى القدوم عليك، فإن رضيتُ أمرًا وإلا سَيَّرْتَنِي شهرين.
فقال صلى الله عليه وسلم في رفق وسهولة: «انْزِلْ أَبَا وَهْبٍ». (وانظر إليه يُكَنِّيهِ ويَتَلَطَّفُ إليه!).
فقال صفوان في خوف: لا -والله- حتى تُبيِّن لي!!
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «بَلْ تَسِيرُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ»!
وبالفعل أطلق الرسول صلى الله عليه وسلم صفوان بن أمية أربعة أشهر كاملة ليفكر..!!
ثم كان خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، واحتاج إلى الدروع والسلاح كما مر بنا، وكان صفوان بن أمية من تجار السلاح المعروفين في مكة، ومع ذلك لم يأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم السلاح منه عنوةً، إنما استقرضه بالثمن! ولم يستغل ضعفه، وقِلَّةَ أعوانه، وإسلام مكة كلها تقريبًا إلا هو.
وخرج صفوان مع المسلمين إلى حنين ليرعى أسلحته، وانكسر المسلمون في أول الأمر، ثم أُتبع الانكسار بانتصار مهيب، وجمع المسلمون غنائم لم يسمع بها العرب قبل ذلك، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لم يقم به قائد في تاريخ البشرية؛ إذ وقف يقسِّم الغنائم بكاملها -على كثرتها!!- على الجنود دون أن يحتفظ لنفسه بشيء!
وكان صلى الله عليه وسلم يُعطي المؤلفة قلوبهم من المسلمين مائةً مائةً من الإبل والشياه، وحقَّق المؤلفة قلوبهم من الثروة ما أذهل عقولهم، حتى تنازل السادة عن كبريائهم وعِزَّتهم، وذهبوا يطلبون العطاء المرة تلو المرة! والرسول صلى الله عليه وسلم لا يردُّ سائلاً، ولا يمنع طالبًا.
ومن بعيد يقف صفوان بن أمية متحسِّرًا وهو يشاهد توزيع الغنائم، فهو ما زال من المشركين، وليس له إلا إيجار السلاح.. ولكنْ حَدَثَ في لحظةٍ ما أذهل صفوان، وأذهل المشاهدين للموقف والسامعين عنه، وسيظلُّ مذهلاً للناس إلى يوم القيامة!!
لقد نادى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صفوانَ بن أمية، وأعطاه مائة من الإبل، كما أعطى الزعماء المسلمين من أهل مكة!!
أيتوقع إنسان -أيًّا كان كرمه أو سخاؤه- أن يحدث منه مثل هذا..؟!!
ولم تكن ذلك نهاية الموقف!
لقد وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن صفوان ما زال واقفًا، ينظر إلى شِعْبٍ من شِعاب حُنين، قد مُلِئ إبلاً وشياه، وقد بَدَتْ عليه علامات الانبهار والتعجُّب من كثرة الأنعام، فقال له صلى الله عليه وسلم في رِقَّة: «أَبَا وَهْبٍ، يُعْجِبُكَ هَذَا الشِّعْبُ؟».
قال صفوان في صراحة شديدة: نَعَمْ.
إنه لا يستطيع أن يترفع وينكر.. إن المنظر باهر حقًّا!!
قال الرسول صلى الله عليه وسلم في بساطة وكأنه يتنازل عن جمل أو جملين: «هُوَ لَكَ وَمَا فِيهِ»!!
أذهلت المفاجأة صفوان، ووضحت أمام عينيه الحقيقة التي ظلت غائبة عنه سنين طويلة، ولم يجد صفوان بن أمية نفسه إلا قائلاً: ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلا نفس نبي، أشهد أنه لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله!!
وأسلم صفوان رضي الله عنه في مكانه!!
يقول صفوان بن أمية رضي الله عنه: والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعطاني، وإنه لأبغض الناس إليَّ، فما برح يعطيني حتى صار أحبَّ الناس إليَّ!!
أيُّ خير أصاب صفوان رضي الله عنه..!!
أيُّ خير تحقق لقبيلة بني جُمَح عندما أسلم زعيمها..!!
وأيُّ خير تحقق لمكة..!!
وأيُّ خير تحقق للمسلمين، وقد أضيفت إليهم قوة الزعيم المكي المشهور صفوان بن أمية رضي الله عنه، والذي حسن إسلامه بعد ذلك، وصار من المجاهدين في سبيل الله؟!
إن كل هذا الخير قد تحقق بوادٍ من الإبل والشياه!
وما هي قيمة هذه الإبل والشياه؟!
إنها إمَّا أن تؤكل أو تموت..
إن الدنيا بكاملها -وليست الإبل والشياه فقط- تفنى وتزول، ولكن الذي لا يزول هو نعيم الجنة، وكم من البشر سيخلد في نعيم الجنة؛ لأنه أُعطى ذات يوم مجموعة من الإبل والشياه!
أليس هذا فهمًا راقيًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم لحقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة وحقيقة الغنائم وحقيقة البشر؟!
أليس هذا تقديرًا صائبًا من الرسول الحكيم صلى الله عليه وسلم في هذه المقارنة السريعة التي عقدها؟!
الأغنام في مقابل الإسلام..!!
الدنيا في مقابل الآخرة..!!
لقد وجد الرسول صلى الله عليه وسلم أن الأغنام -مهما كثرت- ثمن زهيد جدًّا للإسلام، فهانت عليه، بل هانت عليه الدنيا بكاملها، فأعطاها دون تردُّد، فالدنيا عنده لا تعدل جناح بعوضة، والدنيا عنده قطرة في يَمٍّ واسع، والدنيا عنده أهون من جَدْيٍ أَسَكَّ(مَيِّتٍ)، ولم يكن هذا كلامًا نظريًّا فلسفيًّا، وإنما كان حقيقة رآها كل المعاصرين له صلى الله عليه وسلم بعيونهم، كان واقعًا في حياته صلى الله عليه وسلم، وحياة الصحابة رضوان الله عليهم، وحياة من عاملهم من المسلمين وغير المسلمين.
ولم يتبقَّ في يده شيء لنفسه صلى الله عليه وسلم!!
لم يتبق ما يُعَوِّضُ به فقر السنين، وانقضاء العمر، وقد بلغ الستين بل تجاوزها!
لم يحتفظ بشيء، ورأى الناس منه ما جعل عقولهم تطيش، وأفئدتهم تضطرب، فانطلق الأعرابُ يزدحمون عليه صلى الله عليه وسلم يطلبون المال والأنعام لأنفسهم قبل أن تنفد، حتى اضطروه صلى الله عليه وسلم -وهو الزعيم المنتصر والقائد الأعلى- أن يلجأ إلى شجرة، وانتزع الأعراب رداءه، فقال في أدبٍ ورفقٍ، ولينٍ يليق به كنبيٍّ، ويجدر به كمُعَلِّمٍ:
«أَيُّهَا النَّاسُ، رُدُّوا عَلَيَّ رِدَائِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ لَكُمْ عِنْدِي عَدَدَ شَجَرِ تِهَامَةَ نَعَمًا لَقَسَّمْتُهُ عَلَيْكُمْ، ثُمَّ لاَ تَجِدُونِي بَخِيلاً، وَلاَ جَبَانًا، وَلاَ كَذَّابًا».
وصدق صلى الله عليه وسلم.. فما كان بخيلاً، ولا جبانًا، ولا كذابًا.
وكما حدث مع الزعماء السابقين، فقد مرَّ سهيل بن عمرو رضي الله عنه بالتجربة نفسها.


اترك ردا

بدريك الإلكتروني لان يتم نشره.


قناة فتاوى أون لاين

تم إنشاء قناة جديدة تحت عنوان فتاوى أون لاين للإجابة على الفتاوى الشرعية
رابط الانضمام

رابط تيليجرام

الواتس اب

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر مشرف الموقع

هو الشيخ  الدكتور/ حسين محمد عامر من مواليد بلبيس بمحافظة الشرقية -مصر-عام 1976 م . الشهادات العلمية : 1- أتم حفظ القرآن وهو ابن الرابعة عشر عاما ، وحصل على إجازة برواية حفص بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على يد شيخه يوسف عبد الدايم -رحمه الله- . 2-  حصل على الإجازة

تاريخ الإضافة : 1 فبراير, 2024 عدد الزوار : 353 زائر

خطبة الجمعة

تفسير القرآن

شرح صحيح البخاري

شرح الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لابن القيم