الزكاة عبادة مالية ترمي إلى تحقيق أهداف معينة في حياة الفرد والمجتمع والعالم الإنساني.
فليس لأي إنسان أن يأخذ منها ما لم يكن من أهلها، وليس لرب المال ولا للحاكم أن يصرفها حيث شاء ما لم تصادف محلها.
ومن هنا اشترط الفقهاء، ألا يكون آخذ الزكاة من الأصناف الذين جاءت النصوص بتحريمها عليهم، وعدم اعتبارهم مصرفًا صحيحًا للزكاة.
وهؤلاء الأصناف الذين حُرِّمت عليهم الزكاة هم :
1- الأغنياء:
مذهب الجمهور مالك والشافعي وأحمد أن الغنى هو من ملك مال تحصل به الكفاية عنده ، ولا حد للغنى معلوم ، وإنما يعتبر حال الإنسان بوسعه وطاقته ، فإذا اكتفـى بما عنده حرمت عليه الصدقة والعكس إذا احتاج حلـت له الصدقة، لما رواه الترمذي وحسنه عن ابن عمر أن رسول الله قال : ( لا تحل الصدقة لغنى ولا لذي مِرة سوى )
والمِرة القوة والشدة ومنه قوله تعالــى عن جبريل ( ذو مِرة فاستوى ) النجم 6 والسوي : المستوى السليم الأعضاء.
، وأيضا قول الرسول صلى الله عليه وسلم (تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم)
إلا إذا كان من العاملين عليها لأن ما يأخذه إنما هو أجر على عمله، أوالمؤلفة قلوبهم أوالغارمين لمصلحة الغير، فهؤلاء يُعطون مع الفقر والغنى.
2- الأقوياء المكتسبون :
وقد سبق الحديث من قوله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي)
والمرة: الشدة والقوة.
والسوي: المستوي الأعضاء، أي أن جسمه سليم من العاهات، وإنما حرمت الزكاة على القوي؛ لأنه مُطالب أن يعمل ويكفي نفسه بنفسه لا أن يقعد ويتكل على الصدقات، فإذا كان قويًا ولكنه لا يجد عملاً فهو معذور، ومن حقه أن يُعان من الزكاة، حتى يتهيأ له العمل الملائم.
3- غير المسلمين :
باتفاق العلماء لا يعطى من الزكاة ملحد ولا مرتد ولا محارب للإسلام، أما أهل الذمة وهم أهل الكتاب ومن في حكمهم ممن يعيشون بين ظهراني المسلمين، حيث دخلوا في ذمتهم، وخضعوا لسلطان دولتهم، وقبلوا جريان أحكام الإسلام عليهم، واكتسبوا بذلك التبعية لدار الإسلام، أو ما يشبه “الجنسية” بلغة عصرنا،فالجمهورعلى أنه لا يجزئ دفع زكاة المال إلى الذمي، واختلفوا في زكاة الفطر لحديث معاذ: (إن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم، وترد في فقرائهم)، فقد أمر برد الزكاة في فقراء من تؤخذ من أغنيائهم، وهم المسلمون، فلا يجوز وضعها في غيرهم، وهذا إذا كان يعطى باسم الفقر والحاجة، أما إذا أعطي تأليفًا لقلبه، وتحبيبًا للإسلام إليه من سهم المؤلفة قلوبهم فلا بأس .
لكن يجوز التصدق عليهم من صدقات التطوع ما داموا مسالمين ويعيشون معنا – قال تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذي لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين) (الممتحنة: 8). وقد نزلت هذه الآية ردًا على تحرج بعض المسلمين من برِّ أقاربهم المشركين.
وقبل هذا ما رواه عن ابن عباس: أنهم كانوا يكرهون الصدقة على أنسابهم وأقربائهم من المشركين، فسألوا فرخِّص لهم، ونزلت هذه الآية (ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء، وما تنفقوا من خير فلأنفسكم، وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله، وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون) (البقرة: 272).
وقد مدح الله الأبرار من عباده بقوله: (ويطعمون الطعام على حبه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا) (الإنسان: 8). وقد كان الأسرى حينئذ من أهل الشرك .
4- الوالدين والأبناء والزوجة :
إذا كان القريب بعيد القرابة ممن لا تلزم صاحب الزكاة نفقته، فلا حرج في إعطائه من زكاة قريبه سواء إعطاء القريب نفسه، أم غيره من المزكين، أو الإمام أو نائبه، أعني إدارة توزيع الزكاة، وسواء أعطي من سهم الفقراء أو المساكين أم من غيرهما.
أما القريب الوثيق القرابة – كالوالدين والأولاد ففي جواز إعطائهم من الزكاة تفصيل:
فإذا كان القريب يستحق الزكاة لأنه من العاملين عليها أو في الرقاب أو الغارمين أو في سبيل الله، فلقريبه أن يعطيه من زكاته ولا حرج؛ لأنه يستحق الزكاة هنا بوصف لا تأثير للقرابة فيه، ولا يجب على القريب – باسم القرابة – أن يؤدي عنه غُرمه، أو يتحمل عنه نفقة غزوه في سبيل الله، وما شابه ذلك.
وكذلك إذا كان ابن سبيل يجوز أن يعطيه مئونة السفر.
أما المؤلفة قلوبهم فليس إعطاؤهم من شأن الأفراد، بل من شأن أولي الأمر، كما بينَّا ذلك من قبل.
أم إذا كان القريب الوثيق القرابة فقيرًا أو مسكينًا فهل يعطي من سهم الفقراء والمساكين في الزكاة؟ وللإجابة على ذلك يجب أن نعرف من المعطي؟
فإذا كان الذي يوزع الزكاة ويعطيها هو الإمام أو نائبه، أو بتعبير عصرنا: إذا كانت الحكومة هي التي تتولى جباية الزكاة وصرفها، فلها أن تعطي ما تراه من أهل الحاجة والاستحقاق، ولو كان من تعطيه هو ولد المزكِّي، أو والده أو زوجه ؛ لأن صاحب الزكاة يدفعها إلى ولي الأمر المسلم، قد أبلغها محلها وبرئت ذمته منها، وأصبح أمر توزيعها منوطًا بالحكومة؛ إذا لم يعد لمال الزكاة بعد جبايته صلة ولا نسب بمالكه من قبل، إنما هو الآن مال الله أو مال المسلمين.
وإذا كان القريب فقيرًا أو مسكينًا وكان من يعطيه هو القريب نفسه، فلابد أن ننظر في درجة قرابته، ومن يكون هو لهذا القريب؟ فإن كان هذا الفقير أبًا للمزكي أو أمًا، أو ابنًا، أو بنتًا – وكان من يجبر على النفقة عليهم – بأن كان موسرًا – فلا يجوز الصرف إلى أحد منهم من زكاته.
قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الزكاة لا يجوز دفعها إلى الوالدين في الحال التي يُجبر فيها الدافع إليهم على النفقة عليهم ولأن دفع زكاته إليهم يغنيهم عن نفقته، ويسقطها عنه، ويعود نفعها إليه، فكأنه دفعها إلى نفسه، فلم تجز، كما لو قضى بها دينه (انظر: المغني لابن قدامة: 2/647).
ولأن مال الولد مال لوالديه. ولهذا جاء في المسند والسنن من غير وجه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (أنت ومالك لأبيك) (تفسير ابن كثير: 3/305، والحديث رواه أحمد في المسند من ثلاثة طرق – عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده – وصححها الشيخ شاكر.
كما اعتبر القرآن بيوت الأبناء بيوتًا للآباء؛ إذ قال تعالى (ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم) (النور: 61 ).أي بيوت أبنائكم (تفسري القرطبي: 12/ 314)لأنه لم ينص عليهم في الآية كبقية الأقارب، ولأن أكل الإنسان من بيته ليس في حاجة إلى نص في رفع الحرج عنه.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه) رواه الترمذي عن عائشة بإسناد حسنه الترمذي.
ومن هنا قال علماء الحنفية: إن منافع الأملاك متصلة بين الوالدين والأولاد، فلا يقع الأداء تمليكًا للفقير من كل وجه، بل يكون صرفًا إلى نفسه من وجه، ولقوة الصلة بينهم لم تجز شهادة بعضهم لبعض (انظر: بدائع الصنائع:2/49).
وكذلك لا يجوز دفع الزكاة إلى الأولاد؛ لأنهم جزء منه، والدفع إليهم كأنه دفع إلى نفسه. ولا يعكر على ذلك الحديث الذي رواه البخاري وأحمد عن معن بن يزيد قال: أخرج أبي دنانير يتصدق بها عند المسجد، فجئت فأخذتها، فقال: والله ما إياك أردت، فجئت فخاصمته إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: (لك ما نويت يا يزيد، ولك ما أخذت يا معن) إذ الظاهر من هذه الصدقة أنها صدقة تطوع – كما قال الشوكاني – وليست الزكاة المفروضة (انظر: نيل الأوطار:4/189).
والحجة التي ذكرها ابن المنذر وغيره هي سند هذا الإجماع، وذلك “أن دفع زكاته إليهم يغنيهم عن نفقته ويسقطها عنه، ويعود نفعها إليه فكأنه دفعها إلى نفسه”.
وقد قيد ابن المنذر نقل الإجماع على عدم جواز الدفع إلى الوالدين بالحال التي يجبر فيها الدافع إليهم على النفقة عليهم. فإذا لم تتحقق هذه الحال – بأن كان الولد معسرًا – وملك نصابًا وجبت فيه الزكاة – فقد قال النووي: إذا كان الولد أو الوالد فقيرًا أو مسكينًا وقلنا في بعض الأحوال: ” لا تجب نفقته”، فيجوز لوالده وولده دفع الزكاة إليه من سهم الفقراء والمساكين، لأنه حينئذ كالأجنبي (المجموع: 6/229).
وقال ابن تيمية: يجوز صرف الزكاة إلى الوالدين وإن علوا، وإلى الوالد وإن سفل، إذا كانوا فقراء وهو عاجز عن نفقتهم. أيد ذلك بوجود المقتضى للصرف (وهو الفقر والحاجة) السالم عن المعارض (أي لم يوجد مانع شرعي يعارض هذا المقتضى) قال ابن تيمية: وهو أحد القولين في مذهب أحمد، وإذا كانت أم فقيرة، ولها أولاد صغار لهم مال، ونفقتها تضر بهم. أعطيت من زكاتهم (اختيارات ابن تيمية ص 61 – 62).
وقال ابن عثيمين في شرحه لهذا الحديث في رياض الصالحين : يجوز أن يعطي الإنسان ولده من الزكاة، بشرط أن لا يكون في ذلك إسقاط لواجب عليه.
يعني مثلاً: لو كان الإنسان عنده زكاة وأراد أن يعطيها ابنه، من أجل أن لا يطالبه بالنفقة؛ فهذا لا يجزي؛ لأنه أراد بإعطائه أن يسقط واجب نفقته.
أما لو أعطاه ليقضي ديناً عليه؛ مثل أن يكون على الابن حادث، ويعطيه أبوه من الزكاة ما يسدد به هذه الغرامة؛ فإن ذلك لا بأس به، وتجزئه من الزكاة، لأن ولده أقرب الناس إليه؛ وهو الآن لم يقصد بهذا إسقاط واجب عليه، إنما قصد بذلك إبراء ذمة ولده؛ لا الإنفاق عليه، فإذا كان هذا قصده فإن الزكاة تحل له.
وما قيل في الوالدين والأولاد يقال في الزوجة أيضًا، فلا يعطي الرجل زوجته من الزكاة، وذلك لأن نفقتها واجبة عليه، ثم إن الزوجة من زوجها كأنه نفسه أو بعضه، كما قال تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا) (الروم: 21). وبيت زوجها هو بيتها كما قال الله تعالى: (لا تخرجوهن من بيوتهن) الطلاق: 1 .. وهي بيوت الزوجية، التي هي ملك الأزواج عادة.
هل تدفع الزوجة زكاتها إلى زوجها الفقير؟
أما دفع الزوجة من زكاتها إلى زوجها الفقير أو المسكين فهي جائزة ، لأنه – أي الزوج – لا تجب نفقته عليها، فلا يمنع دفع الزكاة إليه لحديث زينب امرأة عبد الله ابن مسعود قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (تصدقن يا معشر النساء، ولو من حليكن)، قالت: فرجعت إلى عبد الله فقلت: إنك رجل خفيف ذات اليد (كناية عن الفقر) وإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أمرنا بالصدقة فائته فاسأله، فإن كان كذلك يجزي عني وإلا صرفتها إلى غيركم.
قالت: فقال عبد الله: ائته أنت.
قالت: فانطلقت فإذا امرأة من الأنصار بباب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حاجتي حاجتها، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد ألقيت عليه المهابة … فخرج علينا بلال فقلنا له: ائت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبره أن امرأتين بالباب يسألانك: أتجزئ الصدقة عنهما على أزواجهما، وعلى أيتام حجورهما؟ ولا تخبر من نحن … فدخل بلال فسأله. فقال: (من هما) ؟ فقال: امرأة من الأنصار، وزينب، فقال: (أي الزيانب) ؟ فقال: امرأة عبد الله. فقال: (لهما أجران: أجر القرابة وأجر الصدقة) رواه أحمد والشيخان.
أما سائر الأقارب من أخ وأخت وعم وعمة وخال وخالة فلا حرج في إعطائهم من الزكاة ، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (الصدقة على المسكين صدقة، وهى على ذي الرحم ثنتان: صدقة وصلة) رواه أحمد
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (إن أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح) رواه أحمد
والكاشح هو المضمر للعداوة.
وما قاله بعضهم (انظر: المجموع: 6/229 – 230، ونيل الأوطار: 4/188، والروض النضير: 2/420). من جواز صرف الزوج من زكاته إلى زوجته فلا يعتد به؛ لأنه في الحقيقة إنما يعطي باليمين ليأخذ بالشمال.
إعطاء الزكاة لسائر الأقارب :
أما سائر الأقارب من أخ وأخت وعم وعمة وخال وخالة ..إلخ، فهي جائزة مالم يكن مسؤولا عن نفقتهم كالأخ الكبير الذي يعول إخوته أو كان يعول عمته أو خالته وتقيم معه
روى أبو عبيد بسنده عن إبراهيم بن أبي حفصة قال: سألت سعيد بن جبير قلت: أعطي خالتي من الزكاة؟ قال نعم ما لم تُغْلِق عليها بابًا (انظر: الأموال ص 582 -583: يعني ما يضمها إلى أسرته وعياله): يعنى ما لم يضمها إلى أسرته وعياله .
ولم ير الشافعي وجوب النفقة إلا على الأصول وإن علوا، والفروع وإن نزلوا.
وأضيق منه في إيجاب النفقة مذهب مالك الذي لم يوجب النفقة إلا على الأب لأولاده من صلبه، الذكور حتى يبلغوا (ولهذا سئل الشيخ عليش المالكي عن طالب علم بالغ قادر على الكسب؛ هل يجزئ أباه إعطاؤه زكاة ماله؟ فأجاب بجواز ذلك، لسقوط نفقته عنه ببلوغه قادرًا عليه واستحقاقه أخذها. أي لاشتغاله بالعلم. (فتح العالي المالك: 1/129). والإناث حتى يتزوجن، ويدخل بهن أزواجهن، بخلاف ولد الولد فلا نفقة لهم على جدهم، كما لا تلزمهم النفقة على جدهم.
وتلزم الولد النفقة على أبويه الفقيرين كما يلزم الزوج نفقة امرأته ونفقة خادم واحدة لها، ولا تلزم نفقة أخ ولا أخت ولا ذي قرابة ولا ذي رحم محرم منه (انظر المدونة الكبرى: 1/256 – المطبعة الخيرية – الطبعة الأولى سنة 1324هـ).
وإذًا فمن عدا الوالدين الأولاد من الأقارب يجوز دفع الزكاة إليهم في مذهب مالك (المرجع السابق).
والذي نرجحه هو الذي ذهب إليه أكثر أهل العلم منذ عصر الصحابة والتابعين ومن بعدهم من جواز دفع الزكاة إلى القريب ما لم يكن ولدًا أو والدًا.
وحُجَّتنا في ذلك:
أولاً: عموم النصوص التي جعلت صرف الزكاة للفقراء دون تمييز بين قريب وأجنبي مثل آية: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) .. وحديث: (تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) فإن هذه العموميات تشمل الأقارب، ولم يرد مخصص صحيح يخرجهم عنها، بخلاف الزوجة والوالدين والأولاد فقد خصصوا منها بالإجماع الذي ذكره ابن المنذر .
وثانيًا: ما ورد في الأقارب خاصة من النصوص المرغبة في الصدقة عليهم، مثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: (الصدقة على المسكين صدقة، وهى على ذي الرحم ثنتان: صدقة وصلة) رواه أحمد ، والصدقة تطلق على الزكاة كما عرفنا، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (إن أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح) رواه أحمد .
والكاشح هو المضمر للعداوة.
وكذلك ما رواه الطبراني والبزار عن عبد الله بن مسعود (في الحديث الذي ذكرناه من قبل من رواية الشيخين وأحمد) أن امرأته قالت لبلال: اقرأ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- السلام من امرأة من المهاجرين ولا تبين له، وقل له: هل لها من أجر في زوجها من المهاجرين ليس له شيء وأيتام في حجرها. وبنو أخيها، أن تجعل صدقتها فيهم؟ فأتى بلال النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: (نعم لها أجران: أجر القرابة وأجر الصدقة)
أما قولهم: إنه بالدفع يجلب إلى نفسه نفعًا، ويسقط عن نفسه فرضًا فهذا حق بالنسبة إلى الزوجة والأولاد والوالدين؛ لأن المنافع بينهم متصلة وهم شركاؤه في ماله، ونفقتهم واجبة عليه وجوبًا بيَّنًا بالكتاب والسنة.
أما بقية الأقارب، فالذي أختاره: أن نفقتهم إنما تلزم القريب إذا لم يكن هناك في مال المسلمين ما يغنيهم: من الزكاة والفيء والخُمس وسائر موارد بيت المال الأخرى، فهنا يُلزم القريب الموسر بالنفقة، ولا يدع قريبه يهلك جوعًا وعريًا، وكذلك إذا لم توجد الحكومة التي تجمع الزكاة، وتقوم بكفالة العيش للفقراء، فإن على القريب الغني أن يكفي قريبه الفقير، ولا يتركه فريسة للعوز والحاجة، ولا حرج عليه أن تتحقق هذه الكفاية كلها أو بعضها مما وجب عليه من زكاة.
لأن الواجب هو كفاية القريب، وسد حاجته، وتفريج كربته، صلة لرحمه، ووفاء بحقه، ولم يرد ما يمنع أن تكون الزكاة من موارد هذه الكفاية. كيف ولو كانت الحكومة هي التي تجبيها لتولت هي الإنفاق على هؤلاء الفقراء من مال الزكاة وغيرها؟ فكأن الفرد المسلم في هذه الحالة نائب عن الإمام أو الدولة في الإنفاق على أقاربه وكفايتهم، من الزكاة التي كان الأصل أن تتولى جمعها وتفريقها عليهم.
على أن من العلماء من لم ير تعارضًا بين لزوم نفقة القريب وإعطائه من الزكاة، فقالوا بوجوب النفقة للأقارب بشروط خاصة، ومع هذا أجازوا دفع الزكاة إليهم.
وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه، فقد رأوا أن لزوم النفقة لا يمنع إعطاء الزكاة، وإنما المانع هو اتصال منافع الأملاك بين المؤدي والمؤدى إليه، فلا يتحقق التمليك الذي هو عندهم ركن الزكاة، ويكون المزكي كأنما دفع إلى نفسه قالوا: وهذا لا يتحقق إلا بين الإنسان وأولاده، وآبائه وأمهاته، ولهذا لا تجوز شهادة بعضهم لبعض بخلاف بقية الأقارب؛ فالدفع إليهم يتحقق به التمليك؛ لانقطاع منافع الأملاك بينهم، ولهذا تجوز شهادة بعضهم لبعض (انظر: بدائع الصنائع: 2/49 – 50).
5- الفاسـق:
لا يعـطى من الزكاة حتى لا يكون فيه العون على معصيته لله ، كأن يشتري بها خمرًا، أو يقضي بها وطرًا محرمًا؛ لأنه لا يُعان بمال الله على معصية الله. ويكفي في ذلك غلبة الظن. إلا إذا كان له زوجـة وأبناء فيعطون من الزكاة لأنهم لا ذنب عليهم.
6- آل النبي صلى الله عليه وسلم:
وهم بنوهاشم: آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل العباس وآل الحارث بن عبد المطلب، ولم يدخل في ذلك آل أبي لهب؛ لما قيل من أنه لم يسلم أحد منهم في حياته -صلى الله عليه وسلم-، ويرده ما في جامع الأصول: أنه أسلم عتبة ومعتب ابنا أبي لهب عام الفتح، وسُرَّ -صلى الله عليه وسلم- بإسلامهما، ودعا لهما، وشهدا معه حنينًا والطائف، ولهما عقب عند أهل النسب.
قال ابن قدامة: لا نعلم خلافًا في أن بني هاشم لا تحل لهم الصدقة المفروضة لقول النبي صلى الله عليه وسلم (إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد ) رواه مسلم .
وروى البخاري من حديث أبي هريرة قال: أخذ الحسن بن علي -رضي الله عنهما- تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه – وكان طفلاً – فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كخ كخ) ليطرحها. ثم قال: (أما شعرت إنا لا نأكل الصدقة)
والحكمة فى هذا لدفع التهمة عنهم وقطع ألسنة المفترين وليكونوا أسوة حسنة لسائر المسلمين فى التعفف .
وقد نقل الطبري الجواز عن أبي حنيفة، وقيل عنه: تجوز لهم إذا حُرِموا سهم ذوي القربى. حكاه الطحاوي، ونقله بعض المالكية عن الأبهري منهم.
قال في الفتح: وهو وجه لبعض الشافعية.
وقال الحافظ: وعند المالكية في ذلك أربعة أقوال مشهورة: الجواز، المنع، جواز التطوع دون الفرض، عكسه.
قال الشوكاني: والأحاديث الدالة على التحريم على العموم ترد على الجميع، وقد قيل: إنها متواترة تواترًا معنويًا. ويؤيد ذلك قوله تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجرًا إلا المودة في القربى) (الشورى: 23 ). وقوله: (قل ما أسألكم عليه من أجر) (سورة ص: 86 ). ولو أحلها لآله أوشك أن يطعنوا فيه.
قال الحافظ: يؤخذ من هذا جواز التطوع دون الفرض، وهو قول أكثر الحنفية، والمصحح عند الشافعية والحنابلة.
وأما عكسه “جواز الفرض دون التطوع” فقالوا: إن الواجب لا يلحق بأخذه ذلة، بخلاف التطوع.
ووجه التفرقة بين بني هاشم وغيرهم: أن موجب المنع رفع يد الأدنى على الأعلى، فأما الأعلى على مثله فلا (الفتح: 3/227). كما رواه مسلم.
وفي “مجمع الأنهر” في فقه الحنفية قال: وعن الإمام أبي حنيفة: لا بأس بصرف الكل (الفرض والتطوع) إليهم.
ورجح شيخ الإسلام ابن تيمية: أنه يجوز لبني هاشم الأخذ من زكاة الهاشميين (مطالب أولي النهى: 2/157)
ما الحكم إذا حرموا من الغنائم والفيء؟
ويعرض هنا سؤال مهم وهو: ما الحكم إذا خلا بيت المال من الغنيمة والفيء أو استولى عليه من لا يعطيهم منه شيئًا؟
قال بعض المالكية: محل عدم إعطاء بني هاشم إذا أعطوا ما يستحقونه من بيت المال، فإن لم يعطوه وأضر بهم الفقر أعطوا منها. وإعطاؤهم أفضل من إعطاء غيرهم.
وقيد بعضهم جواز هذا الإعطاء بحال الضرورة، وهي الحال التي يباح فهم فيها أكل الميتة. ومعنى هذا التعبير أن التحريم باق، وإنما جاز للضرورة كسائر المحرمات.
وقال أبو سعيد الإصطخري من الشافعية: إن مُنعوا حقهم من الخمس جاز الدفع إليهم؛ لأنها إنما حُرموا الزكاة لحقهم في خمس الخمس، فإذا منعوا الخمس وجب أن يدفع إليهم.
وكذا رجح ابن تيمية والقاضي يعقوب من الحنابلة جواز أخذهم من زكاة الناس إذا منعوا من خمس الغنائم والفيء، لأنه محل حاجة وضرورة (مطالب أولي النهى: 2/157).
ولم يوافق الجمهور على إعطاء الزكاة لبني هاشم (وحدهم أو مع بني المطلب على الخلاف السابق) وإن مُنعوا الخمس. مستدلين بأن الزكاة إنما حُرِّمت عليهم لشرفهم برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهذا المعنى لا يزول بمنع الخمس (المجموع: 6/227).
مناقشة وترجيح
والذي أراه أن القول بإعطاء الزكاة لأقارب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- في زماننا أرجح وأقوى؛ لحرمانهم من خمس الغنائم والفيء، الذي كان يعطى منه لذوي القربى في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- تعويضًا من الله لهم عما حُرِّم عليهم من الصدقة.
وسهم ذوي القربى هو المذكور في قوله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) (الأنفال: 41). وقوله تعالى: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم) (الحشر: 7).
وحديث البخاري: (إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد) إنما يدل على كراهة التنزيه والتنفير من مقاربة هذا العمل الذي هو مظنة لأخذ ما لا يحل كما فعل ابن اللتبية. ولهذا أبى عبادة بن الصامت وغيره أن يقبلوا الولاية على الصدقات لما فيها من خطر التعرض لما لا يجوز.
وأما حديث الحسن بن علي وقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (أما شعرت إنا لا نأكل الصدقة)، وفي رواية مسلم: (لا تحل لنا الصدقة)، فالذي يبدو لي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قاله بوصفه إمام الجماعة ورئيس الدولة. فإن اجتماع الصدقات عنده لا حلها له ولا لأهل بيته، لأنها ملك المسلمين جميعًا. ومن هنا روي أن عمر شرب من لبن الصدقة خطأ فتقيأه (رواه مالك في الموطأ في كتاب الزكاة).
وإذا غضضنا الطرف عن هذه الأسباب والملابسات التي وردت فيها هذه الأحاديث ونظرنا إلى مجرد ألفاظها، فماذا تدل عليه كلمة “آل محمد”؟ هل تدل حتمًا على ذرية بني هاشم وحدهم أو مع بني المطلب إلى يوم القيامة؟
ليس هناك دليل حاسم على ذلك؛ فآل محمد هنا كآل إبراهيم، وآل عمران في الآية الكريمة: (إن الله اصطفى آدم ونوحًا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) (آل عمران: 33 ). فآل عمران هنا: مريم وابنها عيسى، وآل إبراهيم: إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وليس المراد ذريته إلى يوم القيامة فقد قال تعالى في إبراهيم وإسحاق (ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين) (الصافات: 113 ). ومن ذرية إبراهيم مخربة العالم من اليهود.
ومثل هذا قوله تعالى: (فالتقطه آل فرعون) (القصص: 8 ). (وأغرقنا آل فرعون) (البقرة: 50 ). (وحاق بآل فرعون سوء العذاب) (غافر: 45).
فهل يفهم من آل فرعون إلا هو وحده أو مع أهل بيته وألصق الناس به وأخصهم؟ وهنا “آل محمد” ينبغي أن يقصر على أهل بيته من أزواجه وأولاده وأسباطه وأقرب الناس إليه، وهذا حكم خاص بهم حال حياته -صلى الله عليه وسلم-، كما جاء ذلك عن الإمام أبي حنيفة: وأخذ به صاحبه محمد بن الحسن.
وكما ذكر صاحب “البحر الزخار” أنه أحد أقوال مالك: ووجهه أنها حُرِّمت لدفع التهمة وقد زالت بوفاته -صلى الله عليه وسلم- (البحر: 2/184).
فهم كغيرهم من المسلمين، تؤخذ الزكاة من أغنيائهم، وترد على فقرائهم.