فقه الجنائز : 5- الإحداد على الميت
ما هو الإحداد ؟
الاحداد ترك ما تتزين به المرأة من الحلي والكحل والحرير والطيب والخضاب ؛ وإنما وجب على الزوجة ذلك مدة العدة ، من أجل الوفاء للزوج ، ومراعاة لحقه .
حكمه :
يجوز للمرأة أن تحد على قريبها الميت ثلاثة أيام ما لم يمنعها زوجها ، ويحرم عليها أن تحد عليه فوق ذلك ، إلا إذا كان الميت زوجها ، فيجب عليها أن تحد عليه مدة العدة ، وهي أربعة أشهر وعشر .
لما ورد عن زينب بنت أبي سلمة قالت : ” دخلت على أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ” لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا ” ثم دخلت على زينب بنت جحش-حين توفي أخوها فدعت بطيب فمست ، ثم قالت : مالي بالطيب من حاجة، غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول.. ” فذكرت الحديث وأخرجه البخاري
و جاء في الأحاديث ما ينبغي أن تمتنع عنه ، وهي مطالبة بأمور خمسة :
الأمر الأول : لزوم بيتها الذي مات زوجها ، وهي ساكنة فيه تقيم فيه حتى تنتهي العدة ، وهي أربعة أشهر وعشراً ، إلا أن تكون حبلى ، فإنها تخرج من العدة بوضع الحمل ، كما قال الله ـ سبحانه وتعالى ـ : ( وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ) وللعلماء رحمهم الله في وجوب لزوم الحادة بيتها الذي توفي زوجها وهي فيه قولان:
القول الأول: أنه يجب عليها لزوم بيت زوجها الذي توفي عنها وهي فيه:
وإليه ذهب عامة العلماء ، ومنهم الأئمة الأربعة،واستدلوا بقوله تعالى: ( لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ ) والاستدلال بهذه الآية على المسألة لا يخلو من النقاش فإن أكثر المفسرين على أن الآية في المطلقات الرجعيات لا شأن للمتوفى عنه بها اللهم إلا على قول من قال بالقياس عليهن
وأصرح من الآية في الدلالة على وجوب لزوم الحادة بيتها الذي توفي عنها زوجها وهي فيه ما أخرجه الخمسة عن فريعة بنت مالك رضي الله عنها قالت: ( خرج زوجي في طلب أعلاج له فأدرجهم في طرف القدوم فقتلوه، فأتاني نعيه وأنا في دار شاسعة من دور أهلي فذكرت ذلك لرسول الله ( فقلت: إن نعي زوجي أتاني في دار شاسعة من دور أهلي ولم يدع نفقة ولا مال ورثته وليس المسكن له فلو تحولت إلى أهلي وأخوتي لكان أرفق لي في بعض شأني، قال: ( تحولي ) فلما خرجت إلى المسجد أو إلى الحجرة دعاني أو أمر بي فدعيت فقال: ( أمكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله ) قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً، قالت وأرسل إليّ عثمان فأخبرته فأخذ به .
ولا تخرج المحتدة من بيتها إلا لحاجة أو ضرورة كمراجعة المستشفى عند المرض وشراء حاجتها من السوق كالطعام ونحو ذلك ، إذا لم يكن لديها من يقوم بذلك ، وكذلك لو انهدم البيت ، فإنها تخرج منه إلى غيره ، أو إن لم يكن لديها من يؤنسها وتخشى على نفسها ، لا بأس بذلك عند الحاجة .
القول الثاني: أنه لا يجب عليها لزوم بيت زوجها بل تعتد حيث شاءت :
واختاره جماعة من المتقدمين من الصحابة وغيرهم، منهم علي بن أبي طالب وابن عباس، وجابر، وعائشة، وجابر بن زيد، والحسن، وعطاء ، وحكاه البغوي عن أبي حنيفة، واختاره المزني من الشافعية وهو قول داوود الظاهري وابن حزم أيضاً .
واستدلوا بقوله تعالى: ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ ) قال ابن عباس: نسخت هذه الآية عدتها عند أهلها فتعتد حيث شاءت.
وقول الله تعالى: ( غَيْرَ إِخْرَاجٍ )إن شاءت اعتدت عند أهلها وسكنت في وصيتها وإن شاءت خرجت لقوله تعالى: ( فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ ) ووجه الدلالة أن خروجهن لا حرج فيه.
واستدلوا أيضاً بأن الله تعالى أمر بالاعتداد أربعة أشهر وعشراً دون تعرض لذكر مكان معين فدل على عدم اشتراطه . واستدلوا أيضاً بما رواه الدارقطني بسنده إلى على بن أبي طالب رضي الله عنه: ( أن النبي أمر المتوفى عنها زوجها أن تعتد حيث شاءت ) والحديث سنده ضعيف
وأيضاً: الكثيرمن الصحابة رضي الله عنهم قتل مع النبي في الجهاد ولم يعلم أنه ألزم نساءهم بالبقاء في بيوت أزواجهن مدة العدة ولو حصل ذلك لكان من أظهر الأشياء وأبينها، ولما خفي على عائشة وابن عباس رضي الله عنهما، ولو كانت السنة جارية بذلك لم تأتي فريعة بالاستئذان ولما أذن لها ثم ردها ومنعها من ذلك لأن هذا يفضي إلى تغيير الحكم مرتين وهذا غير معهود في الشريعة وأجابوا عن أدلة الجمهور بأن الآية لا تشمل المتوفي عنها زوجها، وأما حديث فريعة فضعيف.
حكم خروج الحادة للحج
اختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى فيما إذا أحرمت المرأة بالحج قبل موت زوجها بإذنه ثم خشيت فوات الحج لضيق الوقت فهل لها أن تخرج وهي حادة على قولين:الأول: أنه يجب عليها الخروج للحج وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد وعلة قولهم: ( أنهما عبادتان استوتا في الوجوب وضيق الوقت فوجب تقديم الأسبق منهما كما لو كانت العدة أسبق ولأن الحج آكد لأنه أحد أركان الإسلام والمشقة بتفويته تعظم فوجب تقديمه ) .
القول الثاني: أنه ليس لها الخروج ولو أدى ذلك إلى فوات الحج، وهذا مذهب الحنفية وعللوا قولهم فقالوا: ( المقام في منزلها واجب لا يمكن تداركه بعد انقضاء العدة وسفر الحج واجب يمكن تداركه بعد انقضاء العدة لأن جميع العمر وقته فكان تقديم واجب لا يمكن تداركه بعد الفوت جمعاً بين الواجبين فكان أولى) وكلامهم متوجه فيما لو ابتدأته بعد موته كما هو رأي الجمهور، أما وقد أحرمت فأصبحت الموازنة بين واجبين يخشى فواتهما على حد سواء. فالحج وإن كان زمنه العمر كله لكن لما أحرمت به صار واجباً عليها للعام الذي أحرمت به لا يجوز لها تأخيره أو إخراجه عن وقته وإلا تترتب عليها أحكام فوات الحج. فتبين بهذا صحة ما ذهب إليه الجمهور.
الأمر الثاني : ليس لها لبس الجميل من الثياب لا أصفر ولا أخضر ولا غيره :
بل تلبس من الثياب ما كان معتادا في خروجها من بيتها بلا زينة أو تجمل ، ولا تطالب بلبس لون معين سواء كان أسود كما هو الحال بمصر أو أبيض كما هو الحال بالمغرب ؛إنما تلبس الألوان التي ليست زينة في نفسها ولا تلفت النظر إليها ، هكذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أم عطية ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” لاتحد امرأة على ميت فوق ثلاث إلا على زوج فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرا . ولا تلبس ثوبا مصبوغا ، إلا ثوب عَصْب (برود يمانية) ، ولا تكتحل ، ولا تمس طيبا ، ولا تختضب ، ولا تمتشط إلا إذا ظهرت ، تمس نبذة من قَسط ، أو أظفار ” رواه الجماعة إلا الترمذي
(العصب ) : نبت تصبغ به الثياب ورجح ابن حجر تفسير العصب بأنه برود يمنية يعصب غزلها أي يجمع ويشد ثم يصبغ وينسج فيأتي موشاً لبقاء ما عصب منه أبيض لم يأخذه صبغ ، وعلى كلا التفسيرين فالمراد المنع من ثياب الزينة إلا ثوب العصب .
قال ابن المنذر : أجمع العلماء على أنه لا يجوز للحادة لبس الثياب المعصفرة ( العصفر : نبات معروف يصبغ لونا أحمر ) والمصبغة إلا ما صبغ بسواد فرخص بالمصبوغ بالسواد عروة بن الزبير ومالك والشافعي ، والأصح عند أصحابنا تحريمه مطلقا .
والذي يبدو أن النبي إنما نص على المصبوغ لأنه مما يتجمل بصبغه غالباً ،و إنما المراد ثوب الزينة وليس المعنى أنها لا تلبس إلا الأبيض، فالثياب نوعان: ثياب للتزين والتجمل فهذا لا يجوز للحادة، والنوع الآخر ثياب الخدمة والمهنة ببيتها أي ليست للزينة فمهما كانت ألوانها فلا بأس بها .
قال ابن القيم رحمه الله: دار كلام الإمام أحمد والشافعي وأبي حنيفة رحمهم الله على أن الممنوع منه من الثياب ما كان من لباس الزينة من أي نوع كان وهذا هو الصواب قطعاً فإن المعنى الذي منعت من المعصفر والممشق (طين أحمر يصبغ به) لأجله مفهوم، والنبي خصه بالذكر مع المصبوغ تنبيهاً على ما هو مثله وأولى منه بالمنع والبرود المحبرة الرفيعة الغالية الأثمان مما يراد للزينة لارتفاعهما وتناهي جودتهما كان أولى بالمنع من الثوب المصبوغ وكل من عقل عن الله ورسوله لم يسترب في ذلك .
وقوله صلى الله عليه وسلم : (ولا تمس طيبا إلا إذا طهرت نبذة من قسط أو أظفار) النبذة بضم النون القطعة والشيء اليسير ، وأما القسط فبضم القاف ، وهو والأظفار نوعان معروفان من البخور وليسا من مقصود الطيب رخص فيه للمغتسلة من الحيض لإزالة الرائحة الكريهة تتبع به أثر الدم لا للتطيب والله تعالى أعلم .
حكم لبس المحتدة للحرير :
وقد اختلف أهل العلم في لبس الحرير للحادة فذهب الحنفية إلى منعه مطلقاً والمالكية في غير الأبيض منه وذهب الظاهرية والحنابلة إلى جواز استعماله ما لم يصبغ، والأصح عند الشافعية الجواز .
قال ابن قدامة رحمه الله. ( ولا تمنع من حسان الثياب غير المصبوغة وإن كان رقيقاً سواء كان من قطن أو كتان أو إبريسم – أي حريرمخلوط – لأن حسنه من أصل خلقته فلا يلزم تغييره كما أن المرأة إذا كانت حسنة الخلقة لا يلزمها أن تغير لونها وتشوه نفسها ) .
الأمر الثالث : تجنُّب الحليّ من الذهب والفضة والماس واللؤلؤ :
ذهب أكثر أهل العلم رحمهم الله إلى أن الحادة ممنوعة من لبس الحلي، وهذا المنع شامل لما ظهر من الحلي وما استتر تحت الثياب على الصحيح من أقوال أهل العلم .
وهذا يشمل كل ما تتجمل به المرأة وتتحلى به من قرط أو سوار أو خاتم سواء كان ذلك من فضة أو غيرها .
وقد ذهب عطاء رحمه الله إلى إباحة الفضة دون الذهب، ونقل عنه أنه لا تكره الفضة إذا كان عليها حين مات، ولكن تمنع من ابتداء التحلي .
واختار الشافعية جوازه بالليل مع الكراهة ومنعه في النهار .
وقد ذكر ابن حجر رحمه الله عن الشافعية وجهين: فقال: ( في التحلي بالذهب والفضة وباللؤلؤ ونحوه وجهان أصحهما جوازه )
ومنع المالكية أيضاً جميع الحلي حتى الخاتم من الحديد .
وهذا القول هو الموافق للخبر والنظر، ودليل هذا قوله في حديث أم سلمة ( المتوفي عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشقة ولا الحلي ولا تختضب ولا تكتحل ) رواه أبو داود والنسائي فإن اسم الحلي يصدق على الذهب والفضة وغيره، كالؤلؤ والزمرد والألماس ، فإن هذه الأشياء مما يتحلى به النساء وقد سمى الله تعالى ما يستخرج من البحر وغيره حلياً فقال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا) .
الأمر الرابع : تجنُّب الطِّيب ، فلا تتطيب لا بالبخور ولا بغيره من الأطياب ، إلا إذا طهرت من الحيض خاصة ، فلا بأس أن تتبَخَّر ببعض البخور كما في الحديث السابق .
الأمر الخامس : تجنُّب الكحل والخضاب بالحناء :
ذهب أهل العلم قاطبة إلى منع الحادة من الزينة في بدنها وذلك بمنعها من خصلتين:
الخصلة الأولى : منعها من الخضاب بالحناء.
فالحادة ممنوعة من الخضاب بالحناء ونحوه مما يكون فيه تجمل وزينة كالتشقير والصبغ ودليل هذا قوله في حديث أم سلمة ( المتوفي عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشقة ولا الحلي ولا تختضب ولا تكتحل ) رواه أبو داود والنسائي
وبقوله ( لها رضي الله عنها لما دخل عليها : ( ولا تمتشطي بالطيب ولا بالحناء فإنه خضاب ) قالت : قلت بأي شيء أمتشط يارسول الله قال: ( بالسدر تغلفين به رأسك ) رواه أبوداود والنسائي
وفي الحديث المنع من الامتشاط بالطيب والحناء وإباحة الامتشاط بالسدر لأنه ليس مما يتزين به .
الخصلة الثانية: منعها من الاكتحال أكثر أهل العلم على أن الحادة ممنوعة من الكحل ودليله قوله ( ولا تكتحل) ففيه منعها من الكحل ويدل عليه أيضاً ما أخرجه الشيخان عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: جاءت امرأة إلى رسول الله ( فقالت: يارسول الله إن ابنتي توفى عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفتكحلها ؟ قال : ( لا ) مرتين أو ثلاثاً .
فإنه لم يرخص لها مع أن حاجتها داعية إليه ، وفي هذه الخصلة ثلاث مسائل :
المسألة الأولى: حكم الكحل في الضرورة .
اختلف أهل العلم في الاكتحال للحادة إذا اضطرت إليه على قولين :
القول الأول: ذهب جماعة من أهل العلم ومنهم ابن حزم رحمه الله إلى أن الحادة لا يجوز لها الاكتحال لضرورة أو لغير ضرورة واستدلوا بحديث أم سلمة رضي الله عنها الذي فيه منعه الحادة الاكتحال مع حاجتها إليه .
القول الثاني: ذهب جمهور العلماء من الصحابة ومن بعدهم ابن عمر وعائشة وأم سلمة وأم عطية رضي الله عنهم وسعيد بن المسيب وعروة والأئمة الأربعة رحمهم الله إلى جواز الكحل إذا اضطرت إليه تداوياً لا زينة فلها الاكتحال ليلاً وتمسحه نهاراً واستدلوا بما روته رضي الله عنها وفيه قالت دخل علي رسول الله ( حين توفي أبو سلمة وقد جعلت عليّ صبراً فقال ( ما هذا يا أم سلمة ) فقلت إنما هو صبر يا رسول الله ليس فيه طيب ، وقال ( إنه يشب الوجه إليه فلا تجعليه إلا بالليل وتنزعيه بالنهار ) رواه أحمد وأبو داود والنسائي
وقد أعل هذا الحديث بما فيه الصحيحين من حديث أم سلمة رضي الله عنها وفيه قوله ( للتي استأذنته في الكحل لابنتها: ( لا ) مرتين أو ثلاثاً) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ( وأعل بما في الصحيحين عن زينب بنت أم سلمة .. ) وساق الحديث وأجاب ابن عبدالبر رحمه الله عن هذا فقال ( فإن ترتيب الحديث والله أعلم على أن الشكاة التي قال فيها رسول الله : ( لا ) لم تبلغ والله أعلم منها مبلغاً لابد لها فيه من الكحل بقوله هاهنا ولو كنت محتاجة إلى ذلك مضطرة تخاف ذهاب بصرها لأباح لها ذلك والله أعلم كما صنع بالتي قال لها: (اجعليه بالليل وامسحيه بالنهار).
والنظر يشهد بهذا التأويل لأن الضرورات تبطل المحظور إلى المباح في الأصول، وكذلك جعل مآل فتوى أم سلمة هذه تفسيراً للحديث المسند في الكحل لأن أم سلمة روته وما كانت لتخالفه إذا صح عندها وهي أعلم بتأويله ومخرجه والنظر يشهد لذلك لأن المضطر إلى الشيء لا يحكم له بحكم المترفه المتزين، وليس الدواء والتداوي من الزينة في شيء وإنما نهيت الحادة عن الزينة لا عن التداوي ، وأم سلمة أعلم بما روت مع صحته في النظر وعليه أهل الفقه وبه قال مالك والشافعي وأكثر الفقهاء .
وأحسن مسالك الجمع بين الحديثين هو أن يقال: إن المنع الوارد في قصة المرأة إنما كان لأنه يمكن اندفاع ضرورتها بغير ما حرم عليها، فإن الضرورة لا تبيح المحرم إلا بشرطين:
الأول: أن لا يمكن اندفاع الضرورة بغير هذا الحرام.
الثاني: أن يتيقن اندفاع الضرورة بهذا المحرم.
المسألة الثانية: حكم استعمال المكياج ونحوها للحادة.
وتمنع الحادة من تحمير وجهها بالمحمرات والمجملات والمكياج وغيرها لأن النبي ( نهى أم سلمة رضي الله عنها عن وضع الصبر على وجهها في النهار، وعلل ذلك بقوله ( إنه يشب الوجه فلا تجعليه إلا بالليل وتنزعيه بالنهار) أي يلونه ويحسنه ، وهي إنما وضعته للحاجة فأمرها أن تضعه بالليل دفعاً لحاجتها وإزالته بالنهار رعاية للإحداد وعدم التزين ولأن النهار وقت ظهور الزينة وهي ممنوعة منها مدة إحدادها.
أما التجمل العادي بالماء والصابون فلا بأس بذلك .
الحداد على غير الزوج جائز وليس بواجب :
الإحداد على الزوج واجب عند وفاته أما على غير زوج فكما سبق في الحديث لا يزيد عن ثلاثة أيام وهذا على سبيل الجواز وليس الوجوب؛ كما في قصة أم سليم وزوجها أبي طلحة الانصاري رضي الله عنهما في وفاة ولدهما وفيها : ومرض الصبي مرضا شديدا ،وتواضع أبو طلحة لمرضه أو تضعضع له ، فكان أبو طلحة يقوم صلاة الغداة يتوضأ ، ويأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيصلى معه ، ويكون معه إلى قريب من نصف النهار، ويجئ يقيل ويأكل ، فإذا صلى الظهر تهيأ وذهب ، فلم يجئ إلى صلاة العتمة فانطلق أبو طلحة عشية إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومات الصبي فقالت أم سليم: لا ينعين إلى أبي طلحة أحد ابنه حتى أكون أنا الذي أنعاه له ، فهيأت الصبي ، ووضعته في جانب البيت، وجاء أبو طلحة من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل عليها فقال : كيف ابني ؟ فقالت :يا أبا طلحة ما كان منذ اشتكى أسكن منه الساعة وأرجو أن يكون قد استراح! فأتته بعشائه فقربته إليهم فتعشوا، فقام إلى فراشه فوضع رأسه ، ثم قامت فتطيبت ، وتصنعت له أحسن ما كانت تصنع قبل ذلك ، ثم جاءت حتى دخلت معه الفراش ، فما هو إلا أن وجد ريح الطيب كان منه ما يكون من الرجل إلي أهله ، فلما كان آخر الليل قالت : يا أبا طلحة أرأيت لو أن قوما أعاروا قوما عارية لهم ، فسألوهم إياها أكان لهم أن يمنعوهم ؟
فقال : لا، قالت فإن الله عز وجل كان أعارك ابنك عارية، ثم قبضه إليه، فاحتسب واصبر!
فغضب ثم قال: تركتني حتى إذا وقعت بما وقعت به نعيت إلي ابني! فاسترجع ، وحمد الله ،فلما أصبح اغتسل ، ثم غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بارك الله لكما في غابر ليلتكما ، فثقلت منه ذلك الحمل …)
كيفية حساب عدة المتوفى عنها زوجها :
وتحسب بالشهور القمرية العربية ، لا بالأيام ، في قول جمهور الفقهاء ، سواء كان الشهر كاملا أو ناقصا ، فإذا أتمت أربعة أشهر ، زادت عليها عشرة أيام من الشهر الخامس ، وبهذا تنتهي عدتها .
هذا إن كانت الوفاة في أول الشهر ، وأما إن كانت في أثنائه ، فإنها تعتد بقية الشهر الأول ، وثلاثة شهور بالأهلة – كاملة أو ناقصة- , وعشرة أيام ، وما فاتها من الشهر الأول لها في حسابه طريقتان لأهل العلم :
الأولى : أن يحسب ثلاثين يوما ، سواء كان الشهر تاما أم ناقصا .
الثانية : أن تعتد من الشهر الخامس بقدر ما فاتها من الأول ، فإن كان تاما أتمته ثلاثين يوما ، وإن كان ناقصا أتمته تسعة وعشرين .
هل يجب على الرجل الإحداد على زوجته ؟
الإحداد ، وهو اجتناب الزينة والطيب مدة معينة ، إنما هو من خصائص النساء وليس الرجال ، فمن مات عنها زوجها ، وجب عليها العدة والإحداد كما سبق ؛ أما الرجل فلا إحداد عليه بإجماع أهل العلم ، ومن العجائب في مصر ترك بعض الرجال لحاهم أياما حزنا على ميتهم ؛ فإذا مضت عادوا إلى حلقها ! فهذا الاعفاء لهذا السبب بدعة ؛ لكن يبقى أصل الحكم على اللحية وأنها من سنن الفطرة كما هو معلوم .
ما الحكمة من جعل عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرا ؟
أولا :معرفة الحكمة من أمر الله أو أمر رسوله صلى الله عليه وسلم له طريقان :
الأول : أن تكون الحكمة قد ورد النص عليها في الكتاب أو السنة كقوله تعالى : ( وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ) البقرة/143، وقوله تعالى : ( رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ) النساء/165 .
وكقوله صلى الله عليه وسلم : ( فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ ) رواه مسلم (976) .فهذا وأمثاله كثير مما جاءت فيه الحكمة منصوصا عليها .
والثاني : أن يستخرجها العلماء عن طريق الاستنباط والاجتهاد ، وهذا قد يكون صوابا ، وقد يكون خطأ ، وقد تخفى الحكمة على كثير من الناس ، والمطلوب من المؤمن التسليم لأمر الله تعالى وامتثاله في جميع الأحوال ، مع الاعتقاد الجازم بأن الله تعالى حكيم ، له الحكمة التامة والحجة البالغة ، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون .
ثانيا :أمر الله تعالى المرأة أن تعتد لوفاة زوجها أربعة أشهر وعشرا ، فقال : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) البقرة/234 ، ولم ينص سبحانه على الحكمة من ذلك نصا صريحا ، فاستنبط أهل العلم ما رأوه حكمة تتناسب مع قواعد الشريعة العامة في حفظ الأنساب والأعراض .
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره : ” وقد ذكر سعيد بن المسيب ، وأبو العالية وغيرهما ، أن الحكمة في جعل عدة الوفاة أربعة أشهر وعشراً ، لاحتمال اشتمال الرحم على حمل ، فإذا انتُظر به هذه المدة ، ظهر إن كان موجوداً ، كما جاء في حديث ابن مسعود الذي في الصحيحين وغيرهما : ( إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يبعث إليه الملك فينفخ فيه الروح ) فهذه ثلاث أربعينات بأربعة أشهر ، والاحتياط بعشر بعدها لما قد ينقص بعض الشهور ، ثم لظهور الحركة بعد نفخ الروح فيه ، والله أعلم .
قال سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة : سألت سعيد بن المسيب : ما بال العشر ؟ قال : فيه ينفخ الروح ، وقال الربيع بن أنس : قلت لأبي العالية : لم صارت هذه العشر مع الأشهر الأربعة ؟ قال : لأنه ينفخ فيه الروح ، رواهما ابن جرير ” انتهى .
وينبغي التنبه إلى أنه لا يجوز الخروج عن الحكم الشرعي استنادا للحكمة المستنبطة ، فليس لقائل أن يقول : إذا كانت الحكمة من العدة هي التأكد من وجود الحمل أو عدمه ، فإن الطب الحديث يمكنه معرفة ذلك في بداية الحمل فلا حاجة لاعتداد المرأة هذه المدة . ليس له ذلك ، لأن الحكمة المذكورة أمر أخذه العلماء بالاستنباط والاجتهاد ، وقد يكون خطأ ، أو يكون جزءا من الحكمة لا تمامها ، فلا يجوز ترك الأمر المقطوع به ، المجمع عليه ، لحكمة مستنبطة يعتريها الخطأ .