شرح أسماء الله الحسنى
93- الرفيق
أولا /المعنى اللغوي:
الله تعالى هو الرفيق: أي الكثير الرفق ، و”الرفيق” مأخوذ من الرفق وهو التأني في الأمور والتدرج فيها، وضده العنف الذي هو الأخذ فيها بشدة واستعجال، والرفق لين الجانب ولطافة الفعل، وهو اللين وهو التسهيل، وقد يجيء الرفق بمعنى : الإرفاق ، وهو إعطاء ما يرتفق به، وقد يجيئ الرفق أيضا بمعنى : التمهل في الأمور والتأني فيها.
ثانيا / وروده في السنة:
لم يرد اسم الله “الرفيق” في القرآن الكريم وإنما ورد في السنة النبوية: في حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “يا عائشة! إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق مالا يعطي على العنف، ومالا يعطي على سواه” رواه مسلم.
ثالثا / المعنى في حق الله تعالى
الله تعالى هو الرفيق بعباده، رفيق فيما شرع، رفيق فيما يأمر، رفيق فيما ينهى، رفيق جل وعلا في توبته على عباده، رفيق في ابتلائه واختباره، رفيق في شرعه.
رابعا / تأملات في رحاب الاسم الجليل
في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله)؛ متفق عليه.
وقوله: (إن الله رفيق) معناه: ليس بعجول، وإنما يعجل من يخاف الفوت، فأما من كانت الأشياء في قبضته وملكه، فليس يعجل فيها.
وقوله: (يحب الرفق)، يعني: يحب ترك العجلة في الأعمال والأمور، فالناس يعجلون الأمور؛ لأنهم يخافون أن تفوت عليهم، وتضيع منهم، والله تعالى لا يعتريه فوت، ولا يخشى ضياع شيء؛ لأنه مالك كل شيء.
رفيق في تشريعه:
والله تعالى رفيق في تشريعه، فلم ينزل الأحكام والأوامر والنواهي جملة واحدة، ولو شاء لفعل، فشرع لنا من الشرائع ما نقوى عليه، ومن العبادات ما نطيقه ونقدر عليه، حتى إذا علم منا عدم القدرة، أو شدة المشقة، ترفق بنا، فتدرج معنا، حتى تألف العبادة نفوسنا، وتأنس بها طباعنا، كما فعل سبحانه في فرضية الصيام، وفي تحريم الخمر والربا وغيرهما، ﴿يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر﴾ [البقرة: 185]
ومن آثار رفقه سبحانه بعباده: ما شرع لهم من الرخص الشرعية التي ترفع عنهم الحرج، كالتيمم عند فقد الماء أو العجز عن استعماله وكقصر الصلاة للمسافر؛ قال الله تعالى: ﴿ وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ﴾ [النساء: 101]،والفطر للمريض والمسافر في رمضان، قال الله تعالى: ﴿ فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ﴾ [البقرة: 184]
رفقه بالعصاة:
والله تعالى رفيق بالمخالفين الخطائين، يمهل من عصاه ليتوب إليه، ولو شاء لعجل بعقوبته، لكنه رفق به وتأنى، وحلم عليه، يقول تعالى: ﴿وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا﴾ [الكهف: 58]، ويقول سبحانه: ﴿ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون﴾ [النحل: 61] فلا يعجل بعقوبتهم حتى ينذرهم، ويأخذ العهد عليهم ويمهلهم، لعلهم يرجعون إلى الله بالتوبة، ويندمون على ما فعلوا ؛ قال تعالى: ﴿إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما﴾ [الفرقان: 70] ، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها) رواه مسلم.
رفقه بتيسير القرآن:
والله تعالى رفيق في تذليل قرآنه وتيسيره، فأنزله سبحانه في ثلاث وعشرين سنة، حتى يستوعبه الرعيل الأول من الصحابة، فيعمل بمقتضاه على بصيرة وعلم؛ قال تعالى: ﴿وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا﴾ [الإسراء: 106]، ثم يسره الله تعالى للقراءة والحفظ، وهيأ المسلم لأن يحفظه بسهولة ويسر؛ قال تعالى: ﴿ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر﴾ [القمر: 17]،
رفقه في أقداره:
ومن رفقه سبحانه بعباده أنه يهيئ عباده لما يريد بهم من عظيم أقداره، فتراه يسوق من الأحداث ما يكون توطئة لهذه الأقدار قبل نزولها، إذ لو هجمت عليهم فجأة دون مؤشرات أومبشرات لكان فيها اختلال أحوالهم، أو ذهاب عقولهم، أو هلاك نفوسهم، ولكنه لكمال علمه بضعف عباده وكمال رحمته ولطفه يسوق المقادير شيئا فشيئا، وهو القادر -لو شاء- أن يجعل خلقه وأمره يحدث في لحظة، ولكن حكمته لا تبلغها الأفهام.
وهذا نبينا صلى الله عليه وسلم -والذي كان من أكمل الناس عقلا وأقواهم نفسا- هيأه الله للنبوة شيئا فشيئا فلم تهجم عليه مرة واحدة، وإنما ساق بين يديها من الأقدار ما يكون توطئة لها، وهذا ما سماه العلماء : إرهاصات النبوة؛ فقد مكث قبل نزول الوحي ستة أشهر يرى الرؤيا فتقع مثل فلق الصبح، حتى جاءه جبريل -عليه السلام- بما جاءه من كرامة الله وهو في غار حراء، فكان لهذا الحدث العظيم أثرا بليغا عليه صلى الله عليه وسلم ؛ إذ رجع وفؤاده يرجف من هول ما رأى وسمع، حتى دخل على خديجة وهو يقول: (إني خشيت على نفسي)، أي خاف على نفسه الهلاك من شدة الرعب، فما ظننا بحاله لو هجمت عليه النبوة فجأة من دون مقدمات وممهدات؟!
وكذلك ما مهده لمريم الصديقة في الرزق الذي يأتيها بلا سعي ولا سبب، حتى ذكر بعضهم أنها ترزق بالطعام في غير أوانه دون أن يأتي به كفيلها المسؤول عنها نبي الله زكريا- عليه السلام- (كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا)، فكان خرق العادة في رزقها تمهيدا لخرق العادة في حملها، وزيادة في يقينها وإيمانها وصبرها.ه كحالمن يقاد إلى الجنة رغما عنه، و (عجب ربك من أناس يقادون إلى الجنة بالسلاسل)،
ومن مشاهد رحمة الله ورفقه عند البلاء ما يهيء لعباده من أسباب الصبر والرضا قبل نزول البلاء وبعد نزوله، وتختلف هذه الأسباب تبعا لاختلاف البلاء وشدته، وكلما كان البلاء عظيما كانت أسباب الثبات التي يسوقها الله لعباده أكثر وأعظم، فهذا عثمان رضي الله عنه يبشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة على بلوى تصيبه، وكانت هذه البشارة والتثبيت قبل نزول البلاء بنحو من ثلاثين سنة، ولا زال النبي صلى الله عليه وسلم يتعاهده بالتثبيت حتى في مرض موته، وقبل أن يفارق الدنيا، فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى عثمان، فجاء، فخلا به، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمه ووجه عثمان يتغير، فكان من آخر ما كلمه أن ضرب على منكبه وقال: (يا عثمان: إن الله عز وجل عسى أن يلبسك قميصا، فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه حتى تلقاني) كررها عليه ثلاثا زيادة في التأكيد وإمعانا في التثبيت.
ولا يزال الرفيق -تبارك وتعالى- يتولى ذا النورين بالعناية والرفق والتأييد حتى بعد نزول الفتنة، فقد ورد عنه أنه قال قبل موته: (إني رأيترسول الله صلى الله عليه وسلم البارحة في المنام، ورأيت أبا بكر وعمر، وإنهم قالوا لي: اصبر؛ فإنك تفطر عندنا القابلة، ثم دعا بمصحف، فنشره بين يديه، فقتل وهو بين يديه)
ومتى ما رأى العبد أن الله يبعث في طريقه أمورا تعينه على الصبر أيام بلائه، فليعلم أنه قد أراد أن يبلغه، ولو أراد أن يقطعه؛ ما تابع عليه المدد!
ومن رأفة الله ورفقه بالمكروبين، أنه لا يفجؤهم بالفرج وهم في عمق البلاء، بل يسوق بين يدي رحمته ما يشعر بحصولها أو قرب وصولها (ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف)، وذلك حتى لا يهجم عليهم الفرح وهم في شدة الحزن فيكون في ذلك ذهاب عقولهم أو هلاك نفوسهم.
غير أن هاهنا ملحظا لطيفا أختم به، وهو أن هذه البشارات قد تكون قبل مجيء الفرج بزمن بعيد، وذلك حتى لا يهلك العبد غما، أو يموت أسفا من شدة ما يلقاه من البلاء، فتأتي هذه البشارات لكي تنتشله كلما أشرف على الهلاك أو انقطعت به السبل، ولأجل أن يحفظ الله جذوة حسن الظن به في نفس عبده المؤمن، لأن سوء الظن بالله واليأس من رحمته عذاب لا يصب على قلب مؤمن أبدا (إنه لا ييأس من روح الله إلاالقوم الكافرون)[يوسف:87]
خامسا / ثمار الإيمان بالاسم الجليل
1-إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله:
الحرص على نيل ثواب الرفق؛ لأن الله سبحانه رفيق يحب الرفق، ويجازي عليه بثواب الدنيا والآخرة، ومن ذلك: تحريم النار على كل لين سهل رفيق: قوله صلى الله عليه وسلم : «ألا أخبركم بمن يحرم على النار أو بمن تحرم عليه النار على كل قريب من الناس هين سهل» (أخرجه أحمد)
وفي الحديث أيضا: «من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير، ومن حرم حظه من الرفق فقد حرم حظه من الخير» ، وقال صلى الله عليه وسلم : «من يحرم الرفق يحرم الخير»
والرفق يزين الأشياء كلها:ففي الحديث: «ما كان الفحش في شيء إلا شانه، وما كان الحياء في شيء إلا زانه»
وكان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أرفق الناس، ومن شواهد ذلك:عن أنس قال: (أن أعرابيا بال في المسجد فقاموا إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تزرموه، ثم دعا بدلو من ماء فصب عليه) رواه البخاري
وعن أنس أنه قال: (كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة، حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد، مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ضحك، ثم أمر له بعطاء) رواه البخاري ومسلم.
2- الرفق في أخذ الدين، وعدم التشدد:
فالإسلام دين يسر وسهولة، لا يكلف بما لا يطاق، والنبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن تكليف النفس فوق ما تطيق ولو كانت عبادة، يقول صلى الله عليه وسلم : «إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة)، وفي الحديث عن أنس بن مالك، قال: «جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟! قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) رواه البخاري
3- من الرفق في الدين:قبول الرخص الشرعية:
واستشعار العبودية في ذلك، وابتغاء محبته ورضاه، فعن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تترك معصيته) أخرجه ابن خزيمة، وقال الألباني: حسن صحيح، صحيح الترغيب والترهيب.
4- الرفق بأهل البيت خاصة:
فإن أولى الناس بالحلم والرفق واللين: الأهل وذوو الأرحام، يقول صلى الله عليه وسلم في ذلك: (إذا أراد الله بأهل بيت خيرا أدخل عليهم الرفق) أخرجه أحمد، ويقول: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي» أخرجه الترمذي
5- من رفق بالناس رفق الله به:
وقد دعا صلى الله عليه وسلم لمن يتولى أمر المسلمين ويرفق بهم في قوله: «ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به» أخرجه مسلم.
ويقول ابن القيم: «من رفق بعباد الله رفق الله به، ومن رحمهم رحمه، ومن أحسن إليهم أحسن إليه، ومن جاد عليهم جاد الله عليه، ومن نفعهم نفعه، ومن سترهم ستره، ومن منعهم خيره منعه خيره، ومن عامل خلقه بصفة عامله الله بتلك الصفة بعينها في الدنيا والآخرة، فالله تعالى لعبده حسب ما يكون العبد لخلقه» (الوابل الصيب، لابن القيم (ص: 35)
6- الرفق بالعصاة:
وموقف النبي صلى الله عليه وسلم مع النعيمان في نهي الصحابة عن لعْنِه رغم شربه للخمر وإقامة الحدِّ عليه. فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أن رجلاً على عهْدِ النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله، وكان يُلَقَّبُ حِمَاراً، وكان يُضحِكُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم قدْ جلدَه في الشَّراب (الخمر)، فأُتيَ به يوماً فأمَرَ بِهِ فجُلِدَ، فقال رجلٌ مِن القوم: اللَّهُمَّ العَنْه، ما أكثر ما يُؤتَى به؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تَلْعَنُوه، فوالله ما عَلِمْتُ إلَّا أنه يُحِبُّ اللهَ ورسولَه) روه البخاري. وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم لمن لعَنَه: (لا تلعنْه فإنه يحبُّ اللهَ ورسولَه).
وعن عبد الله بن مسعود ، قال: «إذا رأيتم أخاكم قارف ذنبا، فلا تكونوا أعوانا للشيطان عليه، أن تقولوا: اللهم أخزه، اللهم العنه، ولكن سلوا الله العافية، فإنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كنا لا نقول في أحد شيئا، حتى نعلم على ما يموت، فإن ختم له بخير علمنا – أو قال: رجونا – أن يكون قد أصاب خيرا، وإن ختم له بشر، خفنا عليه عمله»
7- الرفق بالحيوان:
أن يدفع عنه أنواع الأذى، كالعطش والجوع، والمرض، والحمل الثقيل، فعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينا رجل يمشي، فاشتد عليه العطش، فنزل بئرا فشرب منها، ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خفه ثم أمسكه بفيه، ثم رقي فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له، قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرا؟ قال: في كل كبد رطبة أجر» أخرجه البخاري، ومسلم.
فاللهم ارزقنا الرفق في الأمور كلها، وارفق بنا، واشملنا بعطفك ورحمتك وغفرانك،
اللهم ارزقنا الحلم والأناة، واهدنا إلى ما تحبه من الأعمال والأخلاق.