شرح أسماء الله الحسنى
92- المحيط
أولا /المعنى اللغوي:
معنى “المحيط” في اللغة: حاطَه يحُوطُه: حَفِظَه وتعَهَّده، وكلُّ مَنْ أحْرزَ شيئاً كلَّه؛ وبلغَ علمه أقْصاه، فقد أحَاط به، ومنه قوله تعالى: (أحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ) [النمل: 22.] أي: علِمتُه من جميع جهاته، وأُحيطَ بفلان: إذا اقترب هَلاكه؛ فهو مُحاطٌ به، قال عزّ وجل: (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ)[ الكهف:42] أي: أصَابه ما أهْلَكه وأفْسده.
ثانيا / وروده في القرآن الكريم
ورد اسمه سبحانه (المحيط) ثماني مرات في كتابه الكريم:-
1- قوله تبارك وتعالى: (واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) (البقرة: 19).
2- وقوله: (إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (آل عمران: 120).
3- وقوله: (وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا)[النساء:108].
4- وقوله: (كَانَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً) (النساء: 126).
5-وقوله: (وَلَا تَكُونُوا۟ كَٱلَّذِینَ خَرَجُوا۟ مِن دِیَـٰرِهِم بَطَرࣰا وَرِئَاۤءَ ٱلنَّاسِ وَیَصُدُّونَ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ بِمَا یَعۡمَلُونَ مُحِیطࣱ) [الأنفال:47]
6- وقوله: (قَالَ یَـٰقَوۡمِ أَرَهۡطِیۤ أَعَزُّ عَلَیۡكُم مِّنَ ٱللَّهِ وَٱتَّخَذۡتُمُوهُ وَرَاۤءَكُمۡ ظِهۡرِیًّاۖ إِنَّ رَبِّی بِمَا تَعۡمَلُونَ مُحِیطࣱ) [هود 92]
7- وقوله: (أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ) (فصلت: 54)
8- وقوله: (وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ) (البروج: 20).
وممَّن أَثبَتَ اسمَ (المُحِيِط) للهِ عزَّ وجلَّ: الخَطَّابيُّ ، وابنُ العربيِّ ، وابنُ القيِّم ، وابنُ حَجرٍ ، والسَّعْديُّ ، وابنُ عُثَيمين .
ثالثا / المعنى في حق الله تعالى
المحيطُ: هو الذي أحاطَتْ قُدرتُه بجَميعِ خَلْقِه، وهو الذي أحاطَ بكلِّ شَيءٍ عِلمًا، وأحْصَى كُلَّ شيءٍ عدَدًا.
أو هو المحيط الّذي أحاطت قدرته بجميع المقدورات، وأحاط علمه بجميع المعلومات .
رابعا / تأملات في رحاب الاسم الجليل
معنى إحاطة الله بكل شيء:
الله جل جلاله هو المحيط ، وإحاطة الله تعالى بخلقه يراد بها إحاطة علم الله وقدرته وعظمته بخلقه، والعلم والقدرة، قال البيهقي في كتاب الاعتقاد:المحيط: هو الذي أحاطت قدرته بجميع المقدورات، وأحاط علمه بجميع المعلومات، والقدرة له صفة قائمة بذاته، والعلم له صفة قائمة بذاته. اهـ.
وقال الطحاوي في العقيدة الطحاوية: محيط بكل شيء وفوقه ـ قال ابن أبي العز في شرحه: ليس المراد من إحاطته بخلقه أنه كالفلك، وأن المخلوقات داخل ذاته المقدسة، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وإنما المراد: إحاطة عظمة وسعة وعلم وقدرة، وأنها بالنسبة إلى عظمته كالخردلة، كما روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال: ما السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في يد الرحمن، إلا كخردلة في يد أحدكم ـ ومن المعلوم ـ ولله المثل الأعلى ـ أن الواحد منا إذا كان عنده خردلة، إن شاء قبضها وأحاطت قبضته بها، وإن شاء جعلها تحته، وهو في الحالين مباين لها، عال عليها فوقها من جميع الوجوه، فكيف بالعظيم الذي لا يحيط بعظمته وصف واصف، فلو شاء لقبض السماوات والأرض اليوم، وفعل بها كما يفعل بها يوم القيامة، فإنه لا يتجدد به إذ ذاك قدرة ليس عليها الآن. اهـ.
إذن فالله تبارك وتعالى المحيط :
أحاط بكل شيء علما؛ فعلمه محيط بجميع المعلومات والموجودات والخلق جميعا .
وأحاطت قدرته بخلقه إحاطة تامة كاملة، لا يقدرون معها على إعجازه ولا فواته ولا الفرار منه.
وأحاط كل شيء برحمته، فجميع المخلوقات محاطة برحمته جل وعلا بها.
وجزاؤه محيط أيضًا: فجميع أعمال العباد قد أحاط بها، وأحصاها عدًّا،وسيجازيهم عليها.
وإلى التفصيل:
إحاطة علم الله بكل شيء:
قال تَعَالَى: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطلاق: 12]
فالله المحيط الذي أحاط علمه بجميع المعلومات ظاهرها وباطنها، خفيها وجليها، ماضيها وحاضرها ومستقبلها.
وأحاط سمعه بجميع الأصوات سرها وعلنها، قريبها وبعيدها، قال تعالى : ( سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار) [الرعد:10]
وأحاط بصره بجميع الموجودات دقيقها وجليلها، صغيرها وكبيرها، فلا يحجبه عن خلقه ظاهر عن باطن ولا كبير عن صغير ولا قريب عن بعيد، بل هو نافذ العلم والسمع والبصر، لا يغيب عنه أحد، ولا يخفى عليه شيء، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر منها ولا أكبر، قال تعالى : ( وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربم من مثال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين)[يونس 61] وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو عند دخول القرية كما يقول صهيب رضي الله عنه ، أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَرَ قَرْيَةً يُرِيدُ دُخُولَهَا إِلاَّ قَالَ حِينَ يَرَاهَا :
( اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَمَا أَظْلَلْنَ ، وَرَبَّ الأَرَضِينِ السَّبْعِ وَمَا أَقْلَلْنَ ، وَرَبَّ الشَّيَاطِينِ وَمَا أَضْلَلْنَ ، وَرَبَّ الرِّيَاحِ وَمَا ذَرَيْنَ ، فَإِنَّا نَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذِهِ الْقَرْيَةِ وَخَيْرَ أَهْلِهَا ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ أَهْلِهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا ) رواه النسائي في “السنن الكبرى” وصححه الألباني.
وقوله : ” اللهم رب السموات السبع وما أظللن ” فيه توسل إلى الله عز وجل بربوبيته للسموات السبع وما أظلت تحتها من النجوم والشمس والقمر والأرض .
وقوله : ” ورب الأرضين السبع وما أقللن ” من الإقلال ، والمراد : ما حملته على ظهرها من الناس والدواب والأشجار وغير ذلك .
وقوله : ” ورب الشياطين وما أضللن ” من الإضلال ، وهو الإغواء والصد عن سبيل الله.
وقوله : ” ورب الرياح وما ذرين ” ، يقال : ذرته الرياح وأذرته وتذروه ، أي : أطارته.
فعلم الله سبحانه وتعالى تام ، وكامل ، ومحيط بكل شيء ، لم يسبقه جهل ، ولا يلحقه نسيان (وما كان ربك نسياً) [سورة مريم : 64] ، (وأحاط بمالديهم وأحصى كل شيء عدداً) [سورة الجن : 28.]
ويقول : (قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض إنه كان غفوراً رحيماً) [سورة الفرقان : 6.] فما من قول ولا فعل في السر ولا في الجهر ، في السماء ولا في الأرض ، في البحر المحيط الواسع ، أو في الفضاء البعيد العالي إلاَّ يعلمه سبحانه وتعالى بتفاصيله .
وقال تعالى ( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) الأنعام/59 .
فهو سبحانه أحاط علمه بالحبة في ظلمات الأرض ، وبالورقة الساقطة فيها ، وبالرطب واليابس ومثل ذلك وأعظم منه علمه بمكاييل البحار وعدد قطر الأمطار، وما في البر من مثاقيل الجبال وعدد حبات الرمال ، كل ذلك أحاط به الله جل جلاله وتباركت أسماؤه إحاطة كاملة .
وأحاط علمه تبارك وتعالى بذوات خلقه، وبصفاتهم، كما أحاط بجميع أعمالهم: الفعلية بصرًا، والقولية سمعًا، سواء أكانت خيرًا أم شرًّا، حسنة أم قبيحة، ظهرت للناظرين والسامعين أم توارت عنهم، قال تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ [آل عمران: 120]، وقال سُبْحَانَهُ: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا﴾ [النساء: 108]، لم يزل لها محصيًا، عادًا، عالمًا بها، لا تخفى عليه ولا تغيب .
وقال -تعالى- في ذكر وصايا لقمان لابنه: (يَا بُنَىَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ)[لقمان:16].
لقد بينت هذه الآية على سعة علم الله وإحاطته بكل شيء, لا تخفى عليه خافية، فلو صغرت الحسنات والسيئات فكانت مثل حبة الخردل، وكانت في بطن صخرة صماء، أو كانت في أرجاء السماوات، أو في أطراف الأرض؛ لعلم الله مكانها وأتى بها -سبحانه- لسعة علمه، وتمام خبرته, وكمال قدرته، ولهذا قال: (إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ)؛ أي: لطف في علمه وخبرته، فلا إله إلا الله الذي أحاط علمه بكل شيء، حتى اطلع على البواطن والأسرار، وخفايا القفار والبحار, والمسلم إذا تدبّر هذه الآية، واستشعر معانيها؛ فإنّه يوقن أنّ الله يراه ويراقبه في كل حين.
توضيح للآية {إنه يَعْلَمُ الجهر مِنَ القول وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ}:
توقف البعض عند قوله تعالى: {إنه يَعْلَمُ الجهر مِنَ القول وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} [الأنبياء: 110] فقالوا: الله يمتنُّ بعلم ما نكْتُم، فكيف يمتنُّ بعلم الجهر، وهو معلوم للجميع؟
ونقول: أولا الحق سبحانه يعلم الجهر والسر يعلم الجميع وهذا من كماله سبحانه وتعالى فلا يظن أحد أنه يعلم السر ويخفى عليه الجهر .
ثانيا :الله عز وجل لا يخاطب فرداً، إنما يخاطب جماعة، فهو يعلم جَهْر الجماعة في وقت واحد، فهل تستطيع مع اختلاط الأصوات وتداخلها أن تُميِّز بينها، وتُرجع كل كلمة إلى صاحبها؟ إنك لا تستطيع، مع أن هذا جهر يسمعه الجميع، أما الحق – تبارك وتعالى – فيعلم كل كلمة، ويعلم مَنْ نطق بها ويردّ كل لفظ إلى صاحبه.
إذن: من حقه تعالى أن يمتنَّ بعلم الجهر، بل إن عِلْم الجهر أعظم من علْم السرِّ وأبلغ.
ولذلك لما قال المشركون: أسروا قولكم لئلا يسمع إله محمد . أنزل الله -( وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور )- [الملك/13] كليهما السر والعلانية عند الله سواء -( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير )- [الملك/14] فهو الذي خلقنا ويعلم ما بصدورنا -(عليم بذات الصدور )- [الحديد/6] و -( إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء )- [آل عمران/5] و -( يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور )- [غافر/19] هذا هو رب العالمين سبحانه وتعالى .
فيستوى عند الله أن يكون الشيء في مضيق صخرة ،أو في فضاء متسع في السموات أو في الأرض فلا يغيب عن الله عز وجل .
وإذا علم العبد أن الله عز وجل رب كل شيء ومليكه ، وأنه سبحانه بكل شيء محيط ، وأن قدرته سبحانه شاملة لكل شيء ، ومشيئته سبحانه نافذة في كل شيء ، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ، لجأ إليه وحده ، واستعاذ به وحده ، ولم يخف أحدا سواه .
يقول الشاعر:
يا من يرى مد البعوض جناحها *** في ظلمة الليل البهيم الأليل
ويرى مناط عروقها في نحرها *** والمخ من تلك العظام النحل
ويرى خرير الدم في أوداجها *** متنقلا من مفصل في مفصل
ويرى وصول غذى الجنين ببطنها*** في ظلمة الأحشا بغير تمقل
ويرى مكان الوطء من أقدامها *** في سيرها وحثيثها المستعجل
ويرى ويسمع حس ما هو دونها*** في قاع بحر مظلم متهول
أمنن علي بتوبة تمحوا بها *** ما كان مني في الزمان الأول
إحاطة القدرة:
فالله هو المحيط الذي أحاطت قدرته بخلقه إحاطة تامة كاملة، لا يقدرون معها على إعجازه ولا فواته ولا الفرار منه، قال تَعَالَى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ﴾ [الإسراء: 60]،أي أحاطت قدرته بهم، فهم في قبضته لا يقدرون على الخروج من مشيئته.
وقال سُبْحَانَهُ: ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ﴾ [البروج: 19،20]، فليس لهم ملاذ يلوذون به عنه، ولا ملجأ يلجأون إليه، بل لا ملجأ منه إلا إليه، ولا مهرب منه إلا إليه، ولا مفر منه، بل المفر إليه، قال تَعَالَى: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الذاريات: 50]
ثم إن الملوك والجبابرة وإن عظمت سطوتهم، وعظم ملكهم، وكثر جندهم، واشتد جبروتهم، وتفاقم طغيانهم، فإن الله لهم بالمرصاد، قد أحاط بهم، وأحصى وراقب كل حركاتهم وسكناتهم، ليس لهم خروج عن قدرته، ولا يستطع أحد منهم أن يعجزه، بل نواصيهم بيده ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾ [إبراهيم: 42]
إحاطة الرحمة:
فالله المحيط الذي أحاط كل شيء برحمته، فالعالم العلوي والسفلي وجميع المخلوقات محاطة برحمة الرحمن الرحيم بها، أسبغ عليهم نعمه الظاهرة والباطنة، وصرف عنهم المضار والمكاره، وبها دبرهم أنواع التدبير، وصرفهم بأنواع التصريف، وبها امتلأت القلوب بالرحمة حتى حنت المخلوقات بعضها على بعض، إلى غير ذلك من آثار رحمة الله المحيطة بالخلق في الدنيا.
ثم إن رحمة المحيط أحاطت بالخلق حتى في الآخرة، بل هي في الآخرة أعظم منها في الدنيا، حتى قال ﷺ: «وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللهِ مِنَ الرَّحْمَةِ مَا قَنَطَ مِنْ جَنَّتِهِ أَحَدٌ» ( أخرجه مسلم)، وقال أيضًا : «إِنَّ لِلهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِّ، فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ، وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ، وَبِهَا تَعْطِفُ الْوَحْشُ عَلَى وَلَدِهَا، وَأَخَّرَ اللهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» أخرجه مسلم.
إحاطة الجزاء:
ولما كان ربنا جل جلاله محيطًا؛ كان جزاؤه تبارك وتعالى محيطًا أيضًا: فجميع أعمال العباد قد أحاط بها، وأحصاها عدًّا، وعلم مقدارها، ومقدار جزائها في الخير والشر، ويجازيهم عليها أتم الجزاء، بما يقتضيه عدله ورحمته ثم إن جزاءه محيط، فإذا نزل عذابه على قوم أحاط بهم، فلم يفت منه أحد، ولم يُبق منهم أحد، ولم ينجو إلا من أمر الله بإنجائه ، ولذا قال شعيب لقومه: ﴿يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ﴾ [هود: 84]، وقال الله في بيان إحاطة عذابه النازل بالأمم المكذبة من قوم نوح، وعاد، وثمود، وفرعون، وغيرهم من المعاندين المكذبين: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا﴾ [مريم: ٩٨] «والركز: الصوت الخفي، أي: لم يبق منهم عين ولا أثر، بل بقيت أخبارهم عبرة للمعتبرين.
هذا فرعون كيف أحاط الله به؟! وهو الملك وعنده الجنود والأموال والأتباع والسحرة والقصور والأنهار؛ قتّل أبناء بني إسرائيل فأراد الله أن يذله ويحقره فولد موسى -عليه السلام- وتربى وترعرع في قصر عدوه فرعون؛ إنها إحاطة الله بأوليائه رعاية ورحمة, وإحاطته -سبحانه- بأعدائه استدراج وعذاب.
وحين أرسل الله موسى إلى فرعون فشكا له موسى جبروت فرعون، وظلمه وبطشه فقال الله: (لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)[طه:46]، ثم بين الله نهاية فرعون وجنوده، وهكذا نهاية كل ظالم (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ)[القصص:39-40].
وحكى الله عن إحاطته بالأمم الظالمة الطاغية السابقة، فقال: (وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُواْ الصَّخْرَ بِالْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْاْ فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ)[الفجر:9-14]
ثم إنه سُبْحَانَهُ في الآخرة محيط بخلقه، فيبعثهم جميعًا، لا يتخلف منهم أحد، ولا ينسى منهم أحدًا، ولا يمتنع منهم أحد ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا﴾ [مريم: 93:95].
خامسا / ثمار الإيمان بالاسم الجليل
1- الإيمان بأن الله جل وعلا أحاط بكل شيء علما؛ فعلمه محيط بجميع المعلومات والموجودات والخلق جميعا ، وأحاطت قدرته بخلقه إحاطة تامة كاملة، لا يقدرون معها على إعجازه ولا فواته ولا الفرار منه، وأحاط كل شيء برحمته، فجميع المخلوقات محاطة برحمته جل وعلا بها، وجزاؤه محيط أيضًا: فجميع أعمال العباد قد أحاط بها، وأحصاها عدًّا،وسيجازيهم عليها.
2- اسم الله المحيط يُثمِر في قلب العبد تعظيم الله تعالى ومعرفة كمال صفاته، وأنه سبحانه لا يغيب عنه شيء في الكون، وأنه مهما تآمر الكافرون وأعداء الدين وخطّطوا ودبّروا فإن الله تعالى محيطٌ بهم، قادرٌ على إحباط مكايدهم وصدّ شرورهم، فمتى تأمَّل العبد معاني هذا الاسم ودلالاته أورثه إيماناً بالله تعالى ويقيناً به وثقةً بوعده.
3- إذا حصل الصبر والتقوى من المؤمنين فلن يضرهم كيد الكائدين؛ لأن الله – عز وجل – بما يعملون ويكيدون محيط، قال -سبحانه-: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)[آل عمران:120]
4- أن الإيمان بإحاطة الله -سبحانه- إحاطة علم وقدرة وقهر لكل شيء، تثمر في القلب الاستهانة بقوة المخلوق من الأعداء الكفرة والمنافقين بعد الأخذ بأسباب المدافعة لشرهم؛ لأن الله -عز وجل- محيط بهم وقاهر لهم.
5- أنَّ الله تعالى مُحيط بعباده، لا يَقْدرون على فَوْته أو الفرار منه، بل لا مَلْجأَ منه إلا إليه ، وكلّ شيءٍ تَخافُ منه تفرُّ منه؛ إلا الله تعالى، فإنك تفرُّ إليه. قال سبحانه: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ) (الذاريات: 50). وذلك لتمام وكمال قدرته سبحانه وتعالى.
6-الإيمان بهذا الاسم يغرس في قلب المسلم مراقبة الله تعالى في السر والعلن، فإحاطة الله تعالى بكل شيء علماً واطلاعاً تستوجب من العبد عدم مخالفة أوامر الله تعالى أو الوقوع في معاصيه، وتحثه على إحسان العمل وإتقانه.
7- إذا تأمل العبد في اسم الله «المحيط»، وما فيه من إحاطة علم الله بجميع عمله، وإحاطة قدرته به؛ خاف من أن يظلم أحدًا، أو يعتدي عليه بقول أو فعل أو ظن سوء.
8- إذا تعرف العبد على اسم ربه «المحيط» وتأمل ما فيه من صفات الكمال والجلال؛ قاده ذلك إلى محبته سُبْحَانَهُ؛ إذ القلوب فطرت على محبة من له الكمال.
ثم إذا تأمل- أيضًا- ما فيه من إحاطة الله لأوليائه بالحفظ والرعاية والنصر على الأعداء؛ زاده ذلك حبًّا وتعلقًا بربه المحيط.