شرح الأربعون النووية: 37- إن الله كتب الحسنات والسيئات

تاريخ الإضافة 30 أكتوبر, 2024 الزيارات : 21

شرح الأربعون النووية

37 إن الله كتب الحسنات والسيئات

عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى قال: (إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك، فمن همَّ بحسنةٍ فلم يعملها كتبها الله عنده حسنةً كاملةً، وإن همَّ بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسناتٍ إلى سبعمائة ضِعفٍ، إلى أضعافٍ كثيرةٍ، وإن همَّ بسيئةٍ فلم يعملها كتبها الله عنده حسنةً كاملةً، وإن همَّ بها فعملها كتبها الله سيئةً واحدة) رواه البخاري ومسلمٌ .

الشرح 

(إن الله كتب ) أي: أنه- سبحانه- أمر الحفظة بكتابتها في اللوح المحفوظ.

التعريف بالملائكة الكتبة :

وكل الله نوعا من الملائكة هم الملائكة الكتبة لحفظ أعمال بني آدم من خير وشرّ ، وهؤلاء هم المعنيون بقوله تعالى : ( وإنَّ عليكم لحافظين – كراماً كاتبين – يعلمون ما تفعلون ) [ الانفطار : 10-12 ] .
وقد وكل الله بكل إنسان ملكين حاضرين ، لا يفارقانه ، يحصيان عليه أعماله وأقواله : ( ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد – إذ يتلقَّى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيدٌ – مَّا يلفظ من قول إلاَّ لديه رقيب عتيد ٌ ) [ ق : 16-18 ] .

( رقيب ) مراقب ليلاً ونهاراً ، لا ينفك عن الإنسان .

( عتيد ) حاضر ، لا يمكن أن يغيب ويوكل غيره ، فهو قاعد مراقب حاضر ، لا يفوته شيء.

رقيب وعتيد وصف لكلا الملكين وليس اسما :

يقول الدكتور عمر سليمان الأشقر حفظه الله :” يذكر بعض العلماء أن من الملائكة من اسمه رقيب وعتيد ، استدلالاً بقوله تعالى : ( ما يلفظ من قولٍ إلاَّ لديه رقيب عتيدٌ ) وما ذكروه غير صحيح ، فالرقيب والعتيد هنا وصفان للملكين اللذين يسجلان أعمال العباد ، ومعنى رقيب وعتيد ؛ أي : ملكان حاضران شاهدان ، لا يغيبان عن العبد ، وليس المراد أنهما اسمان للملكين ” من كتاب” عالم الملائكة الأبرار ” (ص/12)

صاحب اليمين يكتب الحسنات والآخر السيئات :
عن أبي أمامة : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن صاحب الشمال ليرفع القلم ست ساعات عن العبد المسلم المخطئ ، فإن ندم واستغفر الله منها ألقاها ، وإلا كتب واحدة ) والحديث حسنه الشيخ الألباني في “السلسلة الصحيحة” (1209)

وقال ابن رجب  في جامع العلوم والحكم ( ص134) :” وقد أجمع السلف الصالح على أن الذي عن يمينه يكتب الحسنات ، والذي عن شماله يكتب السيئات “. اهـ

(الحسنات والسيئات)الحسنات” هي ما يُحمد فاعلها شرعًا، ويتعلق بها الثواب.
السيئات” هي ما يُذم فاعلها شرعًا، ويتعلق بها العقاب.

(ثم بين ذلك) ثم بَيَّنَ حالهما وعَيَّنَ مقدارهما على التفصيل الآتي.

والمُبَيَّنُ لهم يُحتمل أنهم:

1-الكرام الكاتبين؛ ليستغنوا بذلك عن استفساره.

2- أو للثقلين.

(فمن همَّ بحسنةٍ )هم” يعني: أرادها وترجَّح عنده فعلها.

قال ابن عثيمين: “واعلم أن من همّ بالحسنة فلم يعملها على وجوه:
الوجه الأول: أن يسعى بأسبابها ولكن لم يدركها، فهذا يُكتب له الأجر كاملاً؛ لقوله تعالى: (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) [النساء: 100] وكذلك الإنسان يسعى إلى المسجد ذاهبًا يريد أن يصلي صلاة الفريضة قائمًا، ثم يعجز أن يصلي قائمًا، فهذا يُكتب له أجر الصلاة قائمًا؛ لأنه سعى بالعمل ولكنه لم يدركه.

الوجه الثاني: أن يهمّ بالحسنة ويعزم عليها، ولكن يتركها لحسنة أفضل منها، فهذا يُثاب ثواب الحسنة العُليا التي هي أكمل، ويُثاب على همّه الأول للحسنة الدنيا. ودليل ذلك أن رجلًا أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين فتح مكة، وقال: “يا رسول الله، إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس؟”، فقال صلى الله عليه وسلم: “صلِّ ها هنا”. فكرر عليه، فقال له: “شأنك إذًا” (أخرجه أبو داود، وسكت عنه المنذري، وصححه الحاكم والحافظ تقي الدين ابن دقيق العيد.). فهذا انتقل من أدنى إلى أعلى.

الوجه الثالث: أن يتركها تكاسلًا، مثل أن ينوي أن يصلي ركعتي الضحى. فقرع عليه الباب أحد أصحابه وقال له: “هيا بنا نتمشى”، فترك الصلاة وذهب معه يتمشى. فهذا يُثاب على الهمّ الأول والعزم الأول، ولكن لا يُثاب على الفعل؛ لأنه لم يفعله بدون عذر، وبدون انتقال إلى ما هو أفضل (شرح ابن عثيمين للأربعين النووية (ص 369، 370).).

وعن أبي الدرداء قال: “من أتى فراشه وهو ينوي أن يصلي من الليل فغلبته عيناه حتى يصبح، كُتِبَ له ما نوى“.
وعن سعيد بن المسيب قال: “من همَّ بصلاة أو صيام أو حج أو عمرة أو غزو فحيل بينه وبين ذلك، بلَّغه الله تعالى بما نوى“.

ومتى اقترن بالنية قول أو سعي، تأكد الجزاء، والتحق صاحبه بالعامل، كما روى أبو كبشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالًا وعلمًا فهو يتقي فيه ربَّه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقًا، فهذا بأفضل المنازل. وعبد رزقه الله علمًا ولم يرزقه مالًا، فهو صادق النية، يقول: لو أن لي مالًا لعملت بعمل فلان، فهو بنيته، فأجرهما سواء. وعبد رزقه الله مالًا ولم يرزقه علمًا، فهو يَخْبِطُ في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربَّه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقًا، فهذا بأخبث المنازل. وعبد لم يرزقه الله مالًا ولا علمًا، فهو يقول: لو أن لي مالًا لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، فوزرهما سواء” (3).

وحمل قوله: “فأجرهما سواء” على استوائهما في أصل الأجر على العمل، لا في ثبوت التضعيف لمن لم يعمل. وثبوت التضعيف خلاف المنصوص عليه، فالمضاعفة يختص بها من عمل العمل دون من نواه. قال تعالى: (فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً، وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى، وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء: 95-96].

ومراتب ما يقع في النفس خمسة:

  1. الهاجس: ما يُلقى في النفس أولًا، ولا مؤاخذة به.
  2. الخاطر: إذا جرى في النفس، ولا مؤاخذة به.
  3. حديث النفس: إذا تردد بفعله أو لا.
  4. الهمّ: قصد الفعل قصدًا راجحًا، وهو ما في الحديث.
  5. العزم: المقارن للفعل.

(فلم يعملها كتبها الله عنده حسنةً كاملةً) قوله: “فلم يعملها”:لسببٍ طرأ أو لكسلٍ أو نحو ذلك؛ وكُتِبَ الهمُّ حسنة؛ لأنه سبب لعملها وسبب الخير خير”كاملة”: وُصِفَت بالكمال؛ لئلا يتوهم أن كونها مجرد همّ ينقص ثوابها.

(وإن همَّ بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسناتٍ إلى سبعمائة ضِعفٍ) وهذا التضعيف ملازم لكل حسنة، كما دل عليه قوله تعالى: (مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) [الأنعام: 160] وهذا أقل ما وُعِدَ به من التضعيف، وقد تقع المضاعفة إلى ما شاء الله تعالى، كما قال في الحديث: “إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة“.كمافي قوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 261] فدلت هذه الآية على أن النفقة في سبيل الله تُضاعَف بسبعمائة ضعف.
والضعف: بكسر الضاد، يعني المثل، واستُعْمِل في المثل وما زاد عليه، وذلك بحسب إخلاص النية وصدقها.

وفي حديث أبي مسعود قال: جاء رجل بناقة مخطومة، فقال: يا رسول الله، هذه في سبيل الله، فقال: “لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة” ( أخرجه البخاري، ومسلم ).

وهذا الثواب عام في جميع الطاعات الواجبة أو المندوبة.

(إلى أضعافٍ كثيرةٍ)بحسب الزيادة في الإخلاص والصدق فيه، وبحسب فضل العمل وقوة العزيمة وحضور القلب وتعدي النفع؛ كالصدقة والعلم والسنة الحسنة، ونحو ذلك.

وإنما أُبهم التضعيف؛ لأنَّ ذكر المبهم في مقام الترغيب والترهيب أقوى في الحث.

 وهناكَ أعمالٌ يتضاعف أجره أضعافا كثيرة: 

مثل :

1- الصوم : فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم :” قال اللهُ: كلُّ عملِ ابنِ آدمَ لهُ إلا الصيامَ ، فإنَّه لي وأنا أُجْزي بهِ,والصيامُ جُنَّةٌ ، وإذا كان يومُ صومِ أحدِكُم فلا يَرْفُثْ ولا يَصْخَبْ ، فإنْ سابَّه أحدٌ أو قاتَلَهُ فلْيقلْ : إنِّي امْرُؤٌ صائمٌوالذي نفسُ محمدٍ بيدهِ لَخَلوفِ فمِ الصائمِ أطيبُ عندَ اللهِ من ريحِ المسكِ ، للصائمِ فَرْحتانِ يفرَحْهُما إذا أَفطرَ فَرِحَ ، وإذا لقي ربَّه فَرِحَ بصومِهِ “رواه البخاري

 وفي رواية عند الإمام أحمد :  “يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ كلُّ عمَلِ ابنِ آدمَ له إلا الصيامَ فهو لِي وأنا أجزِي بِهِ إنَّمَا يتْرُكُ طعامَهَ وشَرَابَهُ مِن أجْلِي فصيامُهُ لَه وأنا أجزِي بِه كلُّ حسنةٍ بعشرِ أمثالِهَا إلى سبعمائِةِ ضعفٍ إلا الصيامَ فهو لِي وأنا أجزِي بِهِ”

والمراد بقوله : ( وأنا أجزى به ) أني أنفرد بعلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته .

قال القرطبي : معناه أن الأعمال قد كشفت مقادير ثوابها للناس وأنها تضاعف من عشرة إلى سبعمائة إلى ما شاء الله إلا الصيام فإن الله يثيب عليه بغير تقدير . ويشهد لهذا رواية مسلم  عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : إِلا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ ) أي أجازي عليه جزاء كثيرا من غير تعيين لمقداره ، وهذا كقوله تعالى : ( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) .

فإذا تولى الكريم سبحانه وتعالى الجزاء والهدية والعطية، فاعلم أنها لا منتهى لها.

2- دعاءُ السُّوقِ، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَن دَخَلَ السُّوقَ فقالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ حَيٌّ لاَ يَمُوتُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، كَتَبَ اللهُ لَهُ أَلْفَ أَلْفَ حَسَنَةٍ، وَمَحَا عَنْهُ أَلْفَ أَلْفَ سَيِّئَةٍ، وَرَفَعَ لَهُ أَلْفَ أَلْفَ دَرَجَةٍ، وَبَنَى لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ). 

3-الصدقة : دَلَّ عليهِ قولُهُ تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261]. فَدَلَّتْ هذهِ الآيَةُ على أنَّ النفقةَ في سبيلِ اللَّهِ تُضَاعَفُ بِسَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ. 

وفي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ): عنْ أبي مسعودٍ قالَ: جَاءَ رَجُلٌ بنَاقَةٍ مَخْطُومَةٍ فَقَالَ: يا رسولَ اللَّهِ، هذهِ في سبيلِ اللَّهِ، فقالَ: (لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبْعُمِائَةِ نَاقَةٍ).
وهذا كله يدل على أن العدد المذكور العشرة والسبعمائة ليس للتحديد؛ لورود التضعيف بما هو أكثر من ذلك.

مضاعفة ثواب الحسنات تكون بأمور، منها:
الأول: باعتبار الزمان، مثاله قول النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأول من ذي الحجة: “ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر”، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: “ولا الجهاد في سبيل الله” (أخرجه أحمد).
ومن ذلك قوله تعالى: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) [القدر: 3].

الثاني: باعتبار المكان، ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام” ( أخرجه البخاري، ومسلم ).

الثالث: باعتبار العمل، فقد قال الله تعالى في الحديث القدسي: “ما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، فالعمل الواجب أفضل من التطوع”. كذلك كلما كانت الحاجة إلى العمل أكبر وكان نفعه وتعدي ذلك النفع للآخرين أكبر، كلما كان ثوابه أعظم. ومن هنا كان لكل وقت فرضه وفضله المطلوب فيه، فلزم مراعاة ذلك .

الرابع: باعتبار العامل، قال النبي صلى الله عليه وسلم عن خالد بن الوليد وقد وقع بينه وبين عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما ما وقع: “لا تسبوا أصحابي، فو الذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه“.
أيضًا يتفاضل العمل بالإخلاص، ويتفاضل بحسن إسلام العبد… إلخ.

فإن قيل: كيف التوفيق بين ما ذُكر من التضعيف وبين قوله تعالى: (وَأَن لَيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) [النجم: 39]؟

فالجواب:

  1. أن معنى الآية: ليس له إلا ذلك عدلًا، وله أن يجازيه على الواحدة ألفًا فضلًا.
  2. وقيل: هذا خاص بقوم موسى وإبراهيم؛ لأنه وقع حكاية لما في صحفهما عليهما السلام، بقوله: (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) [النجم: 36-37].

(وإن همَّ بسيئةٍ فلم يعملها كتبها الله عنده حسنةً كاملةً)أي أراد فعل ذنب، وسميت سيئة؛ لأنها تسوء صاحبها في الدنيا والآخرة. وتُسمى خطيئة؛ لأن شأنها أن لا تقع من عاقل إلا على سبيل الخطأ.
فلم يعملها”: أي تركها قولًا كانت أو فعلًا أو اعتقادًا لله تعالى، لا لنحو عجز عنها أو حياء أو خوف أو رياء.
وفي روايات الحديث: “إنما تركها من جرائي”، يعني: من أجلي.
فمن تركها لأجل الله والخوف منه، وترك الإقدام عليها، ورجع عن الهمّ بها؛ كان هذا الرجوع والترك عملًا صالحًا يُجازى عليه العبد بالحسنة.

فإذا تركها من أجل الخلق أو نحو ذلك؛ كأن يتركها خوفًا من المخلوقين أو رئاء لهم، فقد قيل إنه يُعاقب على تركها بهذه النية؛ لأن تقديم خوف المخلوقين على خوف الله محرم، وقصد الرياء للمخلوقين حرام.

وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة: 284]، اشتدَّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بركوا على الركب، فقالوا: “أي رسول الله، كُلِّفْنَا من الأعمال ما نطيق: الصلاة، والصيام، والجهاد، والصدقة، وقد أُنْزِلَت عليك هذه الآية ولا نُطيقها“.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: (سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا) [البقرة: 93]، بل قولوا: (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) [البقرة: 285]”.
فقالوا: (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ). فلما اقترأها القوم ذَلَّت بها ألسنتهم، فأنزل الله تعالى في إثرها: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) [البقرة: 285] إلى آخر الآية. فلما فعلوا ذلك، نسخها الله تعالى وأنزل الله: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) [البقرة: 286].
قال صلى الله عليه وسلم: “نعم”. فبينت الآية الثانية أنَّ المراد بالآية الأولى هو العزائم المصمَّم عليها، وأنَّ ما لا طاقة لهم به، فهو غير مؤاخذ به، ولا مُكَلَّف به.

ومن سعى في المعصية جهده ثم عجز عنها، فقد عمل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: “إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار”. قالوا: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: “إنه كان حريصًا على قتل صاحبه” رواه البخاري.
قال ابن المبارك: سألت سفيان الثوري: أيؤاخذ العبد بالهمَّة؟ قال: إذا كانت عزمًا أُوخِذ.
ورجَّح هذا القول كثير من الفقهاء والمحدثين، واستدلوا بنحو قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) [البقرة: 235].وقوله تعالى: (وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) [البقرة: 225].
وقوله صلى الله عليه وسلم: “الإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس“.

وحملوا قوله صلى الله عليه وسلم: “إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل” على الخطرات.

(وإن همَّ بها فعملها كتبها الله سيئةً واحدة) ما يقع في النفس من قصد المعصية على خمس مراتب:

  1. الهاجس: وهو ما يُلقى فيها.
  2. الخاطر: وهو ما يجري فيها ويركن قليلًا.
  3. حديث النفس: وهو ما يقع فيها من التردد في الفعل.
  4. الهم: وهو ترجّح الفعل.
  5. العزم: وهو قوة ذلك القصد والجزم به.

فالهاجس لا يُؤاخذ به إجماعًا، ولو كان كفرًا؛ لأنه ليس من فعله إنما هو شيء طرقه قهرًا عنه.
أما ما بعده من الخاطر وحديث النفس، وإن كان قادرًا على دفعهما، إلا أنهما مرفوعان بالحديث الصحيح وهو قوله صلى الله عليه وسلم: “إن الله سبحانه وتعالى تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل”؛ لأن حديث النفس إذا ارتفع، فما قبله أولى، وهذه المراتب الثلاث لا أجر فيها في الحسنات أيضًا؛ لعدم القصد القوي.

أما الهم فقد بيَّن الحديث أنه بالحسنة يُكتب حسنة، وبالسيئة لا تُكتب سيئة، ثم يُنظر في السيئة؛ إن تركها لله تعالى، كُتبت حسنة، وإن فعلها، كُتبت سيئة واحدة من غير مضاعفة، ولا ينضم إلى عقوبة السيئة عقوبة الهم بها؛ لئلا يُعاقب عقوبتين على معصية واحدة.
وأما العزم على السيئة فقد تقدّم التفصيل فيه.

والهم بالسيئة له أحوال:

1- الحال الأولى: أن يهم بالسيئة، أي يعزم عليها بقلبه وليس مجرد حديث النفس، ثم يراجع نفسه فيتركها لله عز وجل، فهذا الذي يؤجر، فتكتب له حسنة كاملة؛ لأنه تركها لله ولم يعمل حتى تُكتب عليه سيئة.

2-الحال الثانية: أن يهم بالسيئة ويعزم عليها، لكن يعجز عنها بدون أن يسعى بأسبابها؛ كالرجل الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “ليت لي مثل مال فلان فأعمل فيه مثل عمله”، وكان فلان يسرف على نفسه في تصريف ماله، فهذا يُكتب عليه سيئة، ولكن ليس كعامل السيئة، بل يُكتب وزر نيته كما جاء في الحديث بلفظه: “فهو بنيته، فهما في الوزر سواء“.

3- الحال الثالثة: أن يهم بالسيئة ويسعى في الحصول عليها، ولكن يعجز، فهذا يُكتب عليه وزر السيئة كاملًا.
دليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار”. قالوا: “يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟” – أي لماذا يكون في النار – قال: “لأنه كان حريصًا على قتل صاحبه” ، فكتب عليه عقوبة القاتل.
ومثاله: لو أن إنسانًا تهيأ ليسرق، وأتى بالسلم ليتسلق، ولكن عجز، فهذا يُكتب عليه وزر السارق؛ لأنه همّ بالسيئة وسعى بأسبابها ولكنه عجز.

4- الحال الرابعة: أن يهم الإنسان بالسيئة، ثم يعزف عنها لا لله ولا للعجز، فهذا لا له ولا عليه.
وهذا يقع كثيرًا؛ يهم الإنسان بالسيئة، ثم تطيب نفسه ويعزف عنها، فهذا لا يُثاب؛ لأنه لم يتركها لله، ولا يُعاقب؛ لأنه لم يفعل ما يوجب العقوبة.

وعلى هذا، فيكون قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: “كتبها عنده حسنة كاملة”، أي: إذا تركها لله عز وجل.

قوله: “سيئة واحدة“: أي بلا مضاعفة، قال تعالى: (وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [الأنعام: 160].

هل تضاعف السيئة؟

الذي عليه جمهور العلماء أنها لا تضاعف، ولا حتى في مكة، خلافاً لمن قال من أهل العلم: إنها تضاعف في مكة؛ لأن القواطع في القرآن قائمة على أن السيئة لا تضاعف، قال الله جل وعلا: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40]، {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} [الأنعام:160].
لكن نقول من باب العلم -والعلم عند الله-: إنها قد تعظم لشرف المكان، لكنها لا تتعدد، بل تبقى سيئة واحدة، لكنها بتعبير علمي سيئة مغلظة وسيئة عظيمة؛ لشرف الزمان كالمعصية في رمضان، أولشرف المكان كالمعصية داخل الحرم، فلا نستطيع أن نعددها؛ لأن الله يقول: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40]، لكن كذلك نقول: إنها تعظم لشرف المكان، أو شرف الزمان.

قال تعالى: (وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [الحج: 25]، وكان جماعة من الصحابة يتقون سكنى الحرم خشية ارتكاب الذنوب فيه، منهم: ابن عمر، وابن عباس، وعبد الله بن عمرو؛ وكان يقول: “الخطيئة فيه أعظم“.
قال مجاهد: “تضاعف السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات“.
قال إسحق بن منصور: “قلت لأحمد في شيء من الحديث: هل السيئة تُكتب بأكثر من واحدة؟ قال: لا، ما سمعنا إلا في مكة لتعظيم البلد“.
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: “أما السيئات فالذي عليه المحققون من أهل العلم أنها لا تضاعف من جهة العدد، ولكن تضاعف من جهة الكيفية، أما العدد فلا؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: (مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [الأنعام: 160]، فالسيئات لا تُضاعف من جهة العدد لا في رمضان ولا في الحرم ولا في غيره، بل السيئة بواحدة دائمًا، وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى وإحسانه” 

فإن قيل: قال تعالى: (وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [الأنعام: 160]، وقال تعالى: (وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا) [الفرقان: 68-69].
وعقاب الكافر على الكفر لا نهاية له؛ فإن مدته تزيد على عمر الكافر، ففي ذلك مضاعفة أي مضاعفة؟

فالجواب:

1- أنَّ الكافر كانت نيته الكفر ما عاش، ولو إلى ما لا نهاية.

2- التضعيف المذكور في الكيف لا في الكم كما مر.

3-التضعيف بالنظر إلى تعدد سببها، وهو الإشراك بالله، والقتل، والزنا؛ فليس العذاب على الثلاثة واحدًا، بل لكلٍّ عذاب، كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا) [الفرقان: 68].

فوائد من الحديث:

1- الحديث أصل في سعة رحمة الله، حيث يضاعف الحسنات لعباده، ولا يضاعف لهم سيئاتهم، ويعفو عن كثير

2- وفي الحديث حثّ على ضبط النفس ودوام المراقبة لها؛ لأن من الهم ما يجلب النكد، ومنه ما يكون سببًا في سعادتها، فوجب مراقبة الهم والخطرة والعزم والهاجس لتستقيم النفس على طريق الله.

3- وفي الحديث تشجيع على عمل الصالحات ومضاعفة الأجر للمحسن.

4- قال الحافظ ابن حجر: “استُدِلَّ به على أن الحفظة لا تكتب المباح للتقيد بالحسنات والسيئات” 

5- في الحديث دليل على أن الملك يطلع على قلب الإنسان بالطريقة التي مكنه الله سبحانه بها .

 


اترك ردا

بدريك الإلكتروني لان يتم نشره.


قناة فتاوى أون لاين

تم إنشاء قناة جديدة تحت عنوان فتاوى أون لاين للإجابة على الفتاوى الشرعية
رابط الانضمام

رابط تيليجرام

الواتس اب

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر مشرف الموقع

هو الشيخ  الدكتور/ حسين محمد عامر من مواليد بلبيس بمحافظة الشرقية -مصر-عام 1976 م . الشهادات العلمية : 1- أتم حفظ القرآن وهو ابن الرابعة عشر عاما ، وحصل على إجازة برواية حفص بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على يد شيخه يوسف عبد الدايم -رحمه الله- . 2-  حصل على الإجازة

تاريخ الإضافة : 14 مايو, 2024 عدد الزوار : 1014 زائر

خطبة الجمعة

تفسير القرآن العظيم

شرح صحيح البخاري

شرح مدارج السالكين

جديد الموقع