تفسير سورة الحجرات 10- الإسلام والإيمان
أولا التفسير التحليلي :
(قالت الأَعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولـكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمـلكم شيئاً إن الله غفور رحيم} الحجرات 14
سبب نزول الآية :
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إن نفراً من بني أسد قدموا المدينة في سنة جدبة ، فأظهروا الشهادة وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات، وأغلوا أسعارها، وهم يغدون ويروحون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقولون : أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها، وجئناك بالأثقال والذراري، يريدون الصدقة ، ويمنون عليه صلى الله عليه وسلم بإسلامهم، فنزلت هذه الآية الكريمة .
فأمره الله سبحانه أن يخبرهم بذلك ليكون معجزة له صلى الله عليه وسلم ، فقال : ” قل لم تؤمنوا ” أي لم تصدقوا على الحقيقة في الباطن ” ولكن قولوا : أسلمنا “.
معني الآية الكريمة :
{قالت الأَعراب آمنا } الأعراب اسم جمع لأعرابي، والأعرابي هو ساكن البادية كالبدوي تماماً ،جاءوا إلى النبي فقالوا آمنا آمنا، افتخروا بإيمانهم، فقال لهم الله – عز وجل -:{قل لم تؤمنوا ولـكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } فهم كانوا ضعفاء الإيمان، ، وليسوا بمنافقين على الراجح ، ولو كانوا منافقين – كما ذكر بعض العلماء كالبخاري – لعنفوا وفضحوا كما ذكر المنافقون في سورة التوبة .
فقوله ( قل لم تؤمنوا )يعني لم تصدقوا أقوالكم بأعمالكم
قوله: {ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } أي لما يدخل الإيمان الدخول الكامل المطلق، ففيهم إيمان لكن لم يصل الإيمان في قلوبهم على وجه الكمال .
قوله { ولما يدخل } ولم يقل: (ولم يدخل)، قال العلماء: إذا أتت (لما) بدل (لم) كان ذلك دليلاً على قرب وقوع ما دخلت عليه، فمثلاً إذا قلت: (فلان لمّا يدخلها) أي أنه قريب منها، ومنه قوله تعالى: {بل هم في شك من ذكرى بل لما يذوقوا عذاب } أي لم يذوقوه، ولكن قريب منه، وهنا قال: (لما يدخل) أي لم يدخل الإيمان في قلوبهم، ولكنه قريب من الدخول.
فقوله: (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ) يدل على أن دخول الإيمان منتظر منهم، فإن الذي يدخل في الإسلام ابتداء لا يكون قد حصل في قلبه إيمان، لكنه يحصل فيما بعد، كما في حديث أنس رضي الله عنه : “كان الرجل يسلم أول النهار رغبة في الدنيا، فلا يجيء آخر النهار إلا والإسلام أحب إليه مما طلعت عليه الشمس” ولهذا كان عامة الذين أَسْلَمُوا رغبة أو رهبة دخل الإيمان في قلوبهم بعد ذلك .
قوله {وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمـلكم شيئاً } إن أطعتم الله ورسوله بالقيام بأمره واجتناب نهيه فإنه لن ينقصكم من أعمالكم شيئاً ، فالسيئات يمكن أن تمحى، والحسنات لا تنقص.
ولهذا قال: {لا يلتكم من أعمـلكم شيئاً } أي لا ينقصكم.
{إن الله غفور رحيم} ختم الآية بالمغفرة والرحمة، إشارة إلى أن هؤلاء الذين قالوا إنهم آمنوا، قريبون من المغفرة والرحمة، لم يدخل الإيمان في قلوبهم، ولكنه قريب من دخوله.
تفسير قوله تعالى { إنَّما المُؤمِنُون الذين آمَنُوا باللّهِ وَرسُولِه ثُمّ لمْ يَرتابُوا وجاهَدوا بأمْوالِهم وأنْفُسِهم في سَبيل اللّه وأولئِك هُمُ الصادِقُونَ } الحجرات 15.
إنما أداة حصر تفيد إثبات الحكم في المذكور ونفيه عما سواه، أي ما المؤمنون إلا هؤلاء ، والمراد: المؤمنون حقًّا الذين تم إيمانهم هؤلاء وحدهم الذين آمنوا بالله ورسوله .
وقوله تعالى (لم يرتابوا ) أصله رابه أي أوقعه في الشك والتهمة .
( وجاهَدوا )المجاهدة : معناها استفراغ الجهد في مدافعة العدو ، والجهاد يشمل جهاد العدو الظاهر وجهاد النفس .
{ أولئك هم الصادقون } في إيمانهم وعدم ارتيابهم .
التفسير الموضوعي للآية
اشتملت الآية الكريمة على :
1- قضية الإسلام والإيمان .
2- المؤمنون الصادقون .
أولا / الإسلام والإيمان :
الإسلام يفسر بالأعمال الظاهرة، وهو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة والخلاص من الشرك .
والإيمان هو: التصديق بالقلب الذي يتبعه العمل، أو كما قال العلماء: القول باللسان، والتصديق بالجنان( بالقلب)، وعمل الجوارح والأركان.
ولا يكون المرء مؤمنا إلا إذا كان مسلما، فيجتمع فيه عمل القلب – وهو الإيمان – وعمل الجوارح وهو الإسلام.
ويدل على ذلك حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قال : أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالاً ولم يعط رجلاً منهم شيئاً . فقال سعد رضي الله تعالى عنه : يا رسول الله ، أعطيت فلاناً وفلاناً ولم تعط فلاناً شيئاً وهو مؤمن. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أو مسلم ؟ حتى أعادها سعد ثلاثاً : والنبي صلى الله عليه وسلم يقول أو مسلم ؟ ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : إني لأعطي رجالاً وأدع من هو أحب إليّ منهم فلم أعطه مخافة أن يكبوا في النار على وجوههم .
فقد فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمن والمسلم فدل على أن الإيمان أخص من الإسلام والإسلام أعم وأشمل
كلام ابن تيمية في تعريف الإسلام والإيمان
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:الإسلام دين، والدين مصدر دان يدين دينا، إذا خضع وذل، ودين الإسلام الذي ارتضاه الله، وبعث به رسله هو الاستسلام لله وحده، فأصله في القلب هو الخضوع لله وحده بعبادته وحده دون ما سواه، فمن عبده وعبد معه إلها آخر لم يكن مسلما، ومن لم يعبده بل استكبر عن عبادته لم يكن مسلما، والإسلام هو الاستسلام لله، وهو الخضوع له، والعبودية له، هكذا قال أهل اللغة: أسلم الرجل إذا استسلم، فالإسلام في الأصل من باب العمل، عمل القلب والجوارح.
وأما الإيمان فأصله تصديق وإقرار ومعرفة، فهو من باب قول القلب المتضمن عمل القلب، والأصل فيه التصديق، والعمل تابع له . كتاب الإيمان ص249
اجتماع الإسلام والإيمان وافتراقهما
في هذه الآية الكريمة فرق بين الإسلام والإيمان، وكذلك في حديث جبريل عليه السلام فرق بين الإسلام والإيمان، ففي حديث جبريل عليه السلام لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام قال: «أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت ». وفي الإيمان قال: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره».
ففرق بين الإسلام والإيمان، وفي أدلة أخرى يجعل الله الإيمان هو الإسلام، والإسلام هو الإيمان، فهل في هذا تناقض؟
والجواب: لا، فإذا قرن الإسلام بالإيمان صارا شيئين، وإذا ذكر الإسلام وحده، أو الإيمان وحده صارا بمعنى واحد، ولهذا نظائر في اللغة العربية كثيرة، ولهذا قال أهل السنة والجماعة: إن الإسلام والإيمان إذا اجتمعا، يعني إذا ذُكرا في سياق واحد فهما شيئان، وإذا ذُكر أحدهما دون الآخر فهما شيء واحد.
أمثلة للتوضيح :
قوله – تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فيشمل الإيمان والإسلام.
ومثل قوله – تعالى -: (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) آل عمران الآية102 أي مسلمون مؤمنون.
ويدل على هذا أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم عدد أعمالاً هي من الإسلام، وجعلها من الإيمان فقال: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله» مع أنها من الإسلام، قال: «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله». «وأدناها إماطة الأذى عن الطريق». وإماطة الأذى عن الطريق من الإسلام؛ لأنها عمل، والأعمال جوارح «والحياء شعبة من الإيمان» وهذا في القلب، فالمهم الإيمان والإسلام إذا افترقا فهما شيء واحد، وإن اجتمعا فهما شيئان.
قوله تعالى : (فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) الذاريات:35، 36
نجد أنه عندما ذكر الإخراج قال من المؤمنين وفي التالية قال المسلمين ؟؟
ما المعنى المستفاد أو سر التغاير ؟
الآية موافقة لهذا المعنى في وصف أهل بيت لوط عليه السلام مرة بالإيمان ومرة أخرى بالإسلام.
فالمراد بالإسلام هنا الإسلام الظاهر ، والإيمان هو الإيمان القلبي الحقيقي ، فلما وصف الله تعالى أهل البيت جميعاً وصفهم بالإسلام ، وذلك لأن امرأة لوط عليه السلام من أهل بيته ، وكانت مسلمة في الظاهر ، كافرة في حقيقة الأمر ، ولما وصف الله تعالى المخرجين الناجين وصفهم بالإيمان . (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ . فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) الذاريات/35 – 36 .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :”امرأة لوط كانت منافقةَ كافرةً في الباطن ، وكانت مسلمة في الظاهر مع زوجها ، ولهذا عُذِّبت بعذاب قومِها . فهذه حال المنافقين الذين كانوا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مستسلمين له فيَ الظاهر ، وهم في الباطن غير مؤمنين” انتهى .”جامع المسائل” (6/221)
ثانيا / المؤمنون الصادقون :
قال تعالى { إنَّما المُؤمِنُون الذين آمَنُوا باللّهِ وَرسُولِه ثُمّ لمْ يَرتابُوا وجاهَدوا بأمْوالِهم وأنْفُسِهم في سَبيل اللّه وأولئِك هُمُ الصادِقُونَ } الحجرات 15.
في الآية بيان لحقيقة الإيمان وصفة المؤمنين الصادقين قولاً وعملاً فالإيمان ليس كلمة تقال وإنماقول يتبعه عمل ، وكأن الله عز وجل قال لهؤلاء المدعين : ليس الإيمان ما زعمتم وظننتم من قول لا يوافقه عقد القلب وادعاء لا تصدقه الأعمال ولم تشهد له الطاعة بالبرهان ، بل الإيمان الحق عند الله تعالى إنما هو التصديق الذي لا أثر فيه للشك بل هو يملأ القلب فتظهر ثمراته على الجوارح بالطاعة وأداء ما فرضه عز وجل من التكاليف البدنية كالصلاة والصوم والتكاليف المالية كالزكاة والحج والتضحية بالنفس والمال في سبيل الله من أجل إعلاء كلمة الله تعالى وتمكين الحق ودفع البغي ،فهؤلاء المتصفون بهذه الخصال العاملون لها هم الصادقون إذا قالوا آمنا .
الإيمان يقين لا يعتريه الشك :
فإن الإيمان لا يغني فيه إلا علم اليقين لا علم الظن ، فكيف إذا دخله الشك ، فاشترط في صدق إيمانهم بالله ورسوله كونهم لم يرتابوا ، أي لم يشكوا ، فأما المرتاب فهو من المنافقين .
وفي الصحيح من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” أشهد ألا إله إلا الله وأني رسول الله ، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة ” وفي رواية لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما فيُحجب عن الجنة “. وفيه عنه رضي الله عنه من حديث طويل أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه بنعليه فقال ” من لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة ” الحديث ، فاشترط في دخول قائلها الجنة أن يكون مستيقناً بها قلبه غير شاك فيها ، وإذا انتفى الشرط انتفى المشروط .
فمجرد القول والمعرفة ليس كافياً، بل لابد من القبول واليقين الذي لا يعتريه شك، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن عمه أبي طالب أنه في النار، وذلك مع أنه يعرف صدق الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان يقول :
ولقد علمت أن دين محمد —— خير أديان البرية دينا
لكنه والعياذ بالله لم يقبل هذا الدين، ولم يذعن له، وكان آخر ما قال: إنه على الشرك على ملة عبد المطلب ، فالذين آمنوا بالله ورسوله، هم الذين أقروا إقراراً تامًّا
فالمؤمنون الصادقون استمروا على التصديق والإذعان للحق ولنبي الحق صلى الله عليه وسلم ولم يعترضهم الريب والشك بعد ذلك ، لأن المؤمن قد يبتلى بمن يضلله ويقذف في قلبه الشك من شياطين الإنس والجن الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً .
فالمؤمنون الأطهار يبتعدون عن مثل هؤلاء المفسدين المشككين للناس في عقائدهم ، ولذلك فهم المؤمنون الصادقون الذين رضي الله عنهم وأرضاهم وثبتهم بالقول الثابت في الحياة الدنيا ، والآخرة ، وهم المجاهدون بأنفسهم وأموالهم والمرابطون على الثغور حماية لبلاد الإسلام وأمة الإسلام ، وهذا هو الجهاد بالنفس ، أما الجهاد بالمال فيشتمل على جميع النفقات التي تبذل لنشر دين الإسلام .
والجهاد الحق هو الجهاد الخالص لوجه الله تعالى ولإعلاء كلمة الله وحده لا يقصد من ورائه مغنم دنيوي : ورد عن أبي موسى أن أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، الرجل يقاتل حمية ، والرجل يقاتل للمغنم والذكر ، فمن في سبيل ، فقال صلى الله عليه وسلم : ” من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ” .
فإذا اختلطت نية الجهاد بمقصد آخر كحب الظهور والشهرة بين الناس في الشجاعة أو لكسب المغانم والأموال فليس له جزاء عند الله تعالى بل يحبط عمله لأنه لم يخلص لوجه الله تبارك وتعالى .
ويمكن أن تعتبر الآيتان اللتان وردتا في سورة الممتحنة دستور الإسلام في القتال ، قال تعالى : ” لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم ، إن الله يحب المقسطين ، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون ” الممتحنة 9،8
هل الوساوس تنافي اليقين في الإيمان ؟
الوساوس التي يلقيها الشيطان في قلب المسلم ، عليه أن يستعيذ منها بالله من الشيطان الرجيم، وينتهي، ويعرض عن هذا، ولا يفكر فيه إطلاقاً، وقد أخبر النبي – عليه الصلاة والسلام – أن مثل هذه الوساوس صريح الإيمان، أي خالص الإيمان، وهذا إنما كان خالص الإيمان، لأن الشيطان لا يأتي للإنسان الشاك يشككه في دينه، وإنما يأتي لإنسان ثابت مستقر، ليشككه في دينه، فيفسده عليه ، فالمؤمن الذي استقر الإيمان في قلبه واطمأن قلبه بالإيمان هو الذي يأتيه الشيطان ليفسد عليه، أما من ليس بمؤمن فإن الشيطان لا يأتيه بمثل هذه الوساوس، لأنه منته منه.