شرح أسماء الله الحسنى
82- الكافي
أولا /المعنى اللغوي:
الكافي اسمُ الفاعِلِ مِن كفى يكفي فهو كافٍ، فاللهُ عَزَّ وجَلَّ كافي عبادِه لأنَّه رازقُهم وحافِظُهم ومُصلِحُ شُؤونِهم .
والكافي: اسم علم مذكر عربي، على وزن اسم الفاعل، وحقُّه بحذف الياء كافٍ، إلا إذا عرّف، فيصير من أسماء الله الحسنى.
ثانيا /المعنى في حق الله تعالى:
هو سبحانه الكافي عباده جميع ما يحتاجون ويضطرون إليه؛ رزقاً ومعاشاً وقوتاً، الكافي كفاية خاصة من آمن به وتوكل عليه واستمد منه حوائج دينه ودنياه، ويقال الكافي دافع البلاء.
ثالثا / وروده في القرآن الكريم والسنة:
اسم الله “الكافي” في القرآن الكريم: ورد مرةً واحدة في قوله عزَّ وجل: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَاد} [الزمر: 36].
وورد بصيغة الفعل في قوله تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم} [البقرة: 137].
وقال تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِين} [الحجر:95] و: (وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً) (الأحزاب: 25).
ومن السُّنَّةِ:
1- حديثُ أنسٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كانَ إذا أَوَى إلى فِراشِه قال: (الحمدُ للهِ الذي أَطْعَمَنا وسقَانا، وكَفَانَا وآوَانَا، فكمْ ممَّن لا كافيَ له ولا مؤوى).
2- حديثُ أنسٍ رَضِيَ اللهُ عنه في قِصَّة الغُلامِ مع السَّاحرِ والرَّاهبِ، وفيه: أنَّه كلَّما ذَهَبوا بالغُلامِ إلى مكانٍ لقَتْلِه، قال: (اللهمَّ اكْفِنِيهم بما شِئتَ)
وقد ورد الكافي في أسماء الله تعالى عند ابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. وقد ذكر القاضي ابن العربي المالكي في أحكام القرآن، والحافظ ابن حجر في فتح الباري وكذلك في التلخيص الحبير أن الكافي من أسماء الله تعالى، وكذا عده الشيخ سعيد القحطاني والعلامة ابن عثيمين من أسماء الله الحسنى .
رابعا / تأملات في رحاب الاسم الجليل:
الله سبحانه وتعالى هو الكافي لعباده الذي لا غنى لهم عنه أبداً، بل لا يتصور لهم وجود بدونه، فهو خالقهم وبارئهم ورازقهم وكافيهم في الدنيا والآخرة، لا يشاركه في ذلك أحد أبداً.
وإن ظن الناس أن غير الله يكفيهم فهو ظن باطل، وخطأ محض، بل كل شيء بخلقه وتقديره وأمره.
ولا تظنن أنك إذا احتجت إلى طعام وشراب وأرض وسماء وشمس وغير ذلك، فقد احتجت إلى غيره ولم يكن هو حسبك، فإنه هو الذي كفاك بخلق الطعام والشراب والأرض والسماء، فهو حسبك، وهذا هو المعنى لقول تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال: 64]،أي الله وحده كافيك، وكافي أتباعك، فلا تحتاجون معه إلى أحد.
قوله تعالى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) :
قال ابن جرير الطبري: اختلفت القراء في قراءة أليس الله بكافٍ عبده، فقرأ ذلك بعض قرّاء المدينة؛ وعامّة قراء الكوفة (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْادَهُ) على الجمع، بمعنى: أليس الله بكاف محمداً وأنبياءه من قبله، ما خوّفتهم أممهم من أن تنالهم آلهتهم بسوء. وقرأ ذلك عامة قراء المدينة والبصرة؛ وبعض قراء الكوفة (بِكَافٍ عَبْدَهُ) على التوحيد، بمعنى: أليس الله بكاف عبده محمداً. فالمعنى: أليس الله بكاف عبده محمدًا وعيد المشركين وكيدهم من أن ينالوه بسوء؟ بلى إنه سيكفيه في أمر دينه ودنياه، ويدفع عنه مَن أراده بسوء، ويخوِّفونك -أيها الرسول- بآلهتهم التي زعموا أنها ستؤذيك، ومن يخذله الله فيضله عن طريق الحق، فما له مِن هاد يهديه إليه.
ولا مانع من إطلاق معنى الآية فيعم كل عبد من عباد الله بمعنى أن الله قادر على أن يكفي أولياءه كل هم وضيق وكيد وشر وينصرهم ويعزهم فوق أعدائهم.
أيضًا هذا الاستفهام بالآية (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) فيه استنكار على مَن جحد نعم الله تعالى عليه، فتشتت حاله، وهاج عقله، وطار فؤاده بحثًا عمَّن يكفيه ويدبر أمره، تاركًا الله تعالى الذي هو أقرب إليه من حبل الوريد.
قال الإمام الرازي – رحمه الله – في تفسيرهذه الآية: “جرَتِ العادة أن المبطِلين يخوِّفون المحقِّين بالتخويفات الكثيرة، فحسم الله مادة هذه الشبهة بقوله تعالى: ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ﴾ [الزمر: 36]، وذكَره بلفظ الاستفهام، والمراد تقرير ذلك في النفوس، والأمر كذلك؛ لأنه ثبت أنه عالم بجميع المعلومات، قادر على كل الممكنات، غنيٌّ عن كل الحاجات؛ فهو تعالى عالم حاجات العباد، وقادر على دفعها وإبدالها بالخيرات والراحات، وهو ليس بخيلًا ولا محتاجًا حتى يمنعه بُخلُه وحاجته عن إعطاء ذلك المراد، وإذا ثبت هذا كان الظاهر أنه سبحانه يدفع الآفات، ويزيل البليَّات، ويوصل إليه كل المرادات؛ فلهذا قال: ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ﴾ [الزمر: 36]“.
وقال الأستاذ سيد قطب – رحمه الله – : “بلى! فمَن ذا يُخيفه، وماذا يخيفه إذا كان الله معه، وإذا كان هو قد اتخذ مقام العبودية وقام بحق هذا المقام؟! ومَن ذا يشك في كفاية الله لعبده وهو القوي القاهر فوق عباده؟“.
أمثلة لكفاية الله عباده:
إن كفاية الله تعالى للعباد لا يحدها حاد، ولا يمنعها مانع، رآها المسلمون رأيَ العين في مواطن كثيرة.
• رأَوْها يوم بدر حين قل العدد ونقص العتاد؛ فأنزل الله تعالى ملائكته على الكافرين تحصدهم حصاد المنجل للهشيم؛ قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ ﴾ [آل عمران: 123، 124].
• ورأَوْها يوم الأحزاب، حين اجتمعت القبائل لاستئصال شأفة المسلمين، وبعد أن نفِدَت أسباب الأرض تدخلت أسباب السماء؛ فاندحر الكفار خزايا، ولم يمكِّنْهم الله تعالى من رقاب المؤمنين، ولم يجعَلْ لهم على المؤمنين سبيلًا؛ قال تعالى: ﴿ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ﴾ [الأحزاب: 25].
• ورأَوْها يوم حُنَين، حيث تدخلت عناية الله تعالى، وأرسل مِن جنده مَن غيَّر مجريات الأمور، وقلب موازينها؛ قال تعالى: ﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ﴾ [التوبة: 25، 26].
وروى البخاري في صحيحه : (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – غَزْوَةَ نَجْدٍ ، فَلَمَّا أَدْرَكَتْهُ الْقَائِلَةُ وَهْوَ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ ، فَنَزَلَ تَحْتَ شَجَرَةٍ وَاسْتَظَلَّ بِهَا وَعَلَّقَ سَيْفَهُ ، فَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الشَّجَرِ يَسْتَظِلُّونَ ، وَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ دَعَانَا رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَجِئْنَا ، فَإِذَا أَعْرَابِيٌّ قَاعِدٌ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَقَالَ « إِنَّ هَذَا أَتَانِي وَأَنَا نَائِمٌ ، فَاخْتَرَطَ سَيْفِي فَاسْتَيْقَظْتُ ، وَهْوَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِي ، مُخْتَرِطٌ صَلْتًا ، قَالَ مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّى قُلْتُ اللَّهُ . فَشَامَهُ، ثُمَّ قَعَدَ، فَهْوَ هَذَا». قَالَ وَلَمْ يُعَاقِبْهُ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم.
ومن صور كفاية الكافي -سبحانه- لعباده المؤمنين: حفظهم ورعايته لهم؛ فمن حفظ إبراهيم -عليه السلام- حين ألقي في النار؟ ومن حفظ يونس -عليه السلام- في بطن الحوت؟ ومن حفظ يوسف -عليه السلام- في البئر وسنوات الاغتراب عن الأهل والأحباب؟ ومن الذي يرعى من على هذه البسيطة، ويمدهم بالطعام والشراب والعافية؟؛ والجواب: إنه الله الكافي -جل شأنه-.
وكما في قصة غلام الأخدود؛ ذلكم الغلام المؤمن الذي أبى الرجوع عن دينه “فدفَعَه الملِك إلى نَفَرٍ من أصحابه، وقال لهم: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا -جبل معروف عندهم شاهِق رفيع-، وقال لهم: إذا بلغوا ذروتَه فاطرحوه؛ يعني: على الأرض؛ ليقعَ من رأس الجبل فيموت، بعدَ أن تَعرِضوا عليه أن يرجع عن دِينه؛ فإنْ رجع وإلا فاطرحوه؛ فلمَّا بلغوا قمَّة الجبل؛ فطلبوا منه أن يرجع عن دِينه، أبَى؛ لأنَّ الإيمان قد وَقَر في قلبه، ولا يمكن أن يتحوَّل أو يَتزحزح؛ فلمَّا همُّوا أن يطرحوه، قال: اللهم اكفنيهم بما شئتَ -دعوة مضطر مؤمن-؛ أي: بالذي تشاء ولم يُعيِّن؛ فرجف الله بهم الجبلَ فسقطوا وهلكوا، وجاء الغلام إلى الملِك، فقال: ما الذي جاء بك؟ أين أصحابك؟! فقال: قد كفانيهم الله، ثم دَفَعه إلى جماعة آخرين وأمرَهم أن يركبوا البحر في سفينة؛ فإذا بلغوا لُجَّة البحر عرَضوا عليه أن يرجع عن دِينه، فإن لم يفعلْ رمَوْه في البحر، فلمَّا توسَّطوا من البحر، عَرَضوا عليه أن يرجع عن دينه – وهو الإيمان بالله – فقال: لا، فقال: اللهم اكفنيهم بما شِئت، فانقلبتِ السفينة وغرقوا، وأنجاه الله“.
أسباب كفاية الله للعبد
1- التوكل على اللَّه سبب كفاية اللَّه لعبده:
التوكل هو اعتماد القلب على اللَّه في حصول المطلوب ودفع المكروه مع الثقة به وفعل الأسباب المأذون فيها شرعاً، قال تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]. أي كافية كل أموره الدينية والدنيوية.
وقد جعل اللَّه تعالى لكل عمل جزاء من جنسه وجعل جزاء التوكل عليه نفس كفايته لعبده فقال: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} ولم يقل: نؤته كذا وكذا من الأجر كما قال في الأعمال بل جعل نفسه سبحانه كافي عبده المتوكل عليه وحسبه وواقيه، فلو توكل العبد على ربه حق التوكل بأن اعتمد بقلبه على ربه اعتماداً قوياً كاملاً في تحصيل مصالحه ودفع مضاره وقويت نفسه وحسن باطنه بربه حصلت له الكفاية، وأتم اللَّه له أحواله وسدده في أقواله وأفعاله وكفاه همه وجلا غمه، فهناك لا تسأل عن كل أمر تيسر وصعب يتسهل وخطوب تهون وكروب تزول وأحوال وحوائج تقضى وبركات تنزل ونقم تدفع وشرور ترفع.
روى أبو داود الترمذي وغيرهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا خرج الرجل من بيته فقال : بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله قال : يقال حينئذ هديت وكفيت ووقيت فيتنحى عنه الشيطان فيقول شيطان آخر ” كيف برجل قد هدي وكفى ووقُي ) أي هديت إلى طريق الحق والصواب وكفيت من كل هم دنيوي ووقيت من كل شر !
2- تفويض الأمر لله بقول: حسبنا الله ونعم الوكيل :
ورد هذا الدعاء في القرآن الكريم في حكاية الله عز وجل عن الصحابة الكرام في أعقاب معركة أُحُد ، في غزوة ” حمراء الأسد “، وذلك حين خوَّفهم بعضُ المنافقين بأن أهل مكة جمعوا لهم الجموع التي لا تهزم ، وأخذوا يثبِّطون عزائمهم ، فلم يزدهم ذلك إلا إيمانا بوعد الله ، وتمسكا بالحق الذي هم عليه ، فقالوا في جواب جميع هذه المعركة النفسية العظيمة : حسبنا الله ونعم الوكيل، يقول عز وجل : ( الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ . الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) [آل عمران/172-174]
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : ( حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ : قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ حِينَ أُلْقِي فِي النَّارِ ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالُوا : ( إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ )صحيح البخاري
معنى هذا الدعاء:
حسبنا الله : أي الله كافينا ، فالحسب هو الكافي أو الكفاية ، والمسلم يؤمن بأن الله عز وجل بقدرته وعظمته وجلاله يكفي العبد من كل ما أهمه وأصابه ، ويرد عنه بعظيم حوله كل خطر يخافه ، وكل عدو يسعى في النيل منه .
وأما معنى : ( نعم الوكيل )، أي : أمدح من هو قيِّم على أمورنا ، وقائم على مصالحنا ، وكفيل بنا ، وهو الله عز وجل ، فهو أفضل وكيل ؛ لأن من توكل على الله كفاه ، ومن التجأ إليه سبحانه بصدق لم يخب ظنه ولا رجاؤه ، وهو عز وجل أعظم من يستحق الثناء والحمد والشكر لذلك .
“فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ ” وجاءت“فضل” هنا نكرة في سياق الاثبات على اعتبار أن تكون مطلقة ؛ وكان يمكن أن يقول (فانقبلوابنعمة وفضل) لكن أضاف “من الله” لكي يشعر قيمة هذه النعمة، فهى نعمة خاصة ومميزة جدا( بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) أي كل سوء، (لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيم) فرضى عنهم ربهم وأرضاهم ولا شك هذا هو الفوز.
وهذا الدعاء من أعظم الأدعية فضلا ؛ لأنه يتضمن حقيقة التوكل على الله عز وجل ، ومَن صَدَق في لجوئه إلى ربه سبحانه حقق له الكفاية المطلقة ، الكفاية من شر الأعداء ، والكفاية من هموم الدنيا ونكدها ، والكفاية في كل موقف يقول العبد فيه هذه الكلمة يكتب الله عز وجل له بسببها ما يريده ، ويكتب له الكفاية من الحاجة إلى الناس ، فهي اعتراف بالفقر إلى الله ، وإعلان الاستغناء عما في أيدي الناس .
وعَن أبي الدَّرداءِ رضيَ اللَّهُ عنه قالَ : “مَن قالَ إذا أصبحَ وإذا أَمسى : حَسبيَ اللَّهُ لا إلَهَ إلَّا هوَ عليهِ توَكَّلتُ وَهوَ ربُّ العرشِ العظيمِ . سَبعَ مرَّاتٍ كفاهُ اللَّهُ ما أَهَمَّهُ صادقًا كانَ أو كاذبًا)
وكل منّا تنتابه أوقات يشعر فيها أنّه بات وحيداً في ساحة من الهموم والمتاعب أو القلق، فلنتذكر دائما قول الله عز وجل (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ)، فهذه الآية الكريمة تشعر المؤمن برحمة الله عز وجل وكرمه ..فما وكّل المؤمن أمره لله عزّ و جلّ يوماً إلا قضى له مطلبه .. وما استغاث به يوماً في أزمةٍ أتعبته إلا أغاثه ، وما خاف أمراً فدعاه إلا كفاه إياه .. وما استغنى به عن الناس إلا فتح له أبواباً من السكينة والطمأنينة.. فعلى كل مهموم أحاطت به المصائب والكروب من كل جهة ، أن يتذكر دائما قوله تعالى : (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) ، فلكل مظلوم تكاثرت عليه أيدي الشر ، ولكل متعَب أرقته الحياة طويلاً فما عاد ليله ليلا و لا نهاره نهارا ، ولكل من فارقه محبوب فترك في قلبه فراغاً ، ولكل من تتعثر قدماه في طريق طلب الرزق فبات مهموماً ، ولكل وحيدٍ حزين ، ولكل محتاج أو سقيم تذكروا دائما قوله تعالى : ( أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ )
وكثيرا ما يتنازل بعض الناس عن مثل هذه المعاني الجليلة إلى تذلل للمخلوقين وانكسار بين أيديهم وسؤالهم وتعلق قلبه بهم وكأن الأمور بأيديهم كل ذلك لينال بعض مآربه وحاجاته على حساب دينه ونيل رضا ربه عز وجل فيخسر كفاية الله للمتوكلين .
روى الترمذي – وصححه الألباني – عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من التمس رضاء الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس ومن التمس رضاء الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس ).
3- أن تكون حافظاً لحدوده وحقوقه , وأوامره ونواهيه:
وأن تكون حافظاً لجوارحك من التعدي في الحرام او التمادي في الباطل , وأن تكون محافظاً على فعل الطاعات وبذل المعروف والإحسان إلى الآخرين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله , ومتى ما كنت محافظاً لذلك كله حفظك الله من كل سوء وشر ومكيدة قال تعالى: ( لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ۗ..) [الرعد 11] , وقال عليه الصلاة والسلام ” احفظ الله يحفظك , احفظ الله تجده تجاهك ” .
4- كثرة الدعاء والتضرع إلى الله تعالى :
فمن كان له حاجة أوعليه دين فليتضرع إلى اللَّه تعالى ليكفيه هم الدين روى الترمذي في سننه من حديث علي رضي اللهُ عنه: أَنَّ مُكَاتَبًا جَاءَهُ فَقَالَ: إِنِّي قَدْ عَجَزْتُ عَنْ كِتَابَتِي فَأَعِنِّي قَالَ أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ عَلَّمَنِيهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَوْ كَانَ عَلَيْكَ مِثْلُ جَبَلِ صِيرٍ دَيْنًا أَدَّاهُ اللَّهُ عَنْكَ؟ قَالَ: قُلْ: «اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِحَلَالِكَ عَنْ حَرَامِكَ وَأَغْنِنِي بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ»
5- المداومة على الأذكار المشروعة:
كأذكار اليوم والليلة وأذكار النوم والاستيقاظ منه، وأذكار دخول المنزل والخروج منه، وغير ذلك من الأذكار الواردة؛ وقد صح عن النبي الكريم -عليه الصلاة والسلام- أن من ذكر ربه عند خروجه من بيته؛ فقال: “بِاسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ؛ فَيُقَالُ لَهُ حِينَئِذٍ هُدِيتَ وكُفِيتَ ووُقِيتَ، فَيَتَنَحَّى عَنْهُ الشَّيْطَانُ؛ فَيَقُولُ شَيْطَانٌ آخَرُ: كَيْفَ لَكَ بِرَجُلٍ قَدْ هُدِيَ وَكُفِيَ وَوُقِيَ”(رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ).
6- الإكثار من الصلاة على النبي -صلوات ربي وسلامه عليه-:
عن أبي بن كعب: ” قال: قلت، يا رسول الله إني أكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتي، فقال ما شئت، قال: قلت الربع، قال: ما شئت، فإن زدت فهو خير لك، قلت: النصف، قال: ما شئت فإن زدت فهو خير لك، قال: قلت فالثلثين، قال: ما شئت فإن زدت فهو خير لك، قلت أجعل لك صلاتي كلها، قال إذن تكفى همك ويغفر ذنبك.)رواه الترمذي.
ومعنى قوله: (فكم أجعل لك من صلاتي)، أي بدل دعائي الذي أدعو به لنفسي ، وقال المنذري في الترغيب: معناه أكثر الدعاء، فكم أجعل لك من دعائي صلاة عليك، (قال: ما شئت)، أي اجعل مقدار مشيئتك، قوله: (قلت أجعل لك صلاتي كلها)، أي أصرف بصلاتي عليك جميع الزمن الذي كنت أدعو فيه لنفسي، (قال إذن تكفى همك)، والهم ما يقصده الإنسان من أمر الدنيا والآخرة، يعني إذا صرفت جميع أزمان دعائك في الصلاة علي أعطيت ما تبغي من خيري الدنيا والآخرة، ويغفر ذنبك أيضا.
6- أن يكون رضا الله لا رضا الناس هو الغاية:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس) رواه الترمذي. وفي رواية لإبن حبان: (من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله، ومن أسخط الله برضى الناس وكله الله إلى الناس) [وسنده صحيح أيضا، والحديث ذكره الشيخ الألباني في حديث الجامع الصغير السيوطي وقال عنه الشيخان شعيب وعبد القادر الأرناؤوط في تحقيقهما لزاد المعاد: إسناده صحيح]. وقوله عليه الصلاة والسلام: (من التمس رضا الناس) التمس يعني: طلب، وقوله عليه الصلاة والسلام (كفاه الله مؤونة الناس) المؤونة التبعية والمقصود كفاه الله تعالى شر الناس وأذاهم.
موقف الحسن البصري من والي العراق:
استدعى عمر بن هبيرة والي العراق الحسن البصري والإمام الشعبي ليسأل عما يبعثه إليه الخليفة من أوامر تحتوي على ظلم هل ينفذها أم لا؟
فسأل عمر الشعبي في هذا الموقف أولا، فقال كلاما يرضي الوالي والخليفة، والحسن البصري ساكت، فلما انتهى الشعبي من كلامه التفت عمر بن هبيرة إلى الحسن وقال: وما تقول أنت يا أبا سعيد، فوعظه الحسن البصري موعظة قوية أمره فيها بالمعروف ونهاه فيها عن المنكر، ولم يداهن أو يواري فقال فيما قال:
يا ابن هبيرة خف الله في يزيد، ولا تخف يزيد في الله، واعلم أن الله عز وجل يمنعك من يزيد وأن يزيد لا يمنعك من الله، يا ابن هبيرة إنه يوشك أن ينزل بك ملك غليظ شديد لا يعصي الله ما أمره فيزيلك عن سريرك هذا، وينقلك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك حيث لا تجد هناك يزيد، وإنما تجد عملك، يا ابن هبيرة إنك إن تك مع الله تعالى وفي طاعته يكفك بائقة يزيد في الدنيا والآخرة، وإن تك مع يزيد في معصيته فإن الله يكلك إلى يزيد، واعلم يا ابن هبيرة أنه لا طاعة لمخلوق كائنا من كان في معصية الخالق عز وجل، فبكى عمر بن هبيرة حتى بللت دموعه لحيته، وأكرم الحسن البصري إكراما شديدا، ولم يلتفت إلى الشعبي.
فلما خرج الحسن والشعبي وذهبا للمسجد، واجتمع الناس ليعرفوا خبرهما التفت الشعبي للناس بعد أن تعلم درسا هاما تعلم ألا يرضي أحدا دون الله تعالى بعد ذلك قال: يا أيها الناس من استطاع منكم أن يؤثر الله عز وجل على خلقه في كل مقام فليفعل، فوالذي نفسي بيده ما قال الحسن لابن هبيرة قولاً لا أجهله – يعني كنت أستطيع أن أقول مثل ما قال الحسن – ولكن أردت فيما قلت وجه ابن هبيرة، وأراد الحسن فيما قال وجه الله.
خامسا / ثمار الإيمان بالاسم الجليل
1- إذا علم العبد أن اللَّه هو الكافي عباده رزقاً ومعاشاً وحفظاً وكلاءة ونصراً وعزاً اكتفى بمعونته عمن سواه، وإذا كان كذلك وجب ألا يكون الرجاء إلا فيه والرغبة إلا إليه.
2- التوكل على الله وحده والثقة في كفايته وهذا يلقي في قلب المؤمن الطمأنينة، قال ابن القيم – رحمه الله – : ” والتوكل من أقوى أسباب التي يدفع بها العبد مالا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم وهو من أقوى الأسباب في ذلك فإن الله حسبه : أي كافيه من كان الله كافيه وواقيه فلا مطمع فيه لعدوه ولا يضر إلا أذى لابد منه كالحر والبرد والجوع والعطش وأما أن يضره بما يبلغ منه مراده فلا يكون أبداً وفرق بين الأذى الذي هو الظاهر إيذاء له وهو في الحقيقة إحسان إليه وإضرار بنفسه وبين الضرر الذي يتشقى منه “
3- كفاية الله تعالى لعبده وتوفيقه كلما قوي إيمان العبد حصلت له الكفاية والتوفيق من الله.
4- إحسان الظن بالله عزوجل وخاصه في الأمور التي ظاهرها الشر والمكروه فمن يدري ؟ لعل في ذلك الخير والكفاية للعبد وهو لا يشعر !! أي أن الكفاية لا تعني بالضرورة في المسرات الظاهرة والنعم وإنما الكفاية قد تكون فيما يكره ويعد حسن الظن بالله ثمرة لمعرفة العبد ربه !
5- أنه يشرع للعبد أن يسأل اللَّه الكافي أن يكفيه شر الأعداء قال تعالى: (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم ) [البقرة: 137]. فيقول: يا كافي اكفني شر فلان الذي ظلمه أو أذاه. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي موسى أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان إذا خاف من رجل أو من قوم قال: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَجْعَلُكَ فِي نُحُورِهِمْ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهِمْ» وروى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس قال: «حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» قالها إبراهيم عليه السَّلام حين أُلقي في النار، وقالها محمد صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حين قالوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل ) [آل عمران:173]