شرح أسماء الله الحسنى
83:86 الأول والآخر والظاهر والباطن
أولا / المعنى اللغوي
الأول: أول كل شيء بدايته، فيقال : أول الغيث قطرة ، وأول النهار، والأول هو الذي سبق غيره، أو هو المتقدم زمانا، أول من فعل كذا أول من قال كذا، أول من بنى كذا؟ ويقال الأول أي المتقدم رتبة مثلا :الأول على العالم في الرياضة في العلوم.
الآخر: مقابل الأَول، ، وآخر الأمر نهايته ، واليوم الآخر يوم القيامة ، والآخِر من أسماءِ الله تعالى: الباقي بعد فناء خلقه.
الظاهر: من الظهور وهو الغلبة والنصرة، والظاهر من الوضوح، في ظاهر الأمر: كما يبدو للناظر، وظاهَر الشَّخصَ :عاوَنَه وناصَرَه، والظاهر ما يدرك بالحواسّ، كما في قوله : {وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} .
الباطن: أي شيء له ظاهر له باطن، فالإنسان له ظهر وبطن، فظاهر الشيء هو أعلاه وباطن الشيء هو أسفله، والعقلُ الباطِن: اللاشعور، أو اللاّوعي، وباطِنًا: سرًّا ، وخفاءً باطن الإنسان: ما أسره في نفسه، باطن الجسم: داخله.
ثانيا / المعنى في حق الله تعالى
الله هو الأول قبل كل شيء كان الله ولا شيء معه.
وهو الآخر يفنى كل شيء ويبقى الله جل وعلا.
وهو الظاهر الواضح الذي لا يحتاج في إثبات وجوده إلى دليل.
وهو الباطن الذي عنده علم بباطن كل شيء يعلم الظاهر والباطن فلا يخفى عليه شيء.
أو هوالذي لا يُحَسّ، وإنّما يُدرَك بآثاره وأفعاله، والذي لا يُعلم كُنْه حقيقته للخلق، والعالم ببواطن الأمور والمطّلع على حقيقة كلّ شيء.
هل يجوز تسمية الله بالقديم؟
” القديم ” ليس اسما من أسماء الله الحسنى ، ولا صفة من صفاته ، ومن المقرّر أنّ أسماء الله توقيفيّة، ولا يقاس عليها، وإنما يجوز إطلاقه على الله تعالى في مقام الإخبار عنه ، لا مقام التسمية والوصف، قال الإمام الطّحاوي رحمه الله:” قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء “.
قال ابن أبي العزّ الحنفي رحمه الله في “شرح العقيدة الطّحاويّة” (112):” وقد أدخل المتكلّمون في أسماء الله تعالى (القديم)، وليس هو من الأسماء الحُسنى، فإنّ القديم في لغة العرب التي نزل بها القرآن هو المتقدّم على غيره، فيقال: هذا قديم للعتيق، وهذا حديث للجديد، ولم يستعملوا هذا الاسم إلاّ في المتقدّم على غيره، لا فيما لم يسبقه عدم، كما قال تعالى:{حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يـس:39]، والعرجون القديم الذي يبقى إلى حين وجود العرجون الثّاني، فإذا وُجد الجديد قيل للأوّل قديم، وقال تعالى:{وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الأحقاف: من الآية11]، أي: متقدّم في الزّمان .. وقد أنكر ذلك كثير من السلف والخلف منهم ابن حزم.. والله تعالى له الأسماء الحسنى، لا الحسنة “اهـ.
ومنهم من يقول ” الأزليّ “، والأزل مقابل للأبد، فالأزل للماضي غير المحدود الذي لا بداية له، والأبد الذي لا نهاية له.
قال ابن القيم رحمه الله : ” أن ما يدخل في باب الإخبار عنه تعالى ، أوسع مما يدخل في باب أسمائه وصفاته ؛ كالشيء ، والموجود ، والقائم بنفسه ، فإنه يخبر به عنه ولا يدخل في أسمائه الحسنى وصفاته العليا” انتهى من “بدائع الفوائد (1/284).
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : ( أَعُوذُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ، مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ) رواه أبو داود وصححه الألباني، فالقديم في الحديث وصف لسلطان الله تعالى ، وليس وصفا لله .
سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : هل (القديم) اسم لله تعالى, أو من صفاته؟
فأجاب :” لا, القديم ليس من أسماء الله, وليس من صفاته, لكن المقدِّم من أسماء الله، كما في الحديث: (أنت المقدم وأنت المؤخر)
ثالثا / ورود الاسماء في الكتاب والسنة
هذه الأسماء الأربعة لم ترد في القرآن إلا مرة واحدة في سورة الحديد، قال الله تعالى: ﴿ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الحديد:3 ].
وفي الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا أخذنا مضجعنا أن نقول: ( اللهم رب السماوات ورب الأرض، ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر ).
رابعا / تأملات في رحاب الأسماء المباركة
اسم الله (الأول ):
أي: الذي ليس قبله شيء، فكلّ ما سواه حادث مخلوق.
وفي الحديث: ( كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ، وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ..) [رواه البخاري].
وفي رواية له أيضا قَالَ صلّى الله عليه وسلّم: ( كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ)، وفي رواية : ( وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مَعَهُ)، فهو الأول قبل كل شيء فلا يحتاج في وجوده لشيء.
واسم الله الأوّل دالٌّ على سَبْقِ الله تعالى في الفضل والإيجاد والإمداد، فهو سبحانه الذي خلق وأوجد وأعطى ورزق، وهو الذي هيأ الأسباب وسخّر الوسائل لمعايش الخلق، فالفضل كله له أولاً وآخراً، فمن عرف سَبْق الله وفضله لجأ إليه في كافة أمره، وأقرّ بفقره وحاجته إلى ربه.
والله جل وعلا هو الأول فهو المستغني في وجوده عن كل شيء فيفتقر إليه كل شيء، فلا يحتاج لمن يمده بالحياة والراحة ولا النوم ولا الاكل ولا الشرب ولا الصحة ، قال تعالى : ( أَفَرَءَيۡتُم مَّا تُمۡنُونَ ءَأَنتُمۡ تَخۡلُقُونَهُۥٓ أَمۡ نَحۡنُ الۡخَٰلِقُونَ نَحۡنُ قَدَّرۡنَا بَيۡنَكُمُ الۡمَوۡتَ وَمَا نَحۡنُ بِمَسۡبُوقِينَ )[الواقعة :58:60] وما نحن بمسبوقين، يعني لم يسبقنا في الوجود أحد يقول أنا خلقت كذا ، كما قال تعالى : (يَٰٓأَيُّهَا النَّاسُ اذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ اللَّهِ عَلَيۡكُمۡۚ هَلۡ مِنۡ خَٰلِقٍ غَيۡرُ اللَّهِ يَرۡزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالۡأَرۡضِۚ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ فَأَنَّىٰ تُؤۡفَكُونَ) [فاطر 3]
إذن وما نحن بمسبوقين يعني لم يسبقنا أحد في خلق الخلق، فهو جل جلاله ( الأول ) الذي يفتقر كل شيء في وجوده الى الله، وهو الآخر الذي سيأتي يوم ولا يبقى أحد في هذا العالم كله غيره سبحانه وتعالى.
السؤال المتكرر من خلق الله؟
ومع إيماننا باسم الله الأول وأنه جل جلاله الأول قبل كل شيء؛ يأتي السؤال المتكرر كثيرا خاصة على لسان أبنائنا من خلق الله؟ والجواب سهل يسير:
أولا هذا السؤال: (من خلق الخالق؟) سؤال خطأ؛ لأنه يخالف العقل القويم، وذلك لأن العقل السليم والتفكير الصحيح يقتضي أنه إذا كان الكون مخلوقا، فلا بد من وجود خالق غير مخلوق، كما أنه سؤال خطأ؛ لأنه لا بد عقلا من سبب أول، فعندما تقول: من خالق السبب الأول؟ فإنه لم يعد أولا، بل أصبح سببا ثانيا، وقانون السببية هنا يطبق على الأمور الحادثة فقط، والله تعالى بما أنه السبب الأول، فليس حادثا حتى يكون له محدث، بل هو خارج عن إطار المادة التي خلقها وغير محكوم بقوانينها.
مثلا إذا دخلت غرفتك، ورأيت سريرك قد تغير مكانه، فإنك تقول: من غير مكان السرير؟ لأن تغير مكانه أمر حادث، بينما إذا دخلت غرفتك، ولم ترى مكان السرير تغير، فإنك لا تسأل من أبقى السرير مكانه؟ لأن بقاءه مكانه ليس أمرا حادثا حتى يكون له محدث، كما إذا رأيت دمية تحرك بخيوط، وعلمت أن هناك من خلف الستار إنسانا يحركها، فهل من المقبول أن تسأل: ومن يحرك خيوط هذا الإنسان الذي يحرك الدمية؟ هذا وإذا رأيت رغيف خبز، وعلمت أنه لا بد للخبز من خباز، فهل تسأل: ومن خبز الخباز؟ لا طبعا، بل هو سؤال مضحك وخاطئ، لماذا؟ لأنه طبّق تعميما في غير مكانه، وكذلك فالخلق صفة ملازمة للمخلوقين، ولا تعمم على الخالق (الله تعالى).
لو أننا فرضنا – جدلا – أن هناك خالقاً لله تعالى (حاشاه جل في علاه) فسيقول السائل : من خلق خالق الخالق ؟؟! ثم من خلق خالق خالق الخالق ؟؟! وهكذا يتسلسل إلى ما لا نهاية، وهذا محال في العقول ، فلا بد من أولية، فالمخلوقات كلها تنتهي إلى خالقٍ واحد خلق كل شيء ، ولم يخلقه أحد ، بل هو الخالق لما سواه وهذا هو الموافق للعقل والمنطق .
فالخالق ليس له خالق؛ لأنه لو كان له خالق، لكان مخلوقا لا خالقا، وهذا السؤال ليس محرجا ولا خافت الشريعة من أن يخطر ببال الناس، بل أخبر النبي صلى الله عليه وسلم سلفا بأنه سيسأل، وأرشدنا إلى التعامل معه، كما في الحديث الذي رواهمسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا خلق اللهُ الخلقَ ، فمن خلق الله ؟ فمن وجد من ذلك شيئا فليقل آمنت بالله ” وزاد في رواية أخرى: ” فليقل آمنت بالله ورسله ” .رواه الإمام مسلم
وفي البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا، من خلق كذا، حتى يقول: من خلق ربك؟ إذا بلغه فليستعذ بالله ولينته)
ففي هذه الأحاديث :بيان مصدر هذا السؤال ، وهو : الشيطان ، وبيان علاجه ورده ، وهو :
1. أن ينتهي عن الانسياق وراء الخطرات وتلبيس الشيطان، فقوله : ولينته هنا تعني ينتهي عن الاسترسال والاستمرار مع هذه السلسلة من التساؤلات بعد هذا الحد، وهل هذا حجر على العقل وتعطيل للعقل؟ أبدا، بل هو الموقف العقلي الصحيح، لماذا؟ لأن هذا السؤال (من خلق ربك؟) هو سؤال يخالف البديهيات العقلية، والبديهيات العقلية هي التي ينطلق منها الإنسان في الاستدلال، لا أنه يطلب لها أدلة عليها حتى يستمر في سلسلة البراهين والتعليلات.
2-إذا كان هذا السؤال يهجم عليك، وأنت تعلم أنه غير صحيح، فهو وسواس ما الحل في هذه الحالة؟
الحل هو أن تستعيذ بالله تعالى من الشيطان الذي يوسوس لك، وتنتهي عن التفكير في الشكوك التي يثيرها، لأنه يخالف ضرورات العقل ومنطقه الأصيل المبني عليه.
3. أن تقول ” آمنتُ بالله ورسله ” .
4 ـ ومما ورد أيضا ما رواه أبو داود في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزالُ النَّاسُ يَتساءَلون حتى يُقال: هذا خَلَقَ اللهُ الخَلْقَ، فمَن خلَقَ اللهَ؟ فمَن وجَدَ من ذلك شيئًا، فلْيَقُلْ: آمَنتُ بالله، قال: فإذا قالوا ذلك، فقُولوا: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}(الإخلاص:4:1) ثُمَّ لْيَتْفُلْ عن يَسارِه ثلاثًا، ولْيَستَعِذْ من الشَّيطان).
كيف نجيب الملحد؟
سؤال (من خلق الله؟) يسأله الملحدون أيضا، اعتراضا على إيماننا بالله تعالى، لأنهم لا يتقبلون فكرة أن يكون الله تعالى أزليا بلا بداية، والجواب للملحد الذي يعترض عليك بهذا الاعتراض، قل له: هل تؤمن بأن الكون له بداية؟ فإن قال: نعم، قل له: فلا بد لهذا الكون الحادث من محدث بالبديهة العقلية الواضحة، وإن قال: لا، بل هو أزلي، فقل له: تعترض على أزلية الله تعالى، وتقول بأزلية الكون؟! بحيث هو هنا لا يعترض على مبدأ الأزلية بحد ذاته، لكنه يعترض على أزلية خالق أوجد الكون بعلم، وإرادة، وحكمة وقدرة تظهر آثارها في كل شيء، ويقول بأزلية كون (مخلوق)، هكذا بلا موجد.
اسم الله (الآخر ):
أي: هو الآخر بعد فناء كل شيء.
كل العالم كل السماوات والأرض كل الانس والجن والملائكة والطير وكل المخلوقات سيأتي عليها يوم وتفنى جميعا، كما قال تعالى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ)[الرحمن26،27] وقال: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [القصص: من الآية88].
فيأتي يوم يأذن الله تعالى فيه بفناء كل شيء وهلاك كل شيء فلا يبقى إلا وجه ربك ذو الجلال والإكرام، والمقصود بدوامه وبقائه أنّه باقٍ بذاته سبحانه وتعالى، فهو الآخِر الباقي بعد فناء الخلق، فالله تعالى لا ابتداء لوجوده، ولا نهاية لوجوده.
قال ابن القيم رحمه الله: “فأوليَّة الله عز وجل سابقة على أوليَّةِ كل ما سواه، وآخريَّتُه ثابتةٌ بعد آخرِيَّة كل ما سواه، فأوليَّتُه سَبْقُه لكل شيء، وآخريَّتُه بقاؤه بعد كل شيء”.الذي بدأ خلقك باسم “الأول” قادر إلى ردك إليه باسم “الآخِر”؛ قال تعالى: ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ [الأنبياء: 104]، وقال تعالى: ﴿ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾ [يس: 79]؛ بل إعادة النشأة عليه أهون مِن النشأة الأولى؛ قال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾ [الروم: 27].
قال الله تعالى في كتابه الكريم : (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ * يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) غافر/15-17 .
وروى البخاري ومسلم أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( يَقْبِضُ اللَّهُ الأَرْضَ، وَيَطْوِي السَّمَوَاتِ بِيَمِينِهِ ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا المَلِكُ، أَيْنَ مُلُوكُ الأَرْضِ ؟) .
قال ابن الجوزي رحمه الله :” قوله تعالى: ( لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ) : اتفقوا على أن هذا يقوله الله عزّ وجلّ بعد فَناء الخلائق.
واختلفوا في وقت قوله عزّ وجلّ له على قولين :
أحدهما: أنه يقوله عند فَناء الخلائق إِذا لم يبق مجيب. فيَرُدّ هو على نفسه فيقول: لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ، قاله الأكثرون.
والثاني: أنه يقوله يوم القيامة.
وفيمن يُجيبه حينئذ قولان: أحدهما: أنه يُجيب نفسه ، وقد سكت الخلائق لقوله تعالى . قاله عطاء.
والثاني: أن الخلائق كلَّهم يُجيبونه فيقولون: للهِ الواحدِ القهارِ ، قاله ابن جريج “.انتهى من “زاد المسير” (7/212) .
قال العلامة ابن عاشور ، رحمه الله :” والاستفهام : إما تقريري ، ليشهد الطغاة من أهل المحشر على أنفسهم أنهم كانوا في الدنيا مخطئين فيما يزعمونه لأنفسهم من ملك لأصنامهم ، حين يضيفون إليها التصرف في ممالك من الأرض والسماء ، مثل قول اليونان بإله البحر وإله الحرب وإله الحكمة ، وقول أقباط مصر بإله الشمس وإله الموت وإله الحكمة ، وقول العرب باختصاص بعض الأصنام ببعض القبائل مثل اللات لثقيف ، وذي الخلصة لدوس ، ومناة للأوس والخزرج .
وكذلك ما يزعمونه لأنفسهم من سلطان على الناس لا يشاركهم فيه غيرهم كقول فرعون: (ما علمت لكم من إله غيري) [القصص: 38] وقوله: ( أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي) [الزخرف: 51] ، وتلقيب أكاسرة الفرس أنفسهم بلقب: ملك الملوك (شاهنشاه) ، وتلقيب ملوك الهند أنفسهم بلقب ملك الدنيا (شاه جهان) .
ويفسر هذا المعنى ما في الحديث في صفة يوم الحشر : ( ثم يقول الله : أنا الملك ، أين ملوك الأرض ؟) ؛ استفهاما مرادا منه : تخويفهم من الظهور يومئذ ، أي : أين هم اليوم ؟ لماذا لم يظهروا بعظمتهم وخيلائهم ؟
ويجوز أيضا أن يكون الاستفهام كناية عن التشويق إلى ما يرد بعده من الجواب ، لأن الشأن أن الذي يسمع استفهاما يترقب جوابه ، فيتمكن من نفسه الجواب عند سماعه فضل تمكن …
وجملة : ( لله الواحد القهار ) : يجوز أن تكون من بقية القول المقدر ، الصادر من جانب الله تعالى ، بأن يصدر من ذلك الجانب استفهام ، ويصدر منه جوابه .
لأنه لما كان الاستفهام مستعملا في التقرير ، أو التشويق : كان من الشأن أن يتولى الناطق به الجواب عنه، ونظيره قوله تعالى: ( عم يتساءلون عن النبإ العظيم ) [النبأ: 1، 2] .
ويجوز أن تكون مقول قول آخر محذوف ، أي فيقول المسئولون: لله الواحد القهار إقرارا منهم بذلك ، والتقدير: فيقول البارزون : لله الواحد القهار، فتكون معترضة.
وذكر الصفتين الواحد القهار دون غيرهما من الصفات العلى لأن لمعنييهما مزيد مناسبة بقوله: (لمن الملك اليوم) ، حيث شوهدت دلائل الوحدانية لله ، وقهره جميع الطغاة والجبارين ” انتهى من “التحرير والتنوير” (24/110-111) .
اسم الله (الظاهر ):
أي: هو الّذي ليس فوقه شيء، فالمراد بالظّهور هنا: العلوّ والفوقية، ومنه قوله تعالى:{فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} أي: يعلوه، ومنه ظهر الشّيء لأنّه أعلاه، ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم: ( لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أًمَّتِي عَلَى الحَقِّ ظَاهِرِينَ ) أي: عالين قاهرين.
أو الظاهر بمعنى الواضح البيّن بمعنى أن الإيمان بالله جل وعلا وكمالاته وصفاته مركوز في الفطر معلوم للعقلاء بالتأمل في عظيم خلقه فالبرهان على عظمته وجلاله ظاهر وواضح لا خفاء فيه، ولذلك الذي ينكر وجود الله سبحانه وتعالى (الالحاد) هذا ينكر ما لا يحتاج إلى دليل أنا ممكن أنكر أشياء خفية عني، أمور لا اعقلها لا أفهمها فهذا شيء طبيعي، لكن أنكر الشمس التي يراها الناس أجمعون، إذن عندك مشكلة في النظر، كما قال الشاعر:
قد تنكر العين، ضوء الشمس من رمد ***** وينكر الفم طعم الماء من سقم
فربنا سبحانه وتعالى ظاهر لا يحتاج أحد لاثبات وجوده إلى دليل، ولذلك لما سئل أحد العلماء عن الدليل على وجود الله قال لهم: (أغنى الصباح عن المصباح، متى احتاج النهار إلى دليل) الساعة الواحدة ظهرا والشمس طالعة، فلاحاجة للمصباح.
ولما سئل أعرابي عن الدليل على وجود الله، قال: البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، فأرض ذات فجاج، وسماء ذات أبراج، أفلا يدل ذلك على اللطيف الخبير؟
البعرة فضلات الحيوان، فوجودها يدل على وجود الحيوان، و لما ترى آثار أقدام في الأرض فهذا يدل على أن هناك من مشى بهذا الطريق، فخلق السموات والأرض يدل على عظمة الله وجلاله.
اسم الله (الباطن ):
أي: هو الّذي ليس دونه شيء، أي لا شيء أقرب إلى العبد منه تعالى، كما قال:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: من الآية16] {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طـه:7]، وقربه نوعان:
– قرب عام في الإحاطة والعلم والقدرة .
– وقرب خاص من أوليائه بالإجابة وبنصرهم ونحو ذلك بسماع دعائهم إلى آخره.
والباطن جل وعلا هو الذي أحاط ببواطن الامور، يعني يعلم اذا كنت صادقا أم كاذبا مؤمنا أم منافقا ، مخلصا أم مرائيا، قال تعالى : (والله يعلم ما في قلوبكم)[الأحزاب 51] و﴿قُلۡ إِن تُخۡفُوا۟ مَا فِی صُدُورِكُمۡ أَوۡ تُبۡدُوهُ يعلمه اللَّهُۗ ﴾ [آل عمران 29] ، فهنا يخبر تبارك وتعالى عباده أنه يعلم السرائر والضمائر والظواهر، وأنه لا يخفى عليه منهم خافية، بل علمه محيط بهم في سائر الأحوال وجميع الأوقات، وبجميع ما في السموات والأرض، لا يغيب عنه مثقال ذرة، ولا أصغر من ذلك في جميع أقطار الأرض والبحار والجبال.
قال تعالى : ( يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ) السرائر جمع سريرة ، والسريرة هي : كل ما يخفيه الإنسان في نفسه، والمعنى: يوم تختبر سرائر العباد , فيظهر منها يومئذ ما كان في الدنيا مستخفيا عن أعين العباد ، فتظهر وتبدو ويبقى السر علانية والمكنون مشهورا وقد ثبت في الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ” يرفع لكل غادر لواء عند استه يقال هذه غدرة فلان بن فلان”، فإن الحساب يوم القيامة على ما في القلوب ، والحساب في الدنيا على ما في الجوارح .
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه “التبيان في أقسام القرآن” عند قول الله تعالى :﴿ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ﴾ : وفي التعبير عن الأعمال “بالسر” لطيفة : وهي أن الأعمال نتائج السرائر الباطنة ؛ فمن كانت سريرته صالحة كان عمله صالحاً ، فتبدو سريرته على وجهه نوراً وإشراقاً وحياء ، ومن كانت سريرته فاسدة كان عمله تابعاً لسريرته ، لا اعتبار بصورته ، فتبدو سريرته على وجهه سواداً وظلمة وشيناً ، وإن كان الذي يبدو عليه في الدنيا إنما هو عمله لا سريرته ، فيوم القيامة تبدو عليه سريرته ، ويكون الحكم والظهور لها ) [ التبيان ص110 ]
ولذلك فضح القرآن نفسيات المنافقين، وأخبر عن بواطنهم فقال تبارك وتعالى: ﴿يحۡذر الۡمنٰفقون أن تنزل علیۡهمۡ سورة تنبئهم بما فی قلوبهمۡۚ قل اسۡتهۡزءوۤا۟ إن الله مخۡرج ما تحۡذرون﴾ [التوبة: 64]، وقال تعالى: ﴿ألمۡ تر إلى الذين نهوا۟ عن النجۡوىٰ ثم يعودون لما نهوا۟ عنۡه ويتنٰجوۡن بالۡإثۡم والۡعدۡو ٰن ومعۡصيت الرسولۖ وإذا جاۤءوك حيوك بما لمۡ يحيك به الله ويقولون فیۤ أنفسهمۡ لوۡلا يعذبنا الله بما نقولۚ حسۡبهمۡ جهنم يصۡلوۡنهاۖ فبئۡس الۡمصير﴾ [المجادلة: 8] عن عائشة قالت: دخل علي رسول الله يهود فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم. فقالت عائشة: وعليكم السام واللعنة قالت: فقال رسول الله : “يا عائشة، إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش”. قلت: ألا تسمعهم يقولون: السام عليك؟ فقال رسول الله: “أو ما سمعت أقول: وعليكم؟ “. فأنزل الله: ﴿وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله﴾، والسام معناها الموت ويقولون في أنفسهم : لو كان هذا نبيا لعذبنا الله بما نقول له في الباطن؛ لأن الله يعلم ما نسره، فلو كان هذا نبيا حقا لأوشك أن يعاجلنا الله بالعقوبة في الدنيا، لم يتكلموا به، لكن فضحهم الله الظاهر الباطن الذي لا تخفى عليه خافية .
فائدة لابن القيم في هذه الأسماء الأربعة:
قال ابن القيّم رحمه الله في “طريق الهجرتين” (46): ” هذه الأسماء الأربعة: الأوّل، والآخر، والظّاهر، والباطن، هي أركان العلم والمعرفة، فحقيق بالعبد أن يبلُغ في معرفتها إلى حيث ينتهي به قُواه وفهمُه. واعلم أنّ لك أنتَ أوّلا وآخرا، وظاهرا وباطنا، بل كلّ شيءٍ فله أوّل وآخر، وظاهر وباطن، حتّى الخَطْرَة واللّحظة والنّفَس وأدنى من ذلك وأكثر.
فأوّلية الله عزّ وجل سابقة على أوّلية كلّ ما سواه، وآخريّته ثابتة بعد آخريّة كلّ ما سواه: فأوّليته سبقُه لكلّ شيء ، وآخريّته بقاؤه بعد كلّ شيء.
وظاهريّته سبحانه فوقيّته وعلوّه على كلّ شيء، ومعنى الظّهور يقتضي العلوّ، وظاهر الشّيء هو ما علا منه، وأحاط بباطنه ، وبطونه سبحانه إحاطته بكلّ شيء بحيث يكون أقرب إليه من نفسه.
فسبق كلّ شيء بأوّليته، وبقي بعد كلّ شيء بآخريّته، وعلا على كلّ شيء بظهوره، ودنا من كلّ شيء ببطونه، فلا تُواري منه سماءٌ سماءً، ولا أرضٌ أرضًا، ولا يحجُب عنه ظاهرٌ باطنًا، بل الباطنُ له تعالى ظاهرٌ، والغيبُ عنده شهادة، والبعيد منه قريب، والسرّ عنده علانية.
فهذه الأسماء الأربعة تشتمل على أركان التّوحيد، فهو الأوّل في آخريّته، والآخر في أوّليته، والظّاهر في بطونه، والباطن في ظهوره، لم يزل أوّلا وآخرا، وظاهرا وباطنا.
ولذلك لما جاء أهل اليمن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: جئناكَ لِنتفقَّهَ في الدين، ولِنسألكَ عن أوَّل هذا الأمر ما كان، أجابهم النبي صلى الله عليه وسلم بفقه اسم الله “الأول”، فقال لهم: (كان الله ولَمْ يكُنْ شيءٌ قبله (وفي رواية: ولم يكنْ شيءٌ معه)، وكان عرْشُه على الماء، ثمَّ خلق السماوات والأرض، وكتب في الذِّكْر كلَّ شيءٍ)؛ البخاري.
فالله عز وجل هو الأول والآخِر في العظمة والكبرياء، فلا أحد أعظم منه، فاستحق أن يُهاب جانبه، وألا يؤمن عقابه، وهو الأول والآخِر في الجلال والجمال، فلا شيء أجل منه، ولا شيء أجمل منه.
وهو الأول والآخِر برحمته، فلا أحد يملك الرحمة إلا بإذنه؛ قال تعالى: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 156]، وقال صلى الله عليه وسلم: (جعل الله الرحمة مائةَ جُزْءٍ، فأمسكَ عنده تسعةً وتسعينَ جُزْءًا، وأنزل في الأرض جُزْءًا واحدًا، فمن ذلك الجزء يتراحَمُ الخَلْقُ، حتى تَرْفعَ الفَرسُ حافِرها عن ولَدِها خشيةَ أَنْ تُصِيبَهُ)؛ متفق عليه.
وهو الأول والآخر بإحسانه، فلا أحد أكرم ولا أكثر عطاءً منه؛ بل كَرَمُ المخلوقين مِن كرمه، وعطاؤهم من عطائه.
فإذا كان ربنا كذلك، فلنجعله مُرادنا وغايتنا، ولْنُرْضِه بأقوالنا وأفعالنا، ولنتقرَّب إليه بحسن عبادته، وجميل التزلُّف إليه؛ ﴿ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [التوبة: 62].
فالتعلق بالأول والآخر تعلُّقٌ بالحي الذي لا يموت؛ ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ [الطلاق: 3].
ثم يذكر – رحمه الله تعالى – بعض أسرار اقتران اسمي الجلالة (الأول، الآخر) فيقول: « قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى) [محمد: 17]، فهداهم أولاً فاهتدوا فزادهم هدى ثانيًا… وهذا من سر اسميه (الأول والآخر): فهو المعد وهو الممد، ومنه السبب والمُسبَّب وهو الذي يعيذ من نفسه بنفسه كما قال أعرف الخلق به: (وأعوذ بك منك)16 »17.
ويقول أيضًا: «منه المبدأ وإليه المعاد وهو الأول والآخر: (وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ) [النجم: 42]»18.
وقال رحمه الله تعالى: «الغايات والنهايات كلُّها إليه تنتهي: (وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ) [النجم: 42]؛ فانتهت إليه الغايات والنهايات؛ وليس له سبحانه غايةٌ ولانهاية ٌ؛ لا في وجوده، ولا في مزيد جوده، إذ هو (الأوَّل) الذي ليس قبله شيءٌ، و(الآخر) الذي ليس بعده شيءٌ، ولا نهاية لحمده وعطائه؛ بل كلَّما ازداد له العبد شكرًا: زاده فضلاً، وكلَّما ازداد له طاعة: زاده لمجده مثوبة، وكلَّما ازداد منه قربًا: لاح له من جلاله وعظمته ما لم يشاهده قبل ذلك، وهكذا أبدًا لا يقف على غاية ولا نهايةٍ، ولهذا جاء: إنَّ أهل الجنة في مزيدٍ دائمٍ بلا انتهاء.
فإن نعيمهم متصلٌ ممن لا نهاية لفضله ولا لعطائه؛ ولا لمزيده، ولا لأوصافه، فتبارك الله ذو الجلال والإكرام: (إِنَّ هَٰذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ) [سورة ص: 54].
(يا عبادي لو أن أوَّلكم وآخركم؛ وإنسكم وجنكم قاموا في صعيدٍ واحدٍ فسألوني؛ فأعطيتُ كلَّ إنسان مسألته: ما نقص ذلك مما عندي إلا كما يُنقص المخيطُ إذا أُدخل البحر)19 »20.
المعنى الأول للأول: هو الذي يترتب عليه غيره، شيء يُبنى على شيء ونتيجة تؤسس على مقدمة، الشيء الذي يترتب عليه غيره، هذا المعنى الجامع، التفاصيل: الأول المتقدم زمانه، طبعاً، شعبان ثم رمضان رمضان ثم شوال، محرم ثم ذو القعدة، الأول هو الذي يأتي أولاً زماناً يعني التقدم زماناً.
سر العطف بالواوفي هذه الأسماء الأربعة:
يقول ابن القيم رحمه الله : في أسماء الرب تبارك وتعالى أكثر ما يجيء في القرآن الكريم بغير عطف نحو السميع العليم العزيز الحكيم الغفور الرحيم (الملك القدوس السلام) إلى آخرها.
وجاءت معطوفة في موضعين أحدهما في أربعة أسماء وهي (الأول والآخر والظاهر والباطن)
والثاني في بعض الصفات بالاسم الموصول مثل قوله: ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوّى والَّذِي قَدَّرَ فَهَدى والَّذِي أخْرَجَ المَرْعى﴾
ونظيره: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْدًا وجَعَلَ لَكم فِيها سُبُلًا لَعَلَّكم تَهْتَدُونَ والَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ والَّذِي خَلَقَ الأزْواجَ كُلَّها﴾
فأما ترك العطف في الغالب فلتناسب معاني تلك الأسماء وقرب بعضها من بعض، وشعور الذهن بالثاني منها شعوره بالأول.
ألا ترى أنك إذا شعرت بصفة المغفرة انتقل ذهنك منها إلى الرحمة، وكذلك إذا شعرت بصفة السمع انتقل الذهن إلى البصر، وكذلك: ﴿الخالِقُ البارِئُ المُصَوِّرُ﴾
وأما تلك الأسماء الأربعة فهي ألفاظ متباينة المعاني متضادة الحقائق في أصل موضوعها، وهي متفقة المعاني متطابقة في حق الرب تعالى لا يبقى منها معنى بغيره، بل هو (أول) كما أنه (آخر) و (ظاهر) كما أنه (باطن) ولا يناقض بعضها بعضا في حقه.
فكان دخول الواو صرفا لوهم المخاطب قبل التفكر والنظر عن توهم المحال، واحتمال الأضداد لأن الشيء لا يكون ظاهرا باطنا من وجه واحد، وإنما يكون ذلك باعتبارين.
فكان العطف هاهنا أحسن من تركه لهذه الحكمة.هذا جواب السهيلي.
وأحسن منه أن يقال لما كانت هذه الألفاظ دالة على معاني متباينة، وأن الكمال في الاتصاف بها على تباينها أتى بحرف العطف الدال على التغاير بين المعطوفات إيذانا بأن هذه المعاني مع تباينها فهي ثابتة للموصوف بها.
ووجه آخر وهو أحسن منها وهو أن الواو تقتضي تحقيق الوصف المتقدم وتقريره يكون في الكلام متضمنا لنوع مع التأكيد من مزيد التقرير.
وبيان ذلك بمثال نذكره مرقاة إلى فهم ما نحن فيه:إذا كان لرجل مثلا أربع صفات هي عالم وجواد وشجاع وغني، وكان المخاطب لا يعلم ذلك أو لا يقر به ويعجب من اجتماع هذه الصفات في رجل؛ فإذا قلت: زيد عالم، وكأن ذهنه استبعد ذلك فتقول وجواد، أي وهو مع ذلك جواد، فإذا قدرت استبعاده لذلك قلت وشجاع أي وهو مع ذلك شجاع وغني فيكون في العطف مزيد تقرير وتوكيد لا يحصل بدونه تدرأ به توهم الإنكار.
وإذا عرفت هذا فالوهم قد يعتريه إنكار لاجتماع هذه المقابلات في موصوف واحد.
فإذا قيل: هو الأول ربما سرى الوهم إلى أن كونه أولا يقتضي أن يكون الآخر غيره لأن الأولية والآخرية من المتضايفات وكذلك الظاهر والباطن إذا قيل هو ظاهر ربما سرى الوهم إلى أن الباطن مقابله، فقطع هذا الوهم بحرف العطف الدال على أن الموصوف بالأولية هو الموصوف بالآخرية فكأنه قيل: هو الأول وهو الآخر وهو الظاهر وهو الباطن لا سواه.
فتأمل ذلك فإنه من لطيف العربية ودقيقها.
والذي يوضح لك ذلك أنه إذا كان للبلد مثلا قاض وخطيب وأمير فاجتمعت في رجل، حسن أن تقول زيد هو الخطيب والقاضي والأمير.
وكان للعطف هنا مزية ليست للنعت المجرد فعطف الصفات هاهنا أحسن قطعا لوهم متوهم أن الخطيب غيره وأن الأمير غيره.
خامسا / ثمار الإيمان بهذه الأسماء المباركة
1- الإيمان بأن الله هو الأول قبل كل شيء، وهو الآخر بعد فناء كل شيء، ومعرفة أوّليته وآخريّته تدلّ على غناه المطلق، فهو غنيّ عن العباد.
2- مرد كل شيء إلى الله وحده فهو الذي يقدر ويدبر كل شيء ( وإليه يرجع الأمر كله) فهو الأول والآخرسبحانه وتعالى.
3- اسم الله الآخِر يقتضي عدم ركون العبد للأشخاص والأسباب، لأنَّ كلَّ شيء مصيره إلى الفناء والزوال، فالتعلّق بما سوى الله تعلّقٌ بزائل لا يبقى، أما التعلّق بالله تعالى تعلّق بالدائم الباقي الذي لا يموت ولا يزول، قال تعالى : ( وتوكل على الحي الذي لا يموت) [الفرقان:58]
4-الاستدلال على عظمة الله وجلاله بخلقه وتدبيره في الكون فهو الظاهر الذي لا يحتاج إثبات وجوده لكبير عناء.
5- أن السر والعلانية عند الله سواء فكما أنك حريص على أن تهتم بظاهرك، فاهتم بباطنك، طهر سريرتك ،فالناس ينظرون إلى ظاهرك والله ينظر إلى باطنك.
6-إن صدق التعبد باسم الله الأول، والآخر؛ يقود إلى مطالعة منة الله ومحبته، والتبرؤ من كل سبب، فالنعم أولها من الله، ودوامها منه، وانتهاؤها إليه، فكيف يحب العبد غير ربه، أو يشقي نفسه مع خلقه، وهو مؤمن بالأول الآخر سُبْحَانَهُ!
7- قِصر الأمل في الدنيا والزهد في مباحاتها والبعد عن شهواتها: فمن علم أنه سُبْحَانَهُ الآخر، وأنه الدائم الحي الذي لا يموت فكل شيء ينتهي إليه، ويعود إليه، فلا يفلت أحد من قبضته ولا يدوم أحد إلا وجهه الكريم؛ فمثل هذا العلم يورث العبد معرفة حقيقة الدنيا، فيقصر أمله فيها؛ لعلمه أنها منقطعة، والكل عنها راحلون، وعن وراثتها زائلون، فعليه أن يجتهد للآخرة، فلا يفرح فيها بموجود، ولا يأسف منها بمفقود.
8- ذكرابن القيّم التعبّد لله بهذه الأسماء فقال : وهو رتبتان:
المرتبة الأولى: أن تشهد الأوّلية منه تعالى في كلّ شيء، والآخريّة بعد كلّ شيء، والعلوّ والفوقيّة فوق كلّ شيء، والقرب والدنوّ دون كلّ شيء. فالمخلوق يحجُبُه مثلُه عمّا هو دونه، فيصير الحاجب بينه وبين المحجوب، والربّ جلّ جلاله ليس دونه شيء أقرب إلى الخلق منه.
والمرتبة الثّانية: من التعبد أن يعامل كلّ اسم بمقتضاه:فيعامل سبقه تعالى بأوّليته لكلّ شيء وسبقه بفضله وإحسانه الأسباب كلها، وعدم الالتفات إلى غيره، وعدم الوثوق بسواه والتوكل على غيره.
ثم تعبّد له باسمه الآخر: بأن تجعلَه وحدَه غايتَك الَّتي لا غاية لك سواه، ولا مطلوب لك وراءه، فكما انتهت إليه الأواخر، وكان بعد كل آخر، فكذلك اجعل نهايتك إليه، فإنّ إلى ربك المنتهى، إليه انتهت الأسباب والغايات، فليس وراءه مرمى ينتهي إليه.
ثمّ التعبد باسمه الظاهر: فإذا تحقّق العبد من علوّ الله المطلق على كلّ شيء بذاته، وأنّه ليس فوقه شيءٌ ألبتّة، وأنّه قاهر فوق عباده، يدبّر الأمر من السّماء إلى الأرض ثمّ يعرج إليه، وإليه يصعد الكلم الطيّب، والعمل الصّالح يرفعه، صار لقلبه جهةٌ يقصدها، وربٌّ يعبده، وإله يتوجّه إليه، بخلاف من لا يدري أين ربّه ؟ فإنّه ضائع مشتت القلب، ليس لقلبه قبلة يتوجّه نحوها، ولا معبودَ يتوجّه إليه قصدُه، وصاحب هذه الحال إذا سلك وتألّه وتعبّد طلب قلبُه إلاها يسكن إليه، ويتوجّه إليه، وقد اعتقد أنه ليس فوق العرش شيء إلاّ العدم، وأنّه ليس فوق العالم إله يُعبَد، ويصلّى له ويسجد، وأنه ليس على العرش من يصعد إليه الكلم الطيب ولا يرفع إليه العمل الصالح جال قلبه في الوجود جميعه فوقع في الاتّحاد ولا بدّ، وتعلّق قلبه بالوجود المطلق، فاتّخذ إلهه من دون إله الحقّ، وظنّ أنّه قد وصل إلى عين الحقيقة، وإنّما تألّه وتعبّد لمخلوق مثلِه، ولخيال نحته بفكره.
فإذا استقرّ ذلك في قلبه، وعرف ربّه باسمه الظّاهر، استقامت له عبوديّته، وصار له معقِل وموئل يلجأ إليه ويهرب إليه، ويفرّ كلّ وقت إليه.
وأمّا التعبّد باسمه الباطن: فإذا شهدْتَ إحاطته بالعوالم وقرب العبيد منه، وظهور البواطن له، وبدوّ السرائر، وأنّه لا شيء بينه وبينها، فعامِلْه بمقتضى هذا الشّهود، وطهِّر له سريرتك، فإنّها عنده علانية، وأصلح له غيبك، فإنّه عنده شهادة، وزكِّ له باطنك فإنّه عنده ظاهر.
9- الدعاء بهذه الأسماء كما كان يصنع رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، فعن أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يقول إذا أوى إلى فراشه: “اللهم رب السموات والأرض، ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والقرآن العظيم، أعوذ بك من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عني الدين وأغنني من الفقر” (البخاري ومسلم).