تفسير سورة الكهف
وهي مكية وآياتها 110آية
تمهيد
سبب تسميتها بسورة الكهف
سميت هذه السورةُ الكريمةُ بسورة الكهف ، نسبة إلى الكهف الذي أوى إليه الفتيةُ ، فكان فيه نجاتُهم وعصمتُهم ؛ وفي تسميتها بسورة ” أصحاب الكهف ” : تنويهٌ على شرفهم وتخليدٌ لذكرهم ، وتكريمٌ لهم ، وتقديرٌ لثباتهم وتضحيتهم ، فضلا عما تحويه قصتُهم من نموذجٍ عمليٍّ فريدٍ ومثالٍ تطبيقيٍّ رشيدٍ ، لمن سلك طريقَ النجاة من الفتن .
فضائل السورة :
ورد في فضائل هذه السورة الكريمة عدة أحاديثُ ، تدلُّ على فضلِها ، وترغِّب في قراءتها ، وحسن تدبرها :
1- عَنْ أَبِي الدّرْدَاءِ رضي الله عنه أَنّ النّبِيّصلى الله عليه وسلم قَالَ: ( مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أَوّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ، عُصِمَ مِنَ الدّجّالِ ) رواه مسلم
2- وعنْه رضي الله عنهعَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلمأَنَّهُ قَالَ ( مَنْ قَرَأَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ آخِرِ الْكَهْفِ عُصِمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ ) رواه الإمام أحمد
وعلى هذا فالوعدُ بالعصمة يتحقق لمن قرأ العشر الأول أو قرأ العشر الأواخر ، ففي الأمر سعةٌ إن شاء الله .
3-وعن أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنهأن النبي صلى الله عليه وسلمقال: ( مَنْ قَرَأَ سورةَ الكهفِ في يومِ الجُمُعَةِ أضاءَ له من النورِ ما بينَ الجُمُعَتَينِ ) رواه البيهقي وحسنه الألباني .
4- وعن ابن عمر ـ رضى الله عنهما ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ” من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة سطع له نورٌ من تحت قدميه إلى عَنان السماء، يُضيء له يوم القيامة، وغُفر له ما بين الجمعتين “ رواه أبو بكر ابن مِرْدَوَيْه في تفسيره بإسناد لا بأس به
5- وعن أبي سعيد رضي الله عنه(من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له النور ما بينه وبين البيت العتيق) صححه الألباني
ومن مجموع هذه الروايات نرى أن الثواب على سورة الكهف سيكون نورًا، وهذا النور يوم القيامة، وطوله يقدَّر بالمسافة التي بين قدَمَيِ القارئ ومكة أو عنان السماء، والعنان هو السحاب ، أي أن التقدير إما بالامتداد الأفقي، وإما بالامتداد الرأسي.
ومعنى إضاءة النور له فيما بينه وبين البيت العتيق المبالغة في ثواب تلاوتها بما تتعقله الأفهام وتتصوره العقول ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ نُورُ الْأَقْرَبِ إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ بِقَدْرِ نُورِ الْأَبْعَدِ عَنْهُ لَوْ جُمِعَ وَإِنْ كَانَ مُسْتَطِيلًا . وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقَرِيبَ وَالْبَعِيدَ فِي النُّورِ سِيَّانِ ، وَعَلَى كُلٍّ فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ حُصُولِ الثَّوَابِ الْعَظِيمِ بِحَيْثُ لَوْ جُسِّمَ لَكَانَ مِقْدَارُهُ مِنْ مَكَانِهِ إلَى الْبَيْتِ.
والثواب الثاني لقارئ الكهف يوم الجمعة هو مغفرة الذنوب التي وقعت بين الجمعتين، وهى الصغائر، ولعل هذا هو المراد بإضاءة النور ما بين الجمعتين، فنورُ الطاعة يمحو ظلام المعصية( إن الحسنات يُذْهِبْن السيئات ) هود 114
فَالْمُرَادُ بِالنُّورِ لَازِمُهُ وَهُوَ الْمَغْفِرَةُ وَالثَّوَابُ .
بين يدي السورة :
هذه السورة أحد خمسة سور افتتحها الله جل وعلا بحمد ذاته العلية، وهي :
( الفاتحة و الأنعام، والكهف، وسبأ، وفاطر)
ابتدأ الله تبارك وتعالى هذه السورة الكريمة بالثناء على ذاته المقدسة؛ لإنزاله كتابه العزيز على عبده ورسوله الكريم محمد صلوات الله وسلامه عليه، كتابا مستقيما لا اعوجاج فيه ولا زيغ، يهدي به إِلى صراط مستقيم، نذيرا للكافرين وبشيرا للمؤْمنين، ولما حمَّل الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه من الحزن على إعراض قومه – ما لا يُطيق – قال له ربه: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} (6) يعاتبه على إجهاد نفسه فرق طاقتها رحمةً به، فما عليه إلا البلاغ، وقد بلغ {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (29).
ثم قص الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم قصصا من أنباء الغيب، في كل قصة منها عبرة وتذكرة، وتقريرٌ لمقصد من مقاصد القرآن الكريم في الدعوة إِلى الهدى والحق:
(1) وأولى هذه القصص: قصة أصحاب الكهفالذين سميت باسمهم، واختصت بذكرهم فلم تذكر في سورة سواها. وفيها يتجلى الإيمان وآثاره إذا خالطت بشاشته القلوب، ولم تخش إلاَّ علَّام الغيوب. وإذًا فلا ترضى بغير الله بديلا، وقد ذكر الله تبارك وتعالى قصة أصحاب الكهف برهانا عمليا حقا على أَن البعث حق في يوم لا ريب فيه {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا} (21).
(2) وثانية القصص: قصة الرجلين صاحبي الجنتين:أَحدهما غنى كافر يعتز بماله وبنيه، ويتكبر على أَخيه ؛ ويكفر بربه الذي خلقه من تراب ثم سواه رجلًا، ويظن أَن جنته لن تبيد أبدا. وصاحبه فقير صابر، راض بقضاء الله يرى أَن رضا الله كنز لا يفنى، وعز لا يبلى، فكانت العاقبة له، والندم والخسران لصاحبه، الذي اغتر واستكبر {هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} (44).
(3) والثالثة: قصة أبي البشر آدم عليه السلام مع عدو الله وعدو آدم،وفيها التحذير منه ومن ذريته وأنصاره وشيعته ، ومنها أن إِبليس كان من الجن، ولكنه انضم إلى الملائكة فصار كأنه منهم في عبادته لله وطاعته له, فلما أَمره الله تعالى بالسجود لآدم مع ملائكته، غلب عليه غروره وكبرياؤُه، فأبى واستكبر، فحذر الله عباده منه ومن فتنته، وبيّن أنه عدو لأبيهم من قبل، فمن المحال إن يكون صديقًا لأحد من ولده {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} (50) .
(4) والرابعة: قصة موسى كليم الله مع العبد الصالح، وهي مما اختصت به هذه السورة أيضًا، فلم تذكر في سورة سواها.
وفيها: أَن عالِمَ الغيب والشهادة سبحانه، يُظهر مَن شاء من عباده – على لَمَحات من غيبه المكنون، ويأذن لهم أن يبوحوا بها في حدود إِلهية لا يتجاوزونها, ولحكم ربانية قد أحاط بها؛ لئلا يَدعِي مُدع أن الله أعلمهُ شيئًا من غيبه، إِلا إِذا جاء بسلطان بيِّن من لدن عالم الغيب والشهادة، وحسبنا برهان ذلك أَن العبد الصالح لم يعرِفْ موسى عليه السلام إلا بعد أَن عرفه موسى بنفسه حين التقيا بمجمع البحرين وقال له العبد الصالح: أَنت موسى نبي بني إسرائيل؟ قال: نعم، كما في حديث الصحيحين – ولو كان يعلم من الغيب غير اللمحات التي أطلعه الله عليها لعرف موسى قبل أَن يسأله مستفهمًا.
(5) والقصة الخامسة: قصة ذي القرنين، وقد مكن الله له في الأرض وآتاه من كل شيءٍ سببا فساح في الأرض، واستعان بهذه الأسباب على بسط سلطانه بالعدل والإِحسان، حتى بلغ مغرب الشمس ثم مشرقها – في رأْى العين – ودعا إِلى الله في كل رحلة يرحلها. وكان غياثا للمظلومين وعونا لهم، وكان مثلًا صالحا في كل أَقواله وأَعماله وهدايته إلى الخير، حتى فتح الله به مغاليق الأمور، وأَصلح كثيرا من الفساد في الأرض.
وهنالك وجد {قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} (93) استغاثوا به من فساد يأجوج ومأجوج وإغاراتهم التي لا تنقطع ؛فأقام سد يأجوج ومأجوج بين جبلين مرتفعين ارتفاعا عظيما، فبنى لهم هذا السد الحصين المنيع، دون أَن يأخذ منهم أَجرا، قائلا: {مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} (95). وهذا مثال من المُثُل العليا في التعاون على البر والتقوى، ابتغاءَ وجه ربه الأعلى. ولما أَتم الله على يدي ذي القرنين بناء هذا السد الحصين المنيع، الذي عجزت يأجوجُ ومأجوجُ أَن يعلُوه، لعظم ارتفاعه وملاسته، أَو ينقبوه، لعظم ثخانته وصلابته – لما أتم الله ذلك على يديه – حمد الله وشكره قائلًا.: {هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا}
(وقد اشتملت هذه السورة أَيضًا على مقاصد أخرى لا تنفرد بها، بل يشاركها فيها غيرها من السور، ومن هذه المقاصد: التحذير من فتنة الحياة الدنيا وزينتها {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)}.
ثم ختمت السورة الكريمة بالحث على إعداد العدة للقاء الله تبارك وتعالى بالعمل الصالح – ونعم اللقاءُ لقاؤُه – {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)}.
سبب نزول سورة الكهف
وسبب نزول هذه السورة: لما ظهر النبي صلى الله عليه وسلمفي مكة، أخذ المشركون يتساءلون : ما المخرج من هذا؟ هل هذه الدعوة دعوة سليمة صحيحة؟ هل محمد نبي كما يقول؟ من يجيبنا؟
فكوّنوا وفداً من شخصين هما: النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط – وكلاهما مات على شركه – وبعثوا بهما إلى يثرب ؛ حيث يوجد بها طوائف اليهود ، فجاء الوفد فسألوهم: ما تقولون في هذا؟ هل هو نبي كما يقول؟
فقال لهم علماء اليهود: اسألوه عن ثلاث ، فإن أجاب عنها فهو نبي مرسل ، وإن لم يجب عنها فانظروا رأيكم فيه فهو متقوّل يقول فقط بلسانه ، ما هو بنبي ولا رسول.
ما هذه الثلاث المسائل ؟
الأولى: سَلُوهُ عَنْ فِتْيَةٍ ذَهَبُوا فِي الدَّهْرِ الْأَوَّلِ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ ، فَإِنَّهُمْ قَدْ كَانَ لَهُمْ حَدِيثٌ عَجِيبٌ .
والثانية: وَسَلُوهُ عَنْ رَجُلٍ طَوَّافٍ بَلَغَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا مَا كَانَ نَبَؤُهُ ؟
وأما المسألة الثالثة فسَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ مَا هُوَ؟
ثم عاد الوفد وجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: نسألك عن ثلاث مسائل، إن أجبتنا عنها آمنا بك واتبعناك، فقال عليه الصلاة والسلام: ( غداً أجيبكم عن سؤالكم )، ونسي أن يقول: إن شاء الله، فانقطع عنه الوحي نصف شهر، أي: خمسة عشر يوماً حتى كرب وحزن، وفرح المشركون.
وبعد ذلك نزلت سورة الكهف وفيها الإجابة عن الفتية وعن ذي القرنين، وفيها: “وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ” [الكهف:23-24]، أي: إلا أن تقول: إن شاء الله، فما سمع بعد ذلك رسول الله يقول: سأفعل أو سأقول أو سأقدم أو كذا غداً إلا قال: إن شاء الله.
وأما المسألة الثالثة فهي عن الروح، وقد جاء الجواب عنها في سورة الإسراء، قال تعالى: “وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا “[الإسراء:85].
الفصل الأول
تفسير الآيات من 1-8
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)
تفسير قوله تعالى: (الحمد الله الذي أنزل على عبده الكتاب وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا [الكهف:1]،
(الحمد)بالألف واللام الدالة على الحصر، فالمراد الحمد المطلق الكامل لله، الحمد المستوعب لكل شيء.
يقول الشعراوي رحمه الله : وكلمة {الحمد لِلَّهِ} هذه هي الصيغة التي علمنا الله أنْ نحمدَهُ بها، وإلا فلو ترك لنا حرية التعبير عن الحمد ولم يُحدِّد لنا صيغة نحمده ونشكره بها لاختلف الخَلْق في الحمد حَسْب قدراتهم وتمكّنهم من الأداء وحَسْب قدرتهم على استيعاب النعم، ولوجدنا البليغ صاحب القدرة الأدائية أفصح من العيي والأُمّي. فتحمّل الله عنا جميعاً هذه الصيغة، وجعلها متساوية للجميع، الكل يقول {الحمد لِلَّهِ} البليغ يقولها، والعيي يقولها، والأُمّي يقولها.
لذلك يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو يحمد الله ويُثنِي عليه: «سبحانك لا نحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسك» .فإنْ أردنا أنْ نُحصي الثناء عليك فلن نستطيع؛ لأن الثناء عليك لا يعرف مداه إلا أنت، ولا يُحصيه غيرك، ولا نملك إلا أنْ نقولَ ما علَّمتنا من حمدك: الحمد لله.
إذن: فاستواء الناس جميعاً في الحمد لله نعمة كبرى في ذاتها تستحق الحمد، فنقول: الحمد لله على ما عَلِمنا من الحمد لله، والحمْد الأول أيضاً نعمة، وبذلك نقول: الحمد لله على ما عَلِمنا من الحمد لله بالحمد لله.
وهكذا، لو تتبعتَ الحمدَ لوجدته سلسلةً لا تنتهي، حَمْد على حَمْد على حَمْد على حَمْد، فيظل الله محموداً دائماً، يظل العبد حامداً إلى ما لا نهاية.
ووجه الربط ما بين حمده جل وعلا وثنائه على ذاته العلية وما بين إنزال القرآن: أن إنزال القرآن من أعظم النعم، ولذلك ذكر الله جل وعلا الحمد في هذه السورة، فالرب الذي أنزل على عباده القرآن العظيم هداية للطريق الأقوم مستحق جل وعلا للحمد والثناء، وفيه بيان شرف وفضل ورفيع القرآن.
(عَبْدِهِ )العبد هنا: النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكره صلى الله عليه وسلم بصفة العبودية من أعظم ما يمدح به ؛ لإمعانه في التذلل والخضوع والعبودية لربه تبارك لله تعالى.
(والكتاب)المراد به القرآن.
هناك سكتة ما بين (عوجا) وما بين (قيما)، السبب هو أن الله قال: (لم يجعل) هذا نفي أنه لم يجعل له (عوجا)، لكن الله جعل القرآن (قيما) فلو قرأناها من غير سكتة لأوهم هذا أن يفهم أن القرآن لا عوجاً ولا قيماً، وهذا ليس مقصود كلام الله، وإنما المقصود نفي العوج، وليس المقصود نفي أنه قيم .
(وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا )أي: أن القرآن العظيم لا خلل في نظمه ولا تنافٍ في معانيه، وليس فيه من الباطل ؛ ولا من الخطأ شيء ؛ ولهذا عجز الكافرون مع شدة عداوتهم له وحرصهم على إبطاله عن أن يمسكوا أي عيب أو عوج في القرآن، بل انطلقت ألسنتهم بعبارات الانبهار بإعجاز القرآن الكريم.
والمعنى :أي الثناءُ الجميل مستحق لله الذي أنزل على عبده محمد صلى الله عليه وسلم كتابه
(القرآن)وفي حمده تعالى ذاتَه المقدسةَ على إنزال هذا الكتاب العزيز – تنويه بشأن ذلك الكتاب وعلوّ مكانه، وفي التعبير عن الرسول عليه الصلاة والسلام بالعبد، مضافا إلى ضمير الجلالة – تشريف له صلى الله عليه وسلم أَي تشريف..
ولم يجعل الله سبحانه في كتابه شيئًا من العوج: باختلال في نظمه، أو تناقض أو اضطراب في معناه، أَو انحراف عن دعوته إلى الهدى والحق، بل جعله تعالى قَيِّمًا أَي معتدلا مستقيما
تفسير قوله تعالى: (قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا(2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) الكهف
“قيما” فيها قولان مشهوران في التفسير :الأول : مستقيماً لا ميل فيه ولا زيغ ، وعليه فهو تأكيد في المعنى لقوله: (ولم يجعل له عوجاً)، لكن هذا فيه نفي العوج وإثبات القيمية؛ لأن الشيء قد يكون مستقيماً في الظاهر وهو لا يخلو من اعوجاج في حقيقة الأمر، ولذا جمع تعالى بين نفي العوج وإثبات الاستقامة.
الوجه الثاني:أنه قيم على ما قبله من الكتب السماوية ومهيمناً عليها.
“لِيُنْذِرَ “الإنذار: هو الإعلام المقترن بالتخويف والتهديد، فإذا كان غير مقترن بتخويف أو تهديد يسمى إعلاماً.
(بَأْسًا شَدِيدًا)البأس هو الشقاء والتعب ، والمراد به هنا عذاب الدنيا بالاستئصال والإبادة ، أو بإنزال الوباء، أو قطع المطر، وعذاب الآخرة بالخلود في النار .
“مِنْ لَدُنْهُ ” من عنده ،والعذاب يتناسب مع المعذِّب وقوته، فإنْ كان العذاب من الله فلا طاقة لأحدٍ به، ولا مهربَ لأحد منه.
ولما ذكر الله الإنذار لأهل الكفر، ذكر البشارة لأهل الإيمان، فقال جل ذكره: “وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ” والمراد به الجنة وما فيها من النعيم المقيم والثواب العظيم، ويؤيد كونَ المراد بالأجر الحسن الجنة قوله عز من قائل:
” مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا” أي مقيمينَ في أجرهم وهو الجنة خالدين فيها أبدًا.
وكان لا بُدّ أنْ يوصَف أجر الله الحسن بأنه دائم، و(أنهم ماكثين فيه أبداً) ؛ لأن هناك فرقاً بين أجر الناس للناس في الدنيا، وأجر المنعِم سبحانه في الآخرة، لقد أَلِفَ الناس الأجر على أنه جُعِل على عمل، فعلى قَدْر ما تعمل يكون أجرك، فإنْ لم تعمل فلا أجرَ لك.
أما أَجْر الله لعباده في الآخرة فهو أجر عظيم دائم، فإنْ ظلمك الناس في تقدير أجرك في الدنيا، فالله تعالى عادل لا يظلم يعطيك بسخاء؛ لأنه المنصِف المتفضّل، وإنِ انقطع الأجر في الدنيا فإنه دائم في الآخرة؛ لأنك مهما أخذتَ من نعيم الدنيا فهو نعيم زائل، إما أنْ تتركه، وإما أنْ يتركك.
تفسير قوله تعالى: (وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً)،أي: ويحذر الله سبحانه من بين الكافرين الذين استحقوا عذابه الشديد السابق هؤُلاء الفرق الثلاث، الذين نسبوا لله ولدا، وهم:
(1) كفار العرب المشركون الذين قالوا الملائكة بنات الله!
(2) واليهود الذين زعموا أن عزيرا ابن الله!
(3) والنصارى الذين قالوا المسيح ابن الله!
وإنما خص الله تبارك وتعالى هؤُلاء الفرق بهذا الإنذار مع دخولهم في عموم الإنذار السابق؛ لشدة إمعانهم في الكفر، وقبح اجترائهم على الله عز وجل.
تفسير قوله تعالى: (مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5) أي ليس لهؤلاء الكفرَة الفجرَة، باتخاذه سبحانه وتعالى ولدا، شيئا من علم ؛ وليس لآبائهم وأَسلِافهم الذين قلدوهم علم بما قالوه: أَصواب هو أَم خطأ.
” كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ “(كَبُرَت)عظمت مقالتهم، وليس المقصود بـ(كلمة) هنا كلمة واحدة أو مفردة، وإنما المقصود جنس الكلام.
والكلمة تُطلَق ويُراد بها الكلام، فالآية عَبَّرتْ عن قولهم: {اتخذ الله وَلَداً} [الكهف: 4] بأنها كلمة، كما تقول: ألقى فلان كلمة. والواقع أنه ألقى خُطْبة.
ومن ذلك قوله تعالى: {حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ رَبِّ ارجعون لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا} [المؤمنون: 99 – 100] فسمَّى قولهم هذا {كَلِمَةً} .
ومنها قوله تعالى: {قُلْ ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله. .} [آل عمران: 64] فسمَّى كل هذا الكلام كلمة.
(من أفواههم)دلالة على أن هذا الأمر ليس له أصل في قلوبهم ، ولم يحرروه على بينة وبرهان؛ لأنه أصلاً لا يوجد وإنما تتلقفه الأسماع ، وتقوله الأفواه (إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا )
تفسير قوله تعالى: (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا)
شُبهت حاله صلى الله عليه وسلم، في شدة حزنه على إعراض قومه وتوليهم عن الإيمان بالقرآن – شبهت حاله هذه – بحال من يُتوقع منه إهلاك نفسه على عدم تحقق أمر أهمه، فقيل له رحمة به وإِشفاقا عليه: لا تهلك نفسك حسرة عليهم، بل هون عليك، وبلغ رسالة ربك، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها.
“على آثارهم “الآثار جمع أثر ، فالمعنى: على أثر توليهم وإعراضهم عنك.
“إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ “الحديث القرآن الكريم (أسفاً) أي: للتأسف على توليهم وإعراضهم عنه.
. والأسف: الحزن العميق، ومنه قَوْلُ يعقوب عليه السلام: {ياأسفى عَلَى يُوسُفَ. .} [يوسف: 84] وقوله تعالى عن موسى لما رجع إلى قومه غاضباً من عبادتهم العجل: {فَرَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً. .} [طه: 86]
والمعنى الإجمالي للآية:فلعلك أيها الرسول مهلك نفسك أسفا، عقب انصرافهم عنك، إن لم يومنوا بهذا القرآن الذي هو حديث الله وكلماته، ووحيه إلى عباده – ليهتدوا به.([1])
تفسير قوله تعالى:” إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8) الكهف
{زِينَةً لَهَا}: أي بهجة لها وجمالًا.
{صَعِيدًا جُرُزًا}: ترابا، لا نبات فيه، يقال: جُرِزت الأرض: إذا ذهب نباتها بقحط أو جراد.
والمعنى:إنا أنشأنا جميع ما على الأرض: حيوانا كان أَو نباتا أَو غيره – أنشأناه زينة لها ولأهلها، ينتفعون به ويتمتعون إلى حين.
“لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا “لنعاملهم معاملة المختبر، ثم نجزىَ كلًّا منهم علي حسب عمله وإخلاصه لله فيه، فكل العباد نبتليهم بالتكاليف ونحاسبهم عليها ؛ فمن خالف ربه وعصاه عوقب علي عصيانه ومخالفته ؛ ومن أحسن أثيب على إحسانه .
“وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا “الجرز: الأرض التي لا ماء فيها ولا نبات، وهذا مآل الأرض بعد ذلك، ما على الأرض كله سوف يصبح تراباً لا نبات فيه ، فكل هذه الجبال والأنهار والأودية والبشر والحيوانات تصبح لا شيء، لا شجر ولا نبات ولا ماء ولا مطر ولا إنسان ولا حيوان، وهذا هو المصير([2]).
وفي هذه الآية الكريمة تكميل لسبب نهيه صلى الله عليه وسلم عن إجهاد نفسه الرحيمة فوق طاقتها؛ كأن الله تعالى يقول له: لا تحزن أَيها الرسول بما عانيت من تكذيب قومك لما أنزلنا عليك، فإنا قد جعلنا ما على الأرض من فنون الأشياء زينة لها، اختبارًا لأهلها؛ وسينتهي العُمران فيها إلى خراب، والحياة فيها إلى موت، ثم نجزي كل نفس بما أسلفت وسننتقم لك منهم.
الفصل الثاني
تفسير الآيات من 9-18
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)
ذكر ما روي من خبر أهل الكهف
يروى في الأخبار أن هؤلاء الفتية ([3])،كانوا في بيئة تعبد الأصنام ، فقالوا: كيف يتخذ الناس من حجر صنماً ثم يقول لهم ملكهم: هذه آلهتكم فاسجدوا لها وتقربوا إليها، واذبحوا عليها قرابينكم، فلما علموا الحق كفروا بالأوثان، واتخذوا مكاناً للصلاة وللعبادة، وبلغ الملك الخبر، فأرسل إليهم: ألستم مؤمنين بآلهتي؟ فقالوا: لا.
فأمهلهم للغد وتوعدهم إن لم يرجعوا عما هم فيه بأليم العقاب ، وقبل أن يأتي الغد فكروا طويلاً، فقال بعضهم لبعضهم: نحن غداً إما مشركون، ونعوذ بالله من الشرك، وإما مقتولون شر قتلة، فماذا نصنع؟! فتداولوا الأمر، وكانوا ستة، واتفق الكل على الاختباء ، وبينما هم ذاهبون إذا براع يلحق بهم فيسألهم أن يذهب معهم، فأبعدوه، فأصر، فاصطحبوه فتبعه كلبه، فأصبحوا سبعة وثامنهم كلبهم، فدلهم الراعي على كهف فساروا إليه، فلما دخلوه ضرب الله على آذانهم، فمنع أن يصل إليها سماع أي شيء، لأن النائم إذا كثرت عليه الأصوات أزعجته وأيقظته، والله أراد أن ينيمهم ثلاثمائة من السنين وتسعاً، فأصم آذانهم عن أن يسمعوا شيئاً. وكانت الشمس تدخل عليهم صباحاً ومساء ولا تمسهم، فيبقى شعاعها وضوؤها، وإلا لو مستهم الشمس لأضرت بهم ،وكانوا يتحركون يميناً وشمالاً، فالهواء يدخل، والشمس تنظف وتطهر، ولكن لا تمس الأجساد، بل تميل عنهم يميناً وشمالاً في الصباح وفي المساء.
وجعل الله تعالى عليهم في الكهف هيبة، حتى لا يكشف أمرهم قبل أوانه.
فلما أفاقوا قال بعضهم لبعض: “كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ “ [الكهف:19]، وأحسوا بالجوع الشديد ، فأرسلوا أحدهم ليأتيهم بالطعام، وأوصوه بأن يتلطف حتى لا يشعر به أحد ، فلما خرج إلى المدينة تفاجأ بأن المدينة تغيرت معالمها فالناس غير الناس و لباسه غير لباسهم، ، والبنيان والعمران والطرقات …. فكان يمشي في الطريق وعيناه زائغتان، يتساءل: هل هذه المدينة هي مدينتي؟! أم غيرها ؟ وهكذا إلى أن توقف أمام خباز ليشتري خبزا فقدم له درهماً فأخذ الخباز الدرهم، فوجده قد مضى على ضربه قرون ، فبدأ يحقق النظر في الشخص الواقف أمامه ، فالوجه غريب، وزيه غير الأزياء التي يلبسها الناس، ، فأمسكه، وقال له: لعلك وقعت على كنز، فإما أن تدلني عليه وأما أن أبلغ بك الإمبراطور الحاكم؟! فارتعد وخاف أن يأخذه إلى الملك الظالم، فيلزمه بالشرك أو يقتله، فينكشف إخوانه الذين تركهم جائعين في الكهف…. ثم أخذ الخباز يطلع جيرانه على هذا الدرهم، فتجمع عدد منهمً، وإذا بالكل يلتف حوله، قائلين: من أنت؟ ومن أين جئت؟ ومن أي بلد؟
فأخذوه إلى الحاكم ، وهو يظن أنهم سيأخذونه إلى الملك الظالم ، فوقف أمام الحاكم ، فوجده حاكما آخر غير الحاكم الظالم الذي توعدهم بالأمس ، فشعر بشيء من الطمأنينة .
فسألوه: من أنت ؟ ومن أين جاءك هذا الدراهم؟! فقال: لم أسرقه، ولم آخذه من أحد، ولكن سأذكر لكم قصتي ، ثم ذكر قصته لهم وما كان من خبرهم ….
وتأكيدا لكلامه قال: اذهبوا معي إلى إخواني في الكهف ، فلما دنوا من الكهف ومعه الملك وحاشيته قال لهم: ائذنوا لي أن أدخل عليهم أولا أعرفهم ما كان بيني وبينكم لئلا يفزعوا ، وطال انتظار الملك وحاشيته فأرسلوا أحدهم يستطلع الأمر فإذا بهم قد ماتوا جميعا.
تفسير قوله تعالى::” أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9)”
الكهف : الفجوة التي في وسط الجبل إذا ضاقت فهي غار، وإذا اتسعت فهي كهف.
والرقيم : الرقيم من رقم يرقم إذا كتب.وهو اللوح الذي رقمت فيه أسماءُ أصحاب الكهف، أو قصتهم؛ لما ظهر قومهم عليهم دونوا أسماءهم في لوح..
والمعنى :أن القرشيين لما سألوا النبي عن أصحاب الكهف سألوه باستعظام، وهذا الاستعظام جعل النبي عليه الصلاة والسلام، يعتقد أن أصحاب الكهف أعظم آيات الله ؛ فالله يقول لنبيه: إن خبر أصحاب الكهف، وإن كان خارقاً للعادات إلا أنه ليس أعظم الآيات، فقد جعل الله جل وعلا آيات أعظم وأعجب من نبأ أصحاب الكهف، وإن كان نبؤهم عجيباً.
تفسير قوله تعالى:“إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ” (10) الكهف
“أوى ” :دخل
الفتية:جمع فَتِى بوزن صبىّ؛ وهو الشاب الحَدَث القوي.
“وَهَيِّئْ “يسِّر وسهِّل.
“رَشَدًا”:أَي إصابة لطريق السداد والرشاد ([4]).
والمعنى :اذكر حين التجأ هؤُلاء الفتية إلى الكهف، فرارا بإيمانهم من الشرك وأهله، فقالوا ضارعين إلى ربهم: يا ربنا هب لنا من خزائن رحمتك الواسعة، وسدد خطانا، وصوبنا فيما نريد أن نصل إليه من نجاتنا، وذلك لنعبدك وحدك.
تفسير قوله تعالى: “فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا”
“فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ “المراد أنمناهم إِنامة ثقيلة لا تنبههم فيها الأصوات.
ثم يقول تعالى: {فِي الكهف سِنِينَ عَدَداً} ومعنى عدداً أي: سنين كثيرة؛ لأن القليل لا يُعَدُّ لأنه معروف، فإنْ ذكر العدّ فاعلم أنه للشيء الكثير، كما تقول: فلان عنده مليون عَدّاً ونقداً.
أَي : فاستجبنا دعاءَهم عقب ندائِهم، وأَنمناهم في الكهف آمنين مطمئنين، نومةً ثقيلة طويلة تشبه الموت، بلغت سنين كثيرة تُعَد عَدّا ،وسيأتي التصريح بعدد هذه السنين في قوله تعالى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ … } وتخصيص الضرب على الآذان بالذكر، مع مشاركة سائر الحواس والمشاعر لها في الحجب عن الشعور والإِدراك عند النوم – لأَن الآذان هي الوسيلة إِلى التيقظ غالبا, ولا سيما عند انفراد النائم واعتزاله عن الخلق.
تفسير قوله تعالى: (ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا )
لما كانت نومة أَهل الكهف في عمقها وطولها كأنها الموت، عبر عن إِيقاظهم منها بالبعث فقال سبحانه: ” ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ” والمقصود: أيقظناهم.
(لنعلم)لنظهر ما علمناه بشأن لبثهم ([5]).
“أَيُّ الْحِزْبَيْنِ “والمراد بالحزبين بعض الفتية: وهم المترددون القائلون: {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} – والحزب الآخر أَهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم، وكان عندهم تاريخ غيبتهم .
والأمد: هو المدة وعدد السنين.
والمعنى : ثم أَيقظناهم من تلك النومة الشبيهة بالموت؛ لنظهر ما علمناه بشأن لبثهم، بإِيضاح الأحداث التي مرت بهم، حتى يتبين للناس أَىُّ الفريقين أدق إِحصاءً لمدة لبثهم: ألبثوا يومًا أو بعض يوم، أَم لبثوا أَحقابًا ودهورًا؟!
تفسير قوله تعالى: “نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى “
{نَحْنُ} أي: الحق سبحانه وتعالى، فهو الذي يقصُّ ما حدث بالحق، فلو أن القاصَّ غير الله لتُوقّع منه الخطأ أو النسيان، أو ترك شيء من الأحداث لِهَوىً في نفسه، إنما إنْ جاءك القصص من الله فهو الحق، كما قال في آية أخرى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص. .} [يوسف: 3] إذن: هناك قصَص ليس بالحسن، وهو القَصَص غير الدقيق.فالقصَصُ القرآني يضمن لك منتهى الدقة في عرض الأحداث، ويُصوّر لك كل اللقطات، وكلمة قصة أو قَصَص تدلُّ على دقة التتبع؛ لأنها من قصَّ الأثر أي: تتبَّعه وكان لهذه المهمة رجال معروفون بقصّاصي الأثر، وهم الذين يتتبعون الواقع.
وهذه الآية “نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ “ شروع في تفصيل ما أُجمل آنفا أي نحن نخبرك الخبر اليقين الصادق عن هؤُلاء الفتية وهو ما يلي:
{إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى}:أَي إِنهم جماعة من الشباب هُدوا بفطرتهم إلى ربهم فاطر السماوات والأرض، فأَيقنوا إن الذي أَبدعهما هو الحقيق بأن يعبد بحق، وأَن يكون وحده ربًّا لهذا الكون وإِلَهًا، هكذا اهتَدوا إلى الله بآياته، وهكذا آمنوا بربهم على هدى وبصيرة، فزادهم ربهم بالعمل الصالح والعقل الرشيد يقينا إلى يقينهم، وإِيمانا مع إيمانهم.
تفسير قوله تعالى: “وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا”
أي قوَّينا قلوبهم وثبتناهم على الحق حين قاموا في قومهم فقالوا كلمة الحق، لا يخافون إِلا الله، ولا يرجون أحدا سواه: قالوا ربنا وخالقنا هو رب السماوات والأرض وخالقها وحده، فهو الحقيق بألا نعبد إلا إِياه، وألا نتخذ إلها ولا رب سواه، هذا اعتقادنا الذي نحيا ونموت عليه، لن نتحول عنه أَبدا، وقولهم:
{لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا}: أي: ميلاً عظيماً عن الحق .
تأكيدا لقولهم الحق الذي قالوه؛ واعتقادهم الحق الذي اعتقدوه ؛ أي والله لو قلنا غير هذا القول، وعبدنا مع ربنا الذي خلقنا إلها غيره – لكان قولنا هذا حينئذ بعيدا عن الحق والصواب غاية البعد، وكنا بعبادة غير ربنا وخالقنا مفرطين غاية الإفراط في الضلال والظلم!
وفي هذا القول الذي قاله الفتية دلالة على أنهم دُعُوا إلى عبادة الأصنام وحُمِلوا عليها وأُنذروا على تركها، وكان ذلك بين يدي الملك الجبار العابد للأوثان.
تفسير قوله تعالى: {هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) }الكهف
أَي أشرك أهل بلدنا هؤُلاء بعبادة غير الله، من الأصنام التي اتخذوها آلهة فعبدوها معه فهلا يأتون على عبادتهم لهذه الأصنام ببرهان ظاهر وحجة واضحة!!
وهذا تبكيت صارخ؛ فمحال أن يوجد أحد سلطان بيّن على أن مع الله آلهة؛ لأنه أصلاً ليس مع الله آلهة، فالشيء غير الموجود يستحيل إثباته، فليس مع الله شريك فلا يمكن أن يأتي أحد بسلطان على أن مع الله شريك؛ لأنه ليس مع الله شريك أصلاً.
ثم بينوا أَن قومهم أَظلم الظالمين فقالوا:{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}: أَي لا أحد أشد ظلما ممن اختلق على ربه كذبا بنسبة الشريك إِليه؛ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرًا.
تفسير قوله تعالى: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا}
مِرفَقًا:المرفق : ما يُرتَفَق وينتفع به، اي ما ترتفقون به من طعام وشراب وأمن.
كان قومهم يعبدون مع الله آلهة شتى، فاعتزلت الفتية عبادة تلك الآلهة ولم تعتزل عبادة الله تعالى، فقال بعضهم لبعض: وإِذ فارقتم القوم بقلوبكم وبدينكم، ففارقوهم أَيضا بأبدانكم، فالجئوا إِلى الكهف لعبادة ربكم مخلصين له الدين، يبسط عليكم رحمة من عنده يستركم بها في الدارين، ويسهل لكم من أَمركم ما تنتفعون به في حياتكم، قالوا ذلك ثقةً بفضل الله تعالى، وقوةً في رجائه، لتوكلهم عليه سبحانه.
وقد دلت الآية الكريمةعلى مشروعية الهجرة ؛ ولا شك أَنه إذا اشتدت الفتن في دار الكفر، ولم يستطع من بها من المسلمين أَن يأمنوا على أنفسهم ودينهم – فعليهم أن يهاجروا حيث يأمنون على دينهم وأنفسهم ؛ وقد هاجر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، بأَمره فرارا بدينهم من الفتن! ثم هاجر صلى الله عليه وسلم هو وصاحبه! واحتملوا في هجرتهم أَهوالًا ثقالا، كان عاقبتَها نصرُ الله والفتح.
تفسير قوله تعالى: “وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا “الكهف:17
المفردات:
{تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ}: تتنحى وتميل عنه.
{تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ}:تتركهم ناحيته، من قرض بمعنى ترك.
{فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ}:في مُتَّسَع من الكهف.
الآيات بينها وبين السابق ما يسمى عند البلاغيين: إيجاز حذف، وإيجاز الحذف في هذه السورة: أن الله لم يذكر أنهم اتفقوا على الكهف، ولم يذكر مسيرهم إلى الكهف، وإنما أتى بالخطاب مباشرة ؛ فجاءَت هذه الآية لتُبيِّن حالهم بعد أن أوَوْا إِلى الكهف استجابة لمشورة أحدهم، وقد حدث بعد لجوئهم إِلى الكهف أَنهم ناموا, ولم يدر بخلدهم ماذا يكون من أَمرهم بعد نومهم من عجائب الأمور، فضرب الله على آذانهم حِجابًا كثيفًا يمنع سماعهم لما يجري حولهم، بأَن جعل نومهم عميقًا يشبه رقود الموتى ولم يصرح بذلك هنا اكتفاء بإِجمال حالهم من قبل في قوله تعالى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا}.
والخطاب في قوله تعالى: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ} إِمَّا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإما لكل مخاطب .
والمعنى: وترى أَيها الباحث عن حالهم في كهفهم – ترى – الشمس إذا طلعت تميل عن كهفهم جهة يمين الداخل إِليه، وتراها عند غروبها تعدل عنه ولا تدخله جهة الشمال، مع أَنهم في متسع من الكهف، بحيث يمكن معه أَن يصلهم شعاع الشمس، ولكن الله تعالى حماهم من حرِّها فأبعد شعاعها عنهم حتى لا تؤذيهم بحرارتها طول النهار وكرامةً لهم، في حين أَنه سبحانه جعل الهواء يدخل إِليهم، لتبقى حياتهم إِلى حين بعثهم من رقادهم.
{ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ}:أي ذلك الذي حدث من تحول أَشعة الشمس عنهم، وعدم وصول ضوئها الحارِّ إليهم طَوَالَ النهار – كل يوم مدة رقودهم – مع اتساع مدخل الكهف وصلاحيته لتوصيل أشعة الشمس إليهم – ذلك كله – من آيات الله العظيمة الدالة على كمال قدرته وحكمته في تدبيره، حيث أبطل حكم العادة، ليعم الناس أن الحكم لله لا للأسباب العادية، كما أَنها من آيات الله على كرامة أَهل الكهف ومنزلتهم لديه، وأنه تعالى يحمى أولياءه، ويكرم أصفياءه.
{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا}:أَي أن مَنْ يرشده الله سبحانه إرشادا يوصلُه إلى الحق، فهو الواصل إليه لا محالة، لأن نفسه مستسلمة إِلى إرشاد الله، ومستجيبة لآياته ودلائله، ومن كان كذلك فله الجزاءُ الكريم في الدنيا والآخرة، أما من يصرفه الله ويبعده عن الهدى لأنه اتَّجَه بسوء اختياره إِلى الضلال وأوغل فيه، فلن تجد له معينا يرشده ويهديه إلى الحق، ويأخذ بيده إلى سواء السبيل.
وقَد أَفادت هذه الجملة من الآية الثناء على أهل الكهف والشهادة لهم بإِصابة الهدى والرشاد، وأَن ذلك كان بتوفيق الله وهدايته لهم، لسلامة فطرتهم، وصفاء قلوبهم وعقولهم وانصرافهم عن تقليد آبائهم، إلى اتباع آيات الهدى والرشاد، وأما غيرهم من عبدة الأوثان، فقد اتبعوا هَوَاهم، وأعرضوا عن هُداهم، فتخلى الله عنهم، لأن سنة الله أن من يقبل على الله يهده الله، ومن ينصرف عن هداه، فهو متورط في الضلال، وليس له سبيل إِلى الهدى، ولا معين له على الوصول إليه، بعد أن تخلى الله عن إنقاذه، لإصراره على الضلالة.
تفسير قوله تعالى: “وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)
{أَيْقَاظًا}:جمع يَقِظ بمعنى منتبه غير نائم.
{وَهُمْ رُقُودٌ}:راقدون – أي نائمون.
{بِالْوَصِيدِ}:بالفِناء أمام الكهف، ويطلق الوصيد أَيضًا على العَتبَة، فلعله كان يجلس بباب الكهف ومدخله عند موضع العتبة لحراستهم.
{لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ}:لو رأيتهم وشاهدتهم.
والمعنى :وتظنهم أيها الناظر إليهم أَيقاظا وهم نيام ؛ لأن الغالب على النيام استرخاءُ الأعضاءِ وهيْئَاتٌ معينة، فإِن لم توجد حَسِبَهُم الرائِي أيقاظًا وإن كانت عيونهم مقفلة.
{وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ}:ونقلبهم – وهم رَقُودٌ – جهة أيمانهم وجهة شمائلهم حتى لا تأكل الأرض أجسادهم، ومعلوم أن الله قادر على أن يحفظ أجسادهم دون تقليب، لكن المقصود إجراء سنن الله جل وعلا في الكون.
{وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ}:أَي أن كلب أَصحاب الكهف مادٌّ ذراعيه وهو جالس على مُؤخّرته بفِناء الكهف أو بمدخله كأنما هو يحرسهم وهم نيام.([6])
{لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا}:أي لو عاينتهم وشاهدتهم لأعرضت بوجهك عنهم، ولملئت منهم خوفًا بسبب ما أَلقى الله عليهم من الهيبة والجلال وقيل: إن سبب الرعب فيمن يراهم ما كانوا عليه من طول الشعور والأظفار وصفرة الوجوه وتغير الثياب.
وهذا القول غير مقبول، فإنهم لو كانوا كذلك لأنكروا أحوالهم بعد أَن تيقظوا, ولم يقولوا لبثنا يوما أَو بعض يوم، وَلَمَّا بعثوا أَحدهم إلى المدينة ليشتري لهم منها طعاما، وأَوصوه بأن يتلطف ولا يشعر أحدا بهم؛ لأن منظرهم يوحى إِليهم بأنهم من أهل القرون الماضية، فلا مجال لأن يقولوا لصاحبهم في شأن الطعام ما قالوا, ولأنه لما ذهب إلى المدينة لم ينكر حال نفسه وإنما أَنكر معالم المدينة وأَهلها، فالحق أَن الله تعالى لم يغير حالهم بعد مئات السنين، ليكون ذلك آية بينة لمن يراهم بعد يقظتهم كما سنشرحه إن شاءَ الله تعالى.
الفصل الثالث
تفسير الآيات من 19- 26
وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20) وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21) سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)
تفسير قوله تعالى:وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ ……(19)
“وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ “بعثهم هنا بمعنى: أيقظهم من سباتهم، وذلك أنهم دخلوا في الصباح فناموا، واستيقظوا عند غروب الشمس أو قبله بقليل، فظنوا أنهم ناموا من الصباح إلى المساء
“لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ” وهنا قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ ” كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ “ لو كان هناك تغير في أجسادهم بأن طالت أشعارهم أو أظفارهم، أو انحنت ظهورهم أو دب على رءوسهم المشيب، لما قال القائل منهم: “لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ “؛ لأنه محال أن يقع هذا في يوم أو في بعض يوم.
“قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ “ ، تساءلوا فلما علموا أن التساؤل في الأمر القديم لا ينفعهم لجئوا إلى المشكلة التي يعاصرونها، وهي: أنهم جوعى يحتاجون إلى ما يسد رمقهم “قالوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ “ الورِق بكسر الراء الفضة المضروبة كالدراهم.
“فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا “أطيب ” فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا ” وليستعمل اللطف في المعاملة حتى لا تقع خصومة تكشف أَمرهم.
تفسير قوله تعالى: “إنهم إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا”
أي: إما يرجموكم بالحجارة حتى يقتلوكم، وفعلاً فقد كانوا يقتلون بالحجارة، أو يعيدوكم في ملة الشرك والكفر والعياذ بالله.
” وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا ” أي: إذا عدتم إلى الشرك والكفر فلن تفلحوا لا في هذه الدنيا ولا في الآخرة.
تفسير قوله تعالى: (وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق…)
” وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ “الله جل جلاله قدر الأسباب في العثور على هؤلاء الشباب المؤمنين حينما ذهب ذلك الفتى الذي بعثه أصحابه يقيناً أنه أخرج تلك الورق فعرفها من أخرجها له أنها قديمة، فصار بينهما نوع من المساءلة التي تدل عليهم، وظن البعضُ أن هذا الفتى الغريب قد وقع على كنز عجيب ، فرفعوا أمره للملك الصالح ، الذي وجد ضالته حين انكشف أمرُ الفتى ، وجاءته الحجةُ الساطعةُ التي طالما انتظرها ، ففرِح أيّما فرح أن ساق الله إليه الدليل المادي على بعثِ الأبدان ، وخرجت المدينة وراء الفتى وكأنها تشيعُه حيا إلى مثواه ، فيعودُ إلى رفاقه وينضمُّ إليهم في رحلةٍ إلى دار الخلود ، بينما القوم ينتظرون أمام باب الكهف ، فلما طال انتظارُهم أجمعوا أمرهم على دخول الكهف ، فراعهم أن وجدوا الفتية قد أخذوا مضاجعهم في مشهدٍ مهيبٍ بعد أن قدموا للبشريةِ قصةً من روائع القصصِ .
وكما أيقظناهم أعثرنا الآن عليهم، أي أطلعنا عليهم أهل البلاد ، فكانت هذه آية من أعظم الآيات توقنهم بأن البعث حق، وَأَنَّ القيامة لا شك في إتيانها .
“إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ “يتخاصمون في نومهم ثانية بعد يقظتهم أَهو موت أم هو رقود كما كانوا.
“قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ “ولا شك أن الذي غلب على أمرهم هو الملك الحاكم، وكان مؤمناً.
” لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا “أقسموا بالله، فهذه اللام موطئة للقسم، ومؤكدة بنون التوكيد الثقيلة. كأنهم قالوا: والله لنتخذن عليهم مسجداً، وكأنهم تنازعوا في البناء، ويظهر أنهم كان معهم وثنيون جاءوا للاستغراب والتعجب، فقال هؤلاء الذين غلبوا على أمرهم وأصبح أمرهم بيدهم
(لنتخذن عليهم مسجداً)،ولا يكون هذا عادة إلا للسلطان، وكان الملك حاضراً ومعه كبار من قومه ورجاله.
فقوله: “لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا “أي: مكاناً للعبادة، نسجد فيه لله.
ولم يرد في القرآن هل بنوا المسجد فعلاً أم لم يبنوه؟ إنما أخبرنا عن مقولتهم، وكونهم قالوا ذلك لا يدل على أنهم فعلوه.
حكم اتخاذ المساجد فوق القبور
استدل البعض بالآية على جواز اتخاذ المساجد فوق قبور الصلحاء والصلاة فيها، وهو استدلال باطل، فإننا لو سلمنا أن هؤلاء بنوا عليهم مسجدًا للصلاة وفق شرعهم، فإن شرع من قبلنا إنما يكون شرعا لنا إذا لم يرد في شرعنا ما يَردُّه، وقد جاء في شرعنا ما يحرمه ويرده، فقد قال صلى الله عليه وسلم:(لعن الله اليهود والنصارى، كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا عليه مسجداً، أولئكِ شرار الخلق)يقول رواة الحديث: يحذر مما صنعوا.
فالمسجد لا يجوز أن يدفن فيه ميت، ولا أن يتخذ مقبرة، ولا يجوز أن يصلى إلى قبر أو عليه.
شبهة أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم اليوم في مسجده :
فإن قال قائل: إن قبر النبي صلى الله عليه وسلم اليوم في مسجده. نقول: إن الصحابة لم يتخذوا مسجداً على قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فالمسجد بني قبل وجود القبر، وإنما الحقيقة التاريخية أن حجرة عائشة رضي الله عنها التي قبر(دفن) فيها النبي صلى الله عليه وسلم هي أصلاً خارجة عن المسجد ، والمسجد كان الصف الأول منه مواز للحجرة ما يسمى بالروضة الآن وهي المكان المفروش بفراش أخضر، ويوجد إلى اليوم مكان لمحراب النبي صلى الله عليه وسلم المجاور للمنبر داخل الروضة، هذا المحراب كان موضع صلاته صلى الله عليه وسلم، فلما كانت خلافة أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه وسع المسجد من جهة القبلة؛ من جهة الجنوب، والمحراب الذي يصلي فيه الأئمة اليوم هو محراب عثمان لم يصل به النبي صلى الله عليه وسلم وإنما صلى فيه عثمان ، وإنما تأسينا به ؛ لأن الصحابة وهم أفقه منا وأتقى تأسوا بـعثمان عندما جعل قبلة المسجد متقدمة قليلاً من جهة الجنوب.
ثم مضى الأمر على هذا الحال حتى كانت خلافة الوليد بن عبد الملك وهو أحد خلفاء بني أمية وكان له شغف بالبناء والعمارة فأمر عامله على المدينة آنذاك وهو عمر بن عبد العزيز ابن عمه رحمه الله، أمره أن يوسع المسجد، فلما امتدت التوسعة جهة الشرق؛ ولأن الحجرة تقع في جهة الشرق أدخل الحجرات، وقد أخطأ من صنع هذا الصنيع، أخطأ خطأً تاريخياً؛ لأنه ألبس على الناس أمرهم، فظن المتأخرون من الناس أن القبر بني داخل المسجد وإلا فإن الحجرة كانت خارج المسجد في عهد الرسول ومن بعده إلى زمن خلافة الوليد وهذا كله تقريباً عام 90 هجرياً أو أكثر بقليل، فلا علاقة للقبر بالمسجد أو المسجد بالقبر.
ثم إنه في العهد الحالي عندما جاءت التوسعة توخى القائمون عليها أن تكون التوسعة شاملة للمسجد كله وإنما تأخروا من جهة الشرق قليلاً حتى لا يصبح القبر وسط المسجد، ويلاحظ الإنسان في بنيان الحرم أن فيه مثل المستطيل ثم تبدأ التوسعة فمكان القبر من جهة الغرب أو الشرق لا يوجد توسعة في مقدمة الصفوف، لا توجد توسعة حتى لا يصبح القبر متوسطاً للمسجد، وفي هذا محاولة لإبعاد اللبس.
تفسير قوله تعالى: “سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا “الكهف:22”.
جاءت هذه الآية، لتبين أن بعض معاصري النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب سيخوضون في قصتهم، وأنه تعالى نهاه عن أن يخوض معهم في أمرهم، وأن لا يزيد على ما أنزله الله إليه في شأنهم، وأن لا يستفتيهم في بيان أَمرهم أكثر بما نزل به الوحي، فليس بحاجة إلى ذلك، وليسوا هم على مستوى الفتوى في أَمر لا يعلمه إلا الله وقليل من عباده.
والمعنى:سيقول الخائضون في شأنهم من أهل الكتاب: أهْلُ الكهف ثلاثةُ أَشخاص من الرجال رابعهم كلبهم، ويقول آخرون منهم: هم خمسة سادسهم كلبهم، سيقول هؤلاء وأولئك ما قالوه في عددهم ، رميا بالخبر الغائب من غير سند لما قالوه، ويقول جماعة ثالثة منهم: أهلُ الكهف سبعة وثامنهم كلبهم، يقولون ذلك عن ثقة وطمأنينة نفس ، ولذلك لم يتبع الله عبارتهم بما أتبع به عبارة من سبقهم، من أَنهم يرجمون بالغيب، بل أشار إِلى علمهم بقوله تعالى:{قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ}: فهم من القليل الذين يعلمون عدتهم، وقد صح عن ابن عباس أنه قال: “أَنا من أولئك القليل”.
{فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا}:
الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولكل من يريد أَن يتحدث في أمرهم من أَهل العلم مع سواه ممن يخوض في شأنهم.
والمعنى:إذا كنت قد عرفت أن من يخوض في عددهم، منهم المخطىءُ ومنهم المصيب، فلا تجادلهم في شأن هؤلاء الفِتْية إلا جدالًا ظاهرًا لا عمق فيه، بأن تقتصر في أمرهم على ما نزل به الروح الأمين، من غير تجهيل للجاهل منهم ولا تفضيح لحاله، فإن ذلك يخل بمكارم
الأخلاق التي جاء الإسلام ليتمها، ولا تستفت فيما لم يتعرض الوحي لبيانه من أحوال أهل الكهف -لا تستفت- أحدا من الخائضين في شأنهم من أهل الكتاب، فلست بحاجة بعد ما أُوحي إليك إلى المزيد من التعريف بأحوالهم، فإن فيه العبرة للمعتبر، وليس مَنْ يُسْتَفْتَى في شأنهم من أهل الكتاب أهلا للفتوى لجهالتهم أو ضحالة ما عندهم من أَمرهم.
تفسير قوله تعالى: “وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) ” الكهف
لا يزال الكلام متصلًّا بشأن أَهل الكهف، فإن هذه الآية نزلت حين سألت قريش النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح وأصحاب الكهف وذي القرنين، فقال صلى الله عليه وسلم غَدًا أُخْبركم، فأبطأ عليه الوحي ثم نزل الوحى بعد الموعد، وقد نبَّه الله فيه نبيه صلى الله عليه وسلم بهذه الآية أن لا يقول في أي شأن من الشئون سواءٌ كان في أمر الشريعة أو سواها -أن لا يقول- إني فاعل ذلك غدًا إلا مرتبطًا بقوله إن شاء الله فإن أَمكنه أن يفعله غدًا فعله، وإِلا فقد وقع التخلف وفقًا لمشيئة الله الذي لا يقع في ملكه إلا ما شاءه سبحانه، ونحن مكلفون بهذا التوجيه الإلهي لرسوله صلى الله عليه وسلم، فإنه أُسوتنا وإمامنا.
ويقولون:إن الشخص إذا أراد أن يعاتب حبيبه على شيء، فإنه يعطيه الطلب ثم بعد ذلك يعقبه بالعتاب، ولا يقدم العتاب على الإجابة أو على الطلب سواءً أجاب أو لم يجب، إنما يؤخر العتاب، فالله جل وعلا أخر المدة الزمنية، ولم يعاتب نبيه، وأخبر نبيه بنبأ أصحاب الكهف ؛ ثم لما قص جل وعلا على نبيه نبأ أصحاب الكهف بالحق، قال له في نهاية الخطاب: “وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا “الكهف:23
والمعنى:ولا تقولن لأجل شيء تعزم على فعله: إني فاعل ذلك غدًا أو فيما يستقبل من الزمان إلا مُقْتَرِنًا بمشيئة الله، وذلك بقولك إِن شاء الله، لتخرج من العهدة بالتخلف عن الفعل فى الموعد المضروب، لعدم تحقق مشيئة الله به فيه، فإن حصل نسيان للمشيئة وقت الوعد بالفعل فليذكرها الإنسان عندما يتذكر، وفي ذلك يقول الله تعالى:
تفسير قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا}
أي واذكر مشيئة ربك إِذا تذكرت أنك نسيتها، تداركًا لما فاتك من ذكرها([7])، وقل أَرجو أَن يوفقنى الله لشيء أقرب رشدا وَخَيْرًا من هذا الذي نسيت التعليق على مشيئة الله تعالى بشأنه.
تفسير قوله تعالى: “ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وَازْدَادُوا تِسْعًا “الكهف:25.
وهذا من الإعجاز العلمي في كتاب الله ، فثلاثمائة عام ميلادي تساوي بالضبط ثلاثمائة وتسع سنوات هجرية ” ، فربنا عزَّ وجل أعطى المدة على التقويمين ، الشمسي ، والقمري .
﴿ وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ ﴾هذا بالسنة بالشمسية
﴿ وَازْدَادُوا تِسْعاً﴾على التقويم القمري ، وليسَ الهجري ، إذّ لم يَكُن وقتها تقويم هجري .
لِمَ قال هكذا: (وازدادوا) ألم يكن كافياً أن يقال: ثلاثمائة وتسع سنوات؟
فالجواب: هناك السنة القمرية، وهناك السنة الشمسية، فهي ثلاثمائة عام شمسية، وثلاثمائة وتسعة أعوام قمرية. والقرن الشمسي يزيد عن القرن القمري بثلاث سنوات في كل مائة عام، فكل مائة سنة شمسية تساوي مائة وثلاث سنين قمرية، فهي ثلاثمائة عام شمسية، وثلاثمائة عام وتسعة أعوام قمرية، ومعنى القمرية: أننا نعد أشهرها برؤية القمر، وكأن الله أراد أن يقول: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا [الكهف:25]؛ لأن الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم هذا السؤال هم أهل قريش، الذي أرشد قريشاً إلى أن تسأل هم أهل الكتاب، فأراد الله أن يقول: لبثوا ثلاثمائة سنين بحسب من أرشد وهم أهل الكتاب بالسنة الشمسية، وَازْدَادُوا تِسْعًا على الثلاثمائة بحساب من سأل وهم: قريش الذين يحسبون بالسنة القمرية، وهذا الجواب لا يقدر عليه إلا الله الذي أحاط بعلم أهل الكتاب، وبعلم قريش؛ لأن العلم بالفوارق بين السنين الشمسية والقمرية قلما يهدى إليه كل واحد ، لكن الله تبارك وتعالى علم نبيه ما لم يكن يعلم، وإلا فإن علم الله أعظم من ذلك وأجل.
تفسير قوله تعالى: ” قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا “(26)الكهف
أي قل يا محمد للناس: الله أَعلم بما لبثوا، فلذا حكى لكم أنهم لبثوا ثلاثمائة وازدادوا عليها تسع سنين، وفْقًا لما علمه الله من أَمرهم.
“لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ”: أي للهِ تعالى علم جميع ما غاب في السموات والأرض وخفى من أحوالها وأحوال من فيهما، فضلا عن علمه بما ظهر فيهما، ما أَعظم بصره بالأشياء وسمعه لها وعلمه بها، فهو إذ ينبئك بمدة لبثهم، فما ينبئك إِلا بالحق .
“أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ “هذا أسلوب تعجب ، والمقصود: عظم سمع الله جل وعلا وبصره.
“مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا”الضمير في “لهم” يرجع إلى أهل الكهف، أو يعود على من في السماوات والأرض ؛ والأظهر: أنه يعود لكل أحد فليس لأحد ولي من دون الله.
والمعنى:قل للناس أيضًا ليس لأهل الكهف من غيره من ولى تولى أَمر إنامتهم تلك المدة، وحفظهم فيها حتى يجعلهم أمارة على البعث، ولا يشرك في قضائه بشأنهم أحدا.
وعلى القول بأن الضمير يعود لأهل السموات والأرض فيكون المعنى : أي ما لأهل السماوات والأَرض من غير الله ولى يتولى أمورهم، وفي جملتهم أهل الكهف، ولا يقبل الله شركة أحد في حكمه.
الفصل الرابع
تفسير الآيات من 27- 31
وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)الكهف
تفسير قوله تعالى: “وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا “الكهف:27
{وَاتْلُ}:مأخوذ من التلاوة بمعنى القراءة .
“لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ “أَيْ لَا مُغَيِّرَ لَهَا وَلَا محرّف ولا مزيل.
” وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً “مَلْجَأً ، أي أحداً تميل إليه أو تلجأ إليه لأن الالتحاد من اللحد وهو الميل، يعني لو أرادك أحد بسوء ما وجدت أحداً يمنعك دون الله .
والمعنى: وَدَاوِمْ أيها الرَسول على تلاوة ما أوحى إليك من القرآن ليهتدي به الراشدون، فقد اشتمل على بيان الغيب الذي لا سبيل لك إلى معرفته، وتضمن من الآيات والمعجزات ما لا سبيل للبشر إِلى الإتيان بمثله، ولا يستطيع أَحد أن يبدل كلمات الله تعالى التي أنزلها عليك وتولى حفظها بنفسه، ولن تجد من دونه ملجأ تلوذ به عند الملمات، فاعتمد عليه في تبليغ رسالة ربك ومعونته إياك بالنصر والتأييد.
التفسير
تفسير قوله تعالى: “وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)الكهف
سبب النزول :
نَزَلَتْ فِي أَشْرَافِ قُرَيْشٍ حِينَ طَلَبُوا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْلِسَ مَعَهُمْ، وَحْدَهُ، وَلَا يُجَالِسَهُمْ بِضُعَفَاءِ أَصْحَابِهِ، كَبِلَالٍ وَعَمَّارٍ وَصُهَيْبٍ وَخَبَّابٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَلْيُفْرِدْ أُولَئِكَ بِمَجْلِسٍ عَلَى حِدَةٍ، فَنَهَاهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: “وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ الْآيَةَ…..” وَأَمَرَهُ أَنْ يُصَبِّرَ نَفْسَهُ فِي الْجُلُوسِ مَعَ هَؤُلَاءِ، فَقَالَ “وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ” [الأنعام: 52]
وعن سَعْدٍ ابْنُ أَبِي وَقَاصٍّ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم ستة نفر فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اطرد هؤلاء لا يجترئون عَلَيْنَا قَالَ: وَكُنْتُ أَنَا وَابْنُ مَسْعُودٍ وَرَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ وَبِلَالٌ، وَرَجُلَانِ نَسِيتُ اسْمَيْهِمَا، فَوَقَعَ فِي نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ما يشاء اللَّهُ أَنْ يَقَعَ، فَحَدَّثَ نَفْسَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ” أخْرَجِهِ مُسْلِمٌ
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ قَوْمٍ اجْتَمَعُوا يُذْكُرُونَ اللَّهَ لَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ إِلَّا وَجْهَهُ، إِلَّا نَادَاهُمْ مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: أَنْ قُومُوا مَغْفُورًا لَكُمْ قَدْ بُدِّلَتْ سَيِّئَاتُكُمْ حَسَنَاتٍ» رواه أحمد وقال الألباني صحيح لغيره
“بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ”:الغداة أَول النهار والعشي آخره، وقد تطلق العشي على الوقت من غروب الشمس إلى وقت صلاة العشاء، والمراد من عبادتهم ربهم بالغداة والعشي أنهم يعبدونه دائمًا.
(يُرِيدُونَ وَجْهَهُ): أَي يقصدون بعبادتهم ذات الله مخلصين دون رياء.
(ولا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ): أي لا تجاوزهم عيناك إِلى غيرهم.
(فُرطاً): أي منفرطاً عليه، ضائعاً، تمضي الأيام والليالي ولا ينتفع بشيء .
والمعنى:واصبر نفسك وثَبِّتْها مع أولئك الفقراء المخلصين الذين يعبدون ربهم في كل وقت تَتَيَسَّرُ لهم العبادة فيه ، يريدون بتلك العبادة ذاته ورضاه، دون رياء للناس ورغبة في ثنائهم.
ولا تجاوزهم عيناك يا محمد ، فتبعدهم عن مجلسك استهانة بهم – كما اقترح عليك رؤَساءُ قريش ليجالسوك ويستمعوا إليك – لا تفعل ذلك – تريد بتركهم وإِغفالهم زينة الحياة الدنيا، بأن يكون جلساؤُك من الأشراف، ولا تطع في تنحيتهم عن مجلسك، مَنْ جعلنا قلبه غافلا عن ذكرنا ومعرفتنا، بسبب انصرافه عن الحق وبعده عن الهدى، واتباعه لهواه، وكان أمره ضَياعًا وهلاكا، حيث ترك الإيمان, وتعلل بأسباب واهية، فمثل هذا لا وزن له عندنا، والوزن كل الوزن لأهل الحق الثابتين عليه وإِن كانوا فقراء، فدع هؤُلاء، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات.
تفسير قوله تعالى” وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا “(29)
(سُرَادِقُهَا):السرادق معروف كالفسطاط: هو ما يحيط بالشيء، وهو هنا مستعمل فى لهب جهنم على سبيل المجاز.
(كَالمُهْلِ):المهل ماءٌ غليظ كدردي الزيت -أي عكره-.
(مُرْتَفَقًا):متَّكأً، والارتفاق في الأصل الاتكاءُ على مرفق اليد، يقال بات فلان مرتفقا، أَي متكئًا على مرفق يده.
قوله “وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ ” ليس المقصود من الآية التخيير، وإنما السياق سياق تهديد ووعيد، والدليل على أنه سياق تهديد ووعيد: إن الله قال بعدها: “إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا” فهذه قرينة على أن المقصود ليس التخيير فيما سبق، وإنما هذا سياق تهديد ووعيد، كما أن من المراد من التهديد والوعيد إظهار استغناء الله ورسوله عن نصرة أهل الإشراك، فالدين حق آمنتم أو لم تؤمنوا، نصرتم أو لم تنصروا، دخلتم فيه أو حدتم عنه، المعنى: لا يضر الله جل وعلا ذلك شيئاً.
“وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا “طلبوا الإغاثة ليشربوا، لكن ما علاقة الوجوه بماء يشرب؟
والجواب: أن هذا الماء إنما دعوا به ليذهبوا حر عطشهم، فما إن قرب منهم لشدة حرارته التي هي كالمهل أي: كعكر الزيت، ما إن يدنوه من أفواههم حتى تتساقط فروة وجوههم –أعاذنا الله من عذابه – فهذا قبل أن يطعموه، فكيف بعد ما طعموه ؟!!
” بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا “وهذا أسلوب ذم عند العرب، والمرفق إنما يتكئ الإنسان عليه إذا شعر بالإعياء، وليس في النار راحة، وإنما المقصود: أسلوب تهكم بهم، فليس الخطاب على حقيقته.
والمعنى :وقل أيها الرسول لهؤُلاء المشركين هذا القرآن الذي أدعوكم إلى الإيمان به هو الحق من ربكم لا ريب فيه، ولست عليكم بجبار، فمن أَراد الإيمان به حق اعتقاد راسخ، دون اشتراط إِبعاد الفقراء فليؤْمن، وله ثوابه، ومن أراد الكفر به عن هوى وحقد وعنادٍ فليكفر وعليه عقابه.
{إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا}:هذه الجملة تعليل للأمر السابق، أَي قل لهم أيها الرسول: ما أَمرناك به من دعوتهم إِلى الإيمان بما أَنت عليه من الحق وتخييرهم بين الإيمان والكفر به على سبيل، الوعيد، لأنا هيأنا لهؤلاء الظالمين المعاندين المستكبرين إن استمروا على كفرهم نارًا هائلة أَحاط بهم لهبها الذي يشبه السرادق في إحاطته بهم.
وإن يستغيثوا من شدة العطش ولهيب الأجواف يغاثوا بماء كعكر الزيت، شديد الحرارة بحيث إذا قرب من أَفواههم يشوي وجوههم وينضجها، فما ظنك بأجوافهم؟
بئس الشراب هذا الماءُ الذي يشبه المهل، وساءت النار منزلا ومقرًّا.
عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى ” كالمهل ” (كعَكَرِ الزيت، فإذا قربَ إِليه سقطت فروة وجهه فيه). أخرجه الإمام أحمد والترمذي
ولما ذكر الله الأشرار أتبعه جل ذكره بذكر الأخيار فقال:
“إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا “(31)الكهف
عدن في المكان بمعنى: أقام فيه وخلد، ولهذا سميت جنات عدن بذلك؛ لأنها دار خلود وإقامة.
“تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ “أنهار من لبن، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من غسل مصفى، وأنهار من ماء غير آسن، والقرآن يوضح بعضه بعضاً.
“يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ “وجاء في بعض الآيات أنها أساور من فضة، وجاء في بعض الآيات أنها أساور من لؤلؤ، ويجمع بينها: أنهم يحلون بأساور من ذهب، وأساور من فضة، وأساور من لؤلؤ
“وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ” السندس: رقيق الحرير، والاستبرق: غليظ الحرير، وجمع الله جل وعلا لهم النعمتين، وعندما أهديت له صلى الله عليه وسلم قطعة من حرير فلمسها الصحابة وتحلقوا حولها قال: (أتعجبون من رقتها؟ لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذه)
والسندس رقاق الألبسة، وما يلبس عادة قمصاناً وما إليه من الألبسة الداخلية، فهي الألبسة الشفافة، وهي من حرير منسوج بالذهب واللؤلؤ وما إلى ذلك مما لا يخدش ولا يؤذي البدن.
أما الإستبرق فهي الأثواب الخارجية من الحرير ذي الذهب وذي الفضة، وذي اللآلئ على أشكال وألوان. يقول ابن عباس رضي الله عنه : كل ما ورد في الجنة من نعيم مأكول أو ملبوس أو مشروب أو منظور ليس من الدنيا فيه إلا الأسماء، وأما الذي في الآخرة فالله أعلم بشكله.
والمقصود: جملة ما أعطاه الله جل وعلا من نعيم لأهل الجنة، وكون الثياب خضراً، هذا الذي كان لباس الملوك في الجاهلية.
“مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا” والأرائك: جمع أريكة، وهي السرير التي عليه الحجلة فوقه قبة ، وحسنت الجنة مرتفقاً؛ لما فيها من النعيم المقيم، وفوق ذلك رضوان رب العالمين، اللهم اجعلنا منهم، واحشرنا في زمرتهم، واهدنا إلى ما هديتهم إليه من الإيمان وصالح الأعمال .
الفصل الخامس
تفسير الآيات من 32-44
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)
واضرب أيها النبي مثلا للمؤْمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي مع مكابدتهم ألم الحرمان والفقر، وللكافرين الذين استنكفوا عن مجالسة الفقراء من المؤْمنين ؛ وجحدوا فضل معطِيهم مع تقلبهم في نعيمه ، لتبين بهذا المثل للفريقين ولكل من يتعزز بالدنيا ويغترّ بها – لتبيّن – حالًا فيها عبرة للمعتبرين، وتبصرة للمستبصرين.
تفسير قوله تعالى: ” وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ “هل هذا حقيقة، أو مجرد ضرب مثل؟ كل ذلك محتمل، وهل هو في عهد النبوة، أم في عهد بني إسرائيل؟ هذا هو الأظهر، وأياً كان الأمر هذا مثال ضربه الله جل وعلا.
” وَحَفَفْنَاهُمَا بنخل”أحطناهما،”وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا “والمعنى : أن النخل محيط بالجنتين من جميع جهاتهما لتصون الأعناب وتحفظها، وأن الزرع وسطها, لتكونا جامعتين للفواكه والأقوات على هذه الصورة الرائعة والوضع الأنيق.
“كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ” أي: ولم تنقص منه شيئاً، ولا يوجد تظلم في القرآن بمعنى: تنقص إلا في هذه الآية.
والمعنى : أَن كل واحدة من الجنتين أَعطت ثمرها تامًّا كاملًا طيبًا، ولم تنقص منه شيئًا، فليست كسائر البساتين، فإنها غالبا يكثر ثمرها في عام ويقل في آخر بسبب ما يحدث فيه من تقلبات جوية، وآفات ، وربما لا تثمر أصلًا في بعض الأعوام نتيجة لما ينزل بها من نوازل.
{وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا}:وأَجرينا بين الجنتين نهرًا غزيرَ الماء، تيسيرًا لسقيهما، وزيادة في جمالهما وطيب هوائهما.
{وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا}:كان له مال آخر غير الشجر؛ لأن الثمر في لغة العرب يطلق: على كل ما تمولته، من الذهب والفضة، والحلي، وسائر ما تمتلكه يقال له: ثمر؛كما فسره ابن عباس ، وعلى هذا فالثمر لفظ عام, يطلق على ثمار الاشجار، وعلى جميع أنواع المال المثمر.
المعنى: وكان لصاحب الجنتين ثمر من أحمال أشجار أُخرى، وكذا من أنواع المال المثمر من ذهب وفضة وحيوان وغير ذلك ،وهذا الكافر بدل أن يشكر نعم الله عليه ؛ دفعه غروره وتعلقه بمباهج الحياة الدنيا إلى أَن يقول لصاحبه المؤْمن: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا}: أي أنا أَوْفر منك مالًا تعدَّدت مصادره، وتنوعت موارده، وأعز حشما وأَعوانا.
قال قتادة “تلك والله أمنية الفاجر – كثرة المال وعزة النَّفَر”.
{وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا}:أي أَنه تابع اعتزازه وغروره، وتمادى في إعراضه وكفره، ودخل جنته وهو ضار لنفسه حيث عرضها للهلاك، وعرض النعمة للزوال ؛ لوضعه الشيء في غير موضعه ؛ فكان اللائق به أن يعرف للنعمة حقها من شكر المنعم بها، والتواضع لمجريها جل شأنه ، لا ما وقع منه من إنكارٍ وكفر، حكاه الله عنه بقوله سبحانه:{قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا}: وهذا استئناف أجيب به عن سؤَال مقدر نشأ من ذكر دخول جنته وهو ظالم لنفسه، كأنه قيل: فماذا قال حينئذ، فقيل: {قال مَا أَظنُّ أن تبيد هذِهِ أبدا}: أي ما أعتقد أن تهلك هذه الجنة مدى الحياة، وإنما قال ذلك لطول أمله في الحياة، وغفلته عن نعمة الله.
والعدول عن التَّثْنية إلى الإفراد في قوله سبحانه: {وَدَخَل جَنتَهُ} لاتصال إحداهما بالأُخرى كأنهما جنة واحدة. أو لأن الدخول لا يمكن أن يكون في الجنتين معا في وقت واحد وإِنما يكون في واحدة فواحدة.
{وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا}: أي أنه تمادى في كفره بإنكاره البعث اعتقادًا منه، وردا على صاحبه لما وعظه وخوّفه قيام الساعة، حيث قال: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} أي لا أَحسبها كائنة وقائمة فيما سيأتي.
{وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا}:أَي أَنه إِن رد إِلى ربه مبعوثًا -على سبيل الفرض والتقدير- كما زعم صاحبه ليجدنَّ في الآخرة خيرًا من جنته في الدنيا مرجعًا ومصيرًا تمنيًا على الله وادعاءً لكرامته عليه، ومكانته عنده، واعتقادًا بأنه ما أولاه الجنتين إلا لاستحقاقه، يقول هذا ولم يدر بخلده أَنه إمهال واستدراج ، حتى إذا أَخذه لم يفلته ([8])
تفسير قوله تعالى: “قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا “فأجابه صاحبه المؤمن منكرًا عليه ما وقع فيه من جحود وكفر، فقال له:
كيف تكفر بالذي خلقك من تراب في ضمن خلق أصلك آدم عليه السلام، {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا}: أي جعلك رجلًا في أَحسن تقويم حيث أنشأك. معتدل القامة سوِيَّ الخَلْق. منذ طفولتك حتى أَصبحت رجلًا، تلى أَمورك وتصرف شئونك.
تفسير قوله تعالى: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا}: أصله لكن أنا هو الله ربي، فحذفت همزة أنا، وأدغمت نون {لَكِنَّ} في نون {أَنَا} بعد حذف همزتها.
والمعنى: أَنا لا أَقول بمقالتك الدالة على الكفر من إنكار البعث وغيره. لكن أنا أقول هو الله ربي. فأنا مؤمن مُوحِّد، أَعترف له سبحانه بالربوبية والوحدانية.
تفسير قوله تعالى: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا }
أَي هلا قلت حين دخلت جنتك ونظرت إلى كمال تنسيقها ومختلف ثمارها:{مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} فحمدت الله على ما أنعم به عليك، حيث أعطاك من المال والولد والرجال ما لم يعط غيرك، اعترافا منك بقوته، وإِقرارا بعجزك، وإِيمانا بأنه لو شاء لسلبك هذا العطاء الذي جعلته موضع فخرك واعتزازك، لأَن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
كما قال بعض السلف: من أَعجبه شيءٌ من ماله وولده فليقل ما شاء الله لا قوة إِلا باللهِ .. وروى الإِمام أَحمد بسنده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أَدلك على كنز من كنوز الجنة لا حول ولا قوة إلا باللهِ).
{فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ}:أَي إن ترني أَمامك أَقل منك مالا وأولادًا وأعوانًا، فأَملى في فضل الله يجعلني أتوقع أَن يبدل ما بي وبك من الفقر والغنى فيرزقني لإيماني جنة خيرا من جنتك التي كانت سببًا في طغيانك وكفرك بربك.
{وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ}(حسباناً) هذه نعت لمحذوف، والمحذوف هو: هلاك. والمعنى: فيرسل عليها هلاكاً حسباناً من السماء، والحسبان هو: الشيء المقدر، قيل: صاعقة وهو الأظهر، لكن الله قال: حسباناً؛ لأنه الشيء المقدر، ولو أن هاتين الجنتين أهلكتا بزلزال عام، أو بجائحة عامة لما كان في ذلك انتصار للعبد الصالح، لكن الله قال: (حسباناً) أي: شيئاً مقدراً على قدر الجنتين حتى يعرف أنها مراده ومقصوده بالهلاك.
{فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا}:أي أرضًا لا نبات فيها ولا تثبت عليها قدم، لما فيها من الوحل أو من الرمال التي تزل فيها الأقدام.
بمعنى أنها تصبح مسلوبة المنافع حتى منفعة المشي عليها.
{أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا}:أَو يُصبح ماؤُها غائرًا أَو ذاهبًا فيها بحيث لا يمكنه استخراجه من جوفها ” فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا” : أي لا تقدر أن ترد الماء الغائر بأية حيلة من الحيل، ولا تقدر على تفجيره بمختلف الوسائل ، والتعبير بغَوْرًا بدل غائرًا للمبالغة في ذهاب مائها ، كرجل عدْل بدل عادل، للمبالغة في عدله .
وإلى هنا انتهت مناظرة المؤمن لصاحبه الكافر وإِنذاره ، ويحكي الله عاقبة كفره وغروره فيقول سبحانه: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42)
{وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ}:بإهلاك جنته وما فيها من نخيل وأعناب وزروع ، مأخوذ من الإحاطة والاستدارة حول الشيء من جميع جهاته، تمكنًا منه وغلبة عليه، ثم استعمل في كل إهلاك.
فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ }: يضرب باطن إحدى يديه على ظاهر الأخرى. ثم يعكس الأمر مرارا ندمًا على ما حدث .
{وهي خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا}:العروش: جمع عرش وهو ما يبنى ليوضع عليه شيء، فإذا سقط سقط ما عليه، يعني: أن كرومها المعروشة سقطت عن الأرض، وسقطت ومن فوقها كروم العنب بحيث قاربت أن تصير -صعيداً زلقاً- تراباً أملس
والمعنى : أنه أصابته الحسرة والندم حين رأَى أشجار الكروم ساقطة على أعمدتها التي تصنع لحملها حفاظًا عليها وذلك لسقوط تلك الأعمدة لما أصاب الجنة من عذاب السماء الذي جعلها صعيدا زلقا.
وذِكْرُ هلاك الكروم مُغْن عن ذكر هلاك النخيل والزروع لأنها حيث هلكت وهي على عروش تسندها وتقويها. فهلاك غيرها بالطريق الأولى.
{وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا}:أي يا ليتنى عرفت نعم الله عليّ وعرفت أنها كانت بقدرته فلم أُشرك به، وكأنه تذكر موعظة أَخيه له. لمَّا أبصر ما نزل بجنته، وعلم أن هلاكهما من قبل الشرك وبسببه، لذلك تمنى لو لم يكن مشركا فلم يصبه ما أَصابه. وقيل هذا القول منه توبةٌ عن الشرك. وندمٌ على ما وقع منه. فيكون استحداثا للإيمان. لأن ندمه على الشرك فيما مضى. يشعر بأنه آمن في الحال. فكأنه قال آمنت الآن وليت ذلك كان أولًا.
{وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ}:ولم يكن لهذا الكافر ولد ولا عشيرة ممن افتخر بهم واستعز، يقدرون على
نصرته بدفع الإهلاك عن جنته أو ردِّ ما هلك، أَو الإتيان بمثله من دون الله. لأنه سبحانه هو الفعال لذلك كله. فهو القادر وحده وبيده مقاليد السماوات والأرض.
{وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43)}وما كان ممتنعا عن انتقام الله بما زعم لنفسه من قوة وجاه.
{هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ}:الولاية بفتح الواو وكسرها: النصرة والغلبة ، قرأ الأعمش وحمزة والكسائي الولاية بكسر الواو والباقون بفتحها وهما بمعنى واحد بمعنى النصرة والغلبة وقيل الولاية بالفتح من الموالاة كقوله تعالى {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} من الآية 257 البقرة، وبالكسر بمعنى السلطان والقوة, وقال أبو عبيدة إنها بفتح الواو للخالق وبكسرها للمخلوق.
وهذه الجملة تأكيد وتقرير للآية السابقة والمعنى في هذا الموطن وتلك الحال التي حلَّت بجنته. لن يجد مُنْقِذا له يدفع عنه ما نزل به؛ لأن النصرة والغلبة لله الحق؛ فلا يقدر عليها أحد غيره.
الفصل السادس
تفسير الآيات من 45- 50
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)
تفسير قوله تعالى: ” وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا … “أَي اذكر لهم مثل الحياة الدنيا، ببيان ما يُشبهها في زهرتها ونضارتها، وعدم استقرارها ، وسرعة زوالها “كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ}: أَي أَنها تشبه حال النبات الذي أنبته الله بماءٍ كثير أَنزله من السماء، فاختلط بهذا الماء نَباتُ الأرض بعد أن روى منه وامتلأت به عروقه، فنما وكثر أو اختلط بسبب الماء نباتُ الأرض ، فالتف بعضه ببعض بعد أن كثر واستوى على سوقه؛ هذا النبات الجميل الناضر لم يلبث حتى أسرع إِليه الفناءُ بدون إبطاءٍ.
ويشير إِلى ذلك الإِتيان بالفاء في قوله سبحانه:{فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ}: أي فأصبح متكسرا متفتتا من اليُبْسِ، تفرقه الرياح وتنسفه وتذهب به وتجئ .
فالمشبه في الآية: الحياة الدنيا في جمالها وزينتها ثم فنائها، والمشبه به: الهيئة المنتزعة من الجملة وهي حال النبات يكون أخضر مهتزا ثم يصير هشيما تطيره الرياح حتى كأنه لم يكن.
{وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا}:أي أنه سبحانه على كل شيء من الأشياء – ومن جملتها الإيجاد والإفناءُ – كامل القدرة يفعل ما يشاءُ جل شأنه.
تفسير قوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)}
في هذه الآية بيان لما كانوا يفتخرون به من زينة الحياة الدنيا متمثلة في المال والبنين لأنَّ في المال جمالا ونفعا يصلون به إِلى مآربهم وكل ما تقتضيه حياتهم، وفي الأولاد قوةً ودفعا يبلغون بهما إِلى ما ينشدونه من عزة ومنعة ؛ كما وقع في محاورة الصاحب الكافر لصاحبه المؤْمن حيث قال له على سبيل التعالي والفخر: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا}.
قال علي رضي الله عنه: الْمَالُ وَالْبَنُونَ : حرث الدنيا، وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ : حرث الآخرة. وقد جمعهما الله لأقوام.
والمعنى:إن ما تفتخرون به من المال والبنين شيء يتزين به في الحياة الدنيا وقد عرفتم شأنها في سرعة زوالها، وقرب اضمحلالها، فكيف زينتها التي هي صفة من صفاتها، إنها تزول وتفنى قبل زوالها – فلا تجعلوها كل همكم، وتعرضوا عن الآخرة دار الكرامة والجزاء بل اعملوا لخيري الدنيا والآخرة .
ولأن المال والبنون لا يغدوان مع صاحبهما إلى القبر ؛ فذكر الله ما يغدو معك إلى قبرك، فقال جل ذكره: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}: قال الجمهور هي الكلمات المأثور فضلها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إِلا بالله العلى العظيم. خرجه مالك في موطئه عن عمارة بن صياد عن سعيد بن المسيب أنه سمعه يقول في الباقيات الصالحات: إنها قول العبد الله أكبر وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وأخرج الإمام أَحمد والحاكم وصححه، وغيرهما عن أبي سعيد الخدرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(استكثروا من الباقيات الصالحات. قيل وما هي يا رسول الله قال: التكبير والتهليل والتسبيح والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله).
قال ابن عباس وابن جبير وأبو ميسرة: الباقيات الصالحات هي الصلوات الخمس وقال ابن عباس في رواية أخرى: هي كل عمل صالح من قول أَو فعل يبقى للآخرة: اهـ
فيدخل فيه كل عمل جادٍّ لخدمة الإِسلام والذود عنه بالنفس والمال والمقال، وكل عمل ينصر حقا أَو يدفع باطلا. أَو يعاون محتاجا أو ينشر علمًا .
“وخير أملاً” أمور الدنيا وحرث الدنيا لا أمل من ورائها؛ لأن عمله ينقطع بمجرد الموت، أما الأعمال الصالحة فسماها الله باقيات؛ لأن أمل نفعها بعد البعث أعظم وأجدى.
وتقديم المال في الآية على البنين لأن المال تتعلق به نفس كل أحد بخلاف البنين فإنه لا يتعلق بهم قلب كل أحد، هذا الأمر الأول.
الأمر الثاني: أن الإنسان إذا كان كثير المال، ولا أبناء عنده فلا يقال عنه: إنه شقي، شقاوة دنيوية، لكن من كان عنده كثرة أبناء، ولا مال له ففيه نوع من رقة الحال، وكثرة العيال، وشقاوة المرء في دنياه من حيث الجملة لا من حيث قضاء الله وقدره.
تفسير قوله تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47)يخبر الله سبحانه بهذه الآية وما بعدها عن أَهوال يوم القيامة، وما يكون فيه من الأمور العظام، تحذيرا للمشركين وترهيبا.
{نُسَيِّرُ الْجِبَالَ}:ننقلها ونزيلها من أَماكنها على وجه الأرض. والمعنى: واذكر لهم أيها النبي يوم ننقل الجبال. ونزيلها من أماكنها. ونسِّيرها على هيئاتها كما نسير السحاب يشير إلى ذلك قوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} (النمل الآية : 88)
ثم تتشقق وتتفتت فتكون كحبات الرمل المتناثرة كما قال سبحانه:{وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا} (المزمل الآية 14). ثم تصير غبارا منتشرا تسوقه الرياح حيث أراد الله كما قال تعالى: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} (الواقعة الآيتان – 5، 6) وفي نهاية أَمرها. تصبح كسراب يُرى من بعيد حتى إذا جئته لم تجد شيئًا، وذلك لتفرق أجزائها تفرقا تاما كما قال سبحانه: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا} (النبأ الآية – 20). بعد هذا الصنيع من القوى القادر، يظهر سطح الأرض مستويا، لا عوج فيه ولا أَمتا أي لا انخفاض به ولا ارتفاع. ويشير إلى ذلك قوله جل شأنه:{وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً}: فالأرض في الدنيا مغطاة بما عليها من بنيان، وجبال، و زرع ، لكن يوم القيامة َتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً فلا يوجد على الأرض أي معلم، ولهذا جاء في الحديث: (وليس فيها معلم لأحد)، لا يوجد علامة نتواعد ونتفق على أن نلتقي عندها، وقيل بارزة أي برز ما فيها من الكنوز والأموات، كما قال تعالى: {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} الانشقاق 4
{وَحَشَرْنَاهُمْ}:جمعناهم من كل صوب. {فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا}: أي: لم نترك، ويقال لفلان: غادر؛ لأنه ترك الأمانة، فالمعنى فلم نترك منهم أحدا دون حشر.
تفسير قوله تعالى: “وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا “(48) أي أنهم يُحَضرُون يوم الموقف العظيم لا يتخلف منهم أحد فيقفون مجتمعين غير متفرقين، ليقضى الله بينهم بالحق وفي قوله: {صَفًّا} ما يشير إِلى اجتماعهم صفوفا، وفي الحديث الصحيح: “يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد صفوفًا”.
{لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}:تقريع للمشركين المنكرين للبعث ، وتوبيخ لهم على رءُوس الأَشهاد، وذلك بأن يقال لهم لقد جئتمونا على هيئة تشبه الهيئة التي كنتم عليها عند خلقكم أَول مرة، حفاة عراة غُرْلا أَي غير مختونين، وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غُرْلا. قلت يا رسول الله الرجال والنساءُ، ينظر بعضهم إِلى بعض قال: يا عائشة الأمر أَشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض”. وفي رواية أُخرى “الأمر أشد من أَن يهمهم ذلك”.
أَو يقال لهم: لقد جئتم وليس معكم شيء مما كنتم تفتخرون به من الأموال والأنصار لقوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} (الأنعام من الآية – 94). أي بعثناكم بعد الموت فرادى كهيئتكم عند خلقكم وإحيائكم أول مرة بلا مال ولا ولد ولا سلطان.
{بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا}:انتقال لمواجهة منكري البعث بالتوبيخ والتقريع أي ادعيتم في الدنيا أن لن تبعثوا, ولن نجعل لكم موعدا نُنْجِزُ فيه ما وعدنا من البعث وتوابعه، وقد خاب ظنكم، وكذب زعمكم، وتحقق عيانا ما أَنكرتموه، فقد أَحييناكم بعد موتكم وجئتمونا للحساب.
تفسير قوله تعالى: “{وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ … } الآية.
والمعنى: أن الله سبحانه وتعالى يضع الكتاب. ويُقصَد به صحائف الأعمال ، وذلك بِجَعلها في أَيدى أصحابها يأخذ كل منهم كتابه بيمينه أَو بشماله، وحينئذ تُبْصِر العصاة جميعًا خائفين مما في الكتاب من الجرائم التي اقترفوها، والذنوب التي باءُوا بإِثمها.
تفسير قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا}:
“وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا”مؤنث ويل، والمعنى: الدعوة على أنفسهم بالهلاك والثبور، أي: شعروا بالهلاك والثبورأي أنهم عند وقوفهم على كل ما فيه ترتفع منهم أَصوات الحسرة والحيرة ، ويتمنون الموت والهلاك حتى لا يروا العذاب الأليم ، وقد دعاهم إلى ما صنعوا، ما وجدوه في الكتاب الذي وضع في يد كل منهم بما يدعو إلى العجب والفزع الذي أشار إِليه قولهم: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ} لم يَتْرك معها صغيرة ولا كبيرة إلا عدها وأحاط بها.
قال قتادة: اشتكى القوم الإحصاء وما اشتكى أَحد ظلما، فإياكم ومحقرات الذنوب فإنها تجتمع على صاحبها حتى تهلكه، وكان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية يقول: يا ويلتاه ضجوا إِلى الله تعالى من الصغائر قَبْلَ الكبائر.
{وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا}:كل ما صنعه الإنسان، واقترفته اليدان، وأبصرته العينان، أي خطيئة في ليل أو نهار سيراها المرء بين عينيه، أعاذنا الله وإياكم من ذل الفضيحة يوم العرض عليه.
{وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}: أَي لا يأخذ أَحدا بجرم أَحد، ولا يأخذه بما لم يعمله، وقد وعد سبحانه بإثابة المطيع والزيادة في ثواب ما عمله مما أمَرَهُ بهِ، وارتضاه منه، كما وعد بتعذيب العاصي
بمقدار جرمه من غير زيادة على ما عمل، وأنه قد يغفر له ما عدا الكفر كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (النساء من الآية 161). سبُحانه جل وعلا يفعل ما يشاءُ ويختار.
تفسير قوله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ” (50)
أي: واذكر أيها الرسول وقت قولنا لهم {اسْجُدُوا لِآدَمَ} سجود تشريف وتكريم {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ}: أَي سجد الملائكة جميعًا امتثالا وطاعة ما عدا إبليس، فإنه لم يكن من الساجدين إباءً منه واستكبارا، {كَانَ مِنَ الْجِنِّ}: وهذا ظاهر في أنه ليس منهم بل كان معهم ومعتبرا في عدادهم لوجوده بينهم، ولذا قال الحسن فيما أخرجه عنه ابن المنذر وابن أَبي حاتم: “قاتل الله أَقوامًا زعموا أَن إِبليس من الملائكة والله يقول: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ}: وأصله مِنْ فسق الرطب إذا خرج عن قشره ، أي فخرج عن طاعته سبحانه .
ومناسبة ذكر قصة إبليس هناهي أنه سبحانه لما ذكر يوم القيامة والحشر، وذكر خوف المجرمين ورهبتهم مما سُجِّل في كتبهم من كل صغيرة أَو كبيرة، ناسب الإتيان بها تذكيرا لهم بأن إِبليس اللعين هو الذي حملهم على المعاصي، واقتراف الآثام، واتخاذ الشركاء والأنداد، فهم في ذلك تابعون لتسويله وإغرائه كما ينبئ عنه قوله تعالى:{أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ}: بهذا الاستفهام وبَّخ الله المشركين وأنكر عليهم بعد علمهم بقبائح الشيطان وأباطيله أَن يستجيبوا له فيتخذوه وذريته أولياء وأعوانا لهم من دونه. مع أنهم لا يجهلون حالهم من العداوة والبغضاء لهم، والمراد من {ذُرِّيَّتَهُ} أَعوانه وأشياعه ممن سلك طريقه في الإضلال والإفساد مِنْ شياطين الجن والإنس،
{بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا}:أي بئس البدل عن الله تعالى للظالمين: إبليس وذريته، أَو بئس عبادة الشيطان، بدلا عن عبادة الله.
الفصل السابع
تفسير الآيات من 51- 59
مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)
تفسير قوله تعالى : ” مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا “
{مَا أَشْهَدْتُهُمْ}:ما أَريتهم.
بعد أَن أَبرزت الآية السابقة موضع العجب من اتخاذ هؤُلاء الظالمين إِبَليسَ وذريته أَولياء لهم من دون الله أوضَحت هذه الآية الكريمة عدم صلاحية إبليس وجنوده لأن يكونوا شركاء لله وأَعوانًا له، كما بينت ضلال تابعيهم وغباءهم، حين اتخذوهم أولياء لهم. والمعنى:
أَن الله سبحانه هو الذي خلق السماوات والأرض وما فيهما وحده ولم يهيئ لإبليس وذريته مشاهدة هذا الخلق ولا المشاركة فيه. حيث خلقت السماوات والأرض قبل خلق إِبليس وذريته فكيف جعلهم أتباعهم الظالمون أولياء لهم من دون الله، وهم عاجزون عن الخلق والتدبير ولا يعلمون شيئا عن كيفية خلقهم وتدبير أمورهم
{وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا}: العضد ما بين المرفق والكتف من الذراع، والمقصود هنا. المعين أو النصير.
والمعنى : ولا ينبغي لي – وأنا القوى العزيز – أن أحتاج إِلى مُعِين أَو نصير يساعدني في الخلق والتدبير من هؤُلاء الضالين المضلين.
تفسير قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52)
{مَوْبِقًا}: أَي مهلكًا يشتركون فيه وهو النار، والموبق اسم مكان من وَبَقَ – كوثب – بمعنى هلك.
تفسير قوله تعالى: ” وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)}
{فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا}: الظن هنا بمعنى التوقع والعلم، أي توقعوا وأَيقنوا أَنهم مخالطوها واقعون فيها، {مَصْرِفًا}: مجالا للانصراف أَو الهرب والفرار.
تفسير قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ}: واذكر لهم يا محمد يوم يقول لهم العليُّ الأعلى مؤَنِّبًا لهم : ادعوا شركاءكم الذين عبدتموهم من دوني لينقذوكم من العذاب المحيط بكم ؛ وفي هول الموقف ينادي الظالمون شركَاءهم فلا يلبون نداءَهم ولا يستجيبون لاستغاثتهم ؛ لأنهم في مهلكهم مشتركون، وفي جهنم خالدون، فكيف يستجيبون؟ ولهذا قال سبحانه:{وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا}: أي وجعلنا بين الداعين من المشركين والمدعوين من الشياطين، موبقًا ومهلكًا مشتركا وهو النار التي يصلونها جميعًا.
{وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا}:وشاهد المجرمون النار فأيقنوا أَنهم واقعون فيها لا محالة. {وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا}: ولم يجدوا مجالا للهرب من هذا المصير الأليم
وفي هذا إشارة إلى ما يعاجلهم من الهم والحزن؛ فإن توقع العذاب والخوف منه قبل وقوعه عذاب مقدر وحاضر غير مؤجل، ومجرد توقع العذاب لا شك أنه في حد ذاته عذاب،
وإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام قال للرجل الذي أراد أن يذبح شاة فقعد يسن السكين أمام أختها: (أتريد أن تميتها موتتين)، فكيف بالبشر؟ فهذا الانتظار وهذا العناء في حد ذاته عذاب معجل.
تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54)
{صَرَّفْنَا}:نَوَّعنا ووضحنا ، والمعنى :ولقد بينا ووضحنا في القرآن الكريم من التوجيهات الرشيدة والمواعظ الحكيمة، بطرق عديدة وأساليب متنوعة، من القصص والعبر والحكم التي يثْبُتُ بها الحق في الأذهان، ولا تدعُ مجالا للشك والإنكار. وتملك على القارئِ مشاعره؛ لأنها في الغرابة والحسن واستمالة النفس كالأمثال ليتلقوها بالقبول، فلم يمتثلوا.
{وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا}: وكان الإنسان منذ نشْأته حسب فطرته، أَكثر شيءٍ جدالا في الدفاع عن رأيه بالباطل متلمسًا المعاذير التي يبررها تصرفاته ، إلا من عصم الله.([9])
تفسير قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا}
{سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ}:أي طريقة الله في المشركين السابقين، والمراد بها العذاب الذي حل بالأمم السابقة حينما أصروا على الكفر والعناد.
{قُبُلًا}:بضمتين جمع قبيل أي أَنواعًا، وأجاز أبو عبيدة أن يكون معناه مقابلة وعيانًا كقراءته قِبَلًا بكسْر ففَتح، فإن معناه كذلك عند ابن عباس ، أي أو يحل بهم العذاب الأليم عِيانا جزاء إِمعانهم في الكفر والضلال في صور شتى من النكال والوبال.
والمعنى:وما حمل الناس على ترك الإيمان بعد قيام أَدلته ووضوح حجته، إِلا إِصرارهم على العناد واللجاج، وتحديهم للرسول صلى الله عليه وسلم أن ينزل بهم العقاب الذي توعدهم الله به، كما أنزله بالأمم السابقة التي أَصرت على الكفر والعناد، وقد حكى الله طلبهم العذاب بقوله: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (الأنفال، الآية 32.).
تفسير قوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56)
{لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ}: ليزيلوه ويبطلوه.
والمعنى:أننا لن نبعث الرسل ليطلب منهم قومهم العذاب، فهذا خلاف ما كلف الله به الرسل، ولا شأن للرسل لهم به، إنما بعثهم ليبشروا ولينذروا في آن واحد، وما بعثهم ليطلب منهم عذاب أو غير عذاب ، لكن الناس إذا جاءهم الرسول خرجوا عن الطريق الذين يخاطبون به، ولا يقبلون بشارة، ولا يخافون نذارة، وإنما أخذوا يطلبون من الرسل العذاب، وهذا خلاف المقصود من إرسال الرسل.
{وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا}:أَي قابلوا آيات الله البينات بالسخرية والاستهزاء فسخروا بالقرآن، فزعموا أنه سحر وشعر وأَساطير الأولين، وسخروا بحديث القرآن الكريم عن شجرة الزقوم ؛ كما سخروا وأنكروا البعث والنشور .
تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ}
ولا أَحد أَشد ظلما لنفسه وللحق مِمَّن أَعرض عن آيات الله البينات وانصرف عن أدلتها الواضحات إِلى الباطل، فأمعن في ارتكاب الذنوب والآثام ناسيا ما جناه على نفسه وعلى الناس من بغي وعدوان.
تفسير قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا}:
{أَكِنَّةً}: أَغطية – جمع كنان.
{وَقْرًا}: ثقلا في السمع،.
والمعنى : إن الحق واضح، وأصحاب العقول السليمة يدركون الرشد من الغي ويميزون الحق من الضلال، والله سبحانه حال بين المشركين وبين الإدراك السليم، فجعل على عقولهم أغشية كراهة أن يفهموه فهمًا يؤَدِّي بهم إلى السلوك السوِيِّ؛ لأنهم طبعوا على الخبث والضلال، وجعل الله في آذانهم صَمَمًا عن الاستماع إلى الحقائق وإدراكها وذلك لانصرافهم عن الحق، وتواصيهم بعدم سماعه، حيث قالوا: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (فصلت من الآية 26 ) ولهذا باعد الله بينهم وبين الإِصغاء والاستفادة منه جزاءَ انصرافهم، ولو علم فيهم خيرًا لهداهم وأَسمعهم سماع قبول قال تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} (الأنفال الآية 23).
والمقصود من جعل الله الأَكِنةَ على القلوب، والوَقْر في الآذان أن لا يأخذ بقواهم العلمية نحو الحق لإعراضهم عنه.
{وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا}:وإِن تدعهم إلى طريق الهدى فلن يستجيبوا لك؛ لأنهم الآن ليسوا أَهلا للهداية، ولأن الهداية ليست بيدك، وإنما هي بيد الله .
تفسير قوله تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) }
{وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ}:وربك – أيها الرسول – واسع المغفرة صاحب الرحمة، حيث كتبها على نفسه فضلا وكرما، فلا يعذب أَحدا من عباده المحسنين الطائعين ؛ كقوله تعالى : {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} (النساء 147.)
{لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ}: أما هؤُلاء المشركون فهم الذين ظلموا أنفسهم بالإِصرار على الكفر والعناد فاستحقوا سوء الجزاء، ولكنه تعالى يحلم عليهم ، ولا يعجل بهم –
أي أَنه لسعة رحمته لو يؤَاخذهم بظلمهم لعَجَّل عقابهم، ولكنُه أمهلهم لعلهم يرجعون إلى الصواب.
{بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا}:
{مَوْئِلًا}:ملجأ يلجئون إِليه.
أي وهذا الإِمهال موقوت بأجل معدود ، فإذا حان الأَجل وهم مصِرُّون على كفرهم وعنادهم أخذهم الله بعقابه الأليم حيث لا يجدون ملجأ للنجاة والخلاص.
تفسير قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا}
المراد بالقرى هنا أهلها
والمعنى: وأَهل تلك القرى المهلكة المعروفة، من قرى عاد وثمود وقوم لوط عصوا ربهم، وكذبوا رسله فأمهلهم لعلهم يؤمنون، فلما أصروا على الكُفر وأمعنوا في الضلال أخذهم الله بعذاب الهلاك والاستئصال في الموعد الذي حدده لهم كقوله تعالى :{وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (النساء 147.)
الفصل الثامن
تفسير الآيات من 60- 82
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)
قصة موسى والعبد الصالح
روى البخاري بسنده عن ابن عباس : حدثني أبي بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (إن موسى قام خطيباً في بني إسرائيل، فسئل: أي الناس أعلم؟
فقال: أنا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه: إن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك.
قال موسى: يا رب فكيف لي به؟
قال: تأخذ معك حوتاً فتجعله في مكتل، فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ .
فأخذ الحوت فجعله في مكتل، ثم انطلق، وانطلق معه فتاه يوشع بن نون، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما، واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر، فاتخذ سبيله في البحر سرباً، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق([10])، فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا يمشيان بقية ليلتهما ويومهما حتى إذا كان من الغد قال لفتاه: آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً.
قال: ولم يجد موسى النصب حتى جاوزا المكان الذي أمره الله به .
فقال له فتاه: أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة، فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره، واتخذ سبيله في البحر عجباً.
فقال موسى: ذلك ما كنا نبغي، فارتدا على آثارهما قصصاً، حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجل مسجى ثوباً -مغطى بثوب- فسلم عليه موسى، فقال الخضر: وأنى بأرضك السلام،([11])قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل ؟
قال: نعم أتيتك لتعلمني مما علمت رشداً، قال: إنك لن تستطيع معي صبراً، يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علمك الله لا أعلمه…
فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرت بهم السفينة، فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول -بغير أجرة- وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة أو نقرتين، فقال له الخضر: ما علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر، إذ أخذ الفأس فنزع لوحاً فجأة، قال: فلم يرجع موسى إلا وقد قلع لوحاً بالقدوم، فقال له موسى: ما صنعت؟ قوم حملونا بغير نول، عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها، لقد جئت شيئاً إمراً!!!
قال: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً؟
قال: لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسراً، فكانت الأولى من موسى نسياناً،
فلما خرجا من البحر مرا بغلام يلعب مع الصبيان، فأخذ الخضر برأسه فخلعه بيده هكذا -فأومأ سفيان بأطراف أصابعه كأنه يقطف شيئاً-
فقال له موسى: قتلت نفساً زكية بغير نفس لقد جئت شيئاً نكراً؟
قال: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً؟
قال: إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذراً.
فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض فأقامه -قال: مائلاً، وأومأ بيده هكذا، وأشار سفيان كأنه يمسح شيئاً إلى فوق، فلم أسمع سفيان يذكر مائلاً إلا مرة- قال موسى: قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا، عمدت إلى حائطهم، لو شئت لاتخذت عليه أجراً، قال: هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: وددنا لو أن موسى كان صبر فقص الله علينا من خبرهما، قال سفيان : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ليرحم الله موسى لو كان صبر يقص علينا من أمرهما، وقرأ ابن عباس : (أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصباً)، (وأما الغلام فكان كافراً وكان أبواه مؤمنين)، ثم قال لي سفيان : سمعت منه مرتين وحفظته منه، فهذه القراءة قراءة تفسيرية، قيل لـسفيان : حفظته قبل أن تسمعه من عمرو أو تحفظه من إنسان، قال: ممن أتحفظه؟! ورواه أحد عن عمرو غيري، سمعت منه مرتين أو ثلاثاً وحفظته منه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما سمي الخضر -بكسر الضاد- لأنه جلس على فروة بيضاء، فإذا هي تهتز من خلفه خضراء)، هذا فيما يتعلق بالحديث الوارد في هذه القصة.
تفسير قوله تعالى: “وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا “
(فتاه):الفتى هو الشاب، وأضيف إلى موسى لأنه كان يخدمه ويتعلم منه،وهو يوشع بن نون أحد أنبياء بني إسرائيل الذي خلف موسى في بني إسرائيل بعد وفاته.
(مجمع البحرين):موضع التقائهما .
(حقُبًا):الحقب الدهر، ومقداره ثمانون سنة، كما قيل.
أبرزت الآيات السابقة لَجَاج الكفار وعنادهم وإِصرارهم على الباطل ومُحَاولتَهم طَمْسَ الحقائق الواضحة التي ساقها الله لهدايتهم، وفى هذه الآية والآيات التالية يضرب القرآن مَثَلًا ساميًا لنبي من أَنبيائه، أَوحى الله إِليه وكلمه تكليمًا ورزقه علمًا ومعرفة، ومع هذا سعى جاهدًا ليتعلم ما لم يعلم، وتحمَّل في سبيل المعرفة ما تَحَمَّل من مشاق، وهو موسى عليه السلام.
والمعنى: واذكر لهم يا محمد قصة موسى عليه السلام إذْ صَحب فتاه طالبًا لقاءَ العبد الصالح (الخضر) عليه السلام ليتعلم منه بعض ما لم يكن يعلم. وفتاه هو يوشع بن نون تابعه وتلميذه وخليفته من بعده كما ورد فى صحيح البخاري ومعهما مِكْتل ([12])فيه حوت أعَدَّاه للطعام وأخبر موسى فتاه أنه لا يزال مُجِدًّا في السير حتى يصل إلى مكان العبد الصالح في مجمع البحرين.
وقد اختلف العلماء أين مجمع البحرين؟ على أقوال أربعة :
1- فذهب قوم إلى أنه عند مضيق باب المندب الآن.
2- إنه عند مضيق جبل طارق.
3- أنه في مدينة دمياط في أرض مصر، التقاء المالح بالعذب في دلتا مصر في دمياط، وحجة هؤلاء من حيث النظر قوية، وهم قالوا: إن الحديث دل على أن عصفوراً يأتي ينقر في البحر، والعصفور لا يشرب من الماء المالح، فلا بد أن يكون مجمع البحرين هذا فيه ماء عذب، وهذا يكون في دلتا مصر، هذا الرأي الثالث، لكن يرد عليه أن المانع من قبوله أنه لن يعرف أن موسى بن عمران بعد خروجه من مصر رجع إليها، لكنه كان مع قومه في أرض التيه، فلا يعرف أنه دخل مصر ووصل إلى دمياط، وكذلك القول أنه ذهب إلى مضيق جبل طارق أو باب المندب بعيد؛ لأن هذا يقتضي أن يترك قومه مدة طويلة ، وماذا سيفعلون فيها ؟ فهم في ثلاثين يومًا عندما ذهب لميقات ربه عبدوا العجل، فلو كان ذهب إلى مضيق جبل طارق أو باب المندب سيطول ذلك الأمر جدا، فالسفر يحتاج إلى آماد بعيدة.
4- القول الرابع قاله الشعراوي رحمه الله، وهو: أنه اجتماع خليج السويس مع خليج العقبة، وهذا ما أذهب وأميل إليه ، ولابد من قرينة تبين ذلك والقرينة أن الله قال:” فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا “، وهذا يلزم منه أمران:
اللازم الأول: أنه في شيء يظهر عليه أثر المشي، وإلا فلا وجود للأثر، فتكون صحراء.
الأمر الثاني: قول الله جل وعلا: “فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا ” فيه نوع إشعار أن هذه المنطقة لا يوجد فيها معالم ممكن أن يستدل بها موسى ويوشع، ولو كان فيها معالم ما احتاج إلى أن يقال: “فارتد عَلَى آثَارِهِمَا ” يعني: يرجعون حسب الأماكن التي مروا بها، فيعرفون يمين هذا الجبل مثلاً ويمين هذا البحر، ويسار هذا النهر، فدل على أنهم كانوا في صحراء، والصحراء هذه لا ينطبق عليها إذا قلنا خليج السويس، وخليج العقبة إلا صحراء سيناء، فإذا قلنا: إنه كان في صحراء سيناء فيتفق مع سياق القصص القرآني عن موسى بأنه خرج من أرض مصر يريد أرض فلسطين: “يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ “ [المائدة:21].وهي أريحا، فهذا يتفق مع قصص القرآن .
وانطلق موسى مع فتاه وقد عقد العزم أَن يواصل السير وإِن طال الزمن حتى يبلغه .
تفسير قوله تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا}:
حوتهما):الحوت؛ العظيم من السمك.
(سَرَبًا):السرب في اللغة النفق
أي فلما وصلا إلى موضعٍ يَجْمَعُ بين البحرين نسيا حوتهما فاضطرب في المكتل وقفز إلى الماء يشق طريقه فيه كأنما صنع الحوت لنفسه في الماء نفقًا، فقد صح من حديث الشيخين وغيرهما. “أن الله أَمسك عن الحوت جرْيَةَ الماءِ، فصار عليه مثل الطاق، والمراد به: البناءُ المقوَّسُ كالقنطرة.
تفسير قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا}:
(غَدَاءنَا):طعامنا في الغُدْوة أي الصباح وهو ما يُسَمَّى الآن بالفطور.
(نَصَبًا):تعبًا ومشقة وجهدًا.
فلما جاوزا المكان وأمعنا في السير حتى الصباح شَعَر موسى عليه السلام بالجوع والتعب فقال لغلامه آتنا طعام الغدوة (وهي الصباح) ليَشْبَعا من جوع، ويستردَّا عافيتهما وينعما بالراحة بعد التعب.
تفسير قوله تعالى: {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قالَ له الغلام: إني نسيت الحوت عند الصخْرة وإن الحوت قفز إلى الماء ؛ ونسبة الإنساء إلى الشيطان لأنه ربما شغله بوساوس عن الأهل والوطن، جعلته يذهل عن هذه الحالة العجيبة بتقدير العزيز العليم، وإلا فتلك الحالة لا تنسى.
(عَجَبًا):غريبًا عن العادة مخالفا لها يدعو إِلى عجب الناس منه ، والمعنى : واتخذ في الماء طريقا عجيبًا كالنفق،
تفسير قوله تعالى: “قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64)}:قال إن فقدان الحوت إنما يكون عند التقاء البحرين وهو المكان الذي نريده حيث نلقي العبد الصالح.
{فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا}:أي يَتَتبَّعَان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة.
تفسير قوله تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا}:أي فوجدا عند الصخرة التي نسي يوشع ما حدث من الحوت لديها – وجدا – عبدا صالحا من عباد الله آتاه رحمة كثيرة من عنده، وعلَّمه علمًا لا يكتنه كنهه من لدنه سبحانه وتعالى.
والرحمة التي آتاه الله إياها، هي الوحي والنبوة ، وأَما العم اللَّدنيُّ فهو علم الغيوب والأسرار الخفية، كما سيأتي بعضه في قصته.
بعض المسائل في العبد الصالح الذي لقيه موسى :
1- جمهور المفسرين علي أن العبد الصالح هو الخضر
2- ولقب بالخضر، استنادا إِلى ما رواه الترمذي بسند صحيح عن أَبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: “إنما سُمي الخضِر لأنه جلس علي فروة بيضاء فاهْتزَّت تحته خضْراء” ومثل ذلك رواه البخاري بسنده.
3- وذهب كثير من العلماء إلى أن الخضر ليس بحيٍّ ، سئل البخاري عنه وعن إلياس عليهما السلام -هل هما حيان- فقال: كيف يكون هذا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا يبقى على رأس المائة ممَّن هو اليوم على ظهر الأرض أحد”
وفي صحيح مسلم عن جابر قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “ما من نفس منفوسة يأتي عليها مائة سنة وهي يومئذ حية”
ولو كان الخضر حياً إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم لكان من أتباعه، ولنصره وقاتل معه؛ لأنه عليه الصلاة والسلام مبعوث إلى الثقلين الجن والإنس جميعهما. والآيات الدالة على عموم رسالته كثيرة جداً كقوله تعالى:” قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا” [الأعراف:158] ، وقال عز وجل: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان:1]، ويوضح هذا أنه تعالى بين في سورة آل عمران أنه أخذ على النبيين الميثاق المؤكد أنهم إن جاءهم نبينا صلى الله عليه وسلم مصدقاً لما معهم أن يؤمنوا به وينصروه، وذلك في قوله: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:81]، فلو كان الخضر حياً في زمانه لجاءه ونصره وقاتل تحت رايته.
4- واخْتُلِف في الخضر، فقيل هو نبي أو ولي ؟
ويستدل القائلون بنبوته – وهو قول الجمهور- بقوله تعالى في شأنه: “آتيناه رحمة من عندنا” والرحمة تطلق على الوحي والنبوة في عدة مواضع من القرآن، ولأن الله حكى عن قوله لموسى: “ما فعلته عن أمري” أي أن ما حدث منه كان بوحي من الله.
5- العلم اللدني هو:الذي لم يتعلمه من شيخ أو من كتاب، ولكنه علم من الله علمه إياه بطريق الوحي، فكان بذلك الخضر أحد الأنبياء كما بين رسولنا صلى الله عليه وسلم.
وأنه كان من العلماء النبيين، وقد أكرمه الله بعلم من عنده ولم يكرم به سواه، بل لم يكرم موسى بمثل ذلك.
تفسير قوله تعالى: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}:تحكي هذه الآية أن موسى حين وجد العبد الصالح سأله الصحبة والمتابعة بشرط أن يعلمه مما علمه الله علما ذا رشد.
تفسير قوله تعالى: {قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}:قال الخضر إنك إذا أردت الصبر لما استطعت , لأن ما يجريه الله على يدي من الأمور يجعلك تسارع إلى الاعتراض عليه , لخفاء حكمته عليك.
تفسير قوله تعالى: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا}:أي وكيف تصبر على مصاحبتي وأنت ترى من أمور المخالفة لشريعتك , ما لم تحط بأسراره علما, يقول الخضر ذلك لأنه كان يفعل أمورا خفية المراد منكرة الظواهر , مما يجعل موسى عليه السلام لا يتمالك إلا أن ينكر وقوعها عند مشاهدتها.
تفسير قوله تعالى: {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) وعد موسى عليه السلام الخضر بأنه سيجده صابرا على ما يراه مما أخفي عليه سببه, وقرن ذلك بمشيئة الله , لأن أفعال العباد مرتبطة بمشيئته تعالى , كما وعده أن يلتزم طاعته فلا يخالفه في أمره من الأمور , وهذا ما ينبغي للمتعلم مع معلمه.
تفسير قوله تعالى: “قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70)} بعد أن أذن له الخضر بصحبته أرشده إلى ما يقتضي دوامها بقوله: فإن اتبعتني وصحبتني في رحلتي هذه فلا تسألني عن شيء رأيته بعينك وأنكرته بقلبك , واصبر حتى أحدث لك في شأنه ذكرا وبيانا يفسر ما عمي عليك من سببه.
تفسير قوله تعالى: {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا}: أي لقد أحدث منكرا فظيعا.
في حديث البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهما “انطلقا يمشيان على الساحل فَمَرتْ بهما سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نوْل” (بغير أجر) إلى أن قال: “فَلَم يُفْجأ مُوسى إلاَّ وَقَدْ قَلَعَ لَوحَا بِالقَدوم، فَقالَ لَهُ مُوسى: مَا صَنَعت؟ قوم حَملُونَا بِغَيرِ نَوْلٍ، عَمَدت إلَى سَفِينتهم فَخَرَقتَهَا لِتُغرِقَ أهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيئا إمْرا” ويحكي الله اعتراض موسى عليه، بأُسلوب موجز مستنكرًا ما فعل، إذ يقول:”لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ” وهنا نرى موسى عليه السلام ينسى ما عاهد عليه الخضر ويوجه إليه لوما شديدا ويقرر أن فعله هذا قد يفضي إلى إغراق السفينة بمن فيها، وأنه قابل إحسان أصحابها بالإساءة. ويحكم عليه حكما قاسيًا حسب ما بدا له – بأنه ارتكب ذنبًا عظيمًا قبل أن يستمع إلى سبب هذا الفعل.
تفسير قوله تعالى: “قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73)} ذكره الخضر بالعهد الذي ارتبط به معه فقال له: لقد قلت لك ما توقعتُ حدوثَهُ منك وهو أنك لن تستطيع الصبر على صُحبتي حينما ترى ما أفعله، بما يخالف ظاهر شريعتك.
تفسير قوله تعالى: {قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا}:اعتذر موسى عليه السلام للخضر بأنه نسى ما تعهد له به. والنسيان مَظِنَّة العفو، وطلب إليه ألا يحمّله فوق طاقته، فإنه نبي والنبي لا يسكت عن أمر يراه خطيئة ، وقبل الخضِرُ عذر موسى وسارا في طريقهما.
تفسير قوله تعالى: {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74)
{غُلَامًا}:الغلام الصبي الذي لم يبلغ.
{زَكِيَّةً}:طَاهرة، وفي قراءة “زَاكِيَة”. أي نامية أو طاهرة.
روى البخاري بسنده عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ” … ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخَضِرَ غلاما يلعب مع الغلمان فأخذ الخضر رأسه فاقتلعه فقتله .. “.
تفسير قوله تعالى: {قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا}:لم يطِقْ مُوسىَ صبرًا على ما رأى من قتله الغلام فقال في استفهام إنكاري: أقتلت نفسا طاهرة بريئة دون أن ترتكب تلك النفس جريمة تستحق عليها القتل؟ ثم أصدر عليه حكما حاسمًا بأنه ارتكب أمرًا خطيرا منكرًا.
تفسير قوله تعالى: “قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا “(75) نبَّهه الخضر عليه السلام إلى خروجه عما عاهده عليه للمرة الثانية، وأكد ذلك بزيادة الجار والمجرور (لك) أي إن هذا هو ما قلته لك لا لغيرك، ولكنك لم تلتزم بما تعهدت لي به في قولك: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا}.روى البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: “وهذه أشد من الأولى .. “.
تفسير قوله تعالى: “قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا ” أدرك موسى خطئه فلم يجادل فيه، ووعد بتحمل تبعة اعتراضه عليه مرة أخرى فقال للخضر عليه السلام: إذا اعترضت عليك في أمر آخر فإن لك أن تفارقني ولا لوم عليك في ذلك، بل لك العذر كل العذر في ألا تصاحبني، وقبل الخضر عليه السلام اعتذاره ومضيا في طريقهما.
تفسير قوله تعالى: ” فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا “أي فسارا في طريقهما حتى حلَّا بإحدى القرى وطلب من أهلها إعطاءهما طعامًا يأكلانه، فرفض أهلُها إطعامهما شُحًّا وبُخْلًا. فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) فرأَيا في القرية جدارا يكاد يقع فهدمه الخضر ثم أعاد بناءه، فعجب موسى علية السلام من تصرف الخضر، وما بذله من جهد في هدم الجدار ثم إِقامته، لقوم بخلاء يضنون عليهم بالطعام.
روى البخاري عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “فقال موسى: قوم أَتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا … “؟
{قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا}:أي لو أردت لطلبت من هؤُلاَء القوم أَجرًا جزاء عملك.
ونلاحظ هنا أَن موسى عليه السلام لم يعترض على الخضر ولم يصدر عليه حكمًا بالخطأ كما فعل في المرتين السابقتين، فقد استفاد من الدرسين الماضيين واكتفى هنا بقوله: لو أردت أن تنال أجرًا على عملك لنلته، وعلق الأمر هنا على مشيئة الخضر وإرادته، وهنا أدرك الخضر عليه السلام أن موسى قد استفاد بما مر بهما من أحداث، وأثمرت التجربة ثمرتها المرجوة، فأنهى الخضر لقاءه مع موسى عليهما السلام مبينًا له حكمة ما صنع مما لم يستطع موسى الصبر عليه.
تفسير قوله تعالى: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا}:
أَي قال الخضر لموسى عليهما السلام، بعد أن اعترض عليه لهدمه الجدار ثم بنائهِ لقوم بُخَلاء: حان لي فراقك وفقا لتعهدك، ولكنى قبل الفراق سأنبئك بتفسير ما قمت به من أعمال استدعت اعتراضك عليها , لتدرك بواعث وأهداف هذه التصرفات ولكنك تعجلت في الحكم عليها دون أن تدرك أسبابها وتقف على بواعثها.
جاء في حديث البخاري عن هذه القصة بعد قول الخضر لموسى عليه السلام: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ … } الآية. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “وَدِدْنَا أن موسى كان صبر فقص الله علينا من خبرهما”.
تفسير قوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)
أفادت الآيات السابقة أن سيدنا موسى عليه السلام قد نَفد صبره من رؤْية تلك الأحداث التي حدثت من الخضر عليه السلام ولم يجد لها مبررا ظاهرا يقتضيها، وأن الخضر اضْطُرَّ لإيذانه بمفارقته لنفاد صبره , وعدم تحمله ما يراه حتى تنتهى رحلتهما إلى غاية أبعد مما وصلت إليه , لكي يخبره في نهايتها عن كثير من أسرار الغد التي يخفيها الله تعالى عن عباده، ويختص بإعلامها بعض أصفيائه.
وجاءت هذه الآية وما بعدها لبيان ما انطوى وراء الأَحداث التي أجراها الخضر عليه السلام، والمراد من المساكين هنا الذين لا يقدرون على دفع الظلم عن أنفسهم، لضعفهم في النفس أو في البدن .
وهذا المعنى للمساكين غير ما قاله الفقهاءُ بشأنهم في الصدقات والكفارات، فإن منهم من فسر المسكين بأنه هو الذي لا يقدر على ما يقع موقعا من كفايته وكفاية من تلزمه نفقتهم، كمن لا يكسب أصلا أو يكسب دون النصف من كفايته، والفقير عند هؤلاء أحسن حالا من المسكين فهو الذي يقدر على ما يقع موقعا من كفايته وكفاية من تلزمه نفقتهم، كمن يكسب سبعة ولا يكفيه أقل من عشرة.
وسواءٌ أكان الفقير بمعنى الضعيف أم بمعنى المحتاج ؛ فهو مأخوذ من السكون فكلاهما ساكنٌ ذِلَّةً أو ضعفا، أو فقرا.
والمعنى:أما السفينة التي خَرَقْتُهَا قبل أن تصل إلى الميناء، فقد كانت لضعفاء من الناس يعملون في البحر أي يكسبون رزقهم بها عن طريقه، ولا يقدرون على مدافعة الظَّلَمَةِ عن أَنفسهم لضعفهم، فأردت بخرقها أن أُحدث فيها عيبا يمنع الظالم من مصادرتها وأَخْذها، لوجود هذا العيب فيها، ولم أُرِدْ أنْ أُغرق أَهلها كما توقعت يا موسى ([13])
وقد حكى الله عن الخضر – عليه السلام – السبب في خرقه إِياها بقوله:{وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا}:والوراءُ: اسم لما يتوارى عن العين، سواءٌ كان خلفك أَو أمامك، فهو من أسماء الأضداد والمراد به هنا المعنى الثاني، وبه قرأ ابن عباس: “وَكَانَ أمَامَهُم مَّلِكٌ”.
والمعنى:وكان أمامهم أعوانُ ملكٍ ظالم يأخذون له كل سفينة صالحة من أصحابها غصبا
وقهرا، وذلك إمَّا على سبيل المصادرة والاستيلاء التام، وإِما على سبيل التسخير والاستغلال
دون أجر، ثم يردونها لأصحابها .
ولم تتعرض الآية الكريمة لما حدث للسفينة بعد نجاتها من الملك الظالم بسبب خرقها، أعادَ الخرقُ إلى الالتئام بقدرة الله تعالى كرامة للخضر؟ أم أنه رَتَقَ هذا الخرق بنفسه؟ أم أن في أصحابها من أَصلحها؟ أَم أصلحها سواهم بأجر من الخضر لأنه هو الذي خرقها؟
كل ذلك تركت الآية الحديث عنه لفطنة القارىء، فإنه يعتقد أن ذلك المصلح لا يمكن أن يترك ما أفسده دون إصلاح بأي طريق، ولكنها أبرزت الحكمة في خرقه إِياها، ليعلم موسى أن خرقها ليس لغرض الإِغراق أو الإِفساد، بل لما أَبداه من إِنْجَائِهَا من الظلَمَةِ.
تفسير قوله تعالى: {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا}: وأَما الغلام الذي قَتَلتُهُ أنا واعْتَرَضْتَ يا موسى على قتله دون ذنب ظاهر لك فهو غلام شرير بطبيعته، وكان أبواه مُؤْمِنيْنِ صالِحَينِ، فتوقعتُ أن يغمرهما بمجاوزته الحدود الإلهية، وكفره بالله تعالى، فلهذا قتلته.
وفسر بغض العلماء إرهاقه لهما بالطغيان والكفر , بأن يحملهما حبه – لو بقى حيا – على متابعته، وهذا التفسير مأْثور عن ابن جبير.
ولكن الخوف من وقوع ذلك في المستقبل لا يبرر قتله للغلام , فقد لا يقع، فلهذا فسر بعض شراح البخاري الخشية هنا بالعلم، أي فعلمنا من الله تعالى أنه لو بلغ لدعا أبويه إلى الكفر فيجيبانه، ويدخلان معه في دينه لفرط حبهما له، أو علمنا أنه لو بلغ لأرهقهما طغيانًا عليهما وكفرا بنعمتهما, بسبب عقوقه وسوء صنيعه، فيلحقهما من ذلك شر وبلاءٌ.
ومن العلماء مَنْ قال: إن الغلام كان شابا بالغا وكان شريرا كافرا، ولا يمنع بلوغه من إطلاق لفظ الغلام عليه، فإنه يستعمل لغة فيمن ظهر شَارِبُهُ، وفي الكهل، وفي الشخص من حين يولد إِلى أن يصير شابا – كما جاء في القاموس – ويستدل أصحاب هذا الرأي بما جاء في بعض الآثار من أنه كان يفسد ويقطع الطريق، ويقسم لأبويه أنه ما فعل , فيقسمان بقسمه ويحميانه ممن يطلبه، ولعل هذا الرأي يؤَيده ظاهر الآية التالية:{فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا}:أي فأردنا بقتله أَن يرزقهما الله بدله خيرا منه، طُهْرًا في الدين والأخلاق، وأقرب رحمة منه بهما، فخيرة الله لعبده خير من خيرة العبد لنفسه، وكم من أمور حجبها الله جل وعلا عنا وبقيت في قلوبنا بعض علامات الحزن والأسف عليها ولو فتح لنا الغيب لسجدنا شكراً على أن الله حجبها عنا، ولذلك من أرفع مقامات الصالحين الرضا بقضاء الله وقدره.
تفسير قوله تعالى: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا}:
أي وأما الجدار الذي أَقمتُه بدون أجر، وكان وشيك الانقضاض، فكان لغلامين مات أَبوهما فأصبحا بعده يتيمين في القرية التي طلبنا الطعام من أهلها، فبخلوا به علينا، وكان تحت هذا الجدار كَنز لهما، استحقاه عمن قبلهما، كأبيهما أو جَدٍّ لهما أو غير ذلك، وكان أبوهما صالحًا، فرأيت من المروءة أن أُقِيمَ الجدار على الكنز حذرًا عن انهيار المائل وظهور المكنوز تحته، فيستولى عليه من لا يستحقه من الناس، ولم يمنعني من البر باليتيمين بخل أهل هذه القرية علينا، فإن للإحسان باليتامى أَجرًا عظيمًا.
وقوله تعالى : “وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا “، هذه ضمناً جاءت لتبين أن أعظم ما يدخره الآباء للأبناء أن يكون الآباء صالحون في أنفسهم، فبرحمة الله جل وعلا لهذا الوالد في قبره، وهو ميت لصلاحه سخر الله موسى والخضر يتجاوزان البحار والقفار ليقيما جداراً تحته كنز من أجل يتيمين، فمن استودع الله شيئاً حفظه تبارك وتعالى
ثم بين الخضر عليه السلام أنه كان يتلقى الأمر فيما يفعله من الله تعالى فقال:
{فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا}:أي فأراد ربك ([14]) يا موسى أَن يبلغ اليتيمان كمال قوتهما في الرأي والبدن، ويستخرجا كنزهما من تحت الجدار، فأمرني بإقامته، ولولا أنني أقمته لانقض وبرز الكنز من تحته قبل اقتدارهما على حفظه والانتفاع به، وليس الذي فعلته من الأمور التي شاهدتَها يا موسى ناشئًا عن اجتهادي ورأيي، بل بوحي من ربك وربى، ذلك الذي شرحته لك من أسرار تلك الأحداث هو مآل وعاقبة الأمور التي لم تستطع الصبر عليها، حتى أبينها لك في حينها.
لا ينسب الشر إلى الله تأدبا :
لو تأملت في قوله أولاً: (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا)، وجدت أنه لم ينسب العيب إلى الله، لكن نسبه إلى نفسه وإن كان عن أمر الله تأدباً مع الله.
وعندما ذكر قتل الغلام قال” فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا “ وفي الحالة الثالثة قال: (فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا)، فنسب الإرادة إلى الله سبحانه وتعالى، لأنها في خير محض، والنكتة أنه لا ينسب الشر إلى الله سبحانه وتعالى، كما في حديث القنوت في دعاء النبي عليه الصلاة والسلام: (والشر ليس إليك)، فليس في أفعال الله شر على الإطلاق، بل كل أفعاله خير محض، وإنما الشر أمر نسبي إضافي، قال تعالى: “قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ ” [الفلق:1-2]، فأضاف الشر إلى المخلوقين، لكن لا يضاف إلى الله سبحانه وتعالى، ولذلك نظائر، كما في قول أيوب عليه السلام: “وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ” [ص:41]، وقول إبراهيم عليه السلام: ” فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ [الشعراء:79-81] ، ]، فنسب الخلق والهداية إلى الله، ولم ينسب المرض إلى الله مع أن الله خالق كل شيء. لكن تأدباً نسب المرض إلى نفسه لأنه شر.
وقال تعالى: “صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ “[الفاتحة:7]، فنسب النعمة إلى الله، ثم في الغضب والضلال قال: “غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ” [الفاتحة:7]
وفي سورة الجن قال:” وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ” [الجن:10] ، ففي الشر استعمل صيغة المجهول، أما في الخير والرشاد فقد نسبه إلى الله سبحانه وتعالى.
وفي قصة موسى والعبد الصالح:فضل الرحلة في طلب العلم، واحتمال مشاق الأسفار في طلبه؛ وفيها تواضع المتعلم للمعلم، ولو كان المتعلم أَفضل من معلمه؛ وفيها صبر العالم ورفقه بمن يعلِّمه، وتنبيهه إِذا غَفَل, وتحذيره أَن يعود إلى مثل ما غفل عنه؛ وفيها أَن علم الله تعالى لا نهاية له، وأَن العالم إِذا سئل: من أَعلم الناس؟ لا يقول: أَنا، بل يرد العلم إلى الله تعالى، ولو كان نبيا ورسولًا من أولى العزم.
الفصل التاسع
تفسير الآيات من 83-98
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)
تفسير قوله تعالى: “وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا “
(يسألونك)السائلون قريش بتلقين اليهود.
ذكر الله قبل هذه القصة ما حدث بين موسى والخضر، وعقبها بذكر قصة ذي القرنين ليكونا آية على نبوته صلى الله عليه وسلم، فإن القصتين لا يعلمها سوى أهل الكتاب، في حين أَنه صلى الله عليه وسلم لا سبيل له إِلى علمهما إلاَّ بقراءة كتبهم، أو بتعلمها منهم، ولا سبيل له إِلى قراءتها، لأنه أمي، كما أنه لا سبيل له إلى تعلمها منهم، لأنهم لا يوجدون بمكة، ولم يكن له اتصال بهم، ولهذا كانوا يسألونه عن تلك الغيبيات، بتحريض قريش على سؤاله، كما سبق في مقدمة السورة
{عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ}: ملِك صالح مكن الله له في المشارق والمغارب، وجعله الله نموذجاً للحاكم الصالح، حتى لا يعتذر أحد أن الحكم لا يقوم إلا على البطش والجبروت، فأتى الله بحاكم صالح ينفذ منهج الله.
وقد اختلف في شخصه، فقيل هو الإسكندر المقدوني ([15])، وهناك من يرى أن ذا القرنين هو غورش الفارسى، ويسميه اليهود (كورش)
وسبب تسميته بذي القرنين : لأنه بلغ مشرق الشمس ومغربها، مأخوذ منْ قَرْنِ الشمس بمعنى ناحيتها .
ذو القرنين هل هو نبي أم لا؟ هذه مسألة خلافية بين العلماء :
قال الرازي : اختلفوا في ذي القرنين ، هل كان من الأنبياء أم لا؟ منهم من قال: إنه كان نبياً، واحتج عليه بوجوه:
الأول: قوله تعالى: (إنا مكنا له في الأرض)، والأولى حمله على التمكين في الدين، والتمكين الكامل في الدين هو النبوة.
الثاني: قوله تعالى: (وآتيناه من كل شيء سبباً) ومن جملة الأشياء النبوة.
الثالث: قوله تعالى: (قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا)، والذي يتكلم الله معه لابد أن يكون نبياً.
ومنهم من قال: إنه كان عبداً صالحاً وما كان نبياً. انتهى كلام الرازي .
ثم قال الرازي بعد: يدل قوله تعالى: (قلنا يا ذا القرنين) على أنه تعالى تكلم معه من غير واسطة، وذلك يدل على أنه كان نبياً، وحمل هذا اللفظ على أن المراد أنه خاطبه على ألسنة بعض الأنبياء عدول عن الظاهر.
ثم يعلق القاسمي : ولا يخفى ضعف الاستدلال بهذه الأدلة على نبوته، يعني: التمسك بمثل هذه العمومات لا يكفي في إثبات النبوة؛ لأن الأدلة في عامتها يضعف وجه دلالتها على كونه كان نبياً؛ لأن قوله: (إنا مكنا له في الأرض) ما المانع من أن يكون المقصود به الملك والتمكين الدنيوي والصفوة وتوسع النفوذ والسلطان؟ وليس شرطاً أن يكون التمكين بالنبوة، والظاهر أنه كان ملكاً عظيماً.
ثانياً: قوله: (وآتيناه من كل شيء سبباً) لا تستلزم أن يؤتى النبوة أيضاً، باعتبارها سبباً من الأسباب، كما في قوله تعالى في شأن بلقيس :” وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ “[النمل:23]، وهي إنما أوتيت من كل شيء مما يؤتاه الملوك، كذلك هذا آتاه الله من كل شيء سبباً ولا يشترط أن تشتمل على معنى النبوة.
يقول القاسمي : ولا يخفى ضعف الاستدلال بهذه الأدلة على نبوته؛ لأن مقام إثباتها يحتاج إلى تنصيص وتخصيص، وأما الاعتماد على العمومات لاستفادة فمثل ذلك فغير مقنع، وأما قوله تعالى: (قلنا يا ذا القرنين)، فقد قلنا إنه كناية عن تمكينه تعالى له منهم، لا أنه قول مشافهة، وإلا لو كان ذلك لكان مخيراً منه تعالى وملقناً ما يفعل بهم، فأنى يسوغ له نقضه باجتهاد آخر. يقصد القاسمي : أن قوله تعالى:” قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا ” [الكهف:86]، كناية عن تمكينه له تعالى من هؤلاء القوم، لا أنه قال له ذلك مشافهة، وإلا لو كان ذلك لكان مخيراً منه تعالى، كأن الله هو الذي خيره ولقنه ما يفعل بهم، فأنى يسوغ له نقضه باجتهاد آخر،” إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا “[الكهف:86] فإذا كان الله مكنه منهم، وكان من قبل قد قال له: أنت مخير أن تفعل هذا أو ذاك، فكيف يسوغ له بعد ذلك أن يجتهد اجتهاداً ينقض هذا الحكم؟
قال: ولا يقال: إن الأصل في الإطلاق الحقيقة، لأنا نقول به ما لم يمنع منه مانع وللتنزيل الكريم أسلوب خاص عرفه من أمعن النظر في بديع بيانه.
نعم. لو كان مراد القائل بنبوته: إنه من الملهمين، ذهاباً في النبوة إلى المعنى الأعم من الإيحاء بشرع لكان قريباً، فتكون نبوته من القسم الثاني، وهو الإلهام الذي جاء في الحديث تسمية صاحبه محدثاً كما في البخاري قال عليه الصلام والسلام: (إنه قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم محدثون، وإنه إن كان في أمتي هذه منهم فإنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه)، وإطلاق النبوة عليه وإن كان محظوراً في الإسلام إلا أنه كان معروفاً قبله في العباد الأخيار.
الراجح ما جاء في الحديث عن أبي هريرة مرفوعا: “ما أدري أَتُبَّعُ أنَبيًّا كان أم لا ؟ و ما أَدري ذا القَرنينِ أَنبيًّا كانَ أم لا ؟ “ صححه الألباني صحيح الجامع
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم توقف في نبوته، فمن باب أولى أن نتوقف في ذلك .
تفسير قوله تعالى: ” قلْ سأتلو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذكرا “أي: من بعضه، فلن أقول لكم كل شيء، سأقول لكم بالقدر الذي ينفعكم .
تفسير قوله تعالى: “إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا”:إنما جعلنا لهُ مُكنَةً وقدرة على التصرف في الأرض، وأعطيناه من أجل كل شيء أَراده فيها سبَبًا ووسيلة توصله إِليها، فلا يعوقه عن مراده عائق، ومن هذه الأسباب سعة العلم وحسن التدبير، والحكمة في التصرف، وتدريب الجنود، واختيار القواد، والعتاد الحربى، فأراد التوجه إلى ناحية مغرب الشمس.
{فَأَتْبَعَ سَبَبًا}: اتبع واتَّبع بمعنى واحد أي اتبع طريقًا وأسلوبًا من شأنه إنجاح غزوه للأقطار.
وقد أشارت الآية الكريمة {فَأَتْبَعَ سَبَبًا} إِلى أن معالى الأمور لا تنال إلا باستعمال الأسباب الموصلة إِليها، وأن المجد لا يناله القاعدون الخاملون.
تفسير قوله تعالى: “حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ” أي اتبع الطريق والسبب الموصل إلى مقصده، حتى إذا بلغ في فتوحاته منتهى الأرض من جهة مغرب الشمس، ووقف عند حافة المحيط، وجد الشمس – كما أدركها بصره – تغرب في عين ذات حمأة، والحمأة الطين الأسود.
وقرئ {فِي عَيْنٍ حامية} وبها قرأ معاوية وعبد الله بن عمرو بن العاص، ولا منافاة بين القراءتين، فإِنه لما بلغ حافة اليابسة، وقف ينظر إِلى الشمس عند غروبها، فرآها في نظره كأنما تغرب في عين متقدة نارية، بسبب قرص الشمس الشديد الحمرة، الذي يبدو كأنه وقدة من النار جعلت مكان اختفائها في نظره، كأنما هو عين حامية – وكما يتصورها الناظر تغرب في عين حامية، يتصورها تغرب في عين ذات طين أسود، فإنها لما غابت تحت الماء، أصبح مكان اختفائها فيه مظلمًا باهتًا بعد أَن كان متقدًا.
أي هذا الذي رآه أمر ناشيء في وجدانه وخياله، وليس من الحقائق الواقعة ؛ فكما يراها الناظر عند غروبها تغرب في عين ماء حمئة أو حامية إذا كان على شاطىء المحيط فإنه يراها تشرق خارجة من اليابسة، وتغرب داخلة فيها إِذا كان واقفًا على متسع فسيح من أرضها، والحقيقة أن الشمس لا تغرب في الماء ولا في اليابسة عند الغروب، ولا تشرق منهما عند الشروق فالشمس أَكبر من الأرض أضعافًا مضاعفة، ولا تختفى عن مدارها، والأرض تدور تحت أشعتها فتعُمُّ الشمسُ نصفهَا بضوئها، لأنها على شكل كرة، فيكون النهار في القسم الذي استضاء بنورها والليل في القسم الآخر.
وكلما دارت الأرض اختفت أشعة الشمس عن بعضها: فحل فيه الليل محل النهار، وظهرت أَشعتها في بعض آخرَ تَكشَّفَ للشمس، فَحَلَّ فيه النهارُ مَحَل الليل.
والذى يحجب ضوء الشمس عن بعض الأرض هو البروز الكروي للأرض، فهو الذي يمنع أشعة الشمس عما انخفض منها بسبب حركتها الدائرية، ولو كانت مبسوطة وغير دائرة لما غابت الشمس عنها، ولكان وقتها نهارًا دائمًا، وأما ما ورد في القرآن من أن الأرض مبسوطة فمحمول على ما هو في رأى العين، كما في قوله تعالىَ في سورة نوح:“وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا”
تفسير قوله تعالى: “وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا”:
أي ووجد ذو القرنين في طرف الأرض من ناحية المغرب، وجد قوما عند العين التي تخيلها وتخيل أَن الشمس تغرب فيها، وكان هؤُلاء القوم مشركين، كما هو شأْن الناس عند غياب المرسلين عنهم، قال الله له على سبيل التخيير: ياذَا القَرنَيْنِ، إما أن تُعَذِّبَ هؤُلاء القوم بالقتل إِن أبوا الإِيمان وأصروا على الشرك، وإما أن تتخذ فيهم أَمرًا ذا حسن، بالمصابرة والمطاولة لعلهم يؤْمنون ويَرْشدون، وكان تخيير الله لذى القرنين على النحو السابق إِما على لسان نبى كان موجودًا في هذا الزمان، وإما على سبيل الإِلهام
تفسير قوله تعالى: “قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا” أي قال هذا الرجل الحكيم بعد أَن خيره الله في شأن الكفار من أهل المغرب على النحو الذي بيناه في شرح الآية السابقة – قال -: هؤلاء الناس سوف يكونون بعد دعوتهم إلى الحق قسمين: ظالمين ببقائهم على الكفر وإصرارهم عليه، ومؤمنين تائبين من كفرهم، فأما من ظلم نفسه ببقائه على الكفر والعصيان، فسوف نعذبه بالقتل، ثم يعيده الله بالبعث فيرده إِلى حسابه وجزائه فيعذبه على كفره وعصيانه عذابا منكرا فظيعا.
ثم بين مآل المؤمنين التائبين كما حكاه الله عنه بقوله:“وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا”أي وأما من آمن بالله وعمل صالحا موافقًا لما شرعه الله على لسان نبي ذلك العصر , فله المثوبة الحسنى في الدارين , جزاء له على إيمانه وصالح عمله , وسنقول له مما نأمر به موافقًا لشرع الله – سنقول له – قولا ذا يسر وسهولة في مختلف التكاليف , فإن الله لا يكلف نفسًا إلاَّ وسعها.
وهذا منتهى العدل لأن الملك يبقى إذا كان الفاسق والمجرم يخاف من سطوتك، والكريم الفاضل يرجو فضلك ، يبقى الملك إذا كان ذوي الصلاح يؤملون منك، وأهل الفجور يخافون منك ، أما إذا كان أحد من الناس يحكم، فإن الفجار لا يخافونه ، ولا الكرام يؤملون فيه، فلن يستمر ملكه .
“ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا”:ثم اتَّبَعَ طريقًا موَصِّلا إِلى المشرق، ليرجع فيه بعد غزوه المغرب.
تفسير قوله تعالى: “حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا”:حتى إذا بلغ ذو القرنين الإِقليم الذي تطلع الشمس عليه أولا في ناحية المشرق على حافة المحيط، وجدها تطلع على قوم بدائيين فطريين لم يرتقوا صناعيًّا، حتى يصنعوا لأنفسهم ثيابًا تسترهم وتحميهم من أشعة الشمس، أَو مساكن تُؤوِيهم من حرارتها، وقد يكون ذلك في المنطقة التي يمكث فيها النهار أَيامًا متتالية في فصل، ثم يمكث الليل أَيامًا متتاليةً كذلك في فصل آخر، وأنه وصل إليها وقتما كان الزمن نهارًا دون ليل، والشمس طالعة فوقهم دائمًا، وليس لهم وقتئذ ليل يسترهم منها، وأن ذلك هو معنى قوله سبحانه: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} وقد أَجمل الله كمال استعداد ذي القرنين لهذه الرحلة، وَعظَّم أمره وفَخَّمه بقوله:
تفسير قوله تعالى: “كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا”:أي كان الأمر في الواقع مثل هذا الذي حكيناه عن ذي القرنين في اليسر والسهولة، وقد أحطنا علمًا به فنحن مطلعون على جميع أحواله وأحوال جيشه لا يخفى علينا منها شيء، وإن تفرقت أممهم وتقطعت بهم الأرض.
ويفهم من هذا الإشارة إلى عظيم العدد والعٌدد التي كانت معه، بحيث لا يحيط بها إلا الله سبحانه وتعالى، ولا يستطيع غير الله أن يحصر ويحيط ما معه من الجيوش الكثيرة وكذلك العدد والآلات.
“ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا” ثم اقتفى طريقًا ثالثًا يصل منه إِلى حيث يوجد يأجوج ومأجوج وجيرانهم الذين يتعرضون لفسادهم.
تفسير قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93)
“بَيْنَ السَّدَّيْنِ”:بين الجبلين.
{مِنْ دُونِهِمَا}:أي قريبًا منهما، والأصل في استعمال لفظ {دُونَ} أن يكون بمعنى تحت وبمعنى فوق، وبمعنى أمام وبمعنى خلف، أَي أنه يستعمل في الشيء ومقابله.
والمعنى :لما أَتم ذو القرنين رحلته إلى المشرق، وأخضع أهله لحكمه، اتخذ طريقا ثالثا ليخضع لسلطانه قوما آخرين لم يدينوا له بعد، حتى إذا وصل في سيره إِلى منطقة تقع بين جبلين معينين، وجد قريبًا منهما قوما لا يستطيعون أَن يفهموا ما يقال لهم منه أو من أَتباعه لقلة فطنتهم، فإنهم لو كانوا أذكياء لفهموا بعض ما يقال لهم بالقرائن،ولعلهم كانوا يتفاهمون معه بالإشارة ليعلموا ما يراد منهم أَو ما يٍجاب به على أَسئلتهم .
تفسير قوله تعالى: “قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا”
{يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ}:اسمان لقبيلتينمن البشر، وهما اسمان أَعجميان، أَو عربيان مأْخوذان من أجيج النار، وهو ضوؤها وشررها، وهذا المأخذ يشير إِلى شرهم وفسادهم، وأنهم مثل النار إشارة إلى سرعتهم في شن الغارات على جيرانهم، والعودة بغنائمهم إِلى حيث يعيشون وراء الجبلين اللذين أقيم السد بينهما، ولا ندري أين مكانهما ؟ لكن بعض الباحثين ذكر أن هذه المنطقة تقع ما بين البحر الأسود وبين بحر قزوين، وهي عبارة عن منطقة جبلية تزيد على ألف ومائتين وخمسين كيلو متر تقريباً، وهي منطقة جبال متصلة، فهي في حد ذاتها سد، وليس فيها مكان سوى مسافة واحدة هي التي تنقطع عندها السلسلة الجبلية، وهي التي أنشأ فيها هذا السد، وهي الجهة الوحيدة في المنطقة التي فيها سهل أو شعب واسع بين الجبلين، وكان يأجوج ومأجوج يغيران على الأمم من خلاله، أما ما عدا ذلك فكانت حواجز جبلية قوية جداً، وهي سلسلة جبال القوقاز، والله تعالى أعلم.
ويرجح أنها في أذربيجان جهة الاتحاد السوفيتي، ويقال: غير ذلك، ونقول : أغفل الله مكانهما لحكمة يعلمها الله وسيظهرهما وقتما يشاء ،وحتى لو خفي مكان يأجوج ومأجوج والسد فلم يعرف مكانه لما ضر ذلك والبعض يقول: حصل مسح جغرافي شامل للكرة الأرضية، وأن هذا السد لو كان موجوداً لرأيناه … إلى آخره، وهذا الكلام لا يسلم؛ لأنه كم من منطقة بالذات هذه المناطق الجبلية لم تطأها قدم إنسان على الإطلاق، وهناك مناطق لا يتصور أن يصل إليها إنسان، وهذا وارد، فهذا لا يضر خبرنا شيئاً.
{مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ}:ما هنا بمعنى الذي و (مَكَّني) أصله مكننى بنونين، فأُدغمت الأولى في الثانية أي ما جعلني الله فيه مَكينًا وعليه قادرًا خيرٌ من خَرْجِكُم،
“خَرْجًا”وقرأ حمزة والكسائى وغيرهما “فَهَلْ نجْعَلُ لَكَ خَرَاجًا”. بألف بعد الراء وكلاهما بمعنى واحد كالنول والنوال، وقال ابن الأعرابى: الخرج على الرؤوس والخراج على الأرض ، وقيل: الْخَرْجُ ما تبرعت به والخراج ما لزمك.
والمعنى : قال القوم الذين هم دون السّدين، يشكون حالهم لذى القرنين، لما عَلموه من قوة سلطانه وعظيم همته، بما سمعوه من أخبار رحلته قالوا لذى القرنين : إن قبيلتي يأجوج ومأجوج المقيمتين خلف السّدين، مفسدون في الأرض التي نحن فيها، كما أنهم مفسدون في غيرها، ونحن لا نقدر على دفعهم عن بلادنا، فهل نجعل لك عطاءً ومالا على أن تجعل بيننا وبين هؤلاء المفسدين حاجزا بين هذين الجبلين يمنعهم من العودة إلى أَرضنا والإفساد فيها .
تفسير قوله تعالى: “قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا”
{رَدْمًا}: أي حاجزًا حصينًا وسدًا منيعًا بعضه فوق بعض من قولهم سحاب مُرَدَّم، أي متكاثف بعضه فوق بعض.
والمعنى : قال ذو القرنين ردا على ما عرضوه من العطاء في مقابل إقامته السد بينهم وبين يأجوج – قال لهم – ما مكنني فيه ربي وجعلني فيه مكينا من الملك والمال والعلم وسائر الأسباب خير مِمَّا تريدون بذله لي، فلا حاجة بي إِلى أموالكم، فأعينوني على بناء السد الذي تريدونه بما أَقوى به على تحقيقه ؛ من العمال وآلات البناء والوقود وقطع الحديد والنحاس، وغير ذلك مما يحتاج إليه في إِقامته حتى يساوى الجبلين، ويكون شديد القوة بحيث لا يقدرون على صعوده ولا على اختراقه، فإن فعلتم أجعل بينكم وبينهم ردمًا أي حاجزا حصينا وحجابا متينا.
ثم فصل لهم بعض مطلوبه من القوة التي يعينونه بها فقال:“آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا”
{زُبَرَ الْحَدِيدِ}:قطع الحديد، جمع زبرة وهى القطعة.
{الصَّدَفَيْنِ}:جانبي الجبلين، ومفرده الصدف وهو الجبل.
{قِطْرًا}:القطر هو النحاس المذاب.
والمعنى : أي أعطوني قطع الحديد ، فأتوه بها , فجعل يضع بعضها على بعض بطريقة تقتضى التماسك والارتفاع بالبناء ، حتى إذا ساوى ذو القرنين ما بين جانبي الجبلين بما بناه من السد قال لعماله: انفخوا بالكيران في الوقود الموضوع بين قطع الحديد بعد إشعال النار فيه , ليصبح الحديد مثل النار , فيلتصق بعضه ببعض , ففعل العمال ما أمرهم به.
وهذه العبارة مترتبة على كلام مقدر مفهوم من المقام، فكأنه قيل: ففعل العمال ما أمرهم به ذو القرنين من النفخ في الوقود المشتعل بين قطع الحديد, حتى إِذا جعل السد يشبه النار في شكله وفي حرارته قال لعماله الذين يقومون بإذابة القطر وهو النحاس قال لهم : أحضروا القطر الذي صهرتموه وأذبتموه لأُفرغه على السد، فأحضروه له فأفرغه عليه فسدّت به الثغرات التي كانت بين قطع الحديد بعد أن تم احتراق الوقود الذي بينهما، والتصق بعضها ببعض أشد التصاق.
تفسير قوله تعالى: “فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا “
{أَنْ يَظْهَرُوه}:أن يعلوه ويرتقوا فوقه.
{نَقْبًا}: النقب الثقب والخرق.
أي فجاء يأجوج ومأجوج وقصدوا أن يعلوه أَو ينقبوه, فما استطاعوا أن يعلوا ظهره ويرتقوا فوقه لشدة ارتفاعه وملاسته، وما استطاعوا له خرقا لصلابته وغلظه، قيل: كان ارتفاعه مائتي متر، وكان غلظه خمسين ذراعا، والله أَعلم بصحة ذلك.
وفي هذه الآية تساؤلات نذكرها ونجيب عليها فيما يلى، ونسأل الله التوفيق:
س 1: لماذا قال ذو القرنين لأهل ما بين السدّين: {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} مع أنه امتنع عن أخذ المال منهم، وقال: “مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْر“؟
والجواب: أن امتناعه عن أخذ المال لا يمنع من طلب عمال البناء والأدوات وقطع الحديد ليتقوى بذلك على تحقيق مرادهم على أن يدفع الأجر للعمال وثمن الحديد من ماله، على أن السد لما كان لمصلحتهم، فإن تبرعهم بالقوى العاملة، لا يعتبر عطاءً أو أجرًا على بنائه كما أن زبر الحديد قد تكون من منجم قريب من السد، فإحضارهم إياها، لا ينافى رفضه أجرًا منهم.
س 2: كيف يطلب من عماله أن ينفخوا على السور بعد أن بناه بقطع الحديد، مع أن هذا النفخ لا يصهر الحديد دون أن يكون بين قطعه وقود مشتعل.؟..
والجواب: أن هذا النوع هو من الاختصار القرآنى المتروك فهمه لفطنة القارىء، وهو من الصور البلاغية للقرآن الكريم، ولا شك أنه أمرهم بوضع الوقود وإشعاله قبل أمرهم بالنفخ فيه، وأن الأمر بالنفخ قرينةٌ على ذلك.
س 3: لماذا أسند ذو القرنين العمل في السد لنفسه بقوله:{أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} كما حكى الله عنه أنه ساوى بين الصدفين وجعله نارا، مع أن كل ذلك تم بمباشرة مهندسيه وعماله .. ؟
والجواب: أنه لما كان ذلك يتم بأمره وإرشاد أسنده إلى نفسه على سبيل المجاز.
س 4: كيف يستطيع العمال أن ينفخوا في السور قريبًا منه دون أن يحترقوا بناره، وكيف يفرغون عليه النحاس المذاب مع حرارته الشديدة وناره المتقدة، وارتفاعه العظيم وثخانته البالغة خمسين ذراعا على ما قيل؟
والجواب: أنه لابد أَن يكون ذو القرنين قد وصل إلى حل لهذه المشكلات، بحيث يمكنه تحقيق بنائه على النحو الذي تحدث به القرآن العظيم عنه، دون إضرار بأحد العاملين فيه، وكما أن العلم في عصرنا حل مشكلات كثيرة، فالعلم والحضارة والحكمة عند هؤلاء القدماء بلغت الذروة , فلابد أنهم استعملوا آلات وطرقا علمية لم يصل بعد أحد إلى معرفتها ولا تكاد العقول تصدقها، ما لم تعرف ما كان عليه هؤلاء العظماء، من العلم والحكمة والإبداع .
تفسير قوله تعالى: “قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا”يعني: فإذا دنا مجيء يوم القيامة، وشارف أن يأتي جعل السد دكاً أي: مدكوكاً مبسوطاً مسوىً بالأرض، وكل ما انبسط من بعد ارتفاع فقد اندك، وهذا يحتمل أمرين: إما أن يدك على يد يأجوج ومأجوج عندما يحفروه وهذا الذي نميل إليه. وإما قصد ما يحدث في الأرض من تغير معالمها عند قيام الساعة، والأول أقرب، قال صلى الله عليه وسلم وقد نام عند زينب بنت جحش قال: (ويل للعرب من شر قد اقترب! فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج)،
وهذه الآية وقوله تعالى: “حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا “الأنبياء:96-97 ، هذه الآيات تدل في الجملة على بطلان قول من قال: إن يأجوج ومأجوج هم الروس أو المغول والتتار وإن السد فتح منذ زمان طويل.
ويدل على هذا حديث رواه الإمام مسلم عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال:
( ……. فبينما هو كذلك إذ أوحى الله عز وجل إلى عيسى: إني قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم -أي: لا أحد يستطيع أبداً أن يقاتلهم- فحرز عبادي إلى الطور، ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها، ويمر آخرهم فيقولون: لقد كان بهذه مرة ماء، ويحضر نبي الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خير من مائة دينار لأحدكم اليوم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم؛ فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة. يدعو عليهم المسيح عليه السلام فيهلكهم الله سبحانه وتعالى.
ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض، فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله، فيرسل الله طيراً كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله، ثم يرسل الله مطراً، لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلقة (المرآة)
ثم يقال للأرض: أنبتي ثمرتك وردي بركتك، فيومئذ تأكل العصابة -المجموعة من الناس- من الرمانة، ويستظلون بقحفها -قحف الرمان هو ورقه- ويبارك الله في الرسل؛ حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام(الجماعة) من الناس، واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس، واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس، فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحاً طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم، ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر، فعليهم تقوم الساعة).
وهذا الحديث الصحيح قد رأينا فيه تصريح النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله يوحي إلى عيسى بن مريم خروج يأجوج ومأجوج بعد قتله الدجال، فمن يدعي أنهم روسيا، وأن السد قد اندك منذ زمان، فهو مخالف لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مخالفة صريحة لا وجه لها.
والمعنى :بعد أن فرغ ذو القرنين من بناء السد وإحكامه بحيث يمنع يأجوج ومأجوج من الخروج من ورائه ليفسدوا في الأرض، قال مشيرا إلى السد: هذا أَثر رحمة عظيمة من ربي بعباده، حيث أقدرنى على بنائه وإحكامه وحمى به الناس من غزوات أولئك المفسدين المخربين ,وما أنا إلا منفذ لمشيئة ربي ورحمته بعباده، ولولا ذلك لما استطعت بناءه، فإذا جاء موعد ربي بخروج يأجوج ومأجوج من محبسهم جعل هذا السد أَرضا دكاء أي مستوية، وكان وعد ربي بخروجهم حقا ثابتا لا خلف فيه.
الفصل العاشر
تفسير الآيات من 83-98
وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108) قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
تفسير قوله تعالى: “وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا”
{ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ}:أي جعلناهم يضطربون ويختلطون.
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ}:الصور آلَةٌ تشبه القرن ينفخ فيها, وتسمى البوق أيضًا.
لهذه الآية وجهان في التفسير:
الوجه الأول :بعد أن حكى القرآن الكريم عن ذي القرنين أَن هذا السد رحمة من ربه، ذكر في هذه الآية ما فعله الله تعالى بيأجوج ومأجوج بعد إقامة السد، وظاهر النظم الكريم أن الضمير في قوله تعالى: {بَعْضَهُمْ} عائد إلى يأجوج ومأجوج، والتَّرْكُ هنا بمعنى الجَعْل، وهو من الأضداد.
والمعنى على هذا: وبعد تمام السد جعلنا يأجوج ومأجوج يموجُ بعضهم في بعض، أي يضطربون اضطراب موج البحر لما مُنِعُوا من الخروج والفساد في الأرض بسبب السد، ولا يزالون مائجين مضطربين، حتى ينجز الله وعده الحق، فَيَنْدَكُّ السد ويسوى بالأرض، وحينئذ يخرجون مزدحمين في البلاد ويهلكون الحرث والنسل.
الوجه الثاني :أن الضمير في قوله تعالى: {بَعْضَهُمْ} عائد إلى الخلائق من الإِنس والجن. وعلى هذا الرأي يكون معنى الآية ما يلى:
وجعلنا بعض الخلائق يضطربون اضطراب أمواج البحر، يختلط إنسهم بجنهم من شدة الفزع والهول عند قيام الساعة، روى هذا عن ابن عباس رضى الله عنهما
“وَنُفِخَ فِي الصُّورِ”: الصور هو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام بأمر الله تعالى، كما ثبت في السنة وهو بوق عظيم جدا، جاء في الآثار من وصفه ما يدهش العقول، ولكنا نؤمن به، ونكل حقيقته إلى من أَحاط بكل شيء علمًا، وقد صَحَّ عن أبي سعيد الخدري رضى الله
عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كَيْفَ أَنْعَمُ وَقَدْ الْتَقَمَ صَاحِبُ القرْنِ الْقَرنَ وَحنَى جَبينَهُ وأصغى سمْعَهُ يَنْتَظرُ أنْ يُؤْمَرَ فيَنْفُخ” وهو ينفخ فيه نفختين-على الأرجح -: الأولى نفخة الصعق والأخرى نفخة البعث والقيام من القبور، وهما المذكورتان في قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} الزمر 68
والمراد هنا النفخة الأُخرى بدليل ما بعدها، والضمير في قوله تعالى: {فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} للخلائق كلها ومنهم يأجوج ومأْجوج – أي عقب النفخة الأُخرى في الصور، والقيام من القبور، نجمع الخلائق كلها جميعًا عظيمًا هائلا: أولهم وآخرهم، إنسهم وجنهم، مؤمنهم وكافرهم بعدما تفرقت أَوصالهم، وتمزقت أَجسادهم – نجمعهم في صعيد واحد .
للحساب والجزاء.
تفسير قوله تعالى: “وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا ” “وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ”: أَظهرناها.
هذا إخبار منه تبارك وتعالى، عما يفعله بالكفار يوم يجمع الخلائق للحساب والجزاء.
والمعنى: وأبرزنا جهنم وأظهرناها للكافرين إِظهارًا جليًا حيث يرونها، ويسمعون لها تغيُّظًا وزفيرًا، ويبصرون ما أعد لهم فيها من العذاب والنكال قبل دخولهما، ليكون ذلك أَبلغ في تعجيل الهم والحزن لهم، وليعلموا أَنهم مواقعوها لا يجدون عنها مصرفًا.
تفسير قوله تعالى: “الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا “
“أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ”: أَعينهم عليها غشاءٌ يمنعها من البصر.
“عَنْ ذِكْرِي”: عن الآيات التي تذكرهم بي
وهذا بيان منه سبحانه لبعض أوصاف الكافرين الذين استحقوا بسببها هذا العذاب والنكال، أي هؤُلاء الكافرون بي كانت أعينهم – وهم في الدنيا – في غشاوة محيطة بها، فتغافلوا وتعاموا عن النظر في آياتي المُنْبَثَّةِ في الأنفس والآفاق، المؤدية إلى توحيدي وتمجيدي وذكرى وطاعتي ، ويجوز أَن يراد ذكره تعالى الذي أَنزله علي رسله ودعا إليه عباده .
وقولهتعالى: {وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا}. نفى لسمعهم آياته على أتم وجه وأبلغه، والمراد أنهم مع تغافلهم وتعاميهم عن التدبر في آياته تعالى، كفاقدي السمع أصالة، فهو تصوير لإعراضهم عن سماع ما يرشدهم إِلى ما ينفعهم ؛ بعد تعاميهم عن آياته المؤَدية إلي ذكره وما ينبغي لجلال وجهه ، والتعبير عن إِعراضهم عن الذكر بأنهم كانوا لا يستطيعون سمعًا، يؤْذن بأن ذلك كان دأبهم الذي اعتادوه واستمروا عليه ، وقد أَفادت الآية أنهم سدوا على أَنفسهم منافذ العلم من السمع والبصر.
تفسير قوله تعالى: “أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا “
“أَفَحَسِبَ”: الاستفهام هنا للإنكار والتوبيخ، والحسبان بمعنى الظن
{أَوْلِيَاءَ}: أي معبودين أو أنصارًا.
“أَعْتَدْنَا”: أَي أَعددنا وهيأْنا.
{نُزُلًا}: أي شيئًا يقدم لهم، كالذي يقدم للنزيل أَو الضيف ، وقيل النزل: موضع النزول.
لما بين الله سبحانه وتعالى الآية السابقة ضلال الكافرين وتغافلهم عن التدبر في آياته الهادية إلى ذكره وطاعته – أنكر عليهم في هذه الآية اتخاذهم بعض عباده آلهة يعبدونهم من دونه، أو أنصارًا ينصروكم ويخلصونهم من عذابه.
والمعنى:أجهل هؤُلاء الذين كفروا بي فظنوا أن اتخاذهم بعض عبادي آلهة أو أنصارًا ينجيهم من عذابي! كلا، إنهم بظنهم هذا لفي ضلال مبين، ولو كان أَولياؤُهم من الملائكة أو العباد المقربين.
ثم أكد سبحانه هذا الإنكار على الكافرين به فقال:“إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا”:أي إِنا هيأْنا لهؤُلاء جهنم جزاء على عبادتهم لغيرنا واتخاذهم أولياء.
وفي هذا ما فيه من التهكم بهم والتخطئة في حسبانهم ذلك، مع الإيماء إلي أَن لهم من وراء جهنم ألوانًا أخرى من العذاب ، وليست جهنم إلا مقدمة له. وأما إِذا كان النُّزل بمعني المنزل أو المثوى، فالمراد بيان انعكاس مقصودهم من النجاة إلى الهلاك.
تفسير قوله تعالى: “قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا” قيل إن المراد بهؤُلاء الأخسرين: أهل الكتابين: اليهود والنصارى، ولكن ظاهر الآية الكريمة أنها عامة في كل من عبد الله علي غير شريعته التي شرعها لعباده، يحسب أنه مصيب فيها وأن عمله مقبول، ولكنه مخطئ وعمله مردود عليه.
أي قل أيها الرسول للمشركين خاصة، وللكافرين عامة: هل أُخْبركم بأشد الناس خسرانا لأعمالهم وحرمانًا من ثوابها ؟! ثم فسرهم بقوله:
تفسير قوله تعالى: “الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا”
{ ضَلَّ سَعْيُهُمْ}: أي ضاع عملهم وبطل عند الله عز وجل.
أيْ أن الاخسرين أعمالًا من سائر الملل والنحل هم الذين أتعبوا أنفسهم في أعمال يبغون بها ثوابًا وفضلًا، فنالوا بها هلاكًا وخسرا، كالذي اشترى سلعة يرجو بها ربحًا عظيمًا، فخاب
تفسير قوله تعالى: “أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا “
أي أُولئك الضالون الخاسرون، وهم يحسبون أَنهم يحسنون، هم الذين جحدوا آيات ربهم ودلائله الداعية إِلى توحيده وتمجيده، وضموا إِلى جحودهم آيات ربهم إنكارهم البعث في اليوم الآخر وما يتبعه من الجزاء على الأعمال، فمن ثَمّ حبطت أَعمالهم وبطلت وإذًا: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}: بل نزدرى بهم ونحتقرهم، ولا نجعل لهم مقدارًا، لأنه لا مقدار لأحد إلا بالعمل الصالح، وأولئك مجردون من صالح الأعمال، وقد روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إنَّهُ ليأتي الرَّجُل الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ القيَامَةِ لَا يَزِن عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَة، وَقَال: اقْرَءُوا إنْ شئْتُمْ: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} أو المعنى لا نضع لأجل وزن أعمالهم ميزانًا لأنها قد حبطت وصارت هباءً منثورًا.
تفسير قوله تعالى: “ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا”بيان لمآل كفرهم وسائر معاصيهم، إثْرَ بيان أعمالهم المُحْبَطَةِ بذلك الكفر، أي ذلك جزاؤُهم الذي جازيناهم به بسبب كفرهم بي، واتخاذهم رسلي وآياتي التي أيَّدتُهُمْ بها هزؤًا وسخرية! فلم يكتفوا بمجرد الكفر بالآيات والرسل، بل ارتكبوا عظيمة أُخرى مثلها، وهى الاستهزاءُ بالمعجزات الباهرة التي أيدت بها رسلي عليهم السلام وبالصحف المنزلة عليهم.
تفسير قوله تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا “
“الْفِرْدَوْسِ”: أعلى درجات الجنة وأَوسطها وأفضلها. وأصله في اللغة: البستان الجامع لكل ما في البساتين.
{حِوَلًا}: أَي تحولا وانتقالا.
بعد أن ذكر الله سبحانه ما أعده من العذاب للذين كفروا بآيات ربهم واستهزأوا برسله – ذكر جزاء الذين آمنوا به وبلقائه وعملوا الصالحات، ووعده لهم بجنات الفردوس أعلى الجنات منزلة وأرفعها درجة.
أخرج البخاري ومسلم وابن أبي حاتم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا سَألتُمُ الله تعَالى فاسْألُوهُ الفِردَوسَ: فإنَّهُ وَسَطُ الجَنَّةِ وَأعلَى الجَنَّةِ وَفوْقهُ عَرْشُ الرحمَن، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الجَنَّةِ).
وفي التعبير بقوله “كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الفِردَوْسِ نُزُلًا” إِيماءٌ إِلى أَن أثر الرحمة، يصل إِليهم بمقتضى الرأفة الأزلية، بخلاف ما مر من جَعْل جهنم للكافرين نُزُلًا، فإنه بموجب ما حدث من سوء اختيارهم.
تفسير قوله تعالى: “خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا”:أي مقيمين ساكنين فيها لا يظعنون عنها أبدًا.
وفيه تنبيه علي رغبتهم فيها وحبِّهم لها، مع أنه قد يتوهم فيمن هو مقيم في المكان دائمًا أنه قد يسأمه أو يمَلُّهُ فأخبر أنهم مع هذا الدوام والخلود الأبدي، لا يختارون عن مقامهم ذلك تحولا ولا ظعنًا ولا رحلة ولا بدلا. أهـ.
تفسير قوله تعالى: “قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ”
“مَدَدًا”: المداد في الأصل: اسم لكل ما يُمَدُّ به الشيءُ، واختص في العرف بما تُمَد به الدواة من الحبر.
“لِكَلِمَاتِ رَبِّي”: أي لكلماته الإبداعية والتشريعية والخبرية، في اللوح المحفوظ وفي القرآن الكريم، وفي شئون الكون حاضره ومستقبله ودنياه وأخراه.
ومعنى الآية:قل لهم أيها الرسول: لو كان ماءُ البحر مدادًا للقلم الذي تكتب به كلمات ربي في التشريع والتكوين وغيرهما، لنَفِدَ هذا المداد وفَنِىَ قبل أن تنفد كلمات ربي وتفنى، ولو جئنا بمثل هذا الماء العظيم مددًا وعونًا، لأن جميع ما في الوجود علي التعاقب والاجتماع – مُتَنَاهٍ، وعلم الله وكلماته لا تتناهى، والمتناهي لا يفي البتة بغير المتناهي.
والمراد أن كلمات الله تعالى لا يعتريها فناءٌ ولا نقص، وعلمه لا غاية له ولا نهاية، فما علم العباد جميعًا بجانب علمه تبارك وتعالى إلاَّ كقطرة من ماء البحور كلها.
وفي معنى الآية الكريمة قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } سورة لقمان، الآية: 27
ثم ختم سبحانه السورة الكريمة بنحو ما بدأها به من البشارة والنذارة فقال:“قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا “أي قل أيها الرسول للمشركين وللناس جميعًا: إنما أنا بشر مثلكم من بني آدم، لا أدعى الإحاطة بكلماته جل وعلا، ولا أعلم إلَّا ما علمني ربي، وقد أوحى إلى أنما إلهكم الذي يجب أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا هو إله واحد لا شريك له ؛ أي فمن كان يأمل تكريم ربه إياه بالثواب وحسن الجزاء عند لقائه، فليعمل عملًا صالحًا موافقًا لشريعة الله، ولا يُرِدْ بعبادة ربه إِلَّا وجه ربه وحده لا شريك له، وهذان هما الركنان اللذان لا بد منهما لكل عمل متقبل، أَن يكون خالصًا لله سبحانه، وأن يكون صوابًا وفق شريعة رسوله صلى الله عليه وسلم
روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالي: (أَنَا أغْنَى الشُّرَكَاء عَنِ الشِّرْك. مَنْ عَملَ عَمَلًا أشْرَك فيه مَعى غَيْرِى. تَرَكْتُهُ وَشركَة)
وروى الشيخان عن جندب بن عبد الله رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ سَمَّعَ، سَمَّعَ اللهُ بِهِ، وَمَنْ يرائي يرائي اللهُ به” أي من سمع الناس بعمله، أو راءاهم به ليحمدوه ويثنوا عليه، أظهر الله سريرته لهم وملأ أسماعهم من سوء الحديث عنه في الدنيا والآخرة، فلم يظفر بما أظهره إلا بإبداء ما انطوى عليه من خبث السريرة.
والله المستعان على الإِخلاص في النيات والأقوال والأعمال ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
*************
تم تفسير سورة الكهف والحمد لله
([1])وفي الحديث المتفق عليه: (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً، فجعل الجنادب والفراش يقعن فيه، فأخذ يذبهن (يدفعهن ) بيده وهن يتقحمن فيها، وأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تفلتون من يدي) وهذا تصوير لحاله صلى الله عليه وسلم مع الخلق، فشبه حاله بحال رجل أوقد ناراً في الظلام، والفراش تنجذب إليه، فإذا بها تطالها النيران وتحرقها، فهذا الرجل من شفقته عليها جعل يدفعهن بيده؛ فيشبه النبي نفسه مع هذه الأمة أنه واقف على شفير جهنم، وهم يندفعون إليها بأقصى قوتهم، وهو مشفق عليهم من هذا المصير، فجعل يدفعهم بيده، ليمسك بهم بأي طريق، لكنهم يقاومونه ويلقون بأنفسهم في النار!!!
([2])عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَنَاظِرٌ مَاذَا تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا، وَاتَّقُوا النِّسَاءَ، فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ» أخرجه مسلم
([3])اختلف في زمان ومكان أهل الكهف فقيل إنهم في العراق أو بفلسطين أو بالأردن ، وهل كان هذا بعد إرسال عيسى أم كان قبله؟ قال ابن كثير :
” لو كان هذا بعد عيسى لما دل عليه علماء اليهود، فهم لا يؤمنون بعيسى، ولا يعتقدونه نبياً، ويقذفون أمه، وكيف يدلون أهل مكة على أن يسألوا محمداً عليه الصلاة والسلام عن قصة فتية يؤمنون بما كفروا به ؟! فذلك يدل على أن هؤلاء كانوا قبل عيسى”
والذي أرجحه والله أعلم أنهم كانوا بعد عيسى uوقبل بعثة نبينا محمد e، ومعرفة اليهود بهم ليست دليلا قاطعا على كونهم قبل موسى أو بعده ، لأنه لا تلازم بين ما يعرفونه وما يؤمنون به فقد يعرفون شيئا لكنهم لا يؤمنون به ، ومن ذلك معرفتهم بالمصطفى e ومع ذلك لا يقرون برسالته ولا يؤمنون بنبوته ،وهذه التفاصيللا عبرة فيها ولا ينبني عليها عمل، ولا يمكن القطع بشيء من ذلك؛ ولكن العبرة فيما جرى لهم، وفيما تم على أيديهم، وفي قدرة الله، وأن البعث قد حصل في الدنيا قبل الآخرة؛ ليعلم من ينكر البعث أن الله جل جلاله قادر على البعث يوم القيامة .
([4])وفي المسند من حديث بُسْر بن أَرطاةَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو: اللهم أَحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزى الدنيا وعذاب الآخرة.
([5])أي لنعلم علماً يترتب عليه الجزاء وذلك كقوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} [محمد: 31] فالله جل وعلا قبل أن يبتلينا قد علم من هو المطيع ومن هو العاصي، ولكن هذا لا يترتب عليه لا الجزاء ولا الثواب، فصار المعنى لنعلم علم ظهور ومشاهدة .
([6])ذكر الله الكلب هنا ليبين جل وعلا أن من صحب الأخيار يلحق بهم، ولو كان كلباً ، فقد خلد الكلب بذكره في القرآن ببركة صحبته لأهل الكهف ويؤيده ما في الصحيح من حديث أنس : (أن أعرابياً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: متى الساعة؟ قال: ما أعددتَ لها؟ قال: ما أعددتُ لها من كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله. فقال عليه الصلاة والسلام: أنت مع من أحببت) . قال أنس رضي الله عنه: والله! ما فرحنا بعد إسلامنا بشيء أعظم من فرحنا بهذا الحديث، فكان أنس يقول: وأنا والله! أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر .
([7])وهل سواءٌ قصر الفصل أم طال؟ هذا ما جنح إليه ابن عباس، فقد أَخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه كان يرى الاستثناءَ ولو بعد سنة ويقرأُ الآية، والمراد من الاستثناء التعليق بالمشيئة ، وأَخرج ابن المنذر عن ابن جبير في رجل حلف ونسى الاستثناء -أي التعليق على المشيئة- فأفتى بأن له الاستثناء إلى شهر، ومذهب عطاء أن له الاستثناء بعد اليمين إلى مقدار حلب ناقة، أَما طاووس فإنه يرى ذلك ما دام في المجلس وجمهور الفقهاء يشترطون لصحة الاستثناء في اليمين بالتعليق على مشيئة الله أن يكون متصلًا بالمحلوف عليه، قالوا: ولو صح جواز الفصل وعدم تأثيره في الأحكام، لما تقرر طلاق ولا عِتاقٌ ولا صح إقرار، ولم يعلم صدق ولا كذب .
وكان أبو حنيفة لا يوافق على رأى ابن عباس، ويرى أَن التعليق بالمشيئة يجب اتصاله بما ارتبط به، فعلم بذلك أبو جعفر المنصور، فبعث إلى أَبي حنيفة ليلومه على مخالقته لرأى ابن عباس، فقال أبو حنيفة: هذا يرجع إِليك أَنت، إنك تأخذ البيعة على الناس بالأيمان، أَفَتَرْضَى أن يخرجوا من عندك فيستثنوا قائلين: إن شاء الله، فيخرجوا عليك ؟ فاستحسن كلامه.
والحق في هذه المسألة أن الآية ظاهرة في أمر تفويض العبد في أُموره التي عزم عليها إلى مشيئة الله، فِإن نسيها ثم ذكرها فليقلها مهما كان الفاصل من الزمان، أما الأحكام في نحو الطلاق والعتاق والبيع والشراء ونحوها، فالآية لا صلة لها بها، ومن ثمَّ فما قاله ابن عباس راجع إلى التفويض لا إلى الأحكام، وعلى هذا فإن التعليق بالمشيئة في الأحكام إنما يَرْفَعُها إذا اتصل بها، فإِن انفصل عنها فلا يرفعها، فمثلا، له قال لزوجته: أَنت طالق، وعقبه بقوله: إن شاء الله لم تطلق، فإن تأخر التعليق بالمشيئة على الطلاق وانفصل عنه، وقع الطلاق – ولا نظن ابن عباس يخفي عليه شيءٌ من ذلك – والله أعلم.
([8])إشارة إلى حديث الشيخين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: “قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته”.
([9])أَخرج الإِمام أحمد والشيخان عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه طرق بيت علي وفاطمة ليلًا فقال: ألا تصليان؟ فقال على: يا رسول الله إِنما أنفسنا بيد الله تعالى، إِن شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف حين قلت ذلك، ولم يرجع إليّ ثم سمعته يضرب فخذه ويقول: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا}.
([10])يعني: الماء كأنه تجمد وأمسك عن الجري، وصار على الحوت مثل نفق مائي داخل البحر نفسه يجري فيه الحوت، وما عدا ذلك أمسك الله جري الماء عنه فأصبح الجزء الذي فيه الماء هو عبارة عن نفق مائي يجري فيه هذا الحوت.
([11])يعني: من أين لك بالسلام؟ وكان المكان الذي فيه الخضر ليس فيه إلا كافر ومشرك لا يعلم سلاماً ولا يعلم تحيةً بسلام؛ ولذلك عجب الخضر.
([13])وأسند الإرادة إلى نفسه بقوله: “فأردت أن أعيبها” لأن عيبه لها إفساد في الظاهر، فكان من الأدب أن لا ينسبه إلى الله، فلهذا لم يقل فأراد ربك ومثله ما سيأتي في قتل الغلام “فأردنا أن يبدلهما” أي فأردت بقتلى إياه أن يبدلهما الخ، وكلاما في الحقيقة بأمر الله وإرادته لقوله تعالى: “وما فعلته عن أمرى”.
([14])إسناد الإرادة هنا إلى الله لأنه إنعام محض، فمناسب إسناده إليه تعالى بخلاف ما مر في السفينة والغلام فقد كان إفسادا في الظاهر، فلهذا أسنده الخضر إلى نفسه كما مر بيانه بالهامش، وإن كان الكل بأمر الله .
([15])قال ابن القيم في إغاثة اللهفان حينما كان يتكلم عن الفلاسفة: ومن ملوكهم الإسكندر المقدوني ، وهو ابن فليب ، وليس بـالإسكندر ذي القرنين الذي قص الله تعالى نبأه في القرآن، بل بينهما قرون كثيرة، وبينهما في الدين أعظم تباين. فـذو القرنين كان رجلاً صالحاً موحداً لله تعالى، يؤمن بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وكان يغزو عباد الأصنام، وبلغ مشارق الأرض ومغاربها، وبنى السد بين الناس وبين يأجوج ومأجوج ، وأما هذا المقدوني فكان مشركاً يعبد الأصنام هو وأهل مملكته، وكان بينه وبين المسيح نحو ألف وستمائة سنة، والنصارى تؤرخ له، وكان أرسطا طاليس وزيراً له، وكان مشركاً يعبد الأصنام.