مع قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ﴾

تاريخ الإضافة 7 يناير, 2023 الزيارات : 2348

مع قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ﴾

 هذه الآية الكريمة جاءت في سياق آيات الطلاق في سورة البقرة، يقول  تبارك وتعالى: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).
والمعنى: أن الله تعالى يأمر من جمعتهم علاقة من أقدس العلاقات الإنسانية ـ وهي علاقة الزواج ـ أن لا ينسوا ـ في غمرة التأثر بهذا الفراق والانفصال ـ ما بينهم من سابق العشرة، والمودة والرحمة، والمعاملة.

وهذه القاعدة جاءت بعد ذلك التوجيه بالعفو: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} كلُّ ذلك لزيادة الترغيب في العفو والتفضل الدنيوي.
وتأمل في التأكيد على عدم النسيان، والمراد به الإهمال وقلة الاعتناء، وفي قوله: {إن الله بما تعملون بصير} تعليل للترغيب في عدم إهمال الفضل، وتعريض بأن في العفو مرضاة الله تعالى، فهو يرى ذلك منا فيجازي عليه.

إن العلاقة الزوجية ـ في الأعم الأغلب ـ لا تخلو من جوانب مشرقة، ومن وقفات وفاء من الزوجين لبعضهما، فإذا قُدّر وآل هذا العقد إلى حل عقدته بالطلاق، فإن هذا لا يعني نسيان ما كان بين الزوجين من مواقف الفضل والوفاء، ولئن تفارقت الأبدان، فإن الجانب الخلقي يبقى ولا يذهبه مثل هذه الأحوال العارضة.
وتأمل في أثر العفو، فإنه: يقرّب إليك البعيد، ويصيّر العدو لك صديقاً.

 ومعنى الآية: أن الله ينهانا أن ننسى الفضل في معاملتنا للناس، والمقصود بالفضل: أي المعروف والإحسان والفعل الأكمل.

فالله سبحانه وتعالى حين ذكَّر المطلقين بالفضل الذي أنساهم إياه الغضب، صرفهم إلى الاتجاه إلى الكمال، والتعالي عن سفساف المشاحنات والمنازعات لأن معاملة الإنسان لغيره لا تخلو من أمرين:

1- درجة واجبة: وهو المعاملة بالعدل والإنصاف، بأن يُعطيَ الواجب عليه، أو يأخذ ما وجب له.

2- درجة مستحبة: وهو المعاملة بالفضل والإحسان، بأن يعطي ما ليس واجبًا عليه، أو يتسامح فيما وجب له من الحقوق على الآخرين.

وكم أحزن عندما أكون في مشكلة زوجية…كان الزوجان قبل النزاع يعيشان حياة كريمة.. يأكلان من طعام واحد، وينامان على فراش واحد، يتقاسمان هموم الحياة بينهما، وما إن يقع الشقاق بينهما ويستولي الشيطان على منصة القلوب حتى يأخذ كل واحد من الزوجين طعناً ولعناً وافتراءً على الآخر.. شيء عجيب! إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ…ولقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتجهون ذلك الاتجاه السامي؛ فيروى أن بعض الصحابة تزوج امرأة وطلقها قبل أن يدخل بها؛ فأعطاها الصداق كاملًا، فقيل له في ذلك، فقال: «أنا أحق بالعفو منها».

قصة يحكيها الشيخ علي الطنطاوي:

يقول رحمه الله وقد كان قاضيا بدمشق:«قضية خلاف بين زوجين، طال أمده، واستفحل شره، وانتهى أمره إليّ، وعرض كل منهم دعواه على صاحبه؛ متهمً إياه بسوء العشرة، ومطالبًا بحقوق عليه! وألحت المرأة بطلب الطلاق، وبضم الأولاد إليها دون نفقة، وبعد دراسة دقيقة للقضية؛ تبين لي أن لا سبيل للتوفيق بينهم على حالتهم الراهنة؛ فقررت إجراء تجربة الطلاق لمرة واحدة، وعرَضتُم الفكرة عليهم؛ فلم يترددا في قبولها، وأوقع الزوج الطلقة!

وهنا جعلتُ أذكرهما بحق المودة والرحمة والأولاد، وختمت بقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ﴾ وكان لكلامي أثره العاجل؛ فإذا الزوج يقول: إذا كان الأمر للمودة والرحمة والأولاد؛ فإني متنازل عن كل حق لي عليها، ومستعد للإنفاق على أبنائي ما داموا في كفالتها!

وأجابت المرأة على ذلك بأنها هي أيضًا متنازلة له عن مؤخر صداقها!

وكان من أسباب الخلاف بين هذين الزوجين: أن المرأة كلم استاءت من زوجها حاولت الذهاب إلى بيت أهلها؛ فيمنعها أن تصحب متاعها سوى ما تلبسه!

ولكن ما إن صارا إلى هذه النتيجة حتى تغير الحال، وقال الرجل لزوجه: هذا مفتاح البيت؛ فخذي منه ما تحبين، ودعي ما تكرهين!

 ولقد كان لهذا الموقف أثره البالغ في نفسي، وأكثر ما راعني منه: تلك الدموع التي ذرفها كل منهم..» من  كتاب صناع التاريخ خلال ثلاثة قرون. للشيخ عبد العزيز العويد ص90.

قصة رجل طلق زوجته فأحسن إليها:

وهذا رجل طلق زوجته ـ التي له منها أولاد ـ فما كان منه إلا أسكنها في الدور العلوي مع أولاده الذين بقوا عندها، وسكن هو في الدور الأرضي، وصار هو الذي يسدد فواتير الاتصالات والكهرباء ويقوم تفضلاً بالنفقة على مطلقته، حتى إن كثيراً ممن حوله من سكان الحي لا يدرون أنه مطلق! وإني لأحسبه ممن بلغ الغاية في امتثال هذا التوجيه الرباني: {ولا تنسوا الفضل بينكم}

 عموم الآية :

 والفضل شيء زائد يفعله الانسان إحسانًا منه وفضلًا، يفعله مع القريب والبعيد، ومع الصاحب والغريب، فالاعترافَ بفضلِ الآخرين ومواقفهم الجميلة الكريمة خلقٌ إسلاميٌّ نبيل ، فإذا كانت الآية نزلت في شأن الزوجين المطلقين ، إلا أنها تشمل كل علاقة بين اثنين ، ففي حياتنا صنوف من العلاقات ـ سوى علاقة الزواج ـ فهناك علاقة القرابة، أو المصاهرة، أو علاقة العمل، أو الصداقة، وغيرها الكثير والكثير ،فما أحرانا أن نطبق هذه القاعدة في حياتنا؛( وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ) ، ليبقى الود نهرًا مطردًا، ولتُحفظ الحقوق، وتتصافى القلوب .

{وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}: فللجيران منها نصيب، ولجماعة المسجد منها حظ، بل وللعامل والخادم الذي أحسن الخدمة والمعاملة له حق فيها .

{وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} ,وذلك بالتيسير على المعسرين، وإنظارهم ، والتسامح عند البيع وعند الشراء، بما تيسر من قليل أو كثير، فبذلك ينال العبد خيراً كثيراً.

أمثلة من السيرة :

1- أخرج البيهقي في الشعب عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «كيف أنتم، كيف حالكم، كيف كنتم بعدنا؟»، قالت: بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فلما خرجت قلت: يا رسول الله، تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟ فقال: «يا عائشة، إنها كانت تأتينا زمان خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان» أخرجه الحاكم

2- عن عائشة قالت: «ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة، ولقد هلكت قبل أن يتزوجني بثلاث سنين؛ لما كنت أسمعه يذكرها، ولقد أمره ربه أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب، وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليذبح الشاة، ثم يهدي في خلتها منها» أخرجه البخاري

3- وحفظ صلى الله عليه وسلم لأبي بكر الصديق فضله: «إن مِن أمنّ الناس علي في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذًا خليلًا غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين باب في المسجد إلا سُدَّ إلا باب أبي بكر» أخرجه البخاري

4- ويقول صلى الله عليه وسلم : (وَمَنْ أَتَى إِلَيْكُمْ مَعْرُوفاً فَكَافِئُوهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَعْلَمُوا أَنْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ » رواه احمد.   

نعم إذا لم تجد ما تكافئ به من صنع معك معروفاً فلا أقل من أن تدعو له، وتشكره، هذا من حق المحسن على المحسَن إليه

وقال سعيد بن المسيب: «ليس من عالم ولا شريف ولا ذي فضل إلا وفيه عيب؛ ولكن إن كان فضله أكثر من نقصه ذهب نقصه لفضله؛ كما أن من غلب عليه نقصانه ذهب فضله» جامع بيان العلم وفضله (2/820).

وقال ابن القيم: «فلو كان كل من أخطأ أو غلط تُرِكَ جملةً، وأُهدرت محاسنه لفسدت العلوم والصناعات والحكم وتعطلت معالمها» مدارج السالكين (2/40).


اترك ردا

بدريك الإلكتروني لان يتم نشره.


قناة فتاوى أون لاين

تم إنشاء قناة جديدة تحت عنوان فتاوى أون لاين للإجابة على الفتاوى الشرعية
رابط الانضمام

رابط تيليجرام

الواتس اب

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

رسالة الدكتوراة المناهج الدعوية للأنبياء من خلال سورة هود

 رسالة الدكتوراة المناهج الدعوية للأنبياء من خلال سورة هود   ما أجمل أن يتلمس الدعاة في عصرنا الحاضر السير على خطى الأنبياء، والتخلق بأخلاقهم، والاقتداء بهم في الدعوة إلى الله بالحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، من خلال المنهج القرآني في عرض قصصهم، وأحوالهم مع أقوامهم؛ من خلال دراستي لأحد سور القرآن (سورة هود)

تاريخ الإضافة : 24 أبريل, 2024 عدد الزوار : 24 زائر

خطبة الجمعة

تفسير القرآن

شرح صحيح البخاري

شرح مدارج السالكين

جديد الموقع