في ظلال الإسراء والمعراج

تاريخ الإضافة 12 يناير, 2025 الزيارات : 12094

في ظلال الإسراء والمعراج

معجزة الإسراء والمعراج من المعجزات العظيمة التي أكرم الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم، وأعلى بها شأنه، وكانت تخفيفاً لألم رسول الله، وحزنه وما لاقاه من قومه من إعراض وأذى.

عناصر الخطبة:

أولا/ متى حدثت معجزة الإسراء والمعراج ؟

ثانيا/ رحلة الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى

ثالثا/ هل الإسراء كان بالروح فقط أم بالروح والجسد ؟

رابعا/ رحلة المعراج من بيت المقدس إلى سدرة المنتهى .

خامسا/ فرضية الصلاة. 

سادسا/ موقف الناس من خبر الإسراء .

سابعا/ دروس وعبر من رحلة الإسراء والمعراج.

 أولا/ متى حدثت معجزة الإسراء والمعراج ؟

ليس هناك تاريخ ثابت يحدد زمن حادثة الإسراء، والعلماء اختلفوا اختلافاً كبيراً في يوم الإسراء، وفي شهر الإسراء، وفي سنة الإسراء!!

قال السدي : كان الإسراء في شهر ذي القعدة.

قال الزهري : كان الإسراء في شهر ربيع الأول.

قال ابن عبد البر : كان الإسراء في شهر رجب.

قال النووي: كان الإسراء في شهر رجب.

وقيل: كان الإسراء قبل الهجرة بسنة وستة أشهر،

 وقيل: كان الإسراء قبل الهجرة بثلاث سنين، حكاه ابن الأثير،

 ومن ثم فإن اليوم والشهر والعام للإسراء لا يعلمه إلا الله.

والتحقيق أن الإسراء كان بعد البعثة وقبل الهجرة من مكة، وأغلب المشايخ في عصرنا الحالي يتجهون إلى القول بأنه كان في شهر رجب. ([1])

 ثانيا/ رحلة الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى 

كانت وسيلة الرحلة الأرضية البراق ، وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: (دابة) فليس آلة مخترعة ، وحدد النبي لونه فقال: (أبيض) وحدد صفته، فقال: (فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه) له سرعة مذهلة!

 والبراق من البريق، أي: من اللمعان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حدد لونه بالبياض، وقيل: البراق من البرق، وهو الضوء السريع.

وورد عند الترمذي، والإمام أحمد في المسند، وعبد الرازق في مصنفه، والبيهقي في السنن من حديث أنس : (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما انطلق ليركب البراق استصعب عليه، فقال جبريل للبراق: ما حملك على هذا؟ والله ما ركبك أحد من خلق الله أكرم على الله منه -أي: من الرسول صلى الله عليه وسلم)

ركب النبي صلى الله عليه وسلم البراق وانطلق من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في هذه الرحلة المباركة.

 عنصر الإعجاز في رحلة الإسراء الأرضية هو الزمن، إذ كيف انطلق النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المسجد الأقصى في زمن قليل؟!

وهذا الذي أنكره المشركون في مكة، فقالوا: نضرب لها أكباد الإبل شهراً من مكة إلى بلاد الشام، وأنت تقول: بأنك انطلقت من مكة إلى المسجد الأقصى إلى السماوات العلى وعدت في جزء من الليل!

 يقول الله: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا) [الإسراء:1]و(ليلاً)  أي: في جزء من الليل (الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ): والعبد لغة: تطلق على الإنسان بروحه وبدنه، ولا يطلق لفظ العبد على الروح دون البدن (الذي أسرى بعبده ليلاً) والسري: هو السير ليلاً (مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)  [الإسراء:1]

وختمت الآية بقوله تعالى: (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) ولم يقل: (إنه على كل شيء قدير)، (إنه عزيز حكيم) ليظهر عظمته وقدرته، وإنما قال (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) أي: الذي سمع قول قومك لك، ورأى فعل قومك بك فأراد أن يكرمك وأن يشرفك.

أي: إذا كان الفعل من الله فنزهوا فعل الله عن فعلكم، ونزهوا صفات الله عن صفاتكم، ونزهوا قول الله عن قولكم.

ثالثا/ هل الإسراء كان بالروح فقط أم بالروح والجسد ؟

الذي عليه جماهير السلف والخلف من أئمة الأمة وعلمائها أن الإسراء والمعراج كان بالروح والجسد معاً، يقظة لا مناماً.

يقول ابن حجر : وإلى هذا -يعني: الإسراء والمعراج بالروح والجسد- ذهب جمهور الأمة من العلماء المحدثين، والفقهاء والمتكلمين، وتواردت عليه ظواهر الأخبار الصحيحة.

ومثله قال ابن القيم في زاد المعاد، قال العلماء: وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس -يعني: أن الإسراء بالروح والجسد، يقظة لا مناماً- ويرتاح إليه القلب، إذ لو كان الإسراء والمعراج بالروح فقط، وكان المقصود رؤيا منامية لم يستبعد المشركون ذلك، ولم ينكروه على النبي صلى الله عليه وسلم، ولما كان في ذلك آية ولا معجزة، فـ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا

 وعلى سبيل المثال : لو أني قلت لك الآن: لقد رأيت بالأمس في نومي أني ذهبت إلى مكة، وطفت بالبيت ، ومشيت بين الصفة والمروة ثم انطلقت إلى المدينة وعدت بعد ذلك، هل ستنكر علي؟

لن تنكر علي؛ لأنني أقول لك: رأيت في الرؤيا.. رأيت فيما يرى النائم، فلو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: إنها رؤيا نوم ما أنكر المشركون على النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.

وكما يقول الشيخ الشعراوي: لو أنني حملت طفلي الرضيع وصعدت به إلى قمة جبل من الجبال، ثم قلت لكم: لقد صعدت بولدي إلى قمة هذا الجبل، هل سيسأل عاقل طفلي الرضيع ويقول: كيف صعدت أيها الطفل هذا الجبل؟!

 إن الذي أسرى به هو الله، فلا تسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن إسرائه، وإنما إن شئتم فاسألوا الذي أسرى به جل وعلا.

والقاعدة تقول: إن الزمن يتناسب تناسباً عكسياً مع القوة أو القدرة، بمعنى: لو ركبت سيارة إلى القاهرة فستقطع بك المسافة في زمن معين، ولو ركبت طائرة ستقطع بك المسافة في زمن أقل، فلو ركبت صاروخاً سيقطع بك المسافة في زمن أقل، فإن ركبت مركبة فضاء ستقطع بك المسافة في زمن أقل، وهكذا يقلّ الزمن مع قوة القدرة التي تحملك إلى هذا السفر، وإذا علمت ذلك فاعلم أن القوة التي حملت المصطفى هي قوة الله.

رابعا/ رحلة المعراج من بيت المقدس إلى سدرة المنتهى :

بدأت الرحلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد الأقصى قدم له جبريل إناءين: إناءً من لبن، وإناءً من خمر، فاختار النبي صلى الله عليه وسلم اللبن، فقال له جبريل: قد أصبت الفطرة يا محمد!

رحلة المعراج:

 والمعراج: هو السلم الذي يصعد عليه، قال ابن إسحاق : أخبرني من لا أتهمه عن أبي سعيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لما فرغت مما كان في بيت المقدس أتي بالمعراج، ولم أر شيئاً قط أحسن منه، وهو الذي يمد إليه ميتكم عينيه)

أي: أن الميت في ساعة الاحتضار يمد عينيه إلى السماء يشاهد المعراج؛ حيث سيعرج بروحه إلى السماء، (وهو الذي يمد إليه ميتكم عينيه إذا احتضر، فأصعدني فيه صاحبي -يعني: جبريل عليه السلام- حتى انتهى بي إلى باب من أبواب السماء).

فالأمر ليس كما يظنه كثير من الناس أنه صلى الله عليه وسلم ركب البراق إلى بيت المقدس، ثم ركبه إلى السماء، بل لما وصل إلى بيت المقدس ربط البراق بباب المسجد ثم دخل، ثم صعد على المعراج إلى السماء، ولما عاد ركب البراق إلى مكة ثانية

 وهنا نرجع مرة أخرى إلى حديث أنس في صحيح البخاري . يقول: (ثم انطلق بي جبريل حتى أتى السماء الأولى فاستفتح، فقيل: من؟

قال: جبريل، قيل: ومن معك؟

قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: نعم)،

وقول الملائكة: (أوقد بعث إليه) أي: هل بعث إليه ليصعد إلى الملأ الأعلى،

قال: نعم، قيل: فمرحباً به فنعم المجيء جاء،

يقول: وإذا آدم عليه السلام، فيقول جبريل: هذا أبوك آدم فسلم عليه، فيقول المصطفى: فسلمت عليه في السماء الأولى فرحب بي، ورد علي السلام، ودعا لي بخير وقال: مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح،

يقول: ثم صعد بي حتى أتى السماء الثانية فرأيت عيسى ويحيى ابنا الخالة، فقال جبريل: هذا يحيى وعيسى سلم عليهما، فسلم النبي عليهما فردا عليه السلام، وقالا له: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح ودعيا للنبي بخير.

 يقول: ثم صعد بي حتى أتى السماء الثالثة يقول: فإذا يوسف، فقال جبريل: هذا يوسف فسلم عليه، فسلم النبي عليه وقال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح إلى آخره،

ثم قال له إدريس في الرابعة مثل ذلك،

 ثم قال له هارون في الخامسة مثل ذلك،

 ثم قال له موسى في السادسة مثل ذلك،

 ثم قال له إبراهيم في السابعة، مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح، كما قال آدم عليه السلام،

 يقول المصطفى: ثم رفعت إلى سدرة المنتهى كما في قوله تعالى : (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى* فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى)  [النجم:1-14])

الرائي هو محمد، والمرئي هو جبريل على نبينا وعليه الصلاة والسلام، رآه النبي صلى الله عليه وسلم على حقيقته التي خلقه الله عز وجل عليها. يقول: (فرفعت إلى سدرة المنتهى، وإذا نبقها كقلال هجر) ، الثمرة من النبق -الثمر المعروف- كقلال هجر، ضخامة.

 (وإذا ورقها كآذان الفيلة)، جمع فيل.

 ( وإذا أربعة أنهار: نهران باطنان ونهران ظاهران، فقال المصطفى: ما هذا يا جبريل؟! فقال جبريل: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما النهران الظاهران، فالنيل والفرات).

يقول صلى الله عليه وسلم: (ثم رفع لي البيت المعمور)، والبيت المعمور بناء كالكعبة، وهو بمحاذاة بيت الله الحرام، بمعنى: لو خر البيت المعمور لخر على الكعبة، والبيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ولا يعودون، فإن غفلت عن الذكر فعنده من يذكره جل وعلا، لا يغفلون عن ذكره ولا يفترون: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20]. 

خامسا/ فرضية الصلاة 

يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ثم فرضت علي الصلاة خمسين صلاة كل يوم، فرجعت فمررت على موسى فقال: بم أمرت؟

قال: أمرت بخمسين صلاة كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني والله قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فرجعت، فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى فقال: مثله،

فرجعت فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى فقال: مثله

فرجعت فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى فقال مثله،

فرجعت فأمرت بعشر صلوات كل يوم، فرجعت فقال مثله، فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى فقال: بما أمرت؟

قلت: أمرت بخمس صلوات كل يوم قال: إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم، وإني قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك.

 قال: سألت ربي حتى استحييت، ولكن أرضى وأُسَلِّم، قال: فلما جاوزتُ نادى منادٍ: أمضيتُ فريضتي وخففت عن عبادي» رواه البخاري.

وقت صلاة النبي بالأنبياء في بيت المقدس؛ هل كان ذلك حين ذهابه أو حين رجوعه؟

الظاهر من الأخبار: أنه صلى بهم بعد رجوعه من المعراج ، فلما رجع هبط معه الأنبياء تكريماً له وتعظيماً، فهو قد التقاهم في السماء، وكان جبريل يعرفه بهم، فكان يقول: هذا فلان فيسلم عليه، فهذا إدريس! وهذا يوسف! وهذا هارون! وهذا موسى! وهذا عيسى!

فلو كان اجتمع بهم قبل صعوده لما احتاج إلى التعرف إليهم مرة ثانية حين عرج به إلى السماء، ومما يدل على أنه صلى بهم حين عودته: أنه قال في الحديث: (فلما حانت الصلاة أممتهم) ولم يحن وقت صلاة حين ذاك إلا صلاة الفجر، فصلى الأنبياء خلف سيد الأنبياء والمرسلين، فعرف الأنبياء أن هذا هو إمام الأنبياء !

ثم ركب البراق وعاد إلى مكة.

سادسا/ موقف الناس من خبر الإسراء ([2])

فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من رحلته الميمونة أخبر قومه بذلك فقال لهم: «إني صليت الليلة العشاء في هذا المسجد، وأتيت بيت المقدس، فنشر لي رهط من الأنبياء منهم إبراهيم وموسى وعيسى وصليت بهم وكلمتهم» فقال أبو جهل كالمستهزئ به: صفهم لي، فقال:

«أما عيسى، ففوق الربعة، ودون الطول، عريض الصدر، ظاهر الدم، جعد، أشعر تعلوه صهبة (لون يميل إلى حمرة أو شقرة) ، كأنه عروة بن مسعود الثقفي.

وأما موسى فضخم آدم(أسمر البشرة) طوال، كأنه من رجال شنوءة، متراكب الأسنان، مقلص الشفة، خارج اللثة، عابس.

وأما إبراهيم فو الله إنه لأشبه الناس بي، خَلقا وخُلقا.

فقالوا: يا محمد فصف لنا بيت المقدس، قال: «دخلت ليلاً، وخرجت ليلاً» فأتاه جبريل بصورته في جناحه، فجعل يقول: «باب منه كذا، في موضع كذا، وباب منه كذا، في موضع كذا».

        ثم سألوه عن عيرهم فقال لهم: «أتيت على عير بني فلان بالروحاء، قد أضلوا ناقة لهم، فانطلقوا في طلبها، فانتهيت إلى رحالهم ليس بها منهم أحد، وإذا قدح ماء فشربت منه فاسألوهم عن ذلك» قالوا: هذه والإله آية-

        «ثم انتهيت إلى عير بني فلان، فنفرت مني الإبل وبرك منها جمل أحمر عليه جوالق (ما يوضع فيه المتاع على ظهر الجمل)، مخطط ببياض، لا أدري أكسر البعير، أم لا فاسألوهم عن ذلك» قالوا: هذه والإله آية!!

        «ثم انتهيت إلى عير بني فلان في التنعيم، يقدمها جمل أورق (فيه بياض وسواد )وها هي تطلع عليكم من الثنية(طريق جبلي )» 

  فقال الوليد بن المغيرة: ساحر فانطلقوا فنظروا، فوجدوا الأمر كما قال، فرموه بالسحر، وقالوا: صدق الوليد بن المغيرة فيما قال.

وسعوا بذلك إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقالوا: هل لك إلى صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس.

قال: أَوَقال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لئن كان قال ذلك لقد صدق، قالوا: أو تصدقه، أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟

قال: نعم إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة، فلذلك سمي أبو بكر الصديق.

سابعا/ دروس وعبر من رحلة الإسراء والمعراج

لقد اشتمل الإسراء على دروس وعبر أهمها:

أولاً: إثبات القدرة الإلهية، وأنه لا يستعصي على قدرته شيء:

لهذا قال: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا أي: تنزه عن كل نقص وعيب، إنها قدرة لا يقف أمامها حدود، ولا تعطل سيرها سدود، قال تعالى: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل:40].

إن أبعد نجم أدركه الفلكيون في السماء الدنيا يبعد عنا مسافة تقدر بحوالي 36 بليون سنة ضوئية، والسنة الضوئية تقدر بنحو (9،5 مليون مليون كم(.

بمعنى أنه لو فرضنا جدلا أن الإنسان تمكن من صنع مركبة فضائية تتحرك بسرعة الضوء (وهذا مستحيل) فإنه سوف يحتاج إلى 36 بليون سنة ليصل إلى آخر ما نرى من نجوم السماء الدنيا. فما بالنا بست سموات فوق ذلك إلى سدرة المنتهى، حيث شرف المصطفى- صلى الله عليه وسلم- بالمثول بين يدي ربه، وتلقى منه الأمر بخمس صلوات في اليوم والليلة.

ثانياً: عموم رسالته صلى الله عليه وسلم:

‏ صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأنبياء إمامًا في بيت المقدس في ليلة الإسراء والمعراج، وفي هذا دلالات منها أن الإسلام هو كلمة الله الأخيرة إلى خلقه، ودليل على عالمية الإسلام، وعموم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنه حامل لواء الهداية للخلق جميعًا، تحمَّلها  رسول الله بأمانة وقوة، وقام بحقها على خير وجه، ثم ورَّثها لأمته من بعده، وبذلك أصبحت خير أمة أخرجت للناس، ومسئولة عن إقامة حُجَّة الله على خلقه جميعًا، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].

ثالثاً: فضل وأهمية الصلاة:

‏لقد فرضت الصلاة من بين أركان الإسلام في السماء السابعة، وفي هذا دليل على أهمية هذه الرحلة العظيمة وأهمية الصلاة، وعظمها في الإسلام؛ ولذلك شدّد الإسلام عليها كل التشديد، وأمر بالقيام بها في السفر والحضر، والأمن والخوف، والصحة والمرض.

 وهي على ذلك تعتبر معراج المسلم إذا أدى حقها بالخشوع والاطمئنان المطلوبين، حتى يستشعر لذة مناجاة الله في الصلاة.

‏رابعا / فضل ومكانة الرسول صلى الله عليه وسلم:

‏ التأكيد على مقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عند رب العالمين ، فهو أحب خلق الله إلى الله- تعالى-، ولذلك أوصله إلى مقام من السماء لم يصل إليه غيره من البشر، ووضعه على رأس سلسلة الأنبياء والمرسلين، وهو خاتمهم أجمعين، ولذلك صلى بهم إماما في القدس الشريف تأكيدا على مقامه عند رب العالمين ؛ وعلى نسخ شريعته الخاتمة لجميع شرائعهم.

وفي ذلك إشارة إلى من يدعون إتباع نبي من الأنبياء السابقين إلى ضرورة الإيمان بهذا النبي الخاتم، وبالقرآن الكريم الذي أوحى إليه واتباع الدين الذي جاء به، كما تبعه جميع أنبياء الله ورسله في الصلاة بالمسجد الأقصى، إعلانا بعموم رسالته التي اكتمل بها الدين، وتمت بها النعمة التي أصبحت واجبة على الخلق أجمعين.

‏خامسا / الإسلام دين الهداية والفطرة:

‏من أحداث تلك الليلة المباركة أن رسول الله   قد اختار إناء اللبن وشرب منه، جاء في الحديث أن جبريل   قال له عندما أخذ اللبن: هُدِيتَ الْفِطْرَةَ، أَوْ أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ. قال ‏القرطبي: يحتمل أن يكون سبب تسمية اللبن فطرة؛ لأنه أول شيء يدخل بطن المولود ويشق أمعاءه، والسر في ميل النبي إليه دون غيره؛ لكونه كان مألوفًا له، ولأنه لا ينشأ عن جنسه مفسدة. وفي رواية: هِيَ الْفِطْرَةُ الَّتِي أَنْتَ عَلَيْهَا وَأُمَّتُكَ.

‏إن سلامة الفطرة هي لب الإسلام؛ لأن عقيدته وشريعته وأحكامه كلها تتناسب مع مقتضيات الفطرة التي خلق الله الناس عليها، قبل أن تدنسها الشهوات والأطماع والأغراض الذاتية، وقد وصف الله هذا الدين بأنه دين الفطرة في قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}[الروم: 30].

‏سادسا/ التأكيد على أن الابتلاءات هي من سنن أصحاب الدعوات :

في كل زمان ومكان، وأنها من وسائل التطهير والتزكية للنفس الإنسانية، وعلى ذلك فإنه يجب على المسلم ضرورة الالتجاء إلى الله- تعالى- في كل شدة، واليقين بأنه إذا انقطعت حبال الناس فإن حبل الله المتين لا ينقطع أبدا ما دام العبد متوكلا على الله حق التوكل، وأنه ليس بعد العسر إلا اليسر.

سابعا / فضل المسجد الأقصى ومكانته في قلوب المسلمين: 
قال تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى [الإسراء:1] قال القاسمي: والأقصى بمعنى: الأبعد، سمي بذلك لبعده عن مكة، وفي قوله: الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ [الإسراء:1] أي: جوانبه، وذلك ببركات الدنيا والدين؛ لأن تلك الأرض المقدسة مقر الأنبياء، ومهبط وحيهم، ومنمى الزروع والثمار.

ومن فضائله: ما رواه أحمد والحاكم والنسائي وصححه الحاكم عن ابن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن سليمان لما بنى بيت المقدس سأل ربه ثلاثاً، فأعطاه اثنتين، وإني أرجو أن يكون قد أعطاه الثالثة، سأله حكماً يصادف حكمه، فأعطاه إياه، وسأله ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياه، وسأله أيما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد -يعني: بيت المقدس- إلا خرج من خطيئته كيوم ولدته أمه) قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ونحن نرجو أن يكون الله قد أعطاه هذا)، قال العلامة أحمد شاكر : إسناده صحيح.

 لماذا لم يعرج برسول الله (صلى الله عليه وسلم) مباشرة من المسجد الحرام إلى السموات العلا؟

هذا يدلنا على أن المرور ببيت المقدس، كان مقصوداً، والصلاة بالأنبياء الذين استقبلوا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في بيت المقدس، وأنه أمّهم، هذا له معناه ودلالته، أن القيادة قد انتقلت إلى أمة جديدة وإلى نبوة جديدة، إلى نبوة عالمية ليست كالنبوات السابقة التي أرسل فيها كل نبي لقومه، هذه نبوة عامة خالدة لكل الناس، رحمة للعالمين، ولجميع الأقاليم ولسائر الأزمان، فهي الرسالة الدائمة إلى يوم القيامة عموم هذه الرسالة وخلودها كان أمراً لا بد منه، وهذه الصلاة بالأنبياء تدل على هذا الأمر، والذهاب إلى المسجد الأقصى، وإلى أرض النبوات القديمة، التي كان فيها إبراهيم، وإسحاق وموسى وعيسى إيذان بانتقال القيادة.. القيادة انتقلت إلى الأمة الجديدة وإلى الرسالة العالمية الخالدة الجديدة.


([1]) يكاد الباحث المنصف يعجز عن الوقوف على تاريخ واحد صحيح تطمئن إليه النفس لميقات ليلة الإسراء والمعراج ، وذلك لسبب بسيط هو كون هذه الليلة ليست معلومة على الوجه القطعي الجازم ، ولا يوجد اتفاق معتبر على ضبط تاريخها بين جماهير أهل العلم من المؤرخين وغيرهم ، فقد اختلفوا في السنة والشهر ، فضلاً عن الاختلاف الشديد في اليوم ، فالجزم بأنها ليلة السابع والعشرين من شهر رجب مما لا أصل له من الناحية التاريخية ، وقال الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي على موقعه الرسمي :(ذكر أحد أئمة الحديث ، وهو أبو الخطاب عمر بن دحية من أئمة القرن السابع ، وله كتاب اسمه “أداء ما وجب في بيان وضع الوضَّاعين في شهر رجب” ، وفي هذا كتب يقول : إن بعض القُصَّاص ذكروا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أُسري به في رجب ، قال : وهذا هو عين الكذب ، أقرّ هذا الكلام خاتمة الحفاظ الحافظ بن حجر العسقلاني شارح البخاري المعروف ، وأنا أعرف أن موضوع ليلة السابع والعشرين من رجب لم يأت فيها حديث صحيح ، ولا قول صحيح لأحد الصحابة ، إنما هو قول اشتهر ، وقال به بعض الأئمة ، ونُسب إلى الإمام النووي ، اختاره الإمام النووي في فتاواه – بل الصواب في : روضة الطالبين – ، والإمام النووي رجل كان مقبولاً عند الأمة ، فاشتهر قوله هذا ، على حين أن هناك مثلاً الإمام أبا إسحاق الحربي نجده يقول إن الإسراء والمعراج ليس في ليلة السابع والعشرين من رجب ، بل في ليلة السابع والعشرين من ربيع الأول ، وأنا أعلم أنه لم يثبت شيء في هذا ، وأن هذا قول اشتهر وأصبح معروفاً عند المسلمين منذ قرون أنهم يذكرون الإسراء والمعراج في هذه الليلة ..) ا.هـ

([2]) هل ارتد أحد من الصحابة بعد حادث الإسراء والمعراج ؟ الجواب من الشيخ سعد بن عبد الله الحميد  باختصارأستاذ الحديث بكلية التربية بجامعة الملك سعود نقلا عن موقع طريق الإسلام باختصار؛ قال: لا يصح أنَّ أحدًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ارتدَّ بعد حادثة الإسراء، ولم يَرِد ذلك صراحة إلا في حديث منكر، أخرجه الحاكم [3/ 62-63] وغيره، من طريق: محمد بن كثير الصنعاني، عن معمر بن راشد، عن ابن شهاب الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: لمّا أُسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى، أصبح يتحدث الناس بذلك، فارتدّ ناسٌ ممن كانوا آمنوا به وصدّقوه… الحديث؛ قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه؛ فإن محمد بن كثير صدوق، والحاكم -كما هو معلوم- انتُقِدَ كثيرًا على أحكامه على الأحاديث في المستدرك، ويظهر انتقاده هنا بوضوح؛ فإن محمد بن كثير هذا لم يخرِّج له أحدُ الشيخين شيئًا، ومع هذا فهو مضَعَّف من قِبَل حفظه، ويشتد ضعفه إذا روى عن معمر، وهذا من روايته عنه. قال عبدالله ابن الإمام أحمد: ذكر أبي محمدَ بن كثير فضعّفه جدًّا، وضعّف حديثه عن معمر جدًّا، وقال: هو منكر الحديث، وقال: يروي أشياءَ منكرة. اهـ (من تهذيب الكمال [26/ 331])

فهذا ما يتعلق بالرواية من حيث السندُ، أما نقدها من حيث المتنُ، فهي منكرة؛ للأسباب التالية:

(1) حديث أبي سفيان مع هرقل، وفيه سؤال هرقل لأبي سفيان -وكان حين ذلك مشركًا-: هل يرتد أحدٌ منهم -يعني أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- سُخطةً لدينه بعد أنْ يدخله؟ قال أبو سفيان: لا. فلو كانت حادثة الارتداد عن الإيمان صحيحة؛ لما أقرّ أبو سفيان بذلك؛ بل كان يقول له: نعم، هناك من ارتدّ عن الإيمان به لمّا حصل كذا وكذا.

(2) أن الصحابة كانوا وقت حادثة الإسراء قلة قليلة، معروفين بأسمائهم وأسماء آبائهم، وحُفِظت لنا كل الحوادث التي مرت بهم في تلك الفترة، فنُقِلَ إلينا خبر إسلامهم وتعذيبهم، وهجرتهم الأولى والثانية إلى الحبشة، ومَن مات منهم، ومَن وُلِد له، كلُّ ذلك باسم كلٍّ منهم، فلا يعقل أن يحدث لأحد منهم هذا الحدث -وهو الردة عن الإسلام-، ثم لا ينقل لنا اسم أحد من هؤلاء المرتدين، فلم يُسمَّ لنا -من طريق صحيح أو ضعيف- اسم شخص على أنه ممن ارتد بعد حادثة الإسراء، ومعلوم أنه لا يمكن أنْ تُنْقَل لنا أحداثٌ أقل من هذا شأنًا، ويُتْرَك ذِكْر ذلك.

فعُلِمَ من ذلك كله عدم صحة هذه الحادثة، والله أعلم.


اترك ردا

بدريك الإلكتروني لان يتم نشره.


قناة فتاوى أون لاين

تم إنشاء قناة جديدة تحت عنوان فتاوى أون لاين للإجابة على الفتاوى الشرعية
رابط الانضمام

رابط تيليجرام

الواتس اب

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

هو الشيخ  الدكتور/ حسين محمد عامر من مواليد بلبيس بمحافظة الشرقية -مصر-عام 1976 م . الشهادات العلمية : 1- أتم حفظ القرآن وهو ابن الرابعة عشر عاما ، وحصل على إجازة برواية حفص بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على يد شيخه يوسف عبد الدايم -رحمه الله- . 2-  حصل على الإجازة

تاريخ الإضافة : 9 يناير, 2025 عدد الزوار : 13996 زائر

خطبة الجمعة

تفسير القرآن العظيم

شرح صحيح البخاري

شرح مدارج السالكين