العلامة القرضاوي فقيه العصر وإمام الوسطية

تاريخ الإضافة 16 أكتوبر, 2022 الزيارات : 601

العلامة القرضاوي فقيه العصر وإمام الوسطية

 في خلال الأسبوع الماضي فجعنا جميعا بخبر وفاة علم من أعلام الدعوة في الأمة الإسلامية؛ وهو الشيخ العلامة يوسف القرضاوي.

نسأل الله أن يتغمده بواسع رحمته وفضله، وأن ينفعنا بعلمائنا أحياء أو أمواتا. اللهم آمين

كل نفس ذائقة الموت :

والموت حق علينا جميعا، كما قال الله -سبحانه وتعالى- :  (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا) [الملك 2] ولو كان البقاء في الدنيا مزية لأحد لكان أولى بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لكنها دار للاختبار والابتلاء ثم المرجع إلى الله. وقال جل وعلا : (كل نفس ذائقة الموت) [آل عمران 185] وقال : (كل من عليها فانٍ) [الرحمن 26] وقال:  (كل شيء هالك إلا وجهه)[القصص88]

هذه حقيقة ثابتة لا تتبدل ولا تتغير، فالإنسان مهما طال به العمر سيأتيه أجله في الموعد الذي قدره الله -سبحانه وتعالى-.

وحينما أقف موقفي هذا معزيا أمتنا بأكملها في وفاة عالم جليل عاش قرابة قرن هجري كامل، بذل وقته وجهده ، وحياته لله رب العالمين، ولم يدخر وسعا – فيما نحسبه-  في سبيل دعوته لدين الله -عز وجل-.

كلامي الآن عن هذا الشيخ الجليل ليس المقصود به تمجيدا ولا تعظيما ؛ فإن الشيخ نال من الشرف والرفعة ما يعلمه الجميع، وكشفت الأيام الماضية مدى المحبة والقبول الذي جعله الله تعالى في قلوب المسلمين في مشارق ومغاربها لهذا العالم الجليل.

لكن أنا أقف اليوم لأذكّر ببعض مناقبه وصفاته وألفت الأنظار للانتفاع بعلمه.

نشأته وتعليمه في الأزهر:

ولد الشيخ القرضاوي في إحدى قرى جمهورية مصر العربية، قرية صفت تراب مركز المحلة الكبرى، محافظة الغربية، وهي قرية عريقة دفن فيها آخر الصحابة موتاً بمصر، وهو عبدالله بن الحارث بن جزء الزبيدي، كما نص الحافظ بن حجر وغيره، وكان مولد القرضاوي فيها في 9/9/1926م

نشأ يتيما مات أبوه وهو ابن سنتين، وماتت أمه وهو في المرحلة الابتدائية، كان نابغا من يومه، حفظ القرآن وهو ابن التاسعة، وكان يحفظه عن ظهر قلب، لكن عمه الذي كان يكفله آنذاك، رأى أن يتوجه لحرفة يحترفها أو يعمل بالتجارة ، ليكفي نفسه.

وذات يوم مر بهم شيخ أزهري، فطلب عمه من الشيخ أن يختبره ، فسأله عدة أسئلة من القرآن ، فوجده يحفظه حفظا كاملا، فقال لعمه: هذا الولد يجب أن يذهب إلى الأزهر، لماذا لا تقدم له في الأزهر؟
فقال عمه: الأزهر طريقه طويل، ومع هذا يتخرج علماء الأزهر منه فلا يجدون عملا!!

فقال له: هل تعرف ما يحدث لك بعد أسبوع، أو غدا؟ قال : لا. المستقبل بيد الله.
قال الشيخ: فإذا كنت لا تعرف ماذا يحدث غدا؛ لأن المستقبل بيد الله، فكيف تتحكم فيما سيحدث بعد خمسة عشر عاما تتغير فيها أحوال، وتزول دول، وتقوم دول؟ فكانت كلمات هذا الشيخ سببا لتوجه القرضاوي للأزهر.

مؤهلاته العلمية:

التحق بمعاهد الأزهر الشريف، فأتم فيها دراسته الابتدائية والثانوية وكان دائما في الطليعة، وكان ترتيبه في الشهادة الثانوية الثاني على المملكة المصرية، رغم ظروف اعتقاله في تلك الفترة.
ثم التحق بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر، ومنها حصل على العالية سنة 1952-1953م، وكان ترتيبه الأول بين زملائه وعددهم مائة وثمانون.
ثم حصل على العالمية مع إجازة التدريس من كلية اللغة العربية سنة 1954م ، وكان ترتيبه الأول بين زملائه من خريجي الكليات الثلاث بالأزهر، وعددهم خمسمائة.
وفي سنة 1958حصل على دبلوم معهد الدراسات العربية العالية في اللغة والأدب.
وفي سنة 1960م حصل على الدراسة التمهيدية العليا المعادلة للماجستير في شعبة علوم القرآن والسنة من كلية أصول الدين.
وفي سنة 1973م حصل على (الدكتوراه) بامتياز مع مرتبة الشرف الأولى من نفس الكلية، عن: “الزكاة وأثرها في حل المشاكل الاجتماعية”.

أعماله الرسمية:
عمل الدكتور/ القرضاوي فترة بالخطابة والتدريس في المساجد، ثم أصبح مشرفاً على معهد الأئمة التابع لوزارة الأوقاف في مصر.
ونقل بعد ذلك إلى الإدارة العامة للثقافة الإسلامية بالأزهر الشريف للإشراف على مطبوعاتها والعمل بالمكتب الفني لإدارة الدعوة والإرشاد.
وفي سنة 1961م أعير إلى دولة قطر، عميدا لمعهدها الديني الثانوي، فعمل على تطويره ، وإرسائه على أمتن القواعد، التي جمعت بين القديم النافع والحديث الصالح.
وفي سنة 1973م أنشئت كليتا التربية للبنين والبنات نواة لجامعة قطر، فنقل إليها ليؤسس قسم الدراسات الإسلامية ويرأسه.
وفي سنة 1977م تولى تأسيس وعمادة كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة قطر، وظل عميداً لها إلى نهاية العام الجامعي 1989/1990م، كما أصبح المدير المؤسس لمركز بحوث السنة والسيرة النبوية بجامعة قطر، ولا يزال قائما بإدارته إلى اليوم.
وقد أعير من دولة قطر إلى جمهورية الجزائر الشقيقة العام الدراسي 1990/1991م ليترأس المجالس العلمية لجامعتها ومعاهدها الإسلامية العليا، ثم عاد إلى عمله في قطر مديرا لمركز بحوث السنة والسيرة.
حصل على جائزة البنك الإسلامي للتنمية في الاقتصاد الإسلامي لعام 1411هـ.
كما حصل على جائزة الملك فيصل العالمية بالاشتراك في الدراسات الإسلامية لعام 1413هـ.
كما حصل على جائزة العطاء العلمي المتميز من رئيس الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا لعام 1996م.
كما حصل على جائزة السلطان حسن البلقية (سلطان بروناي) في الفقه الإسلامي لعام 1997م.

جهوده ونشاطه في خدمة الإسلام
الدكتور يوسف القرضاوي، أحد أعلام الإسلام البارزين في العصر الحاضر في العلم والفكر والدعوة والجهاد، في العالم الإسلامي مشرقه ومغربه.
ولا يوجد مسلم معاصر إلا التقى به قارئاً لكتاب، أو رسالة، أو مقالة، أو فتوى، أو مستمعاً إلى محاضرة، أو خطبة أو درس أو حديث أو جواب، في جامع أو جامعة، أو ناد، أو إذاعة، أو تلفاز، أو شريط، أو غير ذلك.

ولا يقتصر نشاطه في خدمة الإسلام على جانب واحد، أو مجال معين، أو لون خاص بل اتسع نشاطه، وتنوعت جوانبه، وتعددت مجالاته، وترك في كل منها بصمات واضحة تدل عليه، وتشير إليه.

 هذا الرجل أثر من آثار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من جهة أنه أحد العلماء الموقرين الإجلاء، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- قال : ( العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذه بحظ وافر)

أهم ما تميز به الشيخ 

1- تشربه للقرآن وفهمه:

الشيخ كان يحفظ القرآن حفظا جيدا ويستظهره في كل كلماته،  وكانوا يقولون إنه بقي أربعين سنة في قطر في مسجده الذي يصلي فيه كل ليلة يصلي القرآن بجزء في رمضان.

والشيخ ليس صاحب صوت كما نقول شجى، لكن إذا سمعت تلاوته تصغي له، فهو يقرأ وكأنه يفسر القرآن.

إذا قرأت كتابا من كتبه بعد أول صفحتين تجد عنوانا في الصفحة الثالثة (من الدستور الإلهي) ويذكر بعض الآيات القرآنية المتصلة بموضوع الكتاب.

إذا قرأت في كتبه تجد استشهاداته بالقرآن وآيات القرآن،  والتي تدل على شخص فهم القرآن وتشربت روحه وقلبه كتاب الله -عز وجل-.

أعداؤه وحساده يقولون عنه: انه مبتدع ومتساهل !!! أقول لهم : اقرأوا كتبه، لتروا كيف كان يستدل بكلام الله عز وجل؟

وكيف كان عنده عمق في استخراج دلالة النص، سواء في القرآن أو في السنة، وإن كان الأبرز تشربه للقرآن في كل ما يكتب، وما يقول.

2-  علو الهمة:

قالوا عنه إنه كان لا ينام إلا قليلا ساعتين أو ثلاث في اليوم بطوله.

عليه أعباء ومهام كثيرة جد، وكان لا يفتر عن الكتابة، حتى قال سكرتيره الشيخ عصام تليمة: إنه من أثر الكتابة أثر القلم في أصبعه الأوسط ، لأن الشيخ ما كان يجلس على الكمبيوتر أبدا…. كان يكتب بخط يده ثم يعطي ما كتب لمساعديه أو بعض تلامذته ليفرّغوا هذا على الكمبيوتر.

 كان يكتب في النهار وفي الليل تطرأ عليه الفكرة فيقوم من نومه يكتبها ، ويكتب وهو في الطائرة وفي السفر ،ويتذكر الموضع الذي سيستشهد به أثناء الكتابة فيشير إلى اسم الكتاب والفصل ، حتى إذا رجع من رحلته العلمية استعان بمكتبته ووثق الكتابات التي يكتبها.

وحينما تنظر لمكتبه تجد قصاصات متنوعة فهو يكتب عبارة أو كلمات على ورقة فيها قائمة طعام في مطعم ، وورقة صغيرة لكذا ، وورقة لتذكرة الطيران كتب عليها شيئا. … فكان لا يفتر عن الكتابة أبدا، سبحان الله العظيم.

فكان يكتب في الطائرة وفي السيارة وفي سفره وفي حله وترحاله، لا ينقطع عن الكتابة إذا عرضت له فكرة يبدأ في الكتابة عنها.

3- الواقعية:

أي واحد يدرس العلوم الشرعية يجد حاجزا بين كتب التراث والواقع الذي يعيشه، فكيف يربط بين العلم الذي درسه إلى الواقع الذي يعيش فيه؟

الشيخ أنعم الله عليه بالواقعية لأن سافر أغلب دول العالم، وزار المسلمين في أقطار الأرض مشارقها ومغاربها، وفتح الله له القلوب وفتح الله له الآذان، فكان -سبحان الله-  يؤثر أيما تأثير. 

وكل من يطالع كتبه أو يسمع محاضراته يجد في كلامه وفي فتاواه وفي خطبه واقعية، قلما تجدها فيمن تصدوا للدعوة والافتاء.

فالذي يعيش في بلد يكون أسيرا للمحيط الذي يعيش فيه، والبيئة التي نشأ فيها وفقا لعادات الناس وأعراف الناس.

لكن تنقله في البلاد شرقا وغربا وتعرضه لحل المشكلات والفتاوى ، وما يعرض للمسلمين في أوروبا وفي الغرب عموما؛ هذا جعل في كتاباته واقعية قلما تجدها في كاتب غيره.

والشيخ رحمة الله عليه بهذه الواقعية جعل المسلم المعاصر يعلم أن الإسلام دين قابل للتطبيق وليس مستحيلا، ونزع عن كاهل المسلم عبء الفقه بلغة تراثية قديمة لا تنتقل إلى الواقع.

وتكلم في مسائل كثيرة حيوية ، ومن يقرأ في فتاوى المجلس الأوروبي للبحوث والإفتاء يرى بصمة الشيخ واضحة في المؤتمرات التي حضرها مع إخوانه من العلماء الإجلاء.

بل هو أصلا المؤسس للمجلس الأوروبي ، وكان سبب التأسيس أنه رأى أن المسلمين بحاجة إلى فقه، هذا الفقه نشأ تحت اسم فقه الأقليات وتطور فيما بعد إلى الصورة التي نحن عليها الآن.

ورأى أن من مصلحة العلماء ألا يكونوا خاضعين لهيئة سياسية، أو رقابة من حكومة، أوغيرها إنما يكون قولهم ورأيهم مستقلا، فأنشأ الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

كلما رأى مشروعا أو فكرة تخدم الدعوة وتخدم الدين يدعو إليها، ويستحث الناس عليها ولا يبخل أبدا في ذلك ، وله جهد وبصمات واضحة  في تأسيس أو تبني الكثير من المشاريع، ولو عددت لكم مشاريعه لطال بنا المقام، فجعله الله تعالى مفتاح خير مغلاق شر.

4- لا يلتفت لمن يعاديه أو يحسده:

من الأشياء التي تميز بها شيخنا أنه لم يلتفت كثيرا لمخالفيه وحساده، أي إنسان ناجح طبيعي جدا أن يكون له مخالفين وحساد.

فأنت إذا كنت على الحق وسرت في هذا المسار فهناك من سيخالفك ممن تخالف هواه أو تخالف مساره أو رؤيته…

فالاختلاف وارد لكن كان هناك من يصل إلى حد التكفير يكفرون الشيخ ويفسقونه ويبدعونه، رغم أن الشيخ كان إذا ذكر بعض المشايخ الذين تكلموا عنه في الأيام الماضية ذكرهم وذكر مواقفه معهم دون طعن أو سب أو تجريح.

ولم يلتفت كثيرا لمخالفيه، وإنما كان عنده استعداد للحوار والنقاش، ويحترم مخالفيه ويحترم آراءهم، ولم يثبت أنه خرج فسب أحدا أو اغتاب أحدا أو انتهك حرمة أحد أو نقب عن نيته كما فعلوا فيه وقالوا عنه مبتدع ومتساهل وكذا وكذا وقالوا فيه ما لا يصح أن يقال عن مسلم فضلا عن عالم له مكانته وجلاله.

5- كان رجاعا للحق:

وكان الشيخ  لا يكتب شيئا إلا ويعرضه على إخوانه العلماء لأخذ رأيهم ومشورتهم، وكان يتراجع عن كثير من الآراء أو النتائج التي يصل إليها فيعدلها.

وإذا لم تتضح لديه الرؤية يؤجل الأمر حتى تتضح.

وإذا لم يعرف الفتوى أو لم يصل لرأي قاطع فيها يتوقف.

وهناك عشرات الفتاوى الشيخ أفتى بها في أول عمره ثم بعد مشاورة العلماء تراجع عنها.

من أشهر الفتاوى التي تؤخذ على الشيخ فتواه بجواز أن يقاتل المسلم الأمريكي مع الجيش الأمريكي في أفغانستان، ثم بعد أن علم الشيخ أنه لم تعط له صورة كاملة أعلن تراجعه عن الفتوى وأعلن موقفه بوضوح، بل حينما ألف كتاب الفتاوى الشاذة ذكر هذه الفتوى على أنها من الفتاوى الشاذة، وهذا أنصاف عجيب لا تجده في كثير من العلماء والكتاب.

صنف هذه الفتوى التي أخطأ فيها بسبب معطيات خاطئة على أنها فتوى شاذة، وأعلن أنه يتراجع عنها.

قيل له أن يصنف كتابا في الرد على مخالفيه وقام بعمل ملحق عن كتاب الحلال والحرام وهو أول كتبه، ثم رأى أنه بذلك سيكثر على الناس بين الأخذ والرد وكلها قضايا خلافية الخلاف فيها معتبر ومقبول.

وكان الشيخ من أبرز الداعين إلى التقارب بين السنة والشيعة لرغبته في توحيد الأمة ، وظل متمسكا بهذه الدعوة سنوات طويلة، لكن الشيخ تبين له في السنوات الأخيرة استحالة ذلك التقريب، فأعلن عن رجوعه عن تلك الدعوى، لأن الخلاف مع الشيعة خلاف في الأصول، إلى جانب عدم تنازلهم عن أطماعهم في ابتلاع العالم الإسلامي السُنّي، واعتذر في أحد المؤتمرات عن ذلك، وكيف أنه خُدع بوهم التقريب، وقال صراحة “المشايخ في السعودية كانوا أنضج مني وأبصر مني، لأنهم عرفوا هؤلاء على حقيقتهم”.

6- كان سابقا لعلماء عصره :

وخاصة أن المدرسة السعودية ذات الرأي الواحد في الفتوى والمذهب الواحد (المذهب الحنبلي) كانت مسيطرة في هذا الوقت في الخليج، لكن الشيخ -رحمه الله- كان سباقا برؤيته الفقهية التي أخذوا بها الآن في زماننا هذا.

وقد حدث أن أرس إليه الشيخ ابن باز رسالة بشأن بعض المسائل التي وردت في كتابه ( الحلال والحرام)  وذكر الشيخ القرضاوي ملخصها في الجزء الثالث من مذكراته فقال: ومما أذكره أني تلقيت رسالة من سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، المفتي العام للمملكة العربية السعودية، خلاصتها: أن وزارة الإعلام طلبت رأيه في كتابي “الحلال والحرام في الإسلام”؛ لأن بعض الناشرين طلبوا من الوزارة أن “تفسح” له، وكلمة “الفسح” غدت مصطلحاً معروفاً في المملكة يُقصد به الإذن بنشر الكتاب ودخوله في السعودية.

 وكان ابن باز يخالف القرضاوي في ثمان مسائل، وقال الشيخ (بن باز) رحمه الله: وإن كتبك لها وزنها وثقلها في العالم الإسلامي، وقبولها العام عند الناس، ولذا نتمنى لو تراجع هذه المسائل لتحظى بالقبول الإجماعي عند المسلمين.

فرد عليه القرضاوي قائلا: لو كان من حق الإنسان أن يدين الله بغير ما أداه إليه اجتهاده، ويتنازل عنه لخاطر من يحب، لكان سماحتكم أول من أتنازل له عن رأيي؛ لما أكن لكم من حب وإعزاز واحترام، ولكن جرت سنة الله في الناس أن يختلفوا، وأوسع الله لنا أن نختلف في فروع الدين، ما دام اختلافاً في إطار الأصول الشرعية، والقواعد المرعية، وقد اختلف الصحابة والتابعون والأئمة الكبار؛ فما ضرهم ذلك شيئاً؛ اختلفت آراؤهم، ولم تختلف قلوبهم، وصلّى بعضهم وراء بعض.

والمسائل التي ذكرتموها سماحتكم، منها ما كان الخلاف فيها قديماً، وسيظل الناس يختلفون فيها، ومحاولة رفع الخلاف في هذه القضايا غير ممكن، وقد بين العلماء أسباب الاختلاف وألفوا فيها كتباً، لعل من أشهرها كتاب شيخ الإسلام “رفع الملام عن الأئمة الأعلام”.

ومن هذه المسائل ما لم يفهم موقفي فيها جيداً، مثل موضوع التدخين؛ فأنا من المشددين فيه، وقد رجحت تحريمه في الكتاب بوضوح، إنما وهم من وهم في ذلك؛ لأني قلت في حكم زراعته: حكم الزراعة مبني على حكم التدخين؛ فمن حرم تناوله حرم زراعته، ومن كره تناوله كره زراعته، وهذا ليس تراجعاً عن التحريم.

وأما مودة الكافر فأنا لا أبيح موادة كل كافر؛ فالكافر المحارب والمعادي للمسلمين لا مودة له، وفيه جاء قوله تعالى: (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) [سورة المجادلة: من الآية 22]. محادة الله ورسوله ليست مجرد الكفر، ولكنها المشاقة والمعاداة. وتعلم سماحتكم أن الإسلام أجاز للمسلم أن يتزوج كتابية، كما في سورة المائدة (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) [المائدة: 5]، فهل يحرم على الزوج أن يود زوجته، والله تعالى يقول: (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) [سورة الروم: من الآية 21]، وهل يُحرّم على الابن أن يود أمّه الكتابية؟ أو يود جده وجدته، وخاله وخالته، وأولاد أخواله وخالاته؟ وكلهم تجب لهم صلة الرحم، وحقوق أولي القربى.

على كل حال أرجو من فضيلتكم ألاّ يكون الاختلاف في بعض المسائل الاجتهادية الفرعية حائلاً دون الفسح للكتاب، وها هو الشيخ الألباني يخالفكم في قضية حجاب المرأة المسلمة.. فهل تمنعون كتبه؟ وقد فسح لكتاب الشيخ من وقتها وظلت وما تزال ملء العديد من المكتبات الخاصة والعامة.

7- الموسوعية:

فالشيخ لم يكن متخصصا في علم واحد من علوم الشريعة ؛إنما كان موسوعيا كتب في التفسير وفي علوم القرآن فأفاد وأجاد ، وكتب كتابا فريدا من نوعه لم يعرف له سابقة في تاريخ العلماء وهو: ( كيف نتعامل مع السنة النبوية؟) ووضع قواعد ذهبية لفهم السنة.

موسوعته فقه الزكاة التي حاز في جزء منها على شهادة الدكتوراه. قال عنها الشيخ الغزالي هذا كتاب القرن الرابع عشر الهجري، لم يؤلف كتاب في مثل قيمته.

فكان موسوعيا كتب في التفسير كتب في السنة…..كتب في الفقه ….. كتب في أصول الفقه والاجتهاد … كتب في واقع الأم آلامها وآمالها .

لم يداهن ولم ينافق وهذا الذي جعله سببا للقبول عند كثير من المسلمين أنه لم يكن متلونا، لم يخضع لسلطة قال كلمة الحق سواء كان في قطر أو كان في غيرها لم يتلون ولم يتغير، كان ثابتا على مبادئه.

وذكر في مذكراته(ابن القرية والكتاب) أنه وهو في الثانوية الأزهرية كان يتمنى أن يكون شيخ للأزهر، فلما كان في السبعين من عمره سألوه هل ما زالت عندك الرغبة أن تكون شيخ للأزهر؟

قال شيخ الازهر منصب سياسي يخضع للحكومة التي عينته، وأنا لا أستطيع أن أتولى منصب اسكت فيه عن كلمة حق أو أرضى فيه بباطل.

فرفض نهائيا أن يجلس على كرسي في منصب من المناصب رسمية في أي مكان؛ فكان عالم الأمة وشيخ الأمة عن حق وجدارة.

وعلم الناس احترامه ومكانته وقدره بهذا الثبات الذي ثبته.

8- اهتمامه بقضايا الأمة :

كانت قضايا الأمة ملء سمعه وبصره… قضية فلسطين…. الربيع العربي…. المظلومين والمستضعفين في كل مكان. 

لو أردت أن أتكلم لطال بنا المقام أكثر وأكثر ولكن هذه إشارات.

ولذلك أنا أدعوكم أن تقرأوا لهذا العالم الجليل أو تسمعوا له، حينما تقرأ لبعض الكتاب تجد الكلام في الكتاب ميتا، لا فكرة تربطه ، ولا وحدة موضعية ، ولا روح ولا حس…. اذا قرأت للشيخ القرضاوي وأنا أحكي عن نفسي تجد كأن الكلمات تدب فيها الحياة… يخاطب عقلك….يخاطب قلبك …يحرك فيك الوجدان ويحرك فيك الحس …. يخاطب فيك الإقناع من الناحية الشرعية كمسلم، وكل ذلك وفقا لمرجعية الكتاب والسنة، ثم فهم الدلالة من كتاب الله وسنة رسول الله ،ثم التأصيل من كلام العلماء السابقين، ويبين أنه ليس بدعا فيما يقول إنما قال ذلك الإمام فلان والإمام فلان ويحيلك على مراجعهم.

فأنت تقرأ كلاما تدب فيه الحياة كلاما فيه الروح، كلاما فيه ارتباط بالأصل، وموافقة للعصر، بلا مجاملة ولا تمييع ولانفاق، إنما وفق فهم الكتاب والسنة.

خاتمة: الشيخ القرضاوي ليس معصوما:

أخيرا الشيخ الراحل رحمة الله عليه ليس معصوما من الخطأ، فشأنه شأن كل البشر، أبى الله الكمال الا لذاته، والعصمة لرسله، ثم سائر الخلق كما قال إمام دار الهجرة الإمام مالك : كل الخلق يؤخذ منه ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر وأشار إلى قبرالرسول صلى الله عليه وسلم.

فالشيخ القرضاوي بشر، أصاب وأخطأ، لكن كما قال الشاعر: ( كفى بالمرء نبلا أن تعد معايبه)

الدار الشامية أعلنت الآن عن الأعمال الكاملة للشيخ الراحل مائة وخمسة مجلد، خمسة وسبعين ألف صفحة…. لو قلنا في هذه الصفحات وهذه المجلدات الموسوعية عشرة أخطاء …. خمسين خطأ …. من خمسة وسبعين ألف صفحة استخرجت هذه الاخطاء فكفى به نبلا أن تعد معايبه، لم يدّع لنفسه العصمة ولم يدّع تلاميذه ولا أحباؤه لذاته التقديس ولا أن قوله لا يرد.

هو بشر، أصاب كثيرا واجتهد فأخطأ في بعض ما قال ، فنرد ما أخطأ فيه، ونقبل ما أصاب فيه.

وقدوتنا في ذلك نبينا المعصوم-صلى الله عليه وسلم- الذي علمنا أن من اجتهد فأصاب فله ومن اجتهد فأخطأ فله أجر.

رحمة الله على شيخنا وعلى سائر علمائنا، ونفعنا الله تعالى بعلمهم،

وجمعنا الله بهم في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر،

سائلين الله تعالى أن يجعلنا خير خلف لخير سلف. وأن يثبتنا على الحق إلى أن نلقاه .

اللهم امين.

 


اترك ردا

بدريك الإلكتروني لان يتم نشره.


قناة فتاوى أون لاين

تم إنشاء قناة جديدة تحت عنوان فتاوى أون لاين للإجابة على الفتاوى الشرعية
رابط الانضمام

رابط تيليجرام

الواتس اب

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر مشرف الموقع

هو الشيخ  الدكتور/ حسين محمد عامر من مواليد بلبيس بمحافظة الشرقية -مصر-عام 1976 م . الشهادات العلمية : 1- أتم حفظ القرآن وهو ابن الرابعة عشر عاما ، وحصل على إجازة برواية حفص بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على يد شيخه يوسف عبد الدايم -رحمه الله- . 2-  حصل على الإجازة

تاريخ الإضافة : 14 مايو, 2024 عدد الزوار : 1038 زائر

خطبة الجمعة

تفسير القرآن العظيم

شرح صحيح البخاري

شرح مدارج السالكين

جديد الموقع