أحكام الرمي والرخص الشرعية في رمي الجمار
دراسة فقهية مقارنة
إعداد / د. عطية السيد فياض
أستاذ الفقه المقارن المشارك ، كلية الشريعة وأصول الدين ـ جامعة الملك خالد ـ أبها
حظي نسك رمي الجمار برخص شرعية متعددة ، منها ما يعد تيسيرا عاما للجميع ورفعا للحرج عنهم دون أن يتوقف على عذر خاص كجواز التقديم والتأخير في أعمال يوم النحر ، ومنها ما لا يعمل به إلا بموجب عذر كالنيابة في الرمي ونحوه ، ومنها المتفق عليه بين أهل العلم ، ومنها ما هو مختلف فيه بينهم .
ونظرا للحاجة الشديدة لمعرفة هذه الرخص الشرعية ؛ لما يلاقيه الحجاج كل عام من عنت ومشقة في رمي الجمار مست الحاجة إلى الاستفادة من تلك الرخص ، وعدم الوقوف على مذهب معين ، أو قول فقيه ما ، وألا نلزم الناس بقول لا إلزام به شرعا ، وإنما هو اجتهاد شأنه شأن أي اجتهاد صدر من فقيه آخر ، ولكن ذلك وفق ضوابط شرعية تعمل على تعظيم النسك وعدم التهاون فيه ، وعدم الخروج على المتفق عليه بين أهل العلم .
مشكلة البحث : إن التزاحم الشديد ، والمخاطر التي يتعرض لها الحجاج في رمي الجمار يعود كثير من أسبابها لعدم العمل بالرخص الشرعية المعتبرة الواردة في هذا النسك ، وإلزام الناس بقول من أقوال أهل العلم ، وقد يكون هذا القول غير مناسب للظروف والمستجدات التي يشهدها موسم الحج كل عام ، فقام البحث بعلاج هذه المشكلة في ضوء الفقه الإسلامي المقارن ، وبيان مدى مشروعية الإجراءات المتخذة من قبل السلطات فيما يسمى بتفويج الحجاج لرمي الجمرات .
أهم النتائج والتوصيات :
أولا : سعة الفقه الإسلامي ورحابته ومرونته وكفايته في تقديم كافة الحلول الشرعية المعتبرة للتغلب على مشكلات الامة في أداء العبادات وخاصة مناسك الحج .
ثانيا : رعاية المصالح ودرء المفاسد من مقاصد الشريعة المعتبرة ، وتتفاوت الأعمال من حيث طلبها بحسب تحقيقها لذلك .
ثالثا : في رمي الجمار رخص شرعية كثيرة ، يؤدي العمل بها عند الحاجة إليها إلى التغلب على كثير من مشكلات الرمي المتكررة .
رابعا : العمل برخص رمي الجمار قد يكون واجبا إذا كان فيه دفع هلاك محقق أو متوقع للنفس أو إتلافها ، أو رفع حرج ومشقة لا تحتمل ، كما يكون مندوبا إذا كانت أقل من ذلك .
خامسا : إن اتباع رخص المذاهب في رمي الجمار بقصد التوسعة على الناس ورفع الحرج عنهم مطلب شرعي معتبر ، لا حرج فيه شرعا بالضوابط المذكورة
سادسا : ليس هناك ما يدل على جواز إلزام الناس في مسائل العبادات التي لا يؤدي تركهم فيها إلى فوضى واضطراب ، بل الأصل تركهم وما يرونه صوابا .
سابعا : جواز ترك الراجح واتباع المرجوح المعتبر في رمي الجمار وغيره إذا كان في ذلك تحقيق للمصالح ودفع للمفاسد .
ثامنا : جواز إلزام الناس بالقول الذي يدرأ عنهم المفاسد ، ويحفظ عليهم حياتهم وأموالهم .
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد …
فإن الحج أحد أركان الإسلام الخمسة فرضه الله تعالى على المسلمين في وقت معلوم ، وبصفة معلومة ، وقد بين النبي r المناسك للناس ، وقال: ” خذوا عني مناسككم ” ولا يجوز لمسلم أن يجتهد في أداء ما افترضه الله عليه على غير ما أراد الله تعالى ورسوله r.
وما كان الله ليفرض على عباده ما يهلكهم ، ويودي بحياتهم وإنما شرعه كله رحمة وحكمة وعدل ومصلحة ، وما يقع على غير ذلك فليس من الشرع في شيء .
ولما كانت هناك أحداث وحوادث تقع في مواسم الحج وخاصة في أداء واجب رمي الجمار ، يرجع كثير منها ـ غالبا ـ إلى عدم الإلمام بفقه المناسك ، وما رخص فيه الشرع ، وركوب الناس الصعب دون الذلول أملا في حج مقبول وسعي مشكور وذنب مغفور ، كانت هذه المشاركة في هذا الملتقى المبارك :
الموضوع : ” أحكام الرخص الشرعية في رمي الجمار ـ دراسة فقهية مقارنة ـ ” وذلك في تمهيد ، وثلاثة مباحث :
التمهيد : وفيه مطلبان
الأول : التعريف بالرخصة الشرعية
الثاني : التعريف برمي الجمار وبيان حكمه .
المبحث الأول : جماع الرخص الشرعية في رمي الجمار وفيه ثلاثة مطالب :
المطلب الأول : النيابة في الرمي .
المطلب الثاني : السعة والمرونة في وقت الرمي ، وفيه ست مسائل :
الأولى : امتداد وقت رمي جمرة العقبة الكبرى من منتصف ليلة النحر إلى آخر أيام التشريق .
الثانية : عدم الإلزام بترتيب أعمال يوم النحر .
الثالثة : تأخير رمي كل يوم إلى ما بعده ، وتأخير الجميع إلى آخر أيام التشريق
الرابعة : الرمي قبل الزوال في اليوم الحادي عشر ، والثاني عشر لمن لم يعجل فيه .
الخامسة : الرمي قبل الزوال في اليوم الثاني عشر للمعجلين وفي الثالث عشر للمتأخرين .
السادسة : النفر منى للمعجلين بعد غروب شمس اليوم الثاني عشر .
المطلب الثالث : رخص صفة الرمي ، وفيه أربعة مسائل :
الأولى : الاكتفاء بوقوع الحصى في الجمرة لا إصابة الشاخص .
الثانية : رمي الجمار دفعة واحدة .
الثالثة: جواز الرمي من أي اتجاه للجمرة .
الرابعة : مدى الإلزام بترتيب رمي الجمار .
المبحث الثاني : العمل بالرخص في رمي الجمار
وفيه ثلاثة مطالب :
الأول : العمل بالرخصة الشرعية الثابتة بالكتاب والسنة عند موجبها .
الثاني : العمل برخص المذاهب .
الثالث : العمل بأقوال أهل العلم من غير أصحاب المذاهب المشتهرة .
المبحث الثالث : الإلزام في رمي الجمار ، وفيه مطلبان :
الأول : إلزام الناس بقول معين أو مذهب ما .
الثاني : الإلزام برخص بعض المذاهب إن أدى إلى مخالفة ما يعتقده الشخص صوابا ، أو أدى إلى العمل بالمفضول .
خاتمة وبها أهم نتائج وتوصيات البحث .
د . عطية السيد السيد فياض
أستاذ الفقه المقارن المشارك ـكلية الشريعة وأصول الدين ـ جامعة الملك خالد بأبها
العنوان : أبها ـ جامعة الملك خالد ـ كلية الشريعة وأصول الدين ـ ص ب 1211
تليفون :جوال 0501251476 ـ منزل / 072283959
E : fayadhus@yahoo.com
تمهيد
تعريف الرخصة الشرعية ، وبيان حكم رمي الجمار
أولا : تعريف الرخصة .
الرخصة في اللغة : التسهيل في الأمر والتيسير ، يقال : رخص الشرع لنا في كذا ترخيصا ، وأرخص إرخاصا : إذا يسره وسهله . ([1])
وفي الرخصة لغتان : رخصة بضم الراء والخاء , ورخصة بإسكان الخاء .
وقد ضعف الزركشي الوجه الأول فقال :” وقد اشتهر على ألسن الناس فتح الخاء ولا يشهد له سماع ولا قياس , لأن ” فعلة ” تكون للفاعل كهمزة ولمزة وضحكة , وللمفعول كلقطة , فقياسه إن ثبت هنا : أن يكون اسما للكثير الرخيص على غيره إذا فشا الرخص فيه . وقال الآمدي في الإحكام ” : الرخصة بفتح الخاء : الأخذ بالرخصة , فيحتمل أنه أراد بالأخذ المصدر , ويحتمل أراد اسم الفاعل , والقياس الأول وهو المنقول .” ([2])
وعند الفقهاء : قال أبو حامد ” ما وسع للمكلف في فعله لعذر وعجز عنه مع قيام السبب المحرم ” ([3])
وقال أبو البقاء الفتوحي ” ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح ” ([4])
وذكر الزركشي عدة تعريفات للرخصة ، وانتهى إلى تعريفين : أحدهما في حالة الفعل ، والآخر في حالة الترك ، ففي حالة الفعل عرف الرخصة بأنها ” الحكم الثابت على خلاف الدليل لعذر مع كونه حراما في حق غير المعذور ” وفي جانب الترك ” أن يوسع للمكلف تركه مع قيام الوجوب في حق غير المعذور تخفيفا وترفها سواء كان التغيير في وضعه أو حكمه ” ([5])
وبناء على ما تقدم من تعريف للرخصة فإنه لا يدخل فيها ما لم يوجبه الله تعالى علينا من صوم شوال وصلاة الضحى ، وما أباحه في الأصل من الأكل والشرب ، إنما الرخصة في تناول الميتة أو الخمر للمضطر ، وقصر الصلاة والإفطار في رمضان للمسافر ، وإباحة النطق بكلمة الكفر عند الإكراه ونحو ذلك .
ويطلق الفقهاء مصطلح الرخصة أيضا على ما اختلف فيه أهل العلم المعتبرين بين مجوز ومانع لأمر ما في مسألة واحدة ، كأن يرى بعض العلماء نقض الوضوء بلمس المرأة ، وآخرون : لا يرون نقضه بذلك ، أو يرى البعض في موضوعنا مثلا جواز رمي الجمار قبل الزوال في يوم النفر الأول أو الثاني ، وآخرون لا يرون ذلك ، فيكون القول بعدم النقض رخصة في هذا المذهب في مقابل القول الآخر ، وكذا يعتبر القول المجوز للرمي قبل الزوال رخصة أيضا في هذا المذهب في مقابل القول الثاني الذي يرى عدم الجواز .
ومن يرى الجواز في هذه المسائل ونحوها لا يعتبرها رخصة بالمعنى الاصطلاحي للرخصة ، بل يراه حكما أصليا وليس استثنائيا ، فهي لا تعد رخصة إلا بالنظر إلى القول المقابل ؛ ولذلك تقيد بأنها : رخص المذاهب .
ثانيا : تعريف رمي الجمار ، وبيان حكمه .
الرمي في اللغة : القذف ، والإلقاء ، قال ابن منظور :” أرميت الحجر من يدي أي : ألقيت ” ([6])
والجمار جمع جمرة : وهي الأحجار الصغار ، وتطلق على موضع تجمع الحصى ، قال ابن منظور :” والجمرة واحدة جمرات المناسك ، وهي ثلاث جمرات يرمين بالجمار ،والجمرة : الحصاة ، والتجمير : رمي الجمار ، وأما موضع الجمار بمنى فسمي جمرة ؛ لأنها ترمى بالجمار ، وقيل : لأنها مجمع الحصى التي ترمى بها من الجمرة ” ([7])
والمراد به عند الفقهاء : القذف بالحصى في زمان مخصوص , ومكان مخصوص , وعدد مخصوص . ([8])
حكم رمي الجمار في الحج : أجمعت الأمة سلفا وخلفا على وجوب رمي الجمار ، في يوم النحر ، ويومين بعده ، أو ثلاثة بهيئة مخصوصة وفي وقت مخصوص ، وأن تركه يوجب دما ، ولا يبطل الحج .
قال الكاساني :” دليل وجوبه الإجماع , وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله , أما الإجماع فلأن الأمة أجمعت على وجوبه . وأما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فما روي أن رجلا سأله , وقال إني ذبحت ثم رميت , فقال صلى الله عليه وسلم { ارم , ولا حرج }([9]) , وظاهر الأمر يقتضي وجوب العمل . وأما فعله فلأنه صلى الله عليه وسلم رمى , وأفعال النبي صلى الله عليه وسلم فيما لم يكن بيانا لمجمل الكتاب , ولم يكن من حوائج نفسه , ولا من أمور الدنيا محمول على الوجوب لورود النصوص بوجوب الاقتداء به , والاتباع له , ولزوم طاعته , وحرمة مخالفته فكانت أفعاله فيما قلنا محمولة على الوجوب([10])
المبحث الأول
جماع الرخص الشرعية في رمي الجمار
من القواعد الشرعية المتفق عليها أن المشقة تجلب التيسير ، والحج من العبادات الشاقة التي تحتاج إلى قدرة واستطاعة مالية وبدنية معا ؛ ولذلك لم يكلف به غير المستطيع تخفيفا وتيسيرا على المسلمين .
ومن المناسك التي يلاقي فيها الحاج مشقة وعناء رمي الجمار ؛ ولذلك فقد حظي برخص كثيرة بعضها لا يوجد إلا في هذا النسك خاصة كالنيابة في الرمي ، فلا تصح النيابة في مناسك الحج الأخرى لمن أحرم بنفسه فلا نيابة في الطواف مثلا ، ولا في الوقوف بعرفة ، ولا في السعي ، ولا في المبيت بمنى ..
ومن الرخص أيضا ما يتعلق بوقته من حيث السعة ، والمرونة فيه ، وأخرى تتعلق بصفته وكيفيته ، ونتناول هذه المسائل في المطالب الآتية :
المطلب الأول : النيابة في الرمي
أجاز جمهور الفقهاء للمعذور ، والعاجز عن الرمي بنفسه لمرض ، أو حبس ، أو لصغر ، ونحوه أن ينيب من يرمي عنه ، ويكون ذلك مجزئا ؛ وذلك قياسا على النيابة في الحج لغير المستطيع .
قال السرخسي في المبسوط :” والمريض الذي لا يستطيع رمي الجمار يوضع الحصى في كفه حتى يرمي به ; لأنه فيما يعجز عنه يستعين بغيره , وإن رمي عنه أجزأه بمنزلة المغمى عليه فإن النيابة تجري في النسك كما في الذبح ” ([11])
قال النووي :” قال الشافعي والأصحاب ـ رحمهم الله ـ : العاجز عن الرمي بنفسه لمرض أو حبس ونحوهما يستنيب من يرمي عنه لما ذكره المصنف , وسواء كان المرض مرجو الزوال أو غيره لما ذكره المصنف , وسواء استناب بأجرة أو بغيرها , وسواء استناب رجلا أو امرأة . قال الشافعي والأصحاب . ويستحب أن يناول النائب الحصى إن قدر , ويكبر العاجز , ويرمي النائب , ولو ترك المناولة مع قدرته صحت الاستنابة وأجزأه رمي النائب لوجود العجز عن الرمي . قال أصحابنا في الطريقتين : ويجوز للمحبوس الممنوع من الرمي الاستنابة فيه سواء كان محبوسا بحق أو بغيره , وهذا متفق عليه , وعللوه بأنه عاجز . ثم إن جمهور الأصحاب في طريقتي العراق وخراسان أطلقوا جواز الاستنابة للمريض سواء كان مأيوسا من برئه أم لا “([12])
وقال :” أجمعوا على الرمي عن الصبي الذي لا يقدر على الرمي لصغره . وأما العاجز عن الرمي لمرض وهو بالغ فمذهبنا أنه يرمى عنه كالصبي وبه قال الحسن ومالك وأحمد وإسحاق ” ([13])
وقال ابن قدامة :” إذا كان الرجل مريضا , أو محبوسا , أو له عذر , جاز أن يستنيب من يرمي عنه . قال الأثرم : قلت لأبي عبد الله : إذا رمي عنه الجمار , يشهد هو ذاك أو يكون في رحله ؟ قال : يعجبني أن يشهد ذاك إن قدر حين يرمى عنه . قلت : فإن ضعف عن ذلك , أيكون في رحله ويرمي عنه ؟ قال : نعم ” ([14])
ونقل ابن أبي شيبة في مصنفه ، وابن حزم في المحلى جواز النيابة في الرمي عن عطاء وطاوس . 0([15])
كما أجاز مالك النيابة في الرمي لكن إذا أناب غير الصغير فيجزء الرمي لكن على المستنيب دم ، والنيابة ترفع عنه الإثم وقت الأداء .
جاء في الموطأ ” سئل مالك : هل يرمى عن الصبي والمريض ؟ فقال : نعم ، ويتحرى المريض حين يرمى عنه ، فيكبر وهو في منزله ويهريق دما ، فإن صح المريض في أيام التشريق رمي الذي رمى عنه وأهدى وجوبا “([16])
ويتوجه رجحان قول الجمهور بصحة النيابة في الرمي دون أن يترتب على المستنيب دم بحيث تتحقق الفائدة من النيابة ، وتفترق عمن ترك الرمي أصالة أو نيابة .
لكن هل يجب على المعذور والعاجز عن الرمي بنفسه أن ينيب عنه ، أم أن ذلك على سبيل الجواز ؟
جمهور الفقهاء يرون أن النيابة للمعذور واجبة ، وإذا فات وقت الرمي وجب الدم ، وذهب الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود من العلماء المعاصرين في رسالة له بعنوان ” يسر الإسلام في أحكام حج بيت الله الحرام ” ([17]) إلى أن النيابة ليست واجبة ، وإذا تحقق العجز عن الرمي سقط شأنه شأن أي عبادة واجبة أخرى في الحج وغير الحج ، يقول الشيخ ” واختلف العلماء في المعذور مثل المريض الذي لا يستطيع الرمي والشيخ الكبير والمرآة الكبيرة وكل من لا يستطيع الوصول إلى الجمار هل يسقط عنه الرمي سقوطا كليا أم يجب عليه أن يستنيب من يرمي عنه ، فعند الفقهاء من الحنابلة والشافعية أنه يجب عليه أن يستنيب من يرمي عنه كالمعذور ، وإن لم يفعل فعليه دم ، وبنوا على ذلك كون العذر في المبيت يسقط الإثم والدم والعذر في الرمي يسقط الإثم دون الدم ،وهذا تفريق بين متماثلين لا يقتضيه النص ولا يوافقه القياس ، فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يأمر العباس في أن يستنيب من يرمي عنه ،ولم يأمر الحائض في أن تستنيب من يطوف عنها طواف الوداع وهو معدود من الواجبات ، على أن الاستنابة في كلا الأمرين ممكنة ، يؤكده أن ما ترك من الواجبات للعذر وعدم القدرة على الفعل، فإنه بمنزلة المأتي به في عدم الإثم ، ولأن الدم إنما يجب في ترك المأمور وفعل المحظور بالاختيار وهذا لم يترك مأمورا ولم يفعل محظورا باختياره وإنما تركه عجزا والله لا يكلف نفسا إلا وسعها وفي الحديث: » أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم « ، لأن الله سبحانه إنما أوجب فرض الحج على المستطيع ، وقد نص الفقهاء على سقوطه بظن حصول الضرر على نفسه ، أو أهله أو ماله فإذا كان هذا السقوط في أصل الحج فما بالك بفرعه ، ولأن العبادات كلها ما قدر عليه منها فعله وما أعجزه سقط عنه وهذه قاعدة مطردة في سائر الشرائع الدينية تعرف بالتتبع والاستقراء ، ولهذا تجب الصلاة بحسب الإمكان وما عجز عنه من شروطها وواجباتها سقط عنه . على أن شروط الصلاة وواجباتها آكد من شروط الحج وواجباته ، فإنه لو ترك شيئا من واجبات الصلاة عمدا بطلت صلاته ، بخلاف لو ترك شيئا من واجبات الحج عمدا ، فإنه لا يبطل بذلك حجه ويجبره بدم .”
وهذا قول متجه ، ويستقيم مع القواعد الشرعية ، وما أحسنه من قول لو عرف به قائل من سلف الأمة ، وإن كان هذا ليس بمسوغ لضعفه لكن يجب على علماء الأمة المعاصرين أن ينظروا فيه في ضوء القواعد الشرعية المعتبرة ، ومقاصد الشريعة الإسلامية بعيدا عن التقليد ، والتعصب لهذا المذهب أو ذاك ، تخفيفا على المسلمين وتيسيرا عليهم .
المطلب الثاني : السعة والمرونة في وقت الرمي ، وفيه ست مسائل :
الأولى : امتداد وقت رمي جمرة العقبة الكبرى من منتصف ليلة النحر إلى آخر أيام التشريق .
الثانية : عدم الإلزام بترتيب أعمال يوم النحر .
الثالثة : تأخير رمي كل يوم إلى ما بعده ، وتأخير الجميع إلى آخر أيام التشريق
الرابعة : الرمي قبل الزوال في اليوم الحادي عشر ، والثاني عشر لمن لم يعجل فيه .
الخامسة : الرمي قبل الزوال في اليوم الثاني عشر للمعجلين وفي الثالث عشر للمتأخرين .
السادسة : النفر منى للمعجلين بعد غروب شمس اليوم الثاني عشر .
المسألة الأولى : امتداد وقت رمي جمرة العقبة الكبرى من منتصف ليلة النحر إلى آخر أيام التشريق .
أولا : أول وقت جواز رمي جمرة العقبة الكبرى .
ذهب الشافعية والحنابلة وعطاء ، وابن أبي ليلى ، وغيرهم إلى جواز رمي جمرة العقبة الكبرى بعد منتصف ليلة النحر استدلالا بإذن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لبعض نسائه كأم سلمة ، وسودة في الرمي في هذا الوقت ، وقد اعتبروا هذا إذنا عاما .
ـ روى البخاري عن أسماء أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة فقامت تصلي ، فصلت ساعة ، ثم قالت : يا بني ، هل غاب القمر ؟ قلت : لا ، فصلت ساعة ، ثم قالت : يا بني : هل غاب القمر ؟ قلت : نعم ، قالت : فارتحلوا ، فارتحلنا ، ومضينا حتى رمت الجمرة ، ثم رجعت ، فصلت الصبح في منزلها ، فقلت لها : يا هنتاه ما أرانا إلا قد غلسنا ، قالت : يا بني : إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أذن للظعن ” والظعن : المرأة في الهودج ، ثم أطلق على المرأة . ([18])
ـ وعند أبي داود عن عائشة قالت : أرسل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأم سلمة ليلة النحر ، فرمت الجمرة قبل الفجر ، ثم مضت فأفاضت ، وكان ذلك اليوم اليوم الذي يكون رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تعني عندها ” ([19])
قال النووي :” مذهبنا جواز رمي جمرة العقبة بعد نصف ليلة النحر , والأفضل فعله بعد ارتفاع الشمس , وبه قال عطاء وأحمد وهو مذهب أسماء بنت أبي بكر وابن أبي مليكة وعكرمة بن خالد ” ([20])
وقال ابن قدامة ” وأما وقت الجواز , فأوله نصف الليل من ليلة النحر . وبذلك قال عطاء , وابن أبي ليلى , وعكرمة بن خالد , والشافعي .” ([21])
وفي مقابل هذا الرأي ذهب مالك ، وأبو حنيفة إلى أن لا يجوز رمي جمرة العقبة الكبرى إلا بعد طلوع الشمس ، وفي رواية عند أحمد : أنه يجوز بعد الفجر وقبل طلوع الشمس .
قال الكاساني :” أما يوم النحر فأول , وقت الرمي , منه ما بعد طلوع الفجر , الثاني من يوم النحر فلا يجوز قبل طلوعه , وأول وقته المستحب ما بعد طلوع الشمس قبل الزوال , وهذا عندنا ” ([22])
وفي الموطأ :” أنه سمع بعض أهل العلم يكره رمي جمرة العقبة حتى يطلع الفجر من يوم النحر ومن رمى فقد حل له النحر “
قال الباجي في شرحه :” قوله سمع بعض أهل العلم يكره رمي جمرة العقبة حتى يطلع الفجر من يوم النحر هذه كراهة على وجه المنع ونفي الإجزاء وذلك أن وقت الرمي النهار دون الليل ولذلك وصفت الأيام بالرمي دون الليالي قال الله تعالى { واذكروا الله في أيام معدودات } فوصفت الأيام بأنها معدودات للجمار المعدودات فيها فلا يجوز الرمي بالليل فمن رمى ليلا أعاد وبه قال أبو حنيفة”([23])
واستدلوا بما أخرجه الترمذي وأبو داود عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم ضعفة أهله وقال لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس ” ([24])
قال أبو عيسى حديث ابن عباس حديث حسن صحيح والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم لم يروا بأسا أن يتقدم الضعفة من المزدلفة بليل يصيرون إلى منى و قال أكثر أهل العلم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم أنهم لا يرمون حتى تطلع الشمس ورخص بعض أهل العلم في أن يرموا بليل والعمل على حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنهم لا يرمون وهو قول الثوري والشافعي “
وقد وفق بعض أهل العلم بين الدليلين بأن الرمي قبل الفجر جائز ، وبعد طلوع الشمس سنة .
قال النووي :” أما حديث ابن عباس فمحمول على الأفضل جمعا بين الأحاديث ، قال ابن المنذر:أجمعوا على أن من رمى جمرة العقبة يوم النحر بعد طلوع الشمس أجزأه”([25])
ووفق ابن القيم بينهما بأن الجواز في حق أصحاب الأعذار ، أما غيرهم فيرمون بعد طلوع الشمس .
قال في الزاد :” ثم تأملنا فإذا لا تعارض بين هذه الأحاديث ، فإنه أمر الصبيان أن لا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس فإنه لا عذر لهم في تقديم الرمي ، أما من قدمه من النساء فيرمين قبل طلوع الشمس للعذر والخوف عليهن من مزاحمة الناس وحطمتهم ، وهذا الذي دلت عليه السنة جواز الرمي قبل طلوع الشمس للعذر بمرض أو كبر يشق عليه مزاحمة الناس لأجله ، وأما القادر الصحيح فلا يجوز له ذلك ” ([26])
وعلى أي حال كان التوفيق بين الأدلة ففي القدر المتفق عليه فسحة ويستفاد منه في تخفيف الزحام ومنع المضار .
ثانيا : آخر وقت رمي جمرة العقبة الكبرى :
اختلف العلماء في آخر وقت رمي جمرة العقبة الكبرى إلى ثلاثة أقوال :
الأول : ينتهي وقت الرمي بغروب شمس يوم النحر ، وهو أكثر الأقوال تضييقا ، وذهب إليه المالكية ، ووجهه : أن الليل ليس محلا للرمي .
الثاني : ينتهي بطلوع فجر البوم التالي ، وهو قول الحنفية ، ووجهه ما رواه البخاري عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : سئل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال رميت بعد ما أمسيت ؟ فقال : لا حرج ، قال : حلقت قبل أن أنحر ؟ قال : لا حرج” ([27]) كما رخص للرعاة أن يرموا ليلا .
الثالث : ينتهي بانتهاء آخر أيام التشريق ، وهو قول الشافعية والحنابلة ، ووجهه : أن جميع أيام التشريق أيام رمي ، وقد أذن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للرعاء أن يتعاقبوا في الرمي فكانوا يرمون غدوة يوم النحر ، ويدعون ليلة ويوما ثم يرمون من الغد ” قال الطحاوي :” ففي هذا الحديث أنهم كانوا يرمون غدوة يوم النحر ثم يدعون يوما وليلة , ثم يرمون الغد . فقد كانوا يرمون رمي اليوم الثاني في اليوم الثالث , ولم يكن ذلك بموجب عليهم دما , ولا بموجب أن حكم اليوم الثالث في الرمي لليوم الثاني , خلاف حكم اليوم الرابع . ففي ذلك دليل أن من ترك رمي جمرة العقبة في يوم النحر , فذكرها في شيء من أيام التشريق أنه رمي ولا شيء عليه ” ([28])
وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه بسنده تحت باب ( في الرعاء كيف يرمون ؟ )
ـ حدثنا أبو بكر قال حدثنا ابن عيينة عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه عن أبي البداح بن عدي عن أبيه { أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للرعاء أن يرموا يوما ويرعوا يوما } .
ـ حدثنا أبو بكر قال حدثنا ابن عيينة عن ابن جريج عن عطاء { أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للرعاء أن يرموا ليلا } .
ـ حدثنا أبو بكر قال حدثنا حماد بن خالد عن ابن أبي ذئب عن عطاء أن عمر رخص للرعاء أن يبيتوا عن منى قال ” فذكرت ذلك لإبراهيم وللزهري فقالا ” الرعاء يرمون ليلا ولا يبيتون .
ـ حدثنا أبو بكر قال حدثنا ابن نمير عن عبد الله عن نافع عن ابن عمر أنه كان يجعل رمي الجمار نوائب بين رعاء الإبل يأمر الذي عنده فيرمون إذا زالت الشمس , ثم يذهبون إلى الإبل ويأتي الذين في الإبل فيرمون ثم يمكثون حتى يرمونها من الغد إذا زالت الشمس .” ([29])
وأخرج أيضا بسنده عن عطاء بن السائب قال : رأيت أبا جعفر رمى الجمرة قبل طلوع الشمس ـ بقصد رمي جمرة العقبة يوم النحر ـ , وكان عطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، والنخعي ، وعامر ، وسعيد بن جبير ، يرمون حين يقدمون أي ساعة قدموا , لا يرون به بأسا “([30])
قال ابن قدامة :” إذا أخر رمي يوم إلى ما بعده , أو أخر الرمي كله إلى آخر أيام التشريق ترك السنة , ولا شيء عليه , إلا أنه يقدم بالنية رمي اليوم الأول ثم الثاني ثم الثالث . وبذلك قال الشافعي وأبو ثور . ” واستدل على ذلك بقوله :” ولنا , أن أيام التشريق وقت للرمي , فإذا أخره من أول وقته إلى آخره لم يلزمه شيء , كما لو أخر الوقوف بعرفة إلى آخر وقته , ولأنه وقت يجوز الرمي فيه , فجاز لغيرهم كاليوم الأول . قال القاضي : ولا يكون رميه في اليوم الثاني قضاء ; لأنه وقت واحد . وإن كان قضاء فالمراد به الفعل , كقوله : ( ثم ليقضوا تفثهم ) . وقولهم : قضيت الدين . والحكم في رمي جمرة العقبة إذا أخرها , كالحكم في رمي أيام التشريق , في أنها إذا لم ترم يوم النحر رميت من الغد . وإنما قلنا : يلزمه الترتيب بنيته ; لأنها عبادات يجب الترتيب فيها , مع فعلها في أيامها , فوجب ترتيبها مجموعة , كالصلاتين المجموعتين والفوائت ” ([31])
وفي ما ذهب إليه الكثير من أهل العلم في وقت رمي جمرة العقبة الكبرى متسع من الوقت إذ يمتد من منتصف ليلة النحر إلى آخر أيام التشريق ؛ وبذلك لا يكون ثمت مزاحمة ، ولا يؤدي الرمي مخاطر التهلكة ، وإن كان في الرمي في وقت الفضيلة الذي رمى فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فضيلة وسنة لكن إن أدى فعل السنة إلى مهلكة ، وضرر وإتلاف نفس فمن الواجب ترك هذه السنة كما هو الشأن في تقبيل الحجر الأسود .
المسألة الثانية : عدم الإلزام بترتيب أعمال يوم النحر .
يقع في يوم النحر كثير من المناسك ، وهي الرمي ، ثم النحر ، ثم الحلق ، ثم الطواف ، ثم لاسعي لمن عليه سعي ، والسنة ترتيبها كما فعله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد ثبتت هذه السنة في أحاديث كثيرة عن ابن عباس ، وجابر ، وأنس .
لكن قد يتعذر إتيانها على الوجه الذي فعله ـ رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ والواقع يؤكد مشقة ترتيبها فلا يعقل أن يقوم حوالي مليونين من الحجاج أو أكثر بعمل واحد في وقت واحد ، والجميع يريد أن يتحلل ، لكن إذا تفرقوا فيقدم البعض الرمي ، وآخرون يطوفون ، وثالث يسعون أو ينحرون كان في ذلك راحة وتخفيفا ، والتحلل يحصل بعملين من أعمال يوم النحر دون تحديد .
وقد جاءت السنة النبوية بجواز فعل أعمال يوم النحر على حسب ما يتيسر للحاج ، فقد يذبح قبل الرمي ، أو يطوف ، أو يسعى قبل الطواف وهكذا .
روى البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله بن عمرو قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم عند الجمرة وهو يسأل فقال رجل يا رسول الله نحرت قبل أن أرمي قال ارم ولا حرج قال آخر يا رسول الله حلقت قبل أن أنحر قال انحر ولا حرج فما سئل عن شيء قدم ولا أخر إلا قال افعل ولا حرج “([32])
وفي رواية لمسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه رجل يوم النحر وهو واقف عند الجمرة فقال يا رسول الله إني حلقت قبل أن أرمي فقال ارم ولا حرج وأتاه آخر فقال إني ذبحت قبل أن أرمي قال ارم ولا حرج وأتاه آخر فقال إني أفضت إلى البيت قبل أن أرمي قال ارم ولا حرج قال فما رأيته سئل يومئذ عن شيء إلا قال افعلوا ولا حرج “([33])
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير فقال لا حرج ” ([34])
ولم يختلف في ذلك أحد من العلماء إلا ما نقل عن خلاف أبي حنيفة في تقديم الحلق على الرمي أو على النحر إذ أوجب عليه الدم ، ويضعفه النصوص السابقة .
المسألة الثالثة : تأخير رمي كل يوم إلى ما بعده ، وتأخير الجميع إلى آخر أيام التشريق.
جوز الشافعية والحنابلة رمي كل يوم إلى ما بعده ، وتأخير رمي الجميع إلى غروب شمس اليوم الرابع من أيام النحر ، فمن ترك رمي يوم أو يومين تداركه فيما يليه من الزمن ، والمتدارك أداء لاقضاء ، ووجه ذلك ـ كما سبق ـ أن أيام التشريق كلها أيام للرمي ، وقد أذن للرعاة أن يؤخروا الرمي ويتعاقبون .
وهذا بخلاف الحنفية والمالكية إذ ألزموا رمي كل يوم في يومه لكن المالكية ضيقوا فيه حيث ينتهي عندهم بغروب الشمس ، وتوسع الحنفية بعض الشيء فأجازوه إلى طلوع فجر اليوم التالي ، وسبق توجيه القولين .
المسألة الرابعة : الرمي قبل الزوال في اليوم الحادي عشر ، والثاني عشر لمن لم يعجل فيه .
لا يكاد يذكر في فتاوى المفتين وأقوال المعاصرين أن هناك من السلف من جوز الرمي في اليوم الحادي عشر ، والثاني عشر لغير المتعجل قبل الزوال ، وذلك ؛ لأن جمهرة العلماء ومنهم الأئمة الأربعة ذهبوا إلى الرمي في هذين اليومين يبدأ وقته بعد الزوال ، ولا يجوز قبله ؛ وذلك لفعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصحابته من بعده في التزامهم هذا الوقت في الرمي .
لكن صح النقل عن كثير من الفقهاء جواز الرمي قبل الزوال في اليوم الحادي عشر والثاني عشر لغير المتعجل ، ومن ذلك :
1ـ نقل غير واحد من العلماء جواز الرمي قبل الزوال في هذين اليومين عن عطاء وطاوس ، قال الشوكاني :” هذه الروايات تدل على أنه لا يجزئ رمي الجمار في غير يوم الأضحى قبل زوال الشمس بل وقته بعد زوالها كما في البخاري وغيره من حديث جابر ( أنه صلى الله عليه وسلم رمى يوم النحر ضحى ورمى بعد ذلك بعد الزوال )، وإلى هذا ذهب الجمهور وخالف في ذلك عطاء وطاوس فقالا : يجوز الرمي قبل الزوال مطلقا ) ([35])
ويفهم أيضا مما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه أن عطاء وطاوس ومجاهد والنخعي وعامر وسعيد بن جبير يرمون حين يقدمون أي ساعة قدموا , لا يرون به بأسا ، أن الأمر عندهم على السعة وإن كان ابن أبي شيبة قد ذكر ذلك في جمرة العقبة فقط ، بل ونقل عن بعض هؤلاء القول بالرمي بعد الزوال لكن ليس هناك ما يدل على التخصيص في الأثر المذكور ، وإن قيل بأنهم كانوا يفعلون هذا في جمرة العقبة فقط ، فما وجه الفرق بينها وبين الرمي في الأيام الأخرى ؟
2 ـ ذكر الكاساني رواية عن أبي حنيفة يجوز فيها الرمي قبل الزوال ، وهي ليست مشهورة في المذهب .
قال الكاساني :” أما وقت الرمي من اليوم الأول والثاني من أيام التشريق , وهو اليوم الثاني والثالث من أيام الرمي فبعد الزوال حتى لا يجوز الرمي فيهما قبل الزوال في الرواية المشهورة عن أبي حنيفة . وروي عن أبي حنيفة أن الأفضل أن يرمي في اليوم الثاني والثالث بعد الزوال , فإن رمى قبله جاز , وجه هذه الرواية أن قبل الزوال وقت الرمي في يوم النحر فكذا في اليوم الثاني والثالث ; لأن الكل أيام النحر” ([36])
3 ـ نقل ابن مفلح في الفروع ونقله عنه المردواي في الإنصاف عن ابن الجوزي من علماء الحنابلة جواز الرمي قبل الزوال مطلقا ، قال في الفروع :” ثم يرجع فيصلي ظهر يوم النحر بمنى , نقله أبو طالب , للخبر فيبيت بمنى ثلاث ليال , ويرمي في غد بعد الزوال , نص عليه , ويستحب قبل الصلاة وجوزه ابن الجوزي قبل الزوال . وفي الواضح : بطلوع الشمس , إلا ثالث يوم , وأطلق أيضا في منسكه أن له الرمي من أول , وأنه يرمي في الثالث كاليومين قبله ” ([37])
وقد علق الشيخ ابن آل محمود على هذه الأقوال فقال :” فعلم من هذه الأقوال أن للعلماء المتقدمين مجالا في الاجتهاد في القضية وأنهم قد استباحوا الإفتاء بالتوسعة ، فمنهم من قال بجواز الرمي قبل الزوال مطلقا ، أي سواء كان لعذر أو لغير العذر ، ومنهم من قال بجوازه لحاجة التعجل ، ومنهم من قال بجوازه لكل ذي عذر ، كما هو الظاهر من المذهب ، فمتى أجيز لذوي الأعذار في صريح المذهب أن يرموا جمارهم في أية ساعة شاءوا من ليل أو نهار، فلا شك أن العذر الحاصل للناس في هذا الزمان من مشقة الزحام والخوف من السقوط تحت الأقدام أنه أشد وآكد من كل عذر فيدخل به جميع الناس في الجواز بنصوص القرآن والسنة وصريح المذهب ، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما سئل يوم العيد و لا في أيام التشريق عن شيء من التقديم والتأخير إلا قال: » افعل ولا حرج « ، فلو وجد وقت نهي غير قابل للرمي أمام السائلين لحذرهم منها ؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه ، فسكوته عن تحديد وقته هو من الدليل الواضح على سعته ، والحمد لله الذي جعل هذا التحديد من قول من ليسوا بمعصومين عن الخطأ ولم يكن من كلام من لا ينطق عن الهوى . فإن الحلال ما أحله الله ورسوله ، والحرام ما حرمه الله ورسوله والدين ما شرعه الله ورسوله ، وما سكت عنه فهو عفو فاقبلوا من الله عفوه واحمدوا الله على عافيته ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ، ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.”
ولا يختلف القائلون بهذا القول بأن الرمي بعد الزوال سنة وأنه فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لكن هل يحمل هذا الفعل على الوجوب ، وإذا حمل على الوجوب ألا يراعى أهل الأعذار من المرضى ونحوهم ، أو أصحاب الحاجات كما راعى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الرعاة والسقاة من المبيت بمنى ، ومن التعاقب في الرمي ؟
الخامسة : الرمي قبل الزوال لمن ينفر في اليوم الثاني عشر ، أو الثالث عشر
أجاز كثير من العلماء الرمي قبل الزوال ، والنفر قبله لمن ينفر من منى ، ومن هؤلاء كما ذكر ابن قدامة : إسحاق ، والحنفية ، ورواية عند الحنابلة ، وعكرمة ، وطاوس ([38])، وأيضا من أجاز الصورة السابقة من باب أولى .
ووجه القول بالجواز في المسألتين :
ـ قياس أيام التشريق في الرمي على يوم النحر .
ـ رفع الحرج عن الناس خاصة لمن يريد أن ينفر .
ـ حمل فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على السنية .
المسألة السادسة : النفر منى للمعجلين بعد غروب شمس اليوم الثاني عشر .
من أراد أن ينفر بعد رمي ثاني أيام التشريق ، فله ذلك ، ويسمى هذا اليوم يوم النفر الأول ، وبه يسقط رمي اليوم الثالث من أيام التشريق اتفاقا .
ومذهب الجمهور : أنه إن أراد ذلك فعليه أن ينصرف من منى قبل غروب شمس اليوم الثاني عشر ، فإن غربت عليه لزمه المبيت ، ورمي اليوم الثالث عشر .
وقد أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عددا من الآثار تحت باب :” في الرجل يدركه المساء في اليوم الثاني من أيام التشريق فينفر أم لا ؟ وفيه بسنده :
1ـ عن إبراهيم أنه كان يدركه المساء بمنى وهو في اليوم الثاني من أيام التشريق , فلا ينفر حتى الغد من اليوم الثالث .
2ـ عن الحسن أنه كان يقول ذلك .
3 ـ عن جابر بن زيد أنه كان يقول : ينفر ما لم تغب الشمس .
4ـ عن هشام بن عروة عن أبيه قال : من أمسى بمنى يوم النفر الأول وهو يريد النفر في ذلك اليوم , لا ينفر حتى الغد .
5ـ عن ابن عمر قال : إذا أدركه المساء في اليوم الثاني فلا ينفر حتى الغد وتزول الشمس .([39])
وقد ذهب الحنفية إلى أن له أن ينفر ما لم يطلع فجر اليوم الثالث عشر ؛ لأن له أن ينفر ما لم يطلع فجر اليوم الثالث ; لأنه لم يدخل وقت رمي اليوم الآخر , فجاز له النفر كما قبل الغروب .
قال الكاساني : إنما يجوز له النفر في اليوم الثاني والثالث ما لم يطلع الفجر من اليوم الثاني فإذا طلع الفجر لم يجز له النفر .” ([40])
وهذا رأي فيه سعة ؛ لأن معظم الحجاج إذا عرف أنه إن غربت عليه الشمس فإنه يلزمه المبيت إلى اليوم التالي ، وإذا أفتي له بعدم جواز الرمي إلا بعد الزوال فسوف يتزاحمون ، وقد يؤدي ذلك إلى حرج ومشقة ، لكن إذا وسع عليهم الوقت فقيل لهم : يجوز الرمي قبل الزوال لمن أراد أن ينفر ، ويجوز النفر حتى ولو بعد الغروب ففي ذلك تخفيف وسعة يطلبها الشرع في ذلك الموطن .
المطلب الثالث : رخص صفة الرمي .
نقلت صفة رمي الجمار عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بهيئة وكيفية خاصة ، فورد في رمي جمرة العقبة الكبرى أنها ترمى بسبع حصيات تقع في المرمى ، يكون فيها الرامي مستبطن الوادي ، ومستقبل القبلة ، ويكبر مع كل حصاة ، وينصرف بعد الرمي ولا يقف .
ويفعل مثل ذلك في رمي جمار أيام التشريق لكن في رمي أيام التشريق يبدأ بالجمرة الأولى ، وهي أبعد الجمرات عن مكة وتلي مسجد الخيف فيجعلها عن يساره ، ويستقبل القبلة ،ثم يتقدم عنها إلى موضع لا يصيبه الحصى فيقف طويلا يدعو الله تعالى ، ويفعل مثل ذلك في الوسطى ، ثم يرمى جمرة العقبة يستبطن الوادي ويستقبل القبلة ولا يقف عندها .
والأصل فيما تقدم :
ـ ما رواه أبو داود عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : { أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه حين صلى الظهر , ثم رجع إلى منى , فمكث بها ليالي أيام التشريق , يرمي الجمرة إذا زالت الشمس , كل جمرة بسبع حصيات , يكبر مع كل حصاة , ويقف عند الأولى والثانية , فيطيل القيام , ويتضرع , ويرمي الثالثة , ولا يقف عندها }([41])
وعند البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات يكبر على إثر كل حصاة ثم يتقدم حتى يسهل فيقوم مستقبل القبلة فيقوم طويلا ويدعو ويرفع يديه ثم يرمي الوسطى ثم يأخذ ذات الشمال فيستهل ويقوم مستقبل القبلة فيقوم طويلا ويدعو ويرفع يديه ويقوم طويلا ثم يرمي جمرة ذات العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها ثم ينصرف فيقول هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعله ) ([42])
لكن هل هذه الصفة المأثورة على سبيل الوجوب والإلزام أم على سبيل السنية والندب ؟
اختلف الفقهاء في كثير من الهيئات ، ونذكر أهمها في المسائل الآتية :
الأولى : الاكتفاء بوقوع الحصى في الجمرة لا إصابة الشاخص .
الثانية : رمي الجمار دفعة واحدة .
الثالثة : جواز الرمي من أي اتجاه للجمرة .
الرابعة : مدى الإلزام بترتيب رمي الجمار : الدنيا ، فالصغرى ، فالكبرى .
المسألة الأولى : الاكتفاء بوقوع الحصى في الجمرة لا إصابة الشاخص ، ولو وقعت قريبا منه أجزأت .
وقع الاتفاق بين الفقهاء على أن الرامي يجب عليه قصد المرمى ، ووقوع الحصى فيه بفعله لا قصد الشاخص مما يحرص عليه البعض .
ويفيد ذلك أنه لو تمت توسعة المرمى بشكل يستوعب أعدادا كبيرة من الحجاج ، وقدرة بعضهم على الرمي من مسافة بعيدة فلا بأس .
والرخصة أيضا في أنه لو رمى فوقع الحصى قريبا من أجزأه عند الحنفية خلافا للجمهور ، قال الكاساني : “ويعتبر في ذلك كله مكان وقوع الجمرة لا مكان الرمي حتى لو رماها من مكان بعيد فوقعت الحصاة عند الجمرة أجزأه , وإن لم تقع عنده لم تجزها إلا إذا , وقعت بقرب منها ; لأن ما يقرب من ذلك المكان كان في حكمه لكونه تبعا له , والله أعلم .” ([43])
المسألة الثانية : رمي الجمار دفعة واحدة .
ما فعله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه رمى الحصيات واحدة بعد أخرى ، يكبر مع كل حصاة ، وقد ذهب الفقهاء ومنهم أئمة المذاهب الأربعة إلى أن هذه الكيفية واجبة ، ولو فعل غير ذلك لم يجزئ إلا عن واحدة فقط
ونقل ابن قدامة عن عطاء القول بأنه يجزئه ، ويكبر لكل حصاة .([44])
وإن كان قول عطاء مخالفا لفعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لكن قد يحتاج إليه فيما لو اضطر شخص بسبب الزحام إلى مثل هذا الأمر ، وألقى بما في يده لينجو بنفسه ، فيسوغ القول له بالإجزاء اعتمادا على قول عطاء ، وإن كان لا يفتى به ابتداء.
المسألة الثالثة : جواز الرمي من أي اتجاه للجمرة .
الواجب قصد المرمى ، ووقع الحصى فيه بفعله اتفاقا ، ومن أي جهة فعل ذلك أجزأه ، وإن كانت السنة مراعاة الجهة التى رمى منها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
قال الشافعي في الأم :” ويرمي الجمرتين الأولى والوسطى يعلوهما علوا ومن حيث رماهما أجزأه ويرمي جمرة العقبة من بطن الوادي ومن حيث رماها أجزأه “([45])
وقد ثبت أن كثيرا من الصحابة كان إذا تعذر عليهم رمي جمرة العقبة الكبرى من بطن الوادي صعدوا ورموه من أعلى ، قال ابن قدامة :” كذلك سميت جمرة العقبة فيرميها بسبع حصيات , يكبر مع كل حصاة , ويستبطن الوادي , ويستقبل القبلة , ثم ينصرف ولا يقف . وهذا بجملته قول من علمنا قوله من أهل العلم . وإن رماها من فوقها جاز ; لأن عمر رضي الله عنه جاء والزحام عند الجمرة , فصعد فرماها من فوقها . والأول أفضل ” ([46])
فكانت هناك مرونة كبيرة ، وتقدير للزحام بحيث لا يترتب على مراعاة سنة هلاك نفس .
المسألة الرابعة : مدى الإلزام بترتيب رمي الجمار : الدنيا ، فالصغرى ، فالكبرى .
ذهب الجمهور إلى أن الترتيب في رمي الجمار واجب ،فإن نكس بأن رمى الكبرى قبل الوسطى ثم الدنيا لم يجزه إلا الأولى فقط وأعاد الوسطى ثم الكبرى ، وذلك لفعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث رماها مرتبة .
وذهب الحسن وعطاء وأبو حنيفة إلى أن الترتيب سنة ، فإن رمى منكسا أعاد ندبا ولو لم يفعل لأجزأه .
ووجه هذا القول :” ما أخرجه البيهقي في سننه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال :” من قدم نسكا بين يدي نسك فلا حرج ” ([47])
وقالوا : بأنها مناسك متكررة ، في أمكنة متفرقة في وقت واحد ليس بعضها تابعا لبعض فلم يشترط فيها الترتيب كالرمي والذبح .([48])
قال ابن نجيم في البحر الرائق “الترتيب في الجمار الثلاث في اليوم الثاني ليس بشرط , ولا واجب , وإنما هو سنة ” ([49])
المبحث الثاني
العمل بالرخص في رمي الجمار
وفيه ثلاثة مطالب :
الأول : العمل بالرخصة الشرعية الثابتة بالكتاب والسنة عند موجبها .
الثاني : العمل برخص المذاهب .
الثالث : العمل بأقوال أهل العلم من غير أصحاب المذاهب المشتهرة .
المطلب الأول : العمل بالرخصة الشرعية الثابتة بالكتاب والسنة عند تحقق موجبها .
مما قامت عليه الشريعة الإسلامية رفع الحرج والتيسير على الناس ، قال تعالى { وما جعل عليكم في الدين من حرج } الحج 78 ، وقال تعالى { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } البقرة 185 ، وقال تعالى { يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا } النساء 28 وفي السنة كثير من النصوص الشرعية التي تدعو إلى العمل بالرخص .
أخرج الإمام أحمد في المسند عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ :” إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته ” ([50])
وتطبيقات ذلك في الأحكام الشرعية كثيرة .
وقد قسم العلماء الرخصة باعتبار حكم العمل بها إلى ثلاثة أقسام :
– رخص واجبة : مثل أكل المضطر مما حرم من المأكولات .
– رخص مندوبة : مثل القصر للمسافر سفرا يبلغ ثلاثه أيام فصاعدا , ومن هذا القبيل أيضا الفطر في رمضان بالنسبة للمسافر الذي يشق عليه الصوم , والإبراد بالظهر , والنظر إلى المخطوبة ..
– رخص مباحة : وقد مثلوا لها بالعقود التي جاءت على خلاف القياس , كالسلم , والعرية , والقراض , والمساقاة , والإجارة , والجعل , ونحوها مما أبيح لحاجة الناس إليه . ([51])
وهناك تقسيمات أخرى ، وعبارات للفقهاء متعددة للرخصة ليس هنا مجال تفصيلها .
ويفيدنا معرفة ذلك في أن من تحقق فيه موجب رخصة من الرخص الشرعية وكان من أهلها فيتعين عليه العمل بها إن كانت العمل بها يدفع عنه هلاكا محققا أ ومتوقعا ، أو يدفع ذلك عن الغير ، أو ترفع عنه حرجا ومشقة ، كما رخص للمضطر في تناول المحظورات دفعا لخطر الهلاك عنه ، وللمسافر في الإفطار في رمضان ، وقصر الصلاة ، وللمريض بالفطر ، أو بالصلاة قاعدا أو دون ذلك ، بل ويجوز العمل بالرخصة عند تحقق موجبها وإن لم يترتب على تركها حرج ومشقة كالإفطار للمسافر سفرا لا يلحقه منه مشقة .
وتطبيقات هذه الأقسام في الحج كثيرة ، وقد وجدنا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رخص لأهل الأعذار في ترك بعض أفعال الحج الواجبة ، كإذنه لأهل الأعذار بترك المبيت بمنى ، والتعاقب في الرمي للرعاة ، وترك طواف الوداع للحائض ، ورخص للضعفة من النساء وأصحاب الحاجات برمي جمرة العقبة الكبرى بعد منتصف ليلة النحر ، ورفع الحرج عمن قدم أو أخر شيئا من أعمال الحج في يوم النحر وغير ذلك مما ذكرناه ،فيجب النظر في هذه الرخص ، وعدم التشديد على النفس ؛ لأنه قد يظن الحاج بأن ترك الرخصة أولى وأن العزيمة أفضل في موضع يتعين فيه العمل بالرخصة .
المطلب الثاني : العمل برخص المذاهب
عرضنا لكثير مما أجازه بعض الفقهاء في أحكام الحج على خلاف غيرهم أو جمهورهم ، فهل يجوز للحاج أن يتبع قولا من هذه الأقوال لدفع الحرج عنه ، أو من باب العمل بالأيسر له ، وهل يجوز تتبع كافة الرخص ؟
هذه مسألة دقيقة وغاية في الأهمية ، ويترتب على فقهها دفع كثير من الحرج على الناس في الحج ؛ ولذا نوليها قدرا من الأهمية فيما يلي : ـ
أولا : المراد برخص المذاهب .
” أخف الأقوال وأيسرها على الشخص من أقوال الفقهاء في مسألة من المسائل لغير المتذهب بالمذهب القائل به “
فرمي الجمار قبل الزوال في يوم النفر رخصة لغير الحنفية أما الحنفية فلا يكون رخصة لهم بل هو حكم أصلي ، وإن كان فيه تيسير ورفع حرج عليهم فهذه رخصة عامة .
ثانيا : الالتزام بمذهب معين .
هل يجوز للشخص إذا وجد رخصة وتخفيفا في مذهب غير مذهبه ، أن يعمل بها ويخالف مذهبه ، أم يجب عليه الالتزام بمذهبه ؟
المذاهب الفقهية – كما سبق التعريف بها – اجتهادات للفقهاء من أدلة الشرع الظنية ، وهذه الاجتهادات قد تصيب وقد تخطئ ، فهي ليست شرائع منزلة ، وأصحابها ليسو معصومين ، مبرئين من الزلل والخطأ ، وما أوجب الشرع طاعة مطلقة لأحد إلا لله ورسوله ، أما غيرهما – أيا كانوا – فلكل مسلم أن يأخذ من كلامهم ويترك .
وما وجدنا دعوة من أحد من الأئمة المجتهدين لوجوب تقليدهم واتباعهم ، وإنما وجدنا خلاف ذلك دعوة لتمحيص أقوالهم وآرائهم وعرضها على المصدرين الأصليين للتشريع الإسلامي الكتاب والسنة .
كما نجد نصوص الكتاب والسنة تدعو كل مسلم إلى التعرف بنفسه على أحكام دينه ، وتذم التقليد ([52]) فى الجملة ، وتوجب على كل مسلم إذا تبين له حكم الله ورسوله في أمر أن لا يعدل عنه ، ولا يتبع أحدا في مخالفة الله تعالى ورسوله ؛ فإن الله – تعالى – فرض طاعته وطاعة رسوله على كل مسلم في كل حال ووقت ، لكن قدرة الناس فى التعرف على حكم الله ورسوله فى كل نازلة وحادثة مختلفة ، فهناك المجتهد ، ومن له القدرة على النظر فى أدلة الأحكام الشرعية ، وهناك العامي غير المؤهل وليس من أهل الاجتهاد .
ويتعين على المجتهد أن يبذل وسعه بنفسه فى التعرف على حكم الشرع فيما ينزل به ([53]) ، وكذا من له القدرة على النظر فى أدلة الأحكام الشرعية والقدرة على الترجيح بينها وإن لم يصل إلى رتبة الاجتهاد أن يتبع ما ترجح دليله لديه ، ولا يقلد أحدا . ([54])
أما العامي غير المؤهل الذي لم يصل إلى رتبة الاجتهاد ، ولا يحسن النظر فى أدلة الأحكام الشرعية ولا فى أقوال المتقدمين فقد اختلف أهل العلم بشأنه على ثلاثة أقوال :الأول : وجوب تمذهبه بمذهب معين من المذاهب الفقهية المعتبرة يأخذه برخصه وعزائمه .
وهو ما قال به جمع من الفقهاء وخاصة المتأخرين ، فذكره الحطاب المالكي وادعى أنه قول الجمهور ، وكذا النفراوي وذكر أنه الإجماع ، وأبو الحسن الكيا من الشافعية ، وذكره النووي وجها عندهم ، وقال المحلي فى شرح جمع الجوامع : إنه الأصح ، ووجه عند الحنابلة وذكر المرداوي والفتوحي الحنبلي عن صاحب الرعاية : أنه الأشهر .([55])
ووجه هذا القول : -أن الله – سبحانه – جعل في فطر العباد تقليد المتعلمين للأستاذين والمعلمين , ولا تقوم مصالح الخلق , إلا بهذا , وذلك عام في كل علم وصناعة , وقد فاوت الله سبحانه بين قوى الأذهان كما فاوت بين قوى الأبدان , فلا يحسن في حكمته وعدله ورحمته أن يفرض على جميع خلقه معرفة الحق بدليله والجواب عن معارضه في جميع مسائل الدين دقيقها وجليلها ; ولو كان كذلك لتساوت أقدام الخلائق في كونهم علماء , بل جعل سبحانه هذا عالما , وهذا متعلما , وهذا متبعا للعالم مؤتما به , بمنزلة المأموم مع الإمام ، والتابع مع المتبوع . كما أنه لو كلف الناس كلهم الاجتهاد وأن يكونوا علماء فضلاء لضاعت مصالح العباد , وتعطلت الصنائع والمتاجر , وكان الناس كلهم علماء مجتهدين , وهذا مما لا سبيل إليه شرعا , والقدر قد منع من وقوعه .
فلزم التقليد ولا يمكن ترك المقلد لهواه يتبع أي مذهب شاء وإلا لأفضى إلى أن يلتقط رخص المذاهب متبعا هواه , ويتخير بين التحليل والتحريم والوجوب والجواز . وذلك يؤدي إلى انحلال ربقة التكليف بخلاف العصر الأول , فإنه لم تكن المذاهب الوافية بأحكام الحوادث مهذبة وعرفت , فعلى هذا يلزمه أن يجتهد في اختيار مذهب يقلده على التعيين ” ([56])
القول الثاني : يحرم التمذهب بمذهب معين ، وإنما على العامي أن يتعلم أحكام دينه ، بسؤال أهل العلم الموثوق بهم والذين يردونه إلى حكم الله ورسوله لا إلى آراء الرجال .
وقال به المعتزلة ، وأبو عمر بن عبد البر ، وابن حزم ، وابن تيمية ، وابن القيم واستثنيا حالة العجز والضرورة التى تحول دون التعلم ، والشوكاني ، وينسب إلى الأئمة الأربعة لما ورد عنهم من النهي عن تقليدهم .([57])
ووجه هذا القول : ماجاء من نصوص شرعية وآثار وأقوال للسلف الصالح وعن الأئمة المجتهدين أنفسهم تذم التقليد وتعيب على أهله ، وأنه لم يرد فى الشرع ما يوجب اتباع واحد من الأئمة المتبوعين ، ولا إيجاب إلا فيما أوجبه الشرع ، والعامي لا يصح له مذهب ؛لأنه ليس من أهل النظر والاستدلال حتى يعرف المذهب الأرجح من غيره .([58])
القول الثالث : لا يلزم العامي تقليد مذهب بعينه ، ولكن يجوز له ذلك ويسوغ ، وإن تبين له الصواب وترجح أو رجح له فى غير ما تمذهب به فعليه اتباعه.
وهو قول كثير من العلماء باختلاف مذاهبهم من الحنفية ، والشافعية ، والحنابلة واختاره ابن تيمية فى حالة ما إذا عجز العامي عن معرفة حكم الله ورسوله وهو قول تلميذه ابن القيم ، والمختار عند الزيدية. 0([59])
ووجه عدم الإلزام عند هذا القول أنه لا إلزام إلا بالشرع كما قال أصحاب القول الثاني ، أما جوازه إذا لم يتيسر للمكلف التعرف على حكم الله ورسوله من الأدلة الشرعية المعتبرة فلما جاء من وجه عند أصحاب القول الأول حيث لا سبيل للمكلف إلا باتباع مذهب .
لكن إن تبين له الصواب فى غير ما تمذهب فعليه الانصياع للحق أينما كان ، ويحسن بالمكلف أن يتعرف ما استطاع على أدلة مفتيه .
يقول ابن تيمية :” فكل من عدل عن اتباع الكتاب والسنة وطاعة الله ورسوله إلى عادته وعادة أبيه وقومه فهو من أهل الجاهلية المستحقين للوعيد , وكذلك من تبين له في مسألة من المسائل الحق الذي بعث الله به رسوله ثم عدل عنه إلى عادته فهو من أهل الذم والعقاب . وأما من كان عاجزا عن معرفة ما أمر الله به ورسوله,وقد اتبع فيها من هو من أهل العلم والدين ولم يتبين له أن قول غيره أرجح من قوله فهو محمود مثاب , لا يذم على ذلك ولا يعاقب . ” ([60])
ويقول فى السياسة الشرعية :” ومتى أمكن في الحوادث المشكلة معرفة ما دل عليه الكتاب والسنة,كان هو الواجب,وإن لم يمكن ذلك لضيق الوقت أو عجز الطالب , أو تكافؤ الأدلة عنده أو غير ذلك , فله أن يقلد من يرتضي علمه ودينه . هذا أقوى الأقوال .” ([61]) وهذا ما يستقيم مع الأدلة المعتبرة الصحيحة .
والحق أن التقليد الذي بالغ أصحاب القول الثاني فى دحضه ورده والتشنيع عليه ليس هو التقليد الذي أجازه كثير من العلماء أو أوجبوه .
وقد حرر ابن القيم محل النزاع فى ذلك فقال ” تفصيل القول في التقليد وانقسامه إلى ما يحرم القول فيه والإفتاء به , وإلى ما يجب المصير إليه , وإلى ما يسوغ من غير إيجاب . أنواع ما يحرم القول به : فأما النوع الأول فهو ثلاثة أنواع : أحدها : الإعراض عما أنزل الله وعدم الالتفات إليه اكتفاء بتقليد الآباء . الثاني : تقليد من لا يعلم المقلد أنه أهل لأن يؤخذ بقوله . الثالث : التقليد بعد قيام الحجة وظهور الدليل على خلاف قول المقلد , والفرق بين هذا وبين النوع الأول أن الأول قلد قبل تمكنه من العلم والحجة , وهذا قلد بعد ظهور الحجة له ; فهو أولى بالذم ومعصية الله ورسوله ” ([62])
وقد أوجد المحرمون للتقليد مرتبة وسطى بين الاجتهاد والتقليد تخفف من غلواء القول بالحرمة مطلقا لما فى إطلاق القول بالحرمة من تشديد على العوام ، وهذه المرتبة هي الاتباع . قال ابن القيم نقلا عن ابن خويزمنداد المالكي :” التقليد معناه في الشرع الرجوع إلى قول لا حجة لقائلة عليه , وذلك ممنوع منه في الشريعة , والاتباع : ما ثبت عليه حجة . وقال في موضع آخر من كتابه : كل من اتبعت قوله من غير أن يجب عليك قبوله بدليل يوجب ذلك فأنت مقلده , والتقليد في دين الله غير صحيح , وكل من أوجب الدليل عليك اتباع قوله فأنت متبعه , والاتباع في الدين مسوغ ,والتقليد ممنوع.” ([63])
ويقول الشوكاني :” وأما ما ذكروه من استبعاد أن يفهم المقصرون نصوص الشرع ، وجعلوا ذلك مسوغا للتقليد فليس الأمر كما ذكروه فههنا واسطة بين الاجتهاد والتقليد وهي سؤال الجاهل للعالم عن الشرع فيما يعرض له لا عن رأيه البحت واجتهاده المحض ، وعلى هذا كان المقصرين من الصحابة والتابعين وتابعيهم ، ومن لم يسعه أهل هذه القرون الثلاثة الذين هم خير قرون هذه الأمة على الإطلاق فلا وسع الله عليه …”([64])
والخلاصة : أن الراجح من أقوال الفقهاء أن الالتزام بمذهب ما ليس لازما ولا واجبا شرعيا ، وإنما أكثر ما يقال فيه الجواز .
ثالثا : الانتقال من مذهب إلى مذهب .
يترتب على جواز الالتزام بمذهب معين مسألة أخرى ، وهي هل يجوز لمن التزم بمذهب أن ينتقل منه إلى غيره ، كأن يكون شافعيا ثم ينتقل إلى المالكية ، أو ينتقل فى بعض المسائل إلى مذهب آخر مع احتفاظه بمذهبه الأصلي ، أو لا يكون ملتزما بمذهب بل يأخذ حكم كل مسألة من مذهب ؟
ما تقتضيه الأدلة القاضية بذم التقليد المطلق ، وعدم وجود ما يدل على الإلزام من قبل الشرع ، ونصوص الفقهاء التى تنهى عن تقليدهم إذا ظهر الدليل مخالفا لأقوالهم،وما حدث من كثير منهم فى انتقالهم من مذهب إلى آخر ([65]) كل ذلك يدل على أنه لا يوجد ثمت ما يمنع من أن ينتقل المكلف من مذهب إلى مذهب فى الفروع كلها أو فى بعض المسائل بل أوجب كثير من الفقهاء على المكلف ذلك إن ظهر له قوة دليل الآخر . ([66])
والانتقال من مذهب إلى آخر له قد يكون :
ـ بسبب قوة دليل المذهب المنتقل إليه فيكون الانتقال واجبا في هذه الحالة ، والمسلم متى تبين له الحق في جانب انتقل إليه ، ولا يسوغ له عدم انتقاله تعصبا لمذهبه الأول .
ـ أو طلبا للأخف والأهون ، وهذه المسألة تناولها العلماء بالتفصيل فالأصل عندهم الجواز ، ما لم يكن ذلك ديدنا للشخص ، أو أدى إلى صورة للمسألة حكم العلماء ببطلانها ، أو كان في حاجة وضرورة .
قال الشاطبي ـ رحمه الله ـ :” وأذكر جملة مما فى اتباع رخص المذاهب من المفاسد سوى ما تقدم ذكره فى تضاعيف المٍسألة : كالانسلاخ من الدين بترك اتباع الدليل إلى اتباع الخلاف ، وكالاستهانة بالدين إذ يصير بهذا الاعتبار سيالا لا ينضبط ، وكترك ماهو معلوم إلى ما ليس بمعلوم ؛لأن المذاهب الخارجة عن مذهب مالك فى هذه الأمصار مجهولة ، وكانخرام قانون السياسة الشرعية بترك الانضباط إلى أمر معروف ، وكإفضائه إلى القول بتلفيق المذاهب على وجه يخرق إجماعهم ، وغير ذلك من المفاسد التى يكثر تعدادها ” ([67])
وقال الأنصاري ” وله الانتقال من مذهبه إلى مذهب آخر سواء قلنا يلزمه الاجتهاد في طلب الأعلم أم خيرناه كما يجوز له أن يقلد في القبلة هذا أياما , وهذا أياما لكن لا يتبع الرخص ؛ لما في تتبعها من انحلال ربقة التكليف “([68])
وذكر السبكي في فتاويه الحالات التي يجوز فيها الانتقال من مذهب إلى آخر ، وهي :
الأولى : أن يترجح لديه المذهب الآخر ، ففى هذه الحالة يجوز له اتباع الراجح ، وأوجب كثير من الفقهاء عليه ذلك – كما قدمنا – .
الثانية : أن ينتقل احتياطا لدينه ، وخروجا من الخلاف ، فإذا كان يعتقد عدم نقض الوضوء بمس الذكر فيجوزله تحوطا أن يتوضأ خروجا من الخلاف ، وحتى يكون وضوءه متفقا عليه بين الجميع ، والخروج من الخلاف من القواعد الشرعية المعتبرة .
الثالثة :إذا قلد مذهب الغير لحاجة لحقته أو ضرورة أرهقته،والضرورات تبيح المحظورات فأولى أن تبيح الانتقال إلى مذهب مجتهد آخر يقول بالجواز.([69])
وخالف الشاطبي فى اعتبار الضرورة سببا مبيحا لاتباع الرخص فقال :” وربما استجاز هذا بعضهم فى مواطن يدعى فيها الضرورة وإلجاء الحاجة بناء على أن الضرورات تبيح المحظورات ، فيأخذ عند ذلك بما يوافق الغرض حتى إذا نزلت المسألة على حالة لا ضرورة فيها ولا حاجة إلى الأخذ بالقول المرجوح أو الخارج عن المذهب أخذ فيها بالقول المذهبي أو الراجح فى المذهب ، فهذا أيضا من ذلك الطراز المتقدم ، فإن حاصله الأخذ بما يوافق الهوى الحاضر ، ومحال الضرورات معلومة من الشريعة فإن كانت هذه المسألة منها فصاحب المذهب قد تكفل ببيانها أخذا عن صاحب الشرع فلا حاجة إلى الانتقال عنها وإن لم تكن منها فزعم الزاعم أنها منها خطأ فاحش ودعوى غير مقبولة ” ([70])
والواقع أن اتباع قول مرجوح فى نظر المسلم عند وقوع ضرورة أو حاجة بمعاييرها الشرعية أولى من اتباع المحظور الذي أجاز الشرع ارتكابه عندها .
وقد انتهى كثير من الفقهاء إلى وضع ضوابط للتنقل بين المذاهب وهي :
الأول : أن لا يجتمع من ذلك حقيقة مركبة ممتنعة بالإجماع ، وذلك كمن تزوج بلا ولي ، ولا شهود لا عند العقد ولا عند الدخول ، فهذه الصورة تخالف إجماع المسلمين .
الثاني : أن لا يعتقد حكم الشيء حلالا أو حراما حسب مصلحته ، أو اتباعا لهواه ، أو تلاعبا بأحكام الدين .
كالحنفي –مثلا – يدعي بشفعة الجوار فيأخذها بمذهب أبي حنيفة ثم تستحق عليه فيريد أن يقلد الشافعي ، أو كالمفتي يفتى الغير بقول ، ويفتى أقاربه وأصدقاءه أو نفسه بقول آخر ، فهذا ممتنع .
قال الشاطبي :” وقد أدى إغفال هذا الأصل _ منع تتبع الرخص – إلى أن صار كثير من مقلدة الفقهاء يفتي قريبه أو صديقه بما لايفتي به غيره من الأقوال اتباعا لغرضه وشهوته أو لغرض ذلك القريب وذلك الصديق ، ولقد وجد هذا فى الأزمنة السالفة فضلا عن زماننا كما وجد فيه تتبع الرخص اتباعا للغرض والشهوة “
ونقل الشاطبي عن ابن المواز :” لا ينبغي للقاضي أن يجتهد فى اختلاف الأقاويل . وقد كره مالك ذلك ولم يجوزه لأحد ، وذلك عندي : أن يقضي بقضاء بعض من مضى ثم يقضي فى ذلك الوجه بعينه على آخر بخلافه ، وهو أيضا من قول من مضى وهو فى أمر واحد ، ولو جاز ذلك لأحد لم يشأ أن يقضي على هذا بفتيا قوم ويقضى فى مثله بعينه على قوم بخلافه بفتيا قوم آخرين إلا فعل ، فهذا قد عابه من مضى وكرهه مالك ولم يره صوابا .”
وعلق الشاطبي على قول ابن المواز بقوله:”وما قاله صواب فإن القصد من نصب الحكام رفع التشاجر والخصام على وجه لا يلحق فيه أحد الخصمين ضرر مع عدم تطرق التهم للحاكم،وهذا النوع من التخيير فى الأقوال مضاد لهذا كله”([71])
وقال ابن تيمية :” وقد نص الإمام أحمد وغيره على أنه ليس لأحد أن يعتقد الشيء واجبا أو حراما ثم يعتقده غير واجب أو محرم بمجرد هواه ” ([72])
وقال القرافي :” لا ينبغي إذا كان في المسألة قولان أحدهما فيه تشديد والآخر فيه تخفيف أن يفتي العامة بالتشديد والخواص من ولاة الأمور بالتخفيف وذلك قريب من الفسوق والخيانة في الدين والتلاعب بالمسلمين وذلك دليل على فراغ القلب من تعظيم الله تعالى وإجلاله وتقواه وعمارته باللعب وحب الرياسة والتقرب للخلق دون الخالق فنعوذ بالله من صفات الغافلين :” ([73])
الثالث : أن لا يجعل اتباع الرخص ديدنه ، وإنما يكتفى بموضع الحاجة فقط ، فإذا تنقل بين المذاهب متبعا هواه فهذا لايجوز شرعا ، ويصدق عليه ما قاله الفقهاء في تتبع رخص المذاهب ، والمراد به كما قال الفقهاء :” أخذ المكلف من كل مذهب ما هو الأهون فيما يقع من المسائل بلا دليل ، متبعا هواه . ([74])
فمثلا في الحج : لا يطوف طواف القدوم ؛ لأنه سنة عند المالكية ، ولا يسعى بين الصفا والمروة ؛لأنه سنة في رواية عن أحمد وقول ابن عباس ، وأنس ، وابن الزبير ، وابن مسعود ، ويترك المبيت بمزدلفة ؛ لأنه سنة في رواية عن أحمد ، ويترك المبيت بمنى أيام التشريق ؛ لأنه سنة عند الحنفية ، ويرمي قبل الزوال فى يوم الحادي عشر ، لما نقل عن عطاء وغيره جواز ذلك ، ولا يطوف طواف الوداع ؛ لأنه سنة عند المالكية .فهذا شخص لا هم له إلا تتبع الرخص وهذا لا يجوز شرعا لما فيه من المفاسد والخروج على الشرع .
وينقل عن الإمام أحمد قوله : “لو أن رجلا عمل بكل رخصة بقول أهل الكوفة في النبيذ , وأهل المدينة في السماع , وأهل مكة في المتعة كان فاسقا. ([75])”
وفي سنن البيهقي قال : وأخبرنا الحاكم قال أخبرنا أبو الوليد يقول : سمعت ابن سريج يقول : سمعت إسماعيل القاضي قال : دخلت على المعتضد فدفع إلي كتابا نظرت فيه وقد جمع فيه الرخص من زلل العلماء وما احتج به كل منهم , فقلت : مصنف هذا زنديق , فقال : لم تصح هذه الأحاديث ؟ قلت : الأحاديث على ما رويت ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة , ومن أباح المتعة لم يبح المسكر , وما من عالم إلا وله زلة , ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه , فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب .” ([76])
وقال أبو إسحاق الشاطبي :”متى خيرنا المقلدين فى مذاهب الأئمة لينتقوا منها أطيبها عندهم لم يبق لهم مرجع إلا اتباع الشهوات فى الاختيار وهذا مناقض لمقصد وضع الشريعة فلا يصح القول بالتخيير على حال “0 ([77])
وقال عليش : أما التقليد في الرخصة من غير تتبع بل عند الحاجة إليها في بعض الأحوال خوف فتنة ونحوها فله ذلك.” ([78])
الرابع : ألا يكون ما قلد فيه الغير مما ينقض فيه الحكم لو وقع به .وذلك فى حالة ما إذا كان التقليد لقول يخالف قطعيا كنص كتاب أو سنة متواترة أو إجماع ، أو ظنيا واضح الدلالة كخبر الواحد والقياس الجلي .
وحصرها المالكية فى أربعة :” ما خالف الإجماع ، أو القواعد ، أو النص ، أو القياس الجلي ” وهو معنى قول القرافي ” ولا نريد بالرخص ما فيه سهولة على المكلف , بل ما ضعف مدركه بحيث ينقض فيه الحكم , وهو ما خالف الإجماع أو النص أو القياس الجلي , أو خالف القواعد ” ([79])
الخامس : انشراح صدره للتقليد المذكور ، ودليل اعتبار هذا الشرط ما رواه مسلم عن النواس بن سمعان – رضي الله عنه – عن النبي –صلى الله عليه وآله وسلم – قال :{البر حسن الخلق ، والإثم ماحاك فى نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس } ([80]) وعند أحمد والدارمي بإسناد حسن عن وابصة بن معبد قال : أتيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال :” جئت تسأل عن البر والإثم ؟ قلت : نعم . قال : ” استفت قلبك ، البر ما اطمأنت إليه النفس ، واطمأن إليه القلب ، والإثم ما حاك فى النفس ، وتردد فى الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك “([81]) فهذا تصريح بأن ما حاك في نفسك ففعله إثم
وقيد ابن أمير الحاج هذا القيد بقوله :” وأما انشراح صدره للتقليد فليس على إطلاقه .. ..لأن هذا إنما يكون إذا كان صاحبه ممن شرح صدره بالإيمان وكان المفتي له يفتي بمجرد ظن أو ميل إلى هوى من غير دليل شرعي . فأما ما كان مع المفتى به دليل شرعي فالواجب على المستفتي الرجوع إليه , وإن لم ينشرح له صدره وهذا كالرخص الشرعية مثل الفطر في السفر والمرض وقصر الصلاة ونحو ذلك مما لا ينشرح به صدر كثير من الجهال فهذا لا عبرة به , وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم -أحيانا يأمر أصحابه بما لا ينشرح به صدر بعضهم فيمتنعون من فعله فيغضب من ذلك كما أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة فكرهه من كرهه منهم ، وكما أمرهم بنحر هديهم ، والتحلل من عمرة الحديبية فكرهوه ، وكرهوا مقاضاته لقريش على أن يرجع من عامه وعلى أن من أتاه منهم يرده إليهم ، وفي الجملة فما ورد النص به فليس للمؤمن إلا طاعة الله ورسوله كما قال تعالى { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } الأحزاب (36) وينبغي أن يتلقى ذلك بانشراح الصدر والرضا فإن ما شرعه الله ورسوله يجب الرضا والإيمان به والتسليم له كما قال تعالى :{ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما }النساء (65) وأما ما ليس فيه نص عن الله ورسوله ولا عمن يقتدى بقوله من الصحابة وسلف الأمة فإذا وقع في نفس المؤمن المطمئن قلبه بالإيمان المنشرح صدره بنور المعرفة واليقين منه شيء , وحاك في صدره لشبهة موجودة ولم يجد من يفتي فيه بالرخصة إلا من يخبر عن رأيه وهو ممن لا يوثق بعلمه وبدينه بل هو معروف باتباع الهوى فهنا يرجع المؤمن إلى ما حاك في صدره , وإن أفتاه هؤلاء المفتون وقد نص الإمام أحمد على مثل هذا “0([82])
السادس : أن يعتقد فيمن يقلده الفضل من حيث علمه وعمله ، ويتجنب الأميين ، ومدعي العلم ،والرؤوس الجهال التى تفتي بغير علم فتضِل وتُضِل ، والأصل أن المسلم يجل كافة العلماء ويوقرهم
فإذا توافرت القيود المذكورة جاز الانتقال من قول إلى قول ، وعليه يحمل قول من قال بإباحة تتبع الرخص استدلالا بعموم النصوص الداعية إلى التيسير والترفق .
والخلاصة : أن اتباع رخص المذاهب إن خلا من الهوى والعبث بل كان لدفع مفسدة ، أو رفع حرج ، وكان القول من أقوال العلماء المعتبرين ، ولم يكن ذلك ديدنا للشخص وهو الذي يطلق عليه العلماء ” التتبع ” فلا حرج في ذلك شرعا .
وفي مسألتنا نجد أن كثيرا من الأقوال الواردة في رمي الجمار تدفع مفاسد وترفع حرجا ، ويفتى بها عند الحاجة إليها لا على سبيل التتبع ، ولا تؤدي إلى صورة لرمي الجمار منهي عنها شرعا .
المسألة الثالثة : العمل بأقوال أهل العلم من غير أصحاب المذاهب المشتهرة .
أوردنا في رخص رمي الجمار كثيرا من الأقوال الفقهية التي لم تنتشر كأقوال عطاء ، وسعيد ، والحسن ، والأوزاعي وغيرهم ، ولم تنتشر أقوالهم كانتشار أقوال أصحاب المذاهب المعروفة ، فهل تعتبر هذه الأقوال ، وتراعى في الخلاف ، كما تراعى الأقوال الأخرى ؟
وقع خلاف بين الفقهاء في جواز العمل بأقوال الصحابة والتابعين وتقليدهم فهناك من ذهب إلى عدم جواز ذلك مطلقا ؛ لعدم انضباط مذاهبهم ، وعدم تدوينها ، وهناك من أجاز ذلك فيما لامجال فيه للقياس ، أ, إذا لم يعلم له مخالف ، وهناك من أجازه مطلقا .
فنقل المنع مطلقا عن الشافعية ، حيث قال النووي :” وليس له التمذهب بمذهب أحد من أئمة الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم من الأولين , وإن كانوا أعلم وأعلى درجة ممن بعدهم ; لأنهم لم يتفرغوا لتدوين العلم وضبط أصوله وفروعه , فليس لأحد منهم مذهب مهذب محرر مقرر , وإنما قام بذلك من جاء بعدهم من الأئمة الناحلين لمذاهب الصحابة والتابعين , القائمين بتمهيد أحكام الوقائع قبل وقوعها , الناهضين بإيضاح أصولها وفروعها , كمالك وأبي حنيفة وغيرهما ” ([83])
وقال البزدوي في أصوله :” قال أبو سعيد البردعي تقليد الصحابي واجب يترك به القياس قال وعلى هذا أدركنا مشايخنا ، وقال الكرخي : لا يجب تقليده إلا فيما لا يدرك بالقياس ، وقال الشافعي لا يقلد أحد منهم , ومنهم من فصل في التقليد فقلد الخلفاء رضي الله عنهم”
وعلق البخاري في شرحع على البزدوي : “لاخلاف أن مذهب الصحابي إماما كان أو حاكما أو مفتيا ليس بحجة على صحابي آخر إنما الخلاف في كونه حجة على التابعين ومن بعدهم من المجتهدين ، فقال أبو سعيد البردعي وأبو بكر الرازي في بعض الروايات وجماعة من أصحابنا : إنه حجة وتقليده واجب يترك به أي بقوله أو بمذهبه القياس ، وهو مختار الشيخين وأبي اليسر ، وهو مذهب مالك وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين والشافعي في قوله القديم , فإنه ذكر أصحابه في رسالته القديمة وأثنى عليهم بما هم أهله ثم قال : وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل ليستدرك به علم أو ليستنبط وآراؤهم أولى من آرائنا عندنا ; لأنفسنا ونص في موضع آخر أن الصحابة إذا اختلفت فالأئمة الأربعة أولى , فإن اختلفت الأئمة الأربعة فقول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أولى ، وذكر في موضع آخر : أنه يجب الترجيح بقول الأعلم والأكبر قياسا ; لأن زيادة علمه يقوي اجتهاده ويبعده عن التقصير. وقال أبو الحسن الكرخي وجماعة من أصحابنا لا يجب تقليده إلا فيما لا يدرك بالقياس وإليه ميل القاضي الإمام أبي زيد على ما يشير تقريره في التقويم وقال الشافعي رحمه الله أي في قوله الجديد لا يقلد أحد منهم أي لا يكون قوله حجة , وإن كان فيما لا يدرك بالقياس وإليه ذهبت الأشاعرة والمعتزلة وهذا اللفظ كما يدل على عدم وجوب التقليد يشير إلى عدم جوازه أيضا وهو المختار عندهم , وقد جوز بعضهم التقليد , وإن كان لا يوجبه . وذكر في القواطع أن مذهب الصحابي إن كان موافقا للقياس فهو حجة إلا أن الأصحاب اختلفوا فقال بعضهم الحجة في القياس وقال بعضهم الحجة في قوله . وأما إذا كان بخلاف القياس أو كان مع الصحابي قياس خفي والجلي يخالف قوله فقد اختلف قول الشافعي فيه قال في القديم : قول الصحابي أولى من القياس وقال في الجديد : القياس أولى ومنهم أي من العلماء من فصل في التقليد أي في تقليد الصحابة فقلد أي أوجب تقليد الخلفاء الراشدين وأمثالهم أي في الفضيلة والتخصيص بتشريف مثل ابن مسعود وابن عباس ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم ومن قلد الخلفاء الأربعة ومنهم من قلد الشيخين لا غير وعن الشيخ أبي منصور عن أصحابنا أن تقليد الصحابي واجب إذا كان من أهل الفتوى ولم يوجد من أقرانه خلاف ذلك أما إذا خالفه غيره فلا يجب تقليد البعض ولكن وجب الترجيح بالدليل .” ([84])
قال الزركشي : من يجوز تقليدهم أربعة أصناف : أحدها – النبي عليه الصلاة والسلام , بناء على أن قوله يسمى تقليدا , وهو الأصح , لقيام الدليل على صدقه .
والثاني : المخبر عن الرسول .
والثالث : المجمعون على حكم , فتقليدهم فيما أجمعوا عليه واجب .
والرابع : الصحابة على أحد القولين . وحكى ابن السمعاني وجهين في تسمية خبر الواحد تقليدا , قال : وأولاهما أنه لا يسمى تقليدا , لأنه لا يقع التسليم لقوله إلا بعد الاجتهاد في عدالته فصار قوله مقبولا بدليل . ” ([85])
والحق : أن القول بعدم جواز العمل بأقوال الصحابة والتابعين ، فيه غمط لهؤلاء الأخيار ، وحرمان للأمة من ثروتهم الفقهية والعلمية ، وأنهم مقدمون في الحقيقة على غيرهم ، وكثيرا ما لايخرج أصحاب المذاهب المتبوعة عن أقوالهم .
ولننظر إلى ما قاله الذهبي في واحد من أشهر التابعين الذين لهم قدر عظيم في فتاوى الحج ، وهو عطاء بن أبي رباح :” عطاء بن أبي رباح مفتي أهل مكة ، ومحدثهم القدوة العلم ، أبو محمد بن اسلم القرشي ، مولاهم المكى الأسود ، ولد في خلافة عثمان ، وقيل في خلافة عمر وهو اشبه .
سمع عائشة وأبا هريرة وابن عباس وأبا سعيد وأم سلمة وطائفة وعنه أيوب وحسين المعلم وابن جريج وابن إسحاق والأوزاعي وأبو حنيفة وهمام بن يحيى وجرير بن حازم وخلق كثير .
كان أسود مفلفلا فصيحا كثير العلم من مولدي الجند .
قال أبو حنيفة : ما رأيت أحدا أفضل من عطاء .
وقال ابن جريج : كان المسجد فراشه عشرين سنة ، قال : وكان من أحسن الناس صلاة .
قال الأوزاعي : مات عطاء يوم مات وهو أرضى أهل الأرض عند الناس .
وقال محمد بن عبد الله الديباج : ما رأيت مفتيا خيرا من عطاء إنما كان مجلسه ذكر الله لا يفتر فان سئل أحسن الجواب .
وقال إسماعيل بن أمية : كان عطاء يطيل الصمت فإذا تكلم خيل إلينا انه يؤيد .
وقال عبد الله بن عباس : يا أهل مكة تجتمعون علي وعندكم عطاء .
وروى الثوري عن عمرو بن سعيد عن أبيه قال : قدم ابن عمر مكة فسألوه ، فقال : تجتمعون لي المسائل وفيكم عطاء .
وعن أبي جعفر الباقر قال : ما بقى على وجه الأرض أعلم بمناسك الحج من عطاء .
قلت : مناقب عطاء في العلم والزهد والتأله كثيرة مات على الأصح في رمضان سنة أربع عشرة ومائة وقيل سنة خمس عشرة بمكة ” ([86])
فهذا هو عطاء ـ رحمه الله ـ أإذا قال قولا لا يلتفت إليه ويلتفت إلى من بعده ، ونحن إذ نقول ذلك لا ندعو إلى تقديس أقوال عطاء أو من هم كعطاء أو أعلى منه ، ولكن نقول : بأنه يجب اعتبار أقواله ، والنظر إليها في ضوء النصوص الشرعية ، وما أظن أن في أقوالهم مخالفة صريحة للكتاب والسنة .
المبحث الثالث
الإلزام في رمي الجمار
من استعراض أقوال الفقهاء في رمي الجمار وجدنا اختلافا واضحا فيما بينهم في كثير من المسائل ، وهذا الاختلاف له ما يسوغه من الأدلة الشرعية ، وليس اختلافا مرجعه الهوى ، وعدم الدليل ، والتحكم بالرأي .
وقد حدث نوع من إلزام الناس في الرمي وغيره من مناسك الحج ببعض الأقوال ، ومنعهم من العمل بالأقوال الأخرى حتى وإن كان صاحبها معتقدا صوابها ورجحانها ، وقد أدى هذا العمل إلى مشاكل جمة لعل أبرزها ما يحدث من تزاحم للرمي في وقت محدد .
وتخفيفا من أثر مشكلة إلزام الناس بقول معين ، ورميهم في وقت واحد اهتدى ولاة الأمر عن الحج إلى تفويج الحجاج أي : تقسيمهم إلى مجموعات وخصصوا لكل مجموعة وقتا ترمي فيه ، بحيث لا يحدث تزاحم في وقت الفضيلة ، ويؤدي التفويج بهذه الطريقة إلى إلزام الناس في الحج بالرمي في وقت قد لايكون فضيلة بالنسبة للبعض ، وهؤلاء يريدون أن يرموا في وقت الفضيلة ، وقد يعتقد هؤلاء أن هذا الوقت لا يجوز فيه الرمي ، أو أنه مفضول بالنسبة لغيره .
ونبحث هذه المسائل في المطالب الآتية :
المطلب الأول : إلزام الناس بقول معين أو مذهب ما .
الأحكام الشرعية من حيث إلزام الناس بها وعدم إلزامهم على أنواع :
ـ منها ما هو قطعي الثبوت والدلالة ، مما لا خلاف فيه ، ولا يقبل فيه الاجتهاد ، ويجب على الجميع الالتزام به ، كفريضة الصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والحج ، وكذا المحرمات المقطوع بحرمتها كالقتل العمد بغير حق ، والزنا ، والسرقة ونحو ذلك .
وهذه الدرجة من الأحكام الأصل فيها التزام الناس بها ، وإجبارهم على القيام بها وفي مخالفة ذلك عقوبة شرعية مقدرة كالحد والقصاص أو غير مقدرة كالتعزير .
ـ ومنها : الأحكام الاجتهادية ، المختلف فيها بين العلماء ، وهذه نوعان :
أ ـ منها ما يكون فيه الحكم لله ولرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخاطب الله بها المؤمنين جميعا ، ولا يؤدي اختلاف الناس فيها إلى فوضى أو اضطراب أو مفسدة وضرر ، فهذه لا يجوز إلزام الناس فيها بقول أحد ، بل يتركون وما يعتقدون ، كتنازع العلماء في نقض الوضوء بلمس المرأة ، أو مس الذكر ، وطواف الحائض للضرورة ، وكون طواف الوداع سنة أو واجب ونحو ذلك .
ب ـ ومنها ما يكون كالصنف السابق لكن تركه لاختلاف الناس يترتب عليه فوضى واضطراب ، ويحتاج الأمر فيه إلى حسم من الحاكم ، أو يكو نفي الإلزام ببعض الأقوال مصلحة ودفع مفسدة ، وهذه المرتبة يجوز فيها الإلزام ، كرأي أبي بكر في قتال المرتدين ، ورأي عمر في تقسيم أرض السواد ، ومسائل الطلاق إذا عرضت على القاضي ، ونحو ذلك من مسائل السياسة الشرعية .
قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ :” فصل فيما جعل الله للحاكم أن يحكم فيه وما لم يجعل لواحد من المخلوقين الحكم فيه بل الحكم فيه على جميع الخلق لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم ليس لأحد من الحكام أن يحكم فيه على غيره ولو كان ذلك الشخص من آحاد العامة .
وهذا مثل الأمور العامة الكلية التي أمر الله جميع الخلق أن يؤمنوا بها ويعملوا بها وقد بينها في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بما أجمعت عليه الأمة أو تنازعت الأمة فيه إذا وقع فيه نزاع بين الحكام وبين آحاد المسلمين : من العلماء أو الجند أو العامة أو غيرهم لم يكن للحاكم أن يحكم فيها على من ينازعه ويلزمه بقوله ويمنعه من القول الآخر فضلا عن أن يؤذيه أو يعاقبه .
مثل أن يتنازع حاكم أو غير حاكم في قوله : { أو لامستم النساء } هل المراد به الجماع ؟ كما فسره ابن عباس وغيره وقالوا : إن مس المرأة لا ينقض الوضوء لا لشهوة ولا لغير شهوة . أو المراد به اللمس بجميع البشرة إما لشهوة وإما مطلقا ؟ كما نقل الأول عن ابن عمر . والثالث قاله بعض العلماء … وكذلك تنازع المسلمون في الوضوء من خروج الدم بالفصاد والحجامة والجرح والرعاف وفي ” القيء ” … وكذلك تنازعوا في كثير من مسائل الفرائض كالجد والمشركة وغيرهما وفي كثير من مسائل الطلاق والإيلاء وغير ذلك وكثير من مسائل العبادات في الصلاة والصيام والحج وفي مسائل زيارات القبور ; منهم من كرهها مطلقا ومنهم من أباحها ومنهم من استحبها إذا كانت على الوجه المشروع وهو قول أكثرهم . وتنازعوا في ” السلام على النبي صلى الله عليه وسلم ” : هل يسلم عليه في المسجد وهو مستقبل القبلة ؟ أو مستقبل الحجرة ؟ وهل يقف بعد السلام يدعو له أم لا ؟ وتنازعوا أي المسجدين أفضل : المسجد الحرام أو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم واتفقوا على أنهما أفضل من المسجد الأقصى واتفقوا على أنه لا يستحب السفر إلى بقعة للعبادة فيها غير المساجد الثلاثة واتفقوا على أنه لو نذر الحج أو العمرة لزمه الوفاء بنذره واتفق الأئمة الأربعة والجمهور على أنه لو نذر السفر إلى غير المساجد الثلاثة لم يلزمه الوفاء بنذره وتنازعوا فيما إذا نذر السفر إلى المسجدين إلى أمور أخرى يطول ذكرها . وتنازعوا في بعض تفسير الآيات وفي بعض الأحاديث : هل ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم ؟ أو لم تثبت ؟ فهذه الأمور الكلية ليس لحاكم من الحكام كائنا من كان – ولو كان من الصحابة – أن يحكم فيها بقوله على من نازعه في قوله فيقول : ألزمته أن لا يفعل ولا يفتي إلا بالقول الذي يوافق لمذهبي ; بل الحكم في هذه المسائل لله ورسوله والحاكم واحد من المسلمين فإن كان عنده علم تكلم بما عنده وإذا كان عند منازعه علم تكلم به فإن ظهر الحق في ذلك وعرف حكم الله ورسوله وجب على الجميع اتباع حكم الله ورسوله وإن خفي ذلك أقر كل واحد على قوله – أقر قائل هذا القول على مذهبه وقائل هذا القول على مذهبه – ولم يكن لأحدهما أن يمنع الآخر إلا بلسان العلم والحجة والبيان فيقول ما عنده من العلم . وأما ” باليد والقهر ” فليس له أن يحكم إلا في المعينة التي يتحاكم فيها إليه مثل ميت مات وقد تنازع ورثته في قسم تركته فيقسمها بينهم إذا تحاكموا إليه وإذا حكم هنا بأحد قولي العلماء ألزم الخصم بحكمه . ولم يكن له أن يقول أنا لا أرضى حتى يحكم بالقول الآخر . وكذلك إذا تحاكم إليه اثنان في دعوى يدعيها أحدهما فصل بينهما كما أمر الله ورسوله وألزم المحكوم عليه بما حكم به وليس له أن يقول : أنت حكمت علي بالقول الذي لا أختاره ; فإن الحاكم عليه أن يجتهد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : { إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر } وقد يخص الله بعض الأنبياء والعلماء والحكام بعلم دون غيره كما قال تعالى : { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين } { ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما }” ([87])
وقال أيضا في الفتاوى :” ولهذا كان أئمة أهل السنة والجماعة , لا يلزمون الناس بما يقولونه من موارد الاجتهاد , ولا يكرهون أحدا عليه ؛ ولهذا لما استشار هارون الرشيد مالك بن أنس في حمل الناس على موطئه , قال له : لا تفعل يا أمير المؤمنين , فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار , فأخذ كل قوم عمن كان عندهم , وإنما جمعت علم أهل بلدي , أو كما قال .
وقال مالك أيضا : إنما أنا بشر أصيب وأخطئ , فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة .
قال أبو حنيفة : هذا رأي , فمن جاءنا برأي أحسن منه قبلناه .
وقال الشافعي : إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط . وقال : إذا رأيت الحجة موضوعة على الطريق فإني أقول بها , وقال المزني في أول مختصره , هذا كتاب اختصرته من علم أبي عبد الله الشافعي , لمن أراد معرفة مذهبه . مع إعلامية نهيه عن تقليده وتقليد غيره من العلماء .
وقال الإمام أحمد:ما ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه,ولا يشدد عليهم” ([88])
وقد اختلف صحابة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما بينهم ، واختلفوا مع الخلفاء الراشدين في مسائل كثيرة ، ولم يرد إلزام أي من الخلفاء غيره لما يراه في المسائل العامة كما ترك كل صحابي وما يعتقده صوابا ، مع التحقيق العلمي والمجادلة بالحسنى لبيان الراجح .
المطلب الثاني : الإلزام برخص بعض المذاهب إن أدى إلى مخالفة ما يعتقده الشخص صوابا ، أو أدى إلى العمل بالمفضول .
إن الفكرة التي اهتدى إليها القائمون على أمرالحج وهي ما تسمى ” بتفويج الحجاج ” لرمي الجمرات ، قد يترتب عليه إلزام البعض بالرمي في وقت يكون غير جائز حسب معتقده ، أو مفضولا بالنسبة له ، لكن في هذا العمل تنظيم للحجاج ، وتخفيف للزحام ؛ مما يؤدي إلى سلامتهم .
فهل يصبح الإلزام في هذه الحالة جائزا شرعا ؟
يعتمد الحكم في هذه المسألة على مسألتين :
أولا : مدى جواز ترك الشخص مايراه صوابا في المسائل الاجتهادية لمصلحة .
ثانيا : مدى جواز تقليد المفضول وترك الفاضل .
أولا : مدى جواز ترك الشخص مايراه صوابا في المسائل الاجتهادية لمصلحة .
كأن يصلي شخص إماما بشافعية يرون القنوت في الفجر ، وهو لا يراه فيقنت بهم لمصلحة قد تكون منع الفتنة والاختلاف ، أو من باب الإكرام ، وكذ العكس : إذا كان يرى القنوت فيصلى بقوم لا يرونه فيتركه إكراما أو منعا لفتنة .
وفي موضوعنا أن يترك الحاج بعد الغروب خلافا لما يراه صوابا نزولا على رأي من أجاز ذلك لمصلحة دفع الأذى عن المسلمين ونحو ذلك .
ذكر الفقهاء كثيرا من المسائل التي أجازوا فيها ترك ما يراه صوابا في مسألة لمصلحة راجحة ، أو دفع مفسدة .
قال ابن تيمية :” ويستحب التعوذ أول كل قراءة ، ويجهر في الصلاة بالتعوذ وبالبسملة ، وبالفاتحة في الجنازة ونحو ذلك أحيانا , فإنه المنصوص عن أحمد تعليما للسنة , ويستحب الجهر بالبسملة للتأليف ، كما استحب أحمد ترك القنوت في الوتر تأليفا للمأموم ” ([89])
وفي مطالب أولي النهى ” استحب الإمام أحمد أن يدع أي : يترك الإمام فعل الأفضل عنده أي : في مذهبه تألفا للمأموم كما لو أم جماعة في تراويح , وكانوا لا يرون القنوت في الوتر في النصف الأول من رمضان كالشافعية , فيترك قنوت وتر استعطافا لهم , وقاله أي : قال الشيخ تقي الدين : إنه مستحب , وكذلك لو أم جماعة يرون القنوت في الفجر قنت بهم أو أم بمن يرى القنوت في الوتر قبل الركوع فيقنت بهم كذلك تأليفا لهم” ([90])
كما أجاز الفقهاء الصلاة خلف إمام مخالف للمأموم في الفروع ، منعا للفتنة ، واجتماعا للمسلمين ، قال ابن قدامة :” أما المخالفون في الفروع كأصحاب أبي حنيفة , ومالك , والشافعي , فالصلاة خلفهم صحيحة غير مكروهة . نص عليه أحمد ; لأن الصحابة والتابعين , ومن بعدهم لم يزل بعضهم يأتم ببعض , مع اختلافهم في الفروع , فكان ذلك إجماعا , ولأن المخالف إما أن يكون مصيبا في اجتهاده , فله أجران أجر لاجتهاده وأجر لإصابته , أو مخطئا فله أجر على اجتهاده , ولا إثم عليه في الخطأ , لأنه محطوط عنه . فإن علم أنه يترك ركنا أو شرطا يعتقده المأموم دون الإمام , فظاهر كلام أحمد صحة الائتمام به . قال الأثرم : سمعت أبا عبد الله يسأل عن رجل صلى بقوم , وعليه جلود الثعالب , فقال : إن كان يلبسه وهو يتأول : { أيما إهاب دبغ فقد طهر } . يصلى خلفه . قيل له , أفتراه أنت جائزا ؟ قال : لا , نحن لا نراه جائزا ولكن إذا كان هو يتأول فلا بأس أن يصلى خلفه . ثم قال أبو عبد الله : لو أن رجلا لم ير الوضوء من الدم لم يصل خلفه ؟ ثم قال : نحن نرى الوضوء من الدم , فلا نصلي خلف سعيد بن المسيب , ومالك ومن سهل في الدم ؟ أي : بلى . ورأيت لبعض أصحاب الشافعي مسألة مفردة في الرد على من أنكر هذا , واستدل بأن الصحابة كان يصلي بعضهم خلف بعض مع الاختلاف . ولأن كل مجتهد مصيب , أو كالمصيب في حط المأثم عنه , وحصول الثواب , وصحة الصلاة لنفسه , فجائز الائتمام به , كما لو لم يترك شيئا .” ([91])
وفي الموسوعة الفقهية :”ورد عن الأئمة ما يدل على أن المصلي يأتم بمن يخالف اجتهاده في أحكام الصلاة , ولو كان يرى أن مثل ذلك مفسد للصلاة , أو غيره أولى منه؛ لأنه لما كان الإمام مجتهدا اجتهادا سائغا , أو مقلدا تقليدا سائغا , فإن الانفراد عنه نوع من الفرقة , واختلاف الظواهر تؤدي إلى اختلاف البواطن .
ومما ورد من ذلك : أ – كان أبو حنيفة وأصحابه يرون الوضوء من خروج الدم . ورأى أبو يوسف هارون الرشيد احتجم ولم يتوضأ – أفتاه مالك بذلك – فصلى أبو يوسف خلفه ولم يعد الصلاة . بـ – الشافعي رضي الله عنه ترك القنوت في الصبح لما صلى مع جماعة من الحنفية في مسجدهم بضواحي بغداد . فقال الحنفية : فعل ذلك أدبا مع الإمام , وقال الشافعية بل تغير اجتهاده في ذلك الوقت .
ج – كان الإمام أحمد يرى الوضوء من الحجامة والفصد . فسئل عمن رأى الإمام قد احتجم ثم قام إلى الصلاة ولم يتوضأ أيصلي خلفه ؟ فقال : كيف لا أصلي خلف مالك وسعيد بن المسيب؟”([92])
فمصلحة تأليف القلوب ، واستعطاف الناس وتقديرهم كانت مسوغا للأئمة لترك ما يعتقدونه صوابا ؛ لأجل هذه المصلحة .
وأين هذه المصلحة من مصلحة دفع التزاحم ، وخطره ، والمحافظة على نفوس المسلمين ، وأموالهم ؟ لعمري إنها لأعظم ، وأولى بالمراعاة .
ونخلص من ذلك : أنه لا بأس من ترك الشخص ما يعتقده صوابا وفعل غيره إذا كان لمصلحة شرعية محققة .
ثانيا : تقليد المفضول مع وجود الفاضل .
المفضول قد يكون مذهبا ، وقد يكون مفتيا ، وللفقهاء في هذه المسألة ثلاثة أقوال عرضها الزركشي في البحر ، فقال :
:” تقليد المفضول مذاهب : أحدها : امتناعه , ونقل عن أحمد وابن شريح , لأن اعتقاد المفضول كاعتقاد المجتهد الدليل المرجوح مع وجود الأرجح .
الثاني : وهو أصحها واختاره ابن الحاجب وغيره , الجواز لإجماع الصحابة على تفاوتهم في الفهم , ثم إجماعهم على تسويغ تقليد المفضول مع وجود الأفضل .
والثالث : يجوز لمن يعتقده فاضلا أو مساويا , والخلاف بالنسبة للقطر الواحد , ولا خلاف أنه لا يجب عليه تقليد أفضل أهل الدنيا , وإن كان نائبا عن إقليمه , فهذه الصورة لا تحتمل الخلاف , فعلى هذا لا يجب على أحد الاشتغال بترجيح إمام على إمام , بعد اجتماع شرائط الفتوى “([93])
وما رجحه الزركشي بناء على ما حدث في زمن الصحابة ومن بعدهم ، يؤكده أيضا أن المرجوح قد يكون فيه مصلحة ، ودفع مفسدة ، ومن ثم يتعين العمل به .
إذا كان ما تقدم جائز شرعا ولا حرج فيه ، وللأمة سلف في فعل أئمتها وفقهائها ؛ فلا حرج أن يكون هذا الجواز للشخص إلزاما له من قبل ولي الأمر ما دام هذا الإلزام لا يصطدم بقاعدة شرعية ثابتة ، وفيه مصلحة للمسلمين ، فولي الأمر مأمور شرعا بمراعاة هذه المصالح وتحقيقها .
وتدخل هذه المسائل في المسائل التي يجوز فيها لولي الأمر إلزام الناس بها حتى وإن كانت من مسائل الاجتهاد ؛ لما في ذلك من المصالح التي لا تخفى .
انتهى البحث بحمد الله تبارك وتعالى ، ونسأله التوفيق والسداد والرشاد ، إنه على كل شيء قدير .
خاتمة البحث
بعد هذه السياحة في أقوال الفقهاء ، واستدلالاتهم ننتهي إلى ما يلي ـ
أولا : سعة الفقه الإسلامي ورحابته ومرونته وكفايته في تقديم كافة الحلول الشرعية المعتبرة للتغلب على مشكلات الامة في أداء العبادات وخاصة مناسك الحج .
ثانيا : رعاية المصالح ودرء المفاسد من مقاصد الشريعة المعتبرة ، وتتفاوت الأعمال من حيث طلبها بحسب تحقيقها لذلك .
ثالثا : في رمي الجمار رخص شرعية كثيرة ، يؤدي العمل بها عند الحاجة إليها إلى التغلب على كثير من مشكلات الرمي المتكررة .
رابعا : العمل برخص رمي الجمار قد يكون واجبا إذا كان فيه دفع هلاك محقق أو متوقع للنفس أو إتلافها ، أو رفع حرج ومشقة لا تحتمل ، كما يكون مندوبا إذا كانت أقل من ذلك .
خامسا : إن اتباع رخص المذاهب في رمي الجمار بقصد التوسعة على الناس ورفع الحرج عنهم مطلب شرعي معتبر ، لا حرج فيه شرعا بالضوابط المذكورة .
سادسا : ليس هناك ما يدل على جواز إلزام الناس في مسائل العبادات التي لا يؤدي تركهم فيها إلى فوضى واضطراب ، بل الأصل تركهم وما يرونه صوابا .
سابعا : جواز ترك الراجح واتباع المرجوح المعتبر في رمي الجمار وغيره إذا كان في ذلك تحقيق للمصالح ودفع للمفاسد .
ثامنا : جواز إلزام الناس بالقول الذي يدرأ عنهم المفاسد ، ويحفظ عليهم حياتهم وأموالهم .
المصادر والمراجع
رتبت المصادر والمراجع بحسب ورودها في البحث
1. المصباح المنير للفيومي ـ المكتبة العلمية .
2. البحر المحيط للزركشي ـ دار الكتبي .
3. المستصفى لأبي حامد الغزالي ـ دار الكتب العلمية .
4. شرح الكوكب المنير لأبي البقاء الفتوحي الحنبلي ـ مطبعة السنة المحمدية .
5. لسان العرب لابن منظور ـ دار صادر .
6. بدائع الصنائع للكاساني ـ دار الكتب العلمية .
7. صحيح البخاري ـ دار ابن كثير .
8. صحيح مسلم ـ دار إحياء التراث العربي ـ ترقيم فؤاد عبد الباقي .
9. الفواكه الدواني للنفراوي المالكي ـ دار الفكر .
10. المجموع شرح المهذب للنووي ـ مطبعة المنيرية .
11. كشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي ـ دار الكتب العلمية .
12. المبسوط للسرخسي ـ دار المعرفة .
13. المغني لابن قدامة ـ دار إحياء التراث العربي .
14. المصنف لابن أبي شيبة ـ دار الفكر .
15. المحلى بالآثار لابن حزم الظاهري ـ دارالفكر .
16. المنتقى شرح الموطأ لأبي الوليد الباجي ـ دار الكتاب الإسلامي .
17. سنن أبي داود لسليمان بن الأشعث ـ دارالفكر ـ ترقيم محمد محيي الدين عبد الحميد .
18. الجامع الصحيح للترمذي ـ دار إحياء التراث العربي ـ ترقيم أحمد شاكر .
19. رسالة الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود منشورة على الموقع الذي يحمل اسمه بالانترنت .
20. زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم ـ مطبعة مصطفى الحلبي .
21. شرح معاني الآثار للطحاوي ـ دار المعرفة .
22. نيل الأوطار للشوكاني ـ دار الحديث .
23. الفروع لابن مفلح ـ عالم الكتب .
24. الإنصاف للمردواي ـ دار إحياء التراث العربي
25. الأم للإمام الشافعي ـ دار المعرفة .
26. سنن البيهقي ـ دار الباز .
27. البحر الرائق لابن نجيم ـ دار الكتاب الإسلامي .
28. المسند للإمام أحمد ـ دار إحياء التراث العربي .
29. التقرير والتحبير لابن أمير الحاج – دار الكتب العلمية .
30. شرح الكوكب المنير – تقي الدين أبو البقاء الفتوحي ـ مطبعة السنة المحمدية .
31. إرشاد الفحول للشوكاني ـ مطبعة الحلبي .
32. الفتاوى الكبرى لابن تيمية – دار الكتب العلمية .
33. مواهب الجليل للحطاب ـ دار الفكر . 1/30،
34. فتح العلي المالك للشيخ عليش المالكي ـ دار المعرفة .
35. شرح المحلي على جمع الجوامع ، وعليه حاشية العطار – دارالكتب العلمية .
36. الفتاوي الفقهية الكبرى لابن حجر الهيتمي – المكتبة الإسلامية .
37. حاشية البيجرمي على الخطيب – دار الفكر .
38. الفصول فى الأصول لأبي بكر الجصاص – وزارة الأوقاف الكويتية .
39. إعلام الموقعين لابن القيم ـ دار الكتب العلمية .
40. – البحر الرائق لابن نجيم الحنفي ـ دارالكتاب الإسلامي .
41. رد المحتار على الدرالمختار المعروف بحاشية ابن عابدين ـ دار الكتب العلمية .
42. بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية لمحمد بن مصطفى الخادمي الحنفي – دارإحياء الكتب العربية .
43. التاج المذهب لأحمد العنسي – مكتبة اليمن .
44. السياسة الشرعية فى إصلاح الراعي والرعية لابن تيمية – مكتبة ابن تيمية .
45. قواعد الأحكام فى مصالح الأنام للعز بن عبد السلام دارالكتب العلمية .
46. الموافقات – أبي إسحاق الشاطبي ـ دار إحياء الكتب العربية .
47. أسنى المطالب شرح روض الطالب لأبي يحي زكريا الأنصاري ـ دار الكتاب الإسلامي .
48. فتاوى السبكي – تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي – دار المعارف
49. تبصرة الحكام لابن فرحون اليعمري ـ دارا لكتب العلمية .
50. مطالب أولي النهى فى شرح غاية المنتهى للرحيباني ـ المكتب الإسلامي .
51. غذاء الألباب فى شرح منظومة الآداب – للسفاريني – مؤسسة قرطبة
52. كشف الأسرار على أصول البزدوي ـ دار الكتاب الإسلامي .
53. تذكرة الحفاظ للذهبي ـ دار الكتب العلمية .
54. مجموع فتاوى ابن تيمية ـ طبعة مجمع الملك فهد
55. الموسوعة الفقهية الكويتية ـ 1 /302 .
[1] ـ المصباح المنير للفيومي ـ 224 ـ المكتبة العلمية .
[2] ـ البحر المحيط للزركشي ـ 2/31 ـ دار الكتبي . وقد ذكر الزركشي لغة ثالثة فيها ، وهي ” خرصة ” بتقديم الخاء على الراء ، لكنه ضعفه .
[3] ـ المستصفى لأبي حامد الغزالي ـ 79 ـ دار الكتب العلمية .
[4] ـ شرح الكوكب المنير لأبي البقاء الفتوحي الحنبلي ـ 150 ـ مطبعة السنة المحمدية .
[5] ـ البحر المحيط ـ 2 /32
[6] ـ لسان العرب لابن منظور ـ 14 / 335 ـ دار صادر
[7] ـ لسان العرب ـ 4 /147
[8] ـ بدائع الصنائع للكاساني ـ 2/ 137 ـ دار الكتب العلمية
[9] ـ الحديث متفق عليه ، رواه البخاري في كتاب الحج وغيره ـ باب الفتيا على الدابة عند الجمرة ـ رقم 1736 ترقيم فتح الباري ، صحيح مسلم ـ كتاب الحج ـ باب من حلق قبل النحر ، أو نحر قبل الرمي ـ رقم 1306 ترقيم فؤاد عبد الباقي
[10] ـ البدائع ـ 2/ 136 ، ويراجع : الفواكه الدواني للنفراوي المالكي ـ 2 / 274 ، المجموع شرح المهذب للنووي ـ 8 /244 ، كشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي ـ 2 / 521 ـ دار الكتب العلمية .
[11] ـ المبسوط للسرخسي ـ 4 /69 ـ دار المعرفة .
[12] ـ المجموع شرح المهذب للنووي ـ 8 /219 ـ مطبعة المنيرية
[13] ـ المجموع ـ 8 /269 .
[14] ـ المغني لابن قدامة ـ 3/ 257
[15] ـ المصنف لابن أبي شيبة ـ 4 /476 ـ دار الفكر ، المحلى بالآثار لابن حزم الظاهري ـ 5/ 40 ـ دارالفكر .
[16] ـ المنتقى شرح الموطأ لأبي الوليد الباجي ـ 3 /49 ـ دار الكتاب الإسلامي .
[17] ـ هذه الرسالة منشورة في موقع الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود على شبكة الانترنت .
[18] ـ رواه الشيخان ، صحيح البخاري ـ كتاب الحج ـ باب من قدم ضعفة أهله بليل ـ رقم 1679 ، صحيح مسلم ـ كتاب الحج ـ باب استحباب تقديم دفع الضعفة من النساء وغيرهن ـ رقم 1291
[19] ـ سنن أبي داود ـ كتاب المناسك ـ باب التعجيل من جمع ـ رقم 1942 ترقيم محيي الدين
[20] ـ المجموع ـ 8 /177
[21] ـ المغني ـ 3 / 219
[22] ـ البدائع ـ 2/137
[23] ـ المنتقى ـ 3 /22
[24] ـ سنن الترمذي ـ كتاب الحج ـ باب ما جاء في تقديم الضعفة من جمع بليل ـ رقم 893 ترقيم أحمد شاكر ، سنن أبي داود ـ كتاب المناسك ـ باب التعجيل من جمع ـ رقم 1941
[25] ـ المجموع ـ8/ 177
[26] ـ زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم ـ 1/ 273 ـ مطبعة مصطفى الحلبي .
[27] – صحيح البخاري ـ كتاب الحج ـ باب الذبح قبل الحلق ـ رقم ـ 1723 .
[28] ـ شرح معاني الآثار للطحاوي ـ 2 / 222 ـ دار المعرفة .
[29] ـ المصنف لابن أبي شيبة ـ 4 /354 ـ دار الفكر .
[30] ـ المصنف ـ 4 /408
[31] ـ المغني ـ 3 /235
[32] ـ صحيح البخاري ـ كتاب العلم ـ باب الفتيا على الدابة ـ رقم 83 ، صحيح مسلم ـ رقم 1306
[33] ـ صحيح مسلم ـ كتاب الحج ـ باب من حلق قبل النحر ـ رقم 1306
[34] ـ صحيح البخاري ـ رقم 1734
[35] ـ نيل الأوطار للشوكاني ـ 5 /96 ـ دار الحديث .
[36] ـ البدائع ـ 2 /137
[37] ـ الفروع لابن مفلح ـ 3 /521 ـ عالم الكتب ويراجع : الإنصاف للمردواي ـ 4 /45 ـ دار إحياء التراث العربي
[38] ـ المغني ـ 3/233
[39] ـ المصنف ـ 4 /208
[40] ـ البدائع ـ 2/138
[41] ـ سنن أبي داود ـ كتاب المناسك ـ باب في رمي الجمار ـ رقم 1973
[42] ـ صحيح البخاري ـ كتاب الحج ـ باب إذا رمى الجمرتين ـ رقم 1751
[43] ـ البدائع ـ 2/ 138
[44] ـ المغني ـ 3 /220
[45] ـ الأم للإمام الشافعي ـ 2/235 ـ دار المعرفة .
[46] ـ المغني ـ 3 /218
[47] ـ سنن البيهقي ـ كتاب الحج ـ باب التقديم والتأخير في عمل يوم النحر ـ 5 /144
[48] ـ المغني ـ 3 /233 .
[49] ـ البحر الرائق لابن نجيم ـ 3/80 ـ دار الكتاب الإسلامي .
[50] ـ المسند ـ مسند عبد الله بن عمر ـ رقم 5832
[51] ـ البحر المحيط ـ 2/ 34 .
[52] – التقليد لغة : مصدر قلد , أي جعل الشيء في عنق غيره مع الإحاطة به . واصطلاحا : قال الغزالي : قبول قول بلا حجة . وقال النووي :” قبول قول من يجوز عليه الإصرار على الخطأ بغير حجة على عين ما قبل قوله فيه ” وقال ابن أمير الحاج : العمل بقول من ليس قوله إحدى الحجج الأربع الشرعية بلا حجة منها ” وقال الفتوحي الحنبلي : والتقليد عرفا أي : في عرف الأصوليين : ( أخذ مذهب الغير أي : اعتقاد صحته واتباعه عليه بلا أي : من غير معرفة دليله أي : دليل مذهب الغير الذي اقتضاه , وأوجب القول به ” ويخرج من التقليد العمل بقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم – ، والعمل بالإجماع ، ورجوع العامي إلى قول المفتي ، ورجوع القاضي إلى شهادة الشاهد ، وقبول رواية الرواة وذلك لقيام الحجة الشرعية على كل ما تقدم .
وقد ذهب جمهور العلماء إلى عدم جواز التقليد فى مسائل العقيدة كوجود الله تعالى ووحدانيته ووجوب إفراده بالعبادة , ومعرفة صدق رسوله صلى الله عليه وسلم فلا بد في ذلك عندهم من النظر الصحيح والتفكر والتدبر المؤدي إلى العلم وإلى طمأنينة القلب , ومعرفة أدلة ذلك ، ويلحق به كل ما علم من الدين بالضرورة كالصلوات الخمس ، وصيام رمضان ، ووجوب الزكاة ، وحج البيت ونحوه ، قال الشوكاني :” وذهب الجمهور إلى أنه لا يجوز ، وحكاه الأستاذ أبو إسحق فى شرح الترتيب عن إجماع أهل العلم من أهل الحق ، وغيرهم من الطوائف ، وقال أبو الحسين بن القطان لا نعلم خلافا فى امتناع التقليد فى التوحيد ، وحكاه ابن السمعاني عن جميع المتكلمين وطائفة من الفقهاء ، وقد نقل الخلاف عن بعض الحنابلة والظاهرية .
أما الأحكام الشرعية العملية ففيها تفصيل نورده فى موضعه وكثير من العلماء ذهب إلى جوازه ، والفرق بينه وبين العقائد – كما قال الزركشي – : أن المطلوب في العقائد العلم , والمطلوب في الفروع الظن , والتقليد قريب من الظن , ولأن العقائد أهم من الفروع والمخطئ فيها كافر “
المصباح المنير – 512 ، المستصفى – 370 ، المجموع شرح المهذب – الإمام النووي – 1/91 مطبعة المنيرية . التقرير والتحبير – 3/340 ، شرح الكوكب المنير – تقي الدين أبو البقاء الفتوحي – 616 مطبعة السنة المحمدية ، البحر المحيط للزركشي – 8/ 326، إرشاد الفحول للشوكاني – 265ط الحلبي 1937م.
[53] – قال ابن أمير الحاج فى شرحه على التحرير :”المجتهد بعد اجتهاده في واقعة أدى اجتهاده فيها إلى حكم ممنوع من التقليد لغيره من المجتهدين فيه أي في حكم الواقعة اتفاقا لوجوب اتباع اجتهاده ، والخلاف إنما هو في تقليده لغيره منهم قبله أي اجتهاده في تلك الواقعة ،والأكثر من العلماء على أنه ممنوع من تقليد غيره فيها مطلقا منهم : أبو يوسف ، ومحمد على ما ذكر أبو بكر الرازي وأبو منصور البغدادي ، ومالك على ما في أصول ابن مفلح ، وذكر الباجي : أنه قول أكثر المالكية , والأشبه بمذهب مالك والشافعي في الجديد على ما في أصول ابن مفلح ، وذكر الروياني : أنه مذهب عامة الشافعية وظاهر نص الشافعي وأحمد وأكثر أصحابه واختاره الرازي والآمدي وابن الحاجب . التقرير والتحبير 3/330
[54] – قال ابن تيمية :” وإن كان قادرا على الاستدلال ومعرفة ما هو الراجح ولو في بعض المسائل , فعدل عن ذلك إلى التقليد , فهذا قد اختلف فيه , فمذهب أحمد المنصوص عنه الذي عليه أصحابه أن هذا آثم أيضا , وهذا مذهب الشافعي وأصحابه , وحكي عن محمد بن الحسن وغيره : أنه يجوز له التقليد ” وقال المحلي فى شرح جمع الجوامع “وقيل : لا يقلد عالم إن لم يكن مجتهدا ; لأن له صلاحية أخذ الحكم من الدليل بخلاف العامي .” الفتاوى – 5/98 ، شرح المحلي – 2/433
[55] – يراجع : مواهب الجليل للحطاب 1/30، الفواكه الدواني للنفراوي – 2/356، فتح العلي المالك للشيخ عليش – 1/60 ، البحر المحيط للزركشي – 8/373-374، شرح المحلي على جمع الجوامع – 2/433، الفتاوي الفقهية الكبرى لابن حجر الهيتمي – 4/305، حاشية البيجرمي على الخطيب – 1/65، شرح الكوكب المنير – 619-620، الإنصاف – 11/194 .
[56] – المجموع شرح المهذب للإمام النووي – 1/93 ويستدل أيضا لهذا القول بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية التى تأمر من لا يعلم سؤال من يعلم ، وبما ورد عن سؤال الصحابة والتابعين بعضهم لبعض ونزول المستفتى على قول المفتي ، وقالوا بأن هذا هو التقليد . يراجع فى ذلك : الفصول فى الأصول – أبو بكر الجصاص – 4/281 ، إرشاد الفحول – 266، إعلام الموقعين – 4/201
[57] – المحلى لابن حزم – 1/85، البحر المحيط ، إرشاد الفحول ، الفتاوى الكبرى ، إعلام الموقعين – المواضع السابقة .
[58] – أفاض ابن تيمية وابن القيم والشوكاني فى ذكر أدلة تحريم التقليد والتمذهب بمذهب معين والرد على من قال بوجوبه والتقيد بمذهب حتى أوصلها ابن القيم إلى قرابة الثمانين وجها.
[59] – البحر الرائق لابن نجيم – 6/292، رد المحتار على الدرالمختار – 1/75، البحر المحيط – موضع سابق ، الفتاوى الكبرى لابن تيمية – موضع سابق ، إعلام الموقعين – موضع سابق ، بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية – محمد بن محمد بن مصطفى الخادمي الحنفي – 2/82 ، التاج المذهب – أحمد العنسي – 1/10
[60] – الفتاوى الكبرى – 5/15
[61] – السياسة الشرعية فى إصلاح الراعي والرعية – تقي الدين ابن تيمية –214 – مكتبة ابن تيمية
[62] – إعلام الموقعين عن رب العالمين – موضع سابق .
[63] – الإعلام – موضع سابق ، وزاد ابن القيم فى النقل ،فقال :” وذكر محمد بن حارث في أخبار سحنون بن سعيد عنه قال : كان مالك وعبد العزيز بن أبي سلمة ومحمد بن إبراهيم بن دينار وغيرهم يختلفون إلى ابن هرمز , فكان إذا سأله مالك وعبد العزيز أجابهما , وإذا سأله ابن دينار وذووه لا يجيبهم , فتعرض له ابن دينار يوما فقال له : يا أبا بكر لم تستحل مني ما لا يحل لك ؟ فقال له : يا ابن أخي , وما ذاك ؟ قال : يسألك مالك وعبد العزيز فتجيبهما وأسألك أنا وذوي فلا تجيبنا ؟ فقال : أوقع ذلك يا ابن أخي في قلبك ؟ قال : نعم , قال : إني قد كبرت سني ودق عظمي , وأنا أخاف أن يكون خالطني في عقلي مثل الذي خالطني في بدني , ومالك وعبد العزيز عالمان فقيهان , إذا سمعا مني حقا قبلاه , وإن سمعا خطأ تركاه , وأنت وذووك ما أجبتكم به قبلتموه . قال ابن حارث : هذا والله الدين الكامل , والعقل الراجح , لا كمن يأتي بالهذيان , ويريد أن ينزل قوله من العقاب منزلة القرآن “
[64] – إرشاد الفحول – موضع سابق .
[65] – وقع لكثير من الفقهاء المعتبرين أن تركوا مذهبا كانوا عليه إلى مذهب آخر ، فالطحاوي الحنفي كان شافعيا فى أول الأمر ثم تحنف وهو ابن أخت المزني من أصحاب الشافعي ، ومحمد بن الحكم المالكي كان شافعيا ، وبعضهم جمع بين مذهبين كابن دقيق العيد قيل عنه إنه مالكي وشافعي
[66] – قال الزركشي :”لو التزم مذهبا معينا , كمالك والشافعي , واعتقد رجحانه من حيث الإجمال فهل يجوز أن يخالف إمامه في بعض المسائل ويأخذ بقول غيره من مجتهد آخر ؟ فيه مذاهب : أحدها: المنع , وبه جزم الجيلي في الإعجاز , لأن قول كل إمام مستقل بآحاد الوقائع , فلا ضرورة إلى الانتقال إلا التشهي , ولما فيه من اتباع الترخص والتلاعب بالدين . الثاني: يجوز , وهو الأصح في ” الرافعي ” , لأن الصحابة لم يوجبوا على العوام تعيين المجتهدين , لأن السبب – وهو أهلية المقلد للتقليد عام بالنسبة إلى أقواله , وعدم أهلية المقلد مقتض لعموم هذا الجواب . ووجوب الاقتصار على مفت واحد بخلاف سيرة الأولين .
وأورد الحطاب فيها ثلاثة أقوال فقال :” وأما الانتقال من مذهب إمام إلى غيره ففي ذلك ثلاثة أقوال بالجواز والمنع والثالثة إن وقعت حادثة فقلده فيها فليس له الرجوع ” وقد أورد العز فيها تفصيلا آخر فقال : ومن قلد إماما من الأئمة ثم أراد تقليد غيره فهل له ذلك ؟ فيه خلاف , والمختار التفصيل , فإن كان المذهب الذي أراد الانتقال إليه مما ينقض فيه الحكم ; فليس له الانتقال إلى حكم يجب نقضه فإنه لم يجب نقضه إلا لبطلانه , فإن كان المأخذان متقاربين جاز التقليد والانتقال لأن الناس لم يزالوا من زمن الصحابة إلى أن ظهرت المذاهب الأربعة يقلدون من اتفق من العلماء من غير نكير من أحد يعتبر إنكاره , ولو كان ذلك باطلا لأنكروه وكذلك لا يجب تقليد الأفضل وإن كان هو الأولى , لأنه لو وجب تقليده لما قلد الناس الفاضل والمفضول في زمن الصحابة والتابعين من غير نكير , بل كانوا مسترسلين في تقليد الفاضل والأفضل ولم يكن الأفضل يدعو الكل إلى تقليد نفسه , ولا المفضول يمنع من سأله عن وجود الفاضل وهذا مما لا يرتاب فيه عاقل ” ويقول ابن تيمية :” ولا ريب أن التزام المذاهب والخروج عنها إن كان لغير أمر ديني مثل أن يلتزم مذهبا لحصول غرض دنيوي من مال أو جاه ونحو ذلك فهذا مما لا يحمد عليه بل يذم عليه في نفس الأمر ولو كان ما انتقل إليه خيرا مما انتقل عنه وهو بمنزلة من يسلم لا يسلم إلا لغرض دنيوي أو يهاجر من مكة إلى المدينة لامرأة يتزوجها أو دنيا يصيبها . …. . وأما إن كان انتقاله من مذهب إلى مذهب لأمر ديني , مثل أن يتبين له رجحان قول على قول فرجع إلى القول الذي يرى أنه أقرب إلى الله ورسوله فهو مثاب على ذلك , بل واجب على كل أحد إذا تبين له حكم الله ورسوله في أمر أن لا يعدل ولا يتبع أحدا في مخالفة حكم الله ورسوله , فإن الله فرض طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم على كل أحد في كل حال……, لكن لما كان من الأحكام ما لا يعرفه كثير من الناس رجع الناس في ذلك إلى من يعلمهم ذلك , لأنه أعلم بما قال الرسول وأعلم بمراده . فأئمة المسلمين الذين اتبعوهم وسائل وطرق وأدلة بين الناس وبين الرسول يبلغونهم ما قاله ويفهمونهم مراده بحسب اجتهادهم واستطاعتهم وقد يخص الله هذا العالم من العلم والفهم ما ليس عند الآخر . وقد يكون عند ذلك في مسألة أخرى من العلم ما ليس عند هذا …. واجتهاد العلماء في الأحكام كاجتهاد المستدلين على جهة الكعبة , فإذا كان أربعة أنفس يصلي كل واحد بطائفة إلى أربع جهات لاعتقادهم أن الكعبة هناك , فإن صلاة الأربعة صحيحة , والذي صلى إلى جهة الكعبة واحد وهو المصيب الذي له أجران , كما في الصحيح , عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن اجتهد فأخطأ فله أجر }
يراجع :” البحر المحيط للزركشي – 8/375 ، مواهب الجليل للحطاب – 1/32 قواعد الأحكام فى مصالح الأنام للعز بن عبد السلام – 2/158 ، الفتاوى – موضع سابق .
[67] – الموافقات – أبي إسحاق الشاطبي – 4/82 – دار إحياء الكتب العربية
[68] – أسنى المطالب – 4/286
[69] – فتاوى السبكي – تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي -1/146 دار المعارف
[70] – الموافقات – 4/82
[71] – الموافقات – 4/73 ،74 وقد ذكر الشاطبي جملة من الأمثلة على ذلك .
[72] – الفتاوى – موضع سابق .
[73] – يراجع : تبصرة الحكام لابن فرحون اليعمري – 4/74 دارا لكتب العلمية ، مواهب الجليل- 1/32 ، منح الجليل – 8/264 ، فتح العلي المالك – 1/77
[74] – التقرير والتحبير – ابن أمير الحاج – 3/350 دار الكتب العلمية ، شرح المحلي على جمع الجوامع – جلال الدين المحلي – 2/441 ، وعليه : حاشية العطار – دار الكتب العلمية .
[75] – البحر المحيط للزركشي – موضع سابق ، مطالب أولي النهى فى شرح غاية المنتهى – للرحيباني – 6/617 ، المكتب الإسلامي ، غذاء الألباب فى شرح منظومة الآداب – للسفاريني – 1/153 مؤسسة قرطبة
[76] – سنن البيهقي – باب ما تجوز به شهادة أهل الأهواء – 10/210
[77] – الموافقات – 4/73
[78] – فتح العلي المالك – 1/60
[79] – تبصرة الحكام – 1/78 ، الفواكه الدواني – موضع سابق ، مواهب الجليل – موضع سابق .
[80] – الحديث رواه مسلم – كتاب البر والصلة والآداب – باب تفسير البر والإثم – رقم 2553، ورواه الترمذي – كتاب الزهد – باب ما جاء في البر والإثم – رقم 2389، وعند احمد – مسند الشاميين – حديث النواس بن سمعان الكلابي – رقم 17179
[81] – الحديث رواه أحمد – مسند الشاميين – حديث وابصة بن معبد – رقم 17545، وعند الدارمي – كتاب البيوع – باب دع ما يريبك إلى ما لا يريبك – رقم 2533 ، ويراجع : جامع العلوم والحكم – ج2/ 93
[82] – التقرير والتحبير – موضع سابق
[83] ـ المجموع شرح المهذب ـ 1/ 93
[84] ـ كشف الأسرار على أصول البزدوي ـ 3/ 217 ـ دار الكتاب الإسلامي .
[85] ـ البحر المحيط ـ 8 /323
[86] ـ تذكرة الحفاظ للذهبي ـ 1 /98 ـ دار الكتب العلمية .
[87] ـ مجموع فتاوى ابن تيمية ـ 35 / 357 ـ طبعة مجمع الملك فهد
[88] ـ الفتاوى الكبرى ـ 6 /337 ـ دار الكتب العلمية .
[89] ـ الفتاوى الكبرى ـ 5/332
[90] ـ مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى للرحيباني ـ 1/ 560 ـ المكتب الإسلامي .
[91] ـ المغني ـ 2 /11
[92] ـ الموسوعة الفقهية الكويتية ـ 1 /302
[93] ـ البحر المحيط ـ 8 /347 .