(6) الإصلاح بين المسلمين

قال تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الحجرات: 9-10]
سبب النزول:
روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم لو أتيت عبد الله بن أبي، فركب حمارا وانطلق معه المسلمون يمشون، فلما أتاه النبي صلى الله عليه وسلم قال: إليك عني، فو الله لقد آذاني نتن حمارك، فقال رجل من الأنصار: والله، لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحا منك، فغضب لعبد الله رجل من قومه، وغضب لكل واحد منهما أصحابه، فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال، فبلغنا أنها نزلت فيهم: (وإن طائفتان…..)
مناسبة الآية لما قبلها :
لما نبه سبحانه وتعالى على وجوب التبين من نبأ الفاسق، فقد يأتي الفاسق إلى قوم بنبأ كاذب على قوم آخرين، فإذا سارعوا بتصديق نبأه سيقع القتال والفتنة، ولذا جاءت الآية الكريمة كأنها بيان لما عساه أن يقع بالمخالفة وعدم التبين والمسارعة بأخذ خبر الفاسق، فيقع مضرة على هؤلاء الناس، ويقع القتال بين الفريقين؛ فيكون هذا العلاج:
{ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } فكأنه يقول: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا بسبب نبأ فاسق جاءهم فتداركوا الأمر، وأصلحوا بينهم، ولا تتركوهم على ما هم عليه، وإن كانوا فرطوا في عدم التثبت لا تفرطوا أنتم في عدم الإصلاح، وهذا ترتيب في غاية الإعجاز.
﴿ وإن طائفتان ﴾ يعني: فرقتان من المؤمنين.[1]
﴿ اقتتلوا ﴾ أي: حصل بينهم ما يسبب القتال، أو الاختلاف المؤدي إلى الاقتتال.[2]
وهذا في أي خلاف خيف أنه يقع منه غير القتال؛ كالمقاطعة والفجور بالخصومة والتباغض والسباب ونحو ذلك؛ فعلى البقية أن يسعوا في الإصلاح بينهم .
ولهذا قال: (فأصلحوا بينهما) والصلح هو السعي في المؤاخاة ، وإزالة ما بينهما من العداوة، والحرص على تأليف القلوب فيما بينهم، وجمعها، وإزالة العداوة والشحناء والقطيعة.
﴿ فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ﴾ إذا قدر أن إحداهما امتنعت من الصلح، قالت: لا نقبل، ولا بد أننا نقاتلهم ؛ فإنهم اعتدوا علينا وظلمونا ؛ فلا نرضى بل لا بد أن نقاتلهم، أو ما أشبه ذلك.
﴿ فقاتلوا التي تبغي ﴾ البغي هو التعدي، ومجاوزة الحد.
فهؤلاء هم الذين يقاتلون؛ يقاتلهم بقية المؤمنين حتى يرجعوا ﴿ حتى تفيء إلى أمر الله ﴾ يعني حتى ترجع هذه الطائفة الممتنعة.
﴿ فإن فاءت ﴾ ورجعت فعند ذلك أصلحوا بينهما .
وأصل الفيئة الرجوع، أخذت من الفيء وهو الظل في آخر النهار؛ لأن الظل في أول النهار يكون إلى جهة الغرب لمجيء الشمس من الشرق، فإذا جاءت إلى كبد السماء وتحولت إلى المغرب تحول الظل إلى الشرق، وهذا هو الفيء، فكذلك من كان على طريق فرجع عنه إلى عكسه فقد فاء.
فإن فاءت عن الغي وفاءت عن الاعتداء حينئذ:
{ فأصلحوا بينهما بالعدل } لا تميلوا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
﴿ وأقسطوا ﴾ والقسط أيضا: هو المساواة.
﴿ إنما المؤمنون إخوة ﴾ ولو تقاتلوا فلا يخرجهم تقاتلهم عن كونهم مؤمنين؛ فهم إخوة لكم جميعا؛ والأخوة هاهنا الأخوة الإيمانية.
ونلاحظ هنا كلمة (إنما) في الآية الكريمة، فهي (أداة حصر) أي أن الله عز وجل يخبرنا بأنه: لا أخوة حقيقية إلا أخوة الإيمان والإسلام، وعلاقة الأخوة بين المؤمنين أقوى من علاقة النسب، تضعف بضعف إيمانهم، وتقوى بقوة هذا الإيمان! ويقوى الإيمان بقوتها، ويضعف بضعفها!
﴿ فأصلحوا بين أخويكم ﴾ جعل هؤلاء إخوانكم، وهؤلاء إخوانكم؛ مع أنهم يتقاتلون فيما بينهم؛ فلم تخرجهم هذه المقاتلة عن كونهم إخوة؛ فهم إخوتكم يعني هؤلاء وهؤلاء، وكذلك بعضهم إخوة بعض.
(أخويكم } مثنى أخ ولم يقل بين إخوانكم؛ لأن هذه الطائفة كالجسد الواحد كأنها إنسان واحد وهذه الطائفة المعادية التي تقاتلها كذلك كالإنسان الواحد فأنت كأنك تصلح بين أخوين
{ واتقوا الله لعلكم ترحمون } فرحمة الله عز وجل إنما تنال بالاتفاق وبالألفة وبالأخوة وبالاجتماع.
الصلح بين المسلمين
حتمية الخلاف
تقع الخلافات بين الناس ويحدث الخصام بين جميع فئات المجتمع بين الرجل وزوجته، وبين القريب وقريبه ، وبين الجار وجاره، وبين الشريك وشريكه ، وهذا أمر طبيعي ، وحتمي، ومشاهد، لا يمكن إنكاره، وأسبابه كثيرة لا حصر لها .
وغالبا ما تكون هذه الخلافات في بداياتها اختلاف بسيط يمكن تلافيه لو أحسن الناس التصرف ولكن الشيطان الذي قال الله عنه: (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم ) [الإسراء:52]
وكما أخبر بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم (إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم ) رواه مسلم
هذا الشيطان لن يدع هذه الفرصة تفوت عليه ولن يتوانى هو وأعوانه – النفس الأمارة بالسوء والهوى المتبع وأهل الإفساد والشر والنميمة – في التحريش بينهم وإذكاء نار العداوة والبغضاء حتى تتحول هذه الشرارة إلى فتنة عظيمة وشر مستطير لها عواقبها الوخيمة ؛ فيساء الظن ويقع الإثم وتحل القطيعة ويفرق الشمل وتهتك الأعراض وتسفك الدماء وتنتهك الحرمات.
أصدقاء الأمس أعداء اليوم
ويتحول الحال ؛ فبعد المحبة والصفاء تحل العداوة والبغضاء وبعد القرب والوصال تكون القطيعة والهجران ويصبح أصدقاء الأمس أعداء اليوم ، ويفسد ذات بينهم وتقع الحالقة التي لا تحلق الشعر ولكنها تحلق الدين كما اخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أهمية إصلاح ذات البين:
وحيث حرص الإسلام على وحدة المسلمين وأكد على أخوتهم وأمر بكل ما فيه تأليف لقلوبهم ونهى عن كل أسباب العداوة والبغضاء فقد أمر بالسعي وإصلاح ذات البين وحث عليه وجعل درجته أفضل من درجة الصيام والصدقة والصلاة ، وقد ورد في ذلك عدة آيات وأحاديث منها :
قال تعالى : ( إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون ) الحجرات 10 .
وقال تعالى : ( لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما). النساء: 114
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم ( ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة ؟ قالوا بلى ، قال : إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة ) رواه أبو داود ، وللترمذي ( لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين ) .
ويقول صلى الله عليه وسلم : ( كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس ، تعدل بين الاثنين صدقة ) أي تصلح بينهما بالعدل · أخرجه البخاري ومسلم .
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أفضل الصدقة إصلاح ذات البين) صححه الألباني .
تعريف الإصلاح بين الناس
هو السعي والتوسط بين المتخاصمين لأجل رفع الخصومة والاختلاف عن طريق التراضي والمسالمة تجنبا لحدوث البغضاء والتشاحن وإيراث الضغائن .
نية المسلم عند التدخل للإصلاح
1 – طلب الأجر والثواب من الله تعالى قال تعالى : ( لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما ) النساء: 114.
2- تحقيق مفهوم الأخوة قال تعالى : ( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا …. ) آل عمران: 103 .
3 – الحرص على تماسك المجتمع ، وبث الألفة ، والرحمة ، والتسامح بين أفراد المجتمع المسلم ·
آداب وصفات المصلح
- . ألا يشترط في الصلح شرطا مخالفا لشرع الله فان كان مخالفا لحكم الله فانه لا يجوز لقوله صلى الله عليه وسلم: ( أيما شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ، وإن كان مئة شرط ) رواه البخاري.
- ولا يتضمن شيئا محرما كأن يكون تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما ) حديث حسن صحيح رواه أبو داود والترمذي .
- أن يكون الصلح بتراض من الجانبين المتخاصمين لقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه ).
- أن يستشعر أنها عبادة يقوم بها استجابة لأمر الله، وإقامة للعدل والقسط.
- أن يكون ذا خلق ودين متصفا بالأخلاق الكريمة والعدالة والمروءة.
- أن يتحلى بالحلم وسعة البال والصبر والتأني وعدم العجلة.
- أن يكون ذا علم شرعي عالم بما يحل ويحرم والشروط والأحكام خاصة في مجال الخصومة.
- أن يكون خبيرا في مجال النزاع عالما بالوقائع محيطا بالقضية وملابساتها باحثا عن مسبباتها عارفا بطرق معالجة المشكلات ووضع الحلول والتسويات العادلة المقترحة سواء كانت في مجال المشاكل الزوجية أو العقار أو الديون .
- استعمال الحكمة والأسلوب الحسن ، والبعد عن العبارات الجارحة.
- أن يكون محايدا فيحرص على أن ينظر إليه الطرفان بوصفه شخص محايد لا يميل مع أيهما .
- جواز الكذب لأجل الإصلاح :أذن الشارع للمصلح بنوع من الكذب في العبارات وفي الأمور التي توفق وتقرب وتخفف من شدة العداوة وتحببهم إلى بعض قال صلى الله عليه وسلم ( ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا ) رواه البخاري .
ومن أمثلة ذلك أن يحاول المصلح تبرير أعمال كل من المتخاصمين وأقوالهما بما يحقق التقارب ، ويزيل أسباب الشقاق والخلاف ، وأحيانا ينفي بعض أقوالهما السيئة فيما بينهما ، وينسب إلى كل منهما من الأقوال الحسنة في حق صاحبه مما لم يقله مثل أن يقول : فلان يسلم عليك ويحبك ، ويقول فيك خيرا ونحو ذلك .
12- في كل الخطوات على المصلح دائما بالوعظ والنصيحة وتذكير الخصوم بالعاقبة :فيذكرهم بعاقبة الخصومة، وما تجلبه من الشقاق، وتوارث العداوات، واشتغال القلوب، وغفلتها عن مصالحها ، ويذكرهم كذلك بالعاقبة الحميدة للصلح في الدنيا والآخرة، ويسوق لهم الآثار الواردة في ذلك كقوله تعالى – : ( وأن تعفوا أقرب للتقوى ) [البقرة: 237]وكقوله : ( والعافين عن الناس ) [آل عمران: 134] وكقوله : ( فمن عفا وأصلح فأجره على الله ) [الشورى: 40]
13- وعلي المصلح أن يحسن الاستماع :لأن كل طرف من الأطراف يزعم أنه على حق ، وأن صاحبه على باطل ؛ فيحتاج كل واحد منهما إلى من يستمع إليه ، ويرفق به ، ويأخذ ويعطي معه .
14- ضرورة معرفة الأسباب الحقيقية للخصام :فان استطاع أن يعرفها ويعالجها بشكل يرضي الطرفين كان ما بقي سهل وتضمن بذلك أن يدوم الصلح بينهما .
15- الاستعانة بمن يفيد ويرغب في إنهاء النزاع ، ويراعى في ذلك أن يكون أولئك من ذوي الرأي والبصيرة والحكمة خاصة من عرف حرصه ورغبته في الإصلاح، وحسنت نيتهم وصدق حالهم.
16- الرفع من قيمة الخصم ، أنت من عائلة كريمة وما نسمع عنكم إلا كل خير …أنت رجل تحفظ القرآن ، أنت رجل حججت بيت الله ….الخ
17- يفضل توثيق عقد الصلح بالكتابة والإشهاد عليه ليكون وثيقة يرجع إليه الطرفان عند التنازع أو الاختلاف.
18- التأكيد على أطراف الخصومة بعدم التحدث بما حصل من الخصومة، وكذلك ألا يغتاب خصمه أو يسبه أو يشتمه في حضوره أو غيابه.
نسأل الله أن يصلح ذات بيننا،
وأن يؤلف بين قلوبنا ،
وألا يجعل للشيطان حظا بيننا ،
اللهم آمين
[1] والتعبير «بإن» للإشعار بأنه لا يصح أن يقع قتال بين المؤمنين، فإن وقع على سبيل الندرة، فعلى المسلمين أن يعملوا بكل وسيلة على إزالته. «التفسير الوسيط لطنطاوي» (13/ 308)
[2] وجاء «اقتتلوا» بلفظ الجمع، لأن لفظ الطائفة وإن كان مفردا في اللفظ إلا أنه جمع في المعنى، فروعي فيه المعنى هنا. وروعي فيه اللفظ في قوله بينهما. قالوا: والنكتة في ذلك أنهم في حال القتال يكونون مختلطين فلذا جاء الأسلوب بصيغة الجمع، وفي حال الصلح يكونون متميزين متفرقين فلذا جاء الأسلوب بصيغة التثنية. «التفسير الوسيط لطنطاوي» (13/ 309)