تفسير سورة الحجرات 2- التثبت من الأخبار
قال تبارك وتعالى -: { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا }
{ إن جاءكم فاسق } الفاسق هو من انحرف في دينه وعقيدته ومروءته،
وضده العدل وهو من استقام في دينه ومروءته
{ بنبإ } بخبر
{ فتبينوا } إن جاءنا بخبر فلا نقبله لما عنده من الفسق، ولا نرده لاحتمال أن يكون صادقاً.
وفي قراءة (فتثبتوا) وهما بمعنى متقارب .
فإن شهد له الواقع بالحق قبلناه لوجود القرينة الدالة على صدقه، و إلا رددناه .
وقوله – سبحانه وتعالى -: { إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا } يفيد أنه إن جاءنا عدل فإننا نقبل الخبر، إلا إذا كان الخبر مستغربا ، أو انفرد به عن الناس ،أو كان هناك دلائل قوية تكذبه ، أو كان يخبر عن قوم بينه وبينهم شحناء ،أو عرف عن هذا الناقل- رغم صلاحه – التسرع والعجلة ،إلى غير ذلك من الأسباب والاعتبارات .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: وكثير من الناقلين ليس قصده الكذب، لكن المعرفة بحقيقة أقوال الناس من غير نقل ألفاظهم، وسائر ما به يعرف مرادهم قد يتعسر على بعض الناس، ويتعذر على بعضهم ) [ انظر: منهاج السنة6-3030.]
وقال ابن القيم – رحمه الله -: صحة الفهم وحسن القصد من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عبده، ثم قال: وصحة الفهم نور يقذفه الله في قلب العبد، يميز به بين الصحيح والفاسد، والحق والباطل، والهدى والضلال، والغي والرشاد [انظر: أعلام الموقعين1-87.]
ولا ننس حادثة الإفك ورمي الصديقة بنت الصديق بالبهتان ، رمى ابن سلول الكلمة فتلقفتها ألسنة المنافقين ، بل ووقع فيها بعض من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم بين الله – عز وجل – الحكمة من كوننا نتبين خبر الفاسق فقال:
قوله تعالى: { أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين }
يعني أمرناكم أن تتثبتوا كراهة أن تصيبوا قوماً بجهالة؛ لأن الإنسان إذا تسرع ولم يتثبت فقد يعتدي على غيره بناءً على الخبر الذي سمعه من الفاسق، وقد يكرهه، وقد يتحدث فيه في المجالس، فيصبح بعد أن يتبين أن خبر الفاسق كذب نادماً على ما جرى منه .
وفي هذه الآية دليل على أنه يجب على الإنسان أن يتثبت فيما ينقل من الأخبار ولا سيما مع الهوى والتعصب، فإذا جاءك خبر عن شخص وأنت لم تثق بقول المخبر فيجب أن تتثبت، وألا تتسرع في الحكم؛ لأنك ربما تتسرع وتبني على هذا الخبر الكاذب فتندم فيما بعد
هل صح سبب نزول في هذه الآية ؟
ذكر أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط وأن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه ليجبي الزكاة من بني المصطلق، فلما أقبل إليهم لأخذ الزكاة استقبلوه في الطريق؛ فخيل إليه أنهم سيقتلونه؛ فرجع هاربا إلى المدينة وقال: منعوا الزكاة، وكادوا يقتلونني، فصدقوه، وهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يغزوهم ، وبينما هو كذلك إذ جاء وفدهم؛ وفد بني المصطلق، وقالوا: يا رسول الله، إننا استقبلنا رسولك، وإنه رجع بعدما قابلنا، فقال: هل منعتم؟ قالوا : ما منعنا وإنما فرحنا بقدومه فعند ذلك نزلت الآية
والصحيح الذي يليق بصحابة رسول الله عدم ثبوت صحة هذه القصة وقد وردت بأسانيد كلها ضعيفة
وأهم ما يستفاد من الآيات
وجوب التثبت من الأخباروخطورة الشائعات
تتطوّر الشائعات بتطور العصور، ويمثّل عصرنا الحاضر عصراً ذهبياً لرواج الشائعات المغرضة، وما ذاك إلا لتطوّر التقنيات، وكثرة وسائل الاتصالات، التي مثّلت العالم قرية كونية واحدة، فآلاف الوسائل الإعلامية، والقنوات الفضائية، والشبكات المعلوماتية (الانترنت ) َ تتولّى نشر الشائعات المغرضة، والحملات الإعلامية .
عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” إنَّ الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأدَ البنات، ومنعاً وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال ” متفق عليه .
وإن من أولى الخطوات في مواجهة حرب الشائعات تربية النفوس على الخوف من الله، والتثبت في الأمور، فالمسلم لا ينبغي أن يكون أذنا لكل ناعق، بل عليه التحقق والتبيّن، وطلب البراهين الواقعية، والأدلّة الموضوعية، والشواهد العملية، وبذلك يُسدّ الطريق أمام الأدعياء، الذين يعملون خلف الستور، ويلوكون بألسنتهم كل قول وزور.
كيف عالج الإسلام قضية الإشاعة ؟
عالج الإسلام قضية الإشاعة عن طريق ثلاث نقاط:
1- النقطة الأولى: التثبت.
و التثبت له طرق كثيرة؛ فمنها :
أ- إرجاع الأمر لأهل الاختصاص:
يقول الله تعالى: ( و إذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به و لو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) [النساء 83 ] قال الشيخ السعدي- رحمه الله -: ( هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم غير اللائق ، و أنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة و المصالح العامة ؛ ما يتعلق بسرور المؤمنين أو الخوف الذي فيه مصيبة عليهم أن يتثبتوا و لا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر ، بل يردونه إلى الرسول و إلى أولي الأمر منهم ؛ أهل الرأي و العلم و العقل الذين يعرفون المصالح و ضدها.
فإن رأوا في إذاعته مصلحة و نشاطا للمؤمنين و سرورا لهم و تحرزا من أعدائهم : فعلوا ذلك.
فان رأوا ليس من المصلحة أو فيه مصلحة و لكن مضرته تزيد على مصلحته لم يذيعوه )ا. هـ
فكم من إشاعة كان بالمكان تلافي شرها بسؤال أهل الاختصاص.
ب- التفكر في محتوى الإشاعة:
إن كثير من المسلمين لا يفكر في مضمون الإشاعة الذي قد يحمل في طياته كذب تلك الإشاعة، بل تراه يستسلم لها و ينقاد لها و كأنها من المسلمات.
و لو أعطينا أنفسنا و لو للحظات في التفكر في تلك الإشاعات لما انتشرت إشاعة أبدا.
لقد بين الله حال المؤمنين الذين تكلموا في حادثة الإفك فقال سبحانه: ( إذ تلقونه بألسنتكم و تقولون بأفواهكم ما ليس به علم )النور 15
(إذ تلقونه بألسنتكم ) ومن البديهي أن الإنسان يتلقى الأخبار بسمعه لا بلسانه ، و لكن أولئك النفر من الصحابة الذين وقعوا في الإفك لم يستعملوا التفكير، لم يمروا ذلك الخبر على عقولهم ليتدبرا فيه، بل قال الله عنهم أنهم يتلقون حادثة الإفك بألسنتهم ثم يتكلمون بها بأفواههم من شدة سرعتهم في نقل الخبر و عدم التفكر فيه.
2- النقطة الثانية: الناقل للإشاعة من الفاسقين.
في الآية السابقة يقول الله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا …) فجعل الله من نقل الخبر دون تثبت من الفاسقين.
فمجرد نقل الأخبار دون التأكد من صحتها موجب للفسق؛ و ذلك لأن هذه الأخبار ليس كلها صحيح، بل فيها الصحيح والكاذب، فكان كل من نقل كل خبر وأشاعه؛ داخل في نقل الكذب، لذا جعله الله من الفاسقين.
و قد صرح النبي بذلك كما في صحيح مسلم : (كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع )
فالمؤمن لابد له من الحذر في أن يكون عند الله من الفاسقين .
والعاقل يعلم أنه ليس كل ما يسمع يقال.
و لا كل ما يعلم يصلح للإشاعة و النشر.
وصح عنه – عليه الصلاة والسلام – أنه قال: “بئس مطية الرجل: زعموا” رواه أبو داود وغيره.
وأما إن كانت الشائعة صحيحة واقعة، لكن في إذاعتها مفسدة وأذى، فإن ذلك محرم أيضاً، خاصة إذا كان فيها أذية لمسلم وإضرار به، وتتبع لعوراته .
عن أبي برزة الأسلمي – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين، ولا تعيروهم، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته” حديث صحيح رواه أبو داود والترمذي وأحمد.
3- النقطة الثالثة: التفكر في عواقب الإشاعة:
و عودة مرة ثالثة للآية السابقة في سورة الحجرات يقول الله تعالى: ( أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين )
هلا تفكرت في نتائج الإشاعة؟ هلا تدبرت في عواقبها؟
فاعلم أخي: إن كل خسارة، كل هم و غم أصاب أخاك المسلم، كل أموال أهدرت بسبب إشاعتك التي نشرتها أو ساعدت في نشرها فلك نصيب من الإثم فيها. حادثة الإفك :
ولعل من أشهره الإشاعات قصة الإفك، تلك الحادثة التي كشفت عن شناعة الشائعات، وهي تتناول بيت النبوة ، وتتعرّض لعرض أكرم الخلق على الله – صلى الله عليه وسلم -، وعرض الصدّيق والصدّيقة وصفوان بن المعطل – رضي الله عنهم أجمعين- وشغلت هذه الشائعة المسلمين بالمدينة شهراً كاملاً، والمجتمع الإسلامي يصطلي بنار تلك الفرية، وتعصره الشائعة الهوجاء عصراً، حتى نزل الوحي ليضع حداً لتلك المأساة ، ويرسم المنهج للمسلمين عبر العصور للواجب اتخاذه عند حلول الشائعات المغرضة {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ} 12 النــور
إلى قوله سبحانه: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} 16 – 17 النــور
وقد ورد أن أبا أيوب الأنصاري قالت له امرأته أم أيوب: يا أبا أيوب، أما تسمع ما يقول الناس في عائشة، رضي الله عنها؟
قال: نعم، وذلك الكذب. أكنتِ فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ قالت: لا والله ما كنتُ لأفعله.
قال: فعائشة والله خير منك.
تقول عائشة – رضي الله عنها-: “فمكثت شهراً لا يرقأ لي دمعٌ ولا أكتحل بنوم”، حتى برّأها الله من فوق سبع سماوات، – رضي الله عنها وأرضاها-.
كيف نتعامل مع الإشاعات :
لابد أن يكون هناك منهج محدد لكل مسلم يتعامل فيه مع الإشاعات، ونلخصها في أربعة نقاط مستنبطة من حادثة الإفك، التي رسمت منهجاً للأمة في طريقة تعاملها مع أية إشاعة إلى قيام الساعة :
النقطة الأولى: أن يقدم المسلم حسن الظن بأخيه المسلم، قال الله تعالى : (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً) النور 12النقطة الثانية: أن يطلب المسلم الدليل على أية إشاعة يسمعها يقصد بها الخوض في عرض مسلم أو مسلمة قال الله تعالى: ( لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء)النور13
النقطة الثالثة: أن لا يتحدث بما سمعه ولا ينشره، فإن المسلمين لو لم يتكلموا بأية إشاعة، لماتت في مهدها قال الله تعالى: (ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا)النور 16
النقطة الرابعة: أن يرد الأمر إلى أولى الأمر، ولا يشيعه بين الناس أبداً، وهذه قاعدة عامة في كل الأخبار المهمة، والتي لها أثرها الواقعي:قال الله تعالى:
( وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم، ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا)النساء 83
فإذا حوصرت الشائعات بهذه الأمور الأربعة، فإنه يمكن أن تتفادى آثارها السيئة المترتبة عليها بإذن الله عز وجل