نَحْنُ في هذه الدنيا في قَاعَةِ امْتِحَانٍ كَبِيرَةٍ، كُلُّ يَوْمٍ عندنا امْتِحَان جَدِيد، قال تعالى : ” الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا ” [ الملك 2 ]
فكل عطاء من الله من المَالُ أوالزَّوْجَةُ أوالوَلَدُ أوالغِنَى أوالصِّحَّةُ أو الأمن هو امتحان لنا من الله هل سنؤدي شكر نعمه ونجعلها في طاعته أم لا ؟
وكل منع كالمَرَض والخَوْفُ والفقر والظلم هو أيضا امتحان لنا من الله هل سنصبر ونحتسب أم نسخط ونجزع ؟
والله يريدك أيها المؤمن عبداً له في الخير وفي الشر، في السراء وفي الضراء، فكلاهما فتنة واختبار، فلَيْسَ منا أَحَدٌ إلا وَهُوَ مُمْتَحَنٌ، وَلَيْسَ هناك مَن هُوَ أَكْبَرُ من أَنْ يُمْتَحَنَ، والذي ابْتَلانَا هُوَ الذي أَنْعَمَ عَلَيْنَا، والذي أَخَذَ مِنَّا هُوَ الذي أَغْدَقَ عَلَيْنَا، والذي أَخَافَنَا هُوَ الذي أَسْبَغَ عَلَيْنَا نِعْمَةَ الأَمْنِ، والذي أَجَاعَنَا هُوَ الذي أَطْعَمَنَا من جُوعٍ.
وفي هذا المعنى قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين سَأَلَهُ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟قَالَ: «الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبَاً اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَـمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» رواه الإمام أحمد .
وقد جاء هذا المعنى في قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ) الحج 11
«عَلى حَرْفٍ» حرف الشيء طرفه أو أوله أي على شك بغير ثقة .
والمعنى أن هناك صنفا من الناس دَخَلَ فِي الدِّينِ عَلَى حرف ، أي لم يتمكن الاسلام من قلبه، فَإِنْ وَجَدَ مَا يُحِبُّهُ من متاع الدنيا استمر واسْتَقَرَّ ، وإن لم يجد ما يلبي شهواته ورغباته ترك دينه وكفر.
وقوله تعالى : “خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين ” الخسران كل الخسران أن تكون صلة العبد بربه هزيلة يثبت إذا وجد نفعا وينحرف إذا تعرض إلى اختبار ومحنة، ومن الخسران أن يعبد العبد ربه إذا كان في التعبد منفعة وإن لم يكن فيه منفعة عاجلة تركه
فهذا الصنف من الناس لم يتمكن الإيمان من قلبه، بل هو مزعزع العقيدة، تتحكم مصالحه فى إيمانه، فإن أصابه خير فرح به واطمأن، وإن أصابته شدة فى نفسه أو في ماله أو في ولده انتكس، فخسر الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران الحقيقى الواضح المبين.
وفي صحيح البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضى الله عنهما قَالَ في هذه الآية : كَانَ الرَّجُلُ يَقْدَمُ الْمَدِينَةَ ، فَإِنْ وَلَدَتِ امْرَأَتُهُ غُلاَمًا ، وَنُتِجَتْ خَيْلُهُ قَالَ هَذَا دِينٌ صَالِحٌ ، وَإِنْ لَمْ تَلِدِ امْرَأَتُهُ وَلَمْ تُنْتَجْ خَيْلُهُ قَالَ هَذَا دِينُ سُوءٍ).
وهكذا ينظر بعض الناس إلى الدين على أنه رغد في العيش وسعة في الرزق يجلب النفع، ويربح التجارة، فإذا أصابه ما يكره لم يصبر عليه، ونكص على عقبيه وخسر دينه ودنياه.
المؤمنُ يكون شاكراً عندَ العطاءِ صابرا عند البلاء :
والمؤمنَ الحقَّ هوَ الذي يكونُ شاكراً لِنِعَمِ الله -تعالى- عليه, فلا يَصرِفُ هذهِ النِّعَمَ إلا وِفقَ طاعةِ الله -عزَّ وجلَّ-, إن أعطاهُ اللهُ -تعالى- نِعمةَ الجاهِ والسُّلطانِ, وإن أعطاهُ نِعمةَ الصِّحَّةِ والقُوَّةِ, وإن أعطاهُ نِعمةَ المالِ وسائِرَ النِّعَمِ فهوَ لا يطغى بها؛ لأنَّهُ يعرفُ مصدرها بأنَّها من الله -تعالى-, وأنَّ اللهَ -تعالى- ما أعطاهُ إيَّاها إلا للاختبارِ والابتلاءِ, قال تعالى حكايةً عن سليمانَ -عليه السَّلامُ- عندما قالَ لقومِهِ: (قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِين * قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) [النمل:38-40].
فالمؤمنُ يكونُ شاكراً عندَ العطاءِ, ويكونُ على حَذَرٍ من الغرورِ والاستكبارِ والظُّلمِ وكُفرانِ النِّعَمِ.
أمَّا في الشَّدائدِ والمِحَنِ والابتلاءاتِ فيكونُ صابراً؛ لأنَّهُ يطمعُ بعطاءِ الله -تعالى- بعدَ المِحَنِ, ولأنَّهُ على يقينٍ بأنَّهُ ما من مِحنةٍ إلا وتحملُ في طَيَّاتِها مِنَحاً, كيف لا يكونُ هذا اعتقادُهُ وهوَ يقرأ قولَ الله -تعالى-: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعون * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة:155-157].
فيجبُ علينا أن لا ننسى الغايةَ من خلقِنا في هذهِ الحياةِ الدُّنيا, فما خُلِقنا إلا للعبادةِ, ومن العبادةِ: الشُّكرُ في الرَّخاءِ, والصَّبرُ في البلاءِ, فمن شَكَرَ في الرَّخاءِ كانَ نِعمَ العبدُ, ومن صَبَرَ في البلاءِ كانَ نِعمَ العبدُ، وبئسَ العبدُ الذي يطغى عندَ العطاءِ, ويضجرُ عندَ البلاءِ.
وَرَحِمَ اللهُ تعالى الفُضَيْلَ بْنَ عِيَاضٍ حِينَ قَالَ: النَّاسُ مَا دَامُوا في عَافِيَةٍ مَسْتُورُونَ، فَإِذَا نَزَلَ بِهِمُ البَلاءُ صَارُوا إلى حَقَائِقِهِم، فَصَارَ المُؤْمِنُ إلى إِيمَانِهِ، وَصَارَ المُنَافِقُ إلى نِفَاقِهِ. اهـ.
الحكمة من الابتلاء:
للمصائب والابتلاءات في الكتاب والسنة سببان اثنان مباشران – إلى جانب حكمة الله تعالى في قضائه وقدره – : السبب الأول : الذنوب والمعاصي التي يرتكبها الإنسان ، سواء كانت صغيرة أو كبيرة من الكبائر ، فيبتلي الله عز وجل بسببها صاحبها بالمصيبة على وجه المجازاة والعقوبة العاجلة . يقول الله عز وجل : ( وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ) النساء/79 ، قال المفسرون : أي بذنبك . ويقول سبحانه : ( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ) الشورى/30 . وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ).رواه الترمذي وصححه الألباني .
السبب الثاني : إرادة الله تعالى رفعة درجات المؤمن الصابر ، فيبتليه بالمصيبة ليرضى ويصبر فيُوفَّى أجر الصابرين في الآخرة ، ويكتب عند الله من الفائزين ، وقد رافق البلاء الأنبياء والصالحين فلم يغادرهم ، جعله الله تعالى مكرمة لهم ينالون به الدرجة العالية في الجنة ، ولهذا جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا سَبَقَتْ لَهُ مِنْ اللَّهِ مَنْزِلَةٌ لَمْ يَبْلُغْهَا بِعَمَلِهِ ابْتَلَاهُ اللَّهُ فِي جَسَدِهِ أَوْ فِي مَالِهِ أَوْ فِي وَلَدِهِ ) رواه أبو داود وصححه الألباني . وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه النبي صلى الله عليه وسلم قال :( قَالَ : إِنَّ عِظَمَ الجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ البَلاَءِ ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا ، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ ) رواه الترمذي وصححه الشيخ الألباني وقد جُمع السببان في حديث عائشة رضي الله عنها ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ شَوْكَةٍ فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً ، أَوْ حَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً ) رواه البخاري ومسلم .
قال بعض الصالحين : ” علامة الابتلاء على وجه العقوبة والمقابلة : عدم الصبر عند وجود البلاء ، والجزع والشكوى إلى الخلق . وعلامة الابتلاء تكفيراً وتمحيصاً للخطيئات : وجود الصبر الجميل من غير شكوى ، ولا جزع ولا ضجر ، ولا ثقل في أداء الأوامر والطاعات . وعلامة الابتلاء لارتفاع الدرجات : وجود الرضا والموافقة ، وطمأنينة النفس ، والسكون للأقدار حتى تنكشف “
وسُئلَ الجُنَيد رحمه الله: بِمَ نعرف أن البلاء نزل غَضَباً، أو كفّارةَ ذنوب، أم رَفعَ درجات؟
قال: بحسب ما تكون حين تَلَقِّي البلاء:
– إن تلقيتَهُ بغضب، فهو غضب.
– وإن تلقيته بالتوبة والاستغفار، فهو كفارة.
– وإن تلقيته بالرضا بقضاء الله، فهو رفع درجات!!
ولعل الأهم من هذا التفصيل كله أن يقال : إن الفائدة العملية التي ينبغي للعبد التأمل فيها هي أن كل مصيبة وابتلاء هي له خير وأجر إن هو صبر واحتسب ، وأن كل ابتلاء ومصيبة هي له سوء وشر إن جزع وتسخط ، فإن وطَّن نفسه على تحمل المصائب ، والرضا عن الله بقضائه ، فلا يضره بعد ذلك إن علم سبب البلاء أو لم يعلمه ، بل الأَوْلى به دائما أن يتَّهِم نفسه بالذنب والتقصير ، ويفتش فيها عن خلل أو زلل ، فكلنا ذوو خطأ ، وأينا لم يفرط في جنب الله تعالى ، وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد أصاب المسلمين يوم أحد بمقتلة عظيمة ، وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وخير البشر بعد الرسل والأنبياء ، بسبب مخالفةِ أمرِ النبي صلى الله عليه وسلم ، فكيف يظن المرء بعد ذلك في نفسه استحقاق رفعة الدرجات في كل ما يصيبه ، وقد كان إبراهيم بن أدهم رحمه الله – إذا رأى اشتداد الريح وتقلب السماء – يقول : هذا بسبب ذنوبي ، لو خرجت من بينكم ما أصابكم . فكيف بحالنا نحن المقصرين المذنبين. ثم أولى من ذلك كله وأهم ، أن يحسن العبد الظن بربه دائما ، وعلى كل حال ؛ فالله سبحانه وتعالى هو أولى بالجميل ، وهو أهل التقوى وأهل المغفرة . نسأل الله تعالى أن يرحمنا ويغفر لنا ، وأن يعلمنا ما ينفعنا ، ويأجرنا في مصائبنا ، إنه سميع مجيب الدعوات .
قصة الشيخ عبد الحميد كشك مع المعلم عطية
يقول الشيخ في مذكراته : جلست ذات يوم فدخل علىّ ” المعلم عطية” قبل المغرب عندما أوشكت الشمس أن تودع الكون ، وجلس بجانبي حزينا وسألته عن حزنه فقال لي : أنت السبب !!
وسألته خيرا .
فقال : لقد وصيتنا بأداء صلاة الفجر ولما عدت وجدت القفل قد كسر وقد أخذ اللص كل محتويات الغرفة ، وهذه أول مرة أصاب بمثل هذا !! أبعد ما تبت إلى الله يصيبني هذا الذي أصابني ؟!
وكان هذا الرجل يعمل بائعا للسمك ويقيم في الغرفة وحده ؛ ولابد أن يكون الجواب منطقيا ومقنعا فقلت له :
وهل هذا يدعو إلى أن تحزن ؟
إن الإنسان عندما يتقدم للعمل بإحدى الوظائف لا يستلم عمله إلا بعد أن يقدم مسوغات التعيين وأنت اليوم قد تقدمت للعمل في ساحة الرحمن جل جلاله فلابد من مسوغات التعيين وها أنت ذا قد قدمتها بصبرك على البلاء ، فكن قرير العين مطمئن القلب فقد قال صلي الله عليه وسلم :” ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا هم ولا غم ولا حزن ولا أذي حتى الشوكة يشاكها وصبر عليها إلا كفر الله بها من خطاياه “
ورضي الرجل بقضاء الله بعد ما أنزل الله برد السكينة على قلبه وأصبح من أوتاد المسجد الذين ما أذن لمؤذن للصلاة إلا وهم داخلها لا تفوتهم تكبيرة الإحرام وراء الإمام .
هو الشيخ الدكتور/ حسين محمد عامر من مواليد بلبيس بمحافظة الشرقية -مصر-عام 1976 م . الشهادات العلمية : 1- أتم حفظ القرآن وهو ابن الرابعة عشر عاما ، وحصل على إجازة برواية حفص بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على يد شيخه يوسف عبد الدايم -رحمه الله- . 2- حصل على الإجازة
تاريخ الإضافة : 9 يناير, 2025عدد الزوار : 14030 زائر