سورة الحجرات(12) “يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا”
نختتم في هذا اللقاء بفضل الله تعالى تفسيرنا لسورة الحجرات
ونعيش مع قول الحق جل وعلا :”قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ”.
كما ذكرنا في الخطبة الماضية أن قوما من الأعراب جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا آمنا … فبين الله تعالى أن الإيمان أمر في القلب لا يطلع عليه إلا الله ، وإنما ينبغي لمن جاء أن يقول : أسلمت لله عز وجل، فالإسلام هو الإنقياد الظاهري والنطق بالشهادتين ، أما ما في البواطن فلا يعلمه ولا يطلع على حقيقته إلا الله عز وجل.
ولذلك جاء التعقيب بعد ذلك بصفة المؤمنين الصادقين :” إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ”.
“قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ…” أتريدون أن تخبروا الله بما في قلوبكم؟
الله جل وعلا لا يخفى عليه شيء، يعلم ما في أنفسكم ويعلم ما في السماوات وما في الأرض والله بكل شيء عليم.
فلا حاجة له في أن تعلنوا عن إيمانكم بقول أو أن تبينوا ذلك بالحديث بين الناس ، إنما هذا أمر يعلمه من يعلم كل شيء في السماوات والأرض.
ومن كلامهم الذي قالوه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: جئناك بالعيال والأثقال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وفلان (يعني نحن جئنا مختارين، جئنا بدون قتال، جئنا طواعية) فنزلت هذه الآية: “يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ۖ قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ ۖ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ”.
“يمنون عليك أن أسلموا… ” ينبغي أن نفهم معنى المن والمنة. المن يعني العطاء والإحسان. والله تعالى قال: “لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ…” و”…كَذَٰلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا ۚ …”. “وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَىٰ مُوسَىٰ وَهَارُونَ”. ” و”وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ…”.
فالمن هو العطاء والإحسان ، لكن العطاء والإحسان من الله عز و جل هو عطاء بلا مقابل. هو عطاء وفير غزير.
ولذلك الله تعالى أخبرنا :”وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ …” العد يعجز الإنسان عنه. فكيف يستطيع أن يؤدي الشكر؟
ومع هذا فإن الله تعالى يرضى من عباده أن يشكروه وأن يمجدوه وأن يعبدوه وحده لا شريك له.
المنان اسم من أسماء الله جل وعلا:
والمن بالنسبة لله صفة كمال ومن أسماء الله جل وعلا المنان. كما ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول في دعائه اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم أسألك الجنة وأعوذ بك من النار. قال لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى.
الشاهد أن المنان اسم من أسماء الله جل وعلا ومعناه الذي يمن على عباده بعطاياه ونعمه.
فالمن بالنسبة لله صفة كمال أما بالنسبة للعباد فصفة نقص، لماذا؟
لأن العبد إذا أعطى ومنّ على من أعطاه فهذا فيه معنى الأذى والإذلال يعني أن أقول لك أنا الذي أعطيتك حينما كنت في ورطة أو في شدة أنا سلفتك، أنا أقرضتك، أنا جعلت منك كذا، أنا لحم أكتافك من خيري، أنا أنا أنا… فتمن عليه لتؤذيه، لتعيره، لتستذله.
فالمنة من البشر فيها معنى الكبر الأذى بالمحتاج والإذلال له. أما منة الله تعالى على خلقه فإنه هو المنعم الحقيقي جل وعلا. يعني أنا وأنت وكل ما نملكه هو ملك الله عز وجل.
الأعرابي كان فقيها حينما سألوه لمن هذه الغنم ؟
قال :هي لله في يدي. يعني أنا مؤتمن عليها .
فأنا وأنت وكل الناس ما نملكه فهو ملك لله أولا ؛ فالله تعالى مالك كل شيء وما ملك فهو صاحب المنة وهو صاحب الفضل وهو صاحب العطاء جل وعلا.
فالذي أعطاك ومنع عني قادر أن يمنع عنك ويعطيني.
إذن فإن الله تعالى يمن على عباده بنعمه حتى يعلموا جميعا أن الشكر له جل وعلا ، وأن الإفتقار إليه جل وعلا ، وأن الذي يعطي ويمنع هو سبحانه وتعالى فلا يرجو إلا ربه ولا يستعين إلا به جل و علا.
إذن لما يمن الله تعالى، المنة هنا لتتذكر فقرك وحاجتك إلى الله سبحانه وتعالى وتتذكر مع هذا غناه عنك. الله غني عنا. من نحن بالنسبة لله عز وجل؟
وما نكون؟
نحن لا شيء.
إذا كانت الدنيا كلها لا تساوي عنده جناح بعوضة. الدنيا كلها… فمن أنت تساوي وماذا أنا أساوي؟
وكل هذه الدنيا…إذا كانت الدنيا بأجمعها لا تساوي عند الله جناح بعوضة.
إخواني، فنحن منغمسين في نعم الله. “…وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ۗ …”. “وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۖ…” جل في علاه.
إذن فأنا لما أمنّ على أحد كعبد، أنا أمنّ بما ليس في يدي، بما لست أنا مالك له ملكية حقيقية …. يعني أنا مناول فقط .
المنان الحقيقي هو الله، الذي أعطاني هو الله، الذي وفقني لأن أنفق لأن أعين هذا المكروب ، أو الذي وقع في شدة هو الله.
فالذي يمنّ هو الله ولست أنا.
أنا عبد، أنا ضعيف، أنا فقير، أنا لا حول لي ولا قوة.
فلما يعطيني الله وأستذل العباد وأؤذيهم بالكلام وأقول أنا أعطيتك، أنا فعلت، أنا فعلت… هنا يكون في ذلك إبطال للأجر ، وهذا الذي قاله الله لنا :”يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ…”.
حتى بعض الأزواج يقع في هذا يقول لزوجته ممتنا عليها، أنا وأنا وأنا وأنا أعطيتك وفعلت وفعلت.
أو يمنّ على أولاده، أنا فعلت وفعلت وفعلت… فهذا لا يجوز من باب الأذى أو التعيير أو الإستكبار، ولكن يجوز إذا كان هنالك إنكار للأمر يعني من يكفر بالنعمة ويجحدها من الممكن أن يحتاج إلى التذكير فنذكره ليس على سبيل التعيير بل على سبيل أن يعلم الفضل لمن أعطى أو مد إليه يده.
لكن إذا كان الهدف من المنّ الإيذاء، أنك مستكبر، أنك تعير من أمامك فهذا مما يبطل الأجر ومما يبغضه الله. بل أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم أنه من الثلاثة الذين لا ينظر الله تعالى إليهم يوم القيامة (المنان) الذي يعطي ويؤذي بالكلام، الذي يعطي ويعير من أعطاه.
إذن فالمنة بيننا حرام صفة نقص ، وكبيرة من الكبائر .
أما إذا منّ الله علينا، إذا ذكرنا بعطائه وإحسانه فهو سبحانه وتعالى صاحب العطاء وصاحب النعم وصاحب الإنعام وهو أكرم الأكرمين جل الله في علاه.
الخلاصة :
معنى كلمة المنة : النعمة العظيمة والمن العطاء والإحسان والذي يمن بما شاء هو الله سبحانه وتعالى أما نحن فالله تعالى هو الذي أعطانا وهو الذي أعاننا وهدانا.
هنا مسألة في الآية : يمنون عليك أن أسلموا… هل تظن أن أي عبادة تؤديها الله في حاجة إليها؟
أبدا أبدا… الله عز و جل قال في الحديث القدسي : (يا عبادي إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ولن تبلغوا ضري فتضروني.) من أنت حتى تبلغ من القوة أو العلم أو السيادة أن تنفع الله عز وجل أو تضر الله؟
لو كل العباد كلهم اجتمعوا على أن ينفعوا الله أو أن يضروا الله لا يصلون إلى شيء من ذلك حتى في بقية الحديث قال : ( يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد ما زاد ذلك في ملكي شيئا و لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئا. ) فلا العبادة تزيد في ملكي ولا المعصية تنقص من ملكي .
( يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا في صعيد واحد فأعطيت لكل واحد مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئا إلا كما ينقص المخيط (الإبرة) إذا أدخل ماء البحر. ) هل الإبرة إذا أدخلناها ماء البحر وأخرجناها تنقص منه شيئا ؟!
فإذا أعطى الله الخلق جميعا حوائجهم ما ينقصون من ملكه شيئا سبحانه وتعالى.
إذن فلما تعمل عمل لا تمنّ على الله بهذا العمل.
الذي يمنّ هو الله سبحانه وتعالى. لذلك ذكر رب العزة عن أهل الجنة قولهم : ” …وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ…”.
العمل سبب لدخول الجنة وليس ثمن لدخول الجنة :
الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: لن يدخل أحدكم الجنة بعمله.
قالوا ولا أنت يا رسول الله؟
قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته.
فالعمل سبب لدخول الجنة وليس ثمن لدخول الجنة… مهما عملت من طاعات لن تبلغ ثمن شيء في الجنة…..الجنة لا يقابلها شيء من الدنيا كلها.
الرسول قال : “لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها.” والسوط :مايضرب به من حبل أو جلد.
إذن لما يكون موضع صغير في الجنة لا تساوى معه الدنيا بأسرها…. فسبحان الله !!! كل عباداتك، كل طاعاتك هي من فضل الله عليك، هي من رحمة الله تعالى بك.
ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما كان الصحابة يحفرون الخندق كان سيدنا عبد الله بن رواحة يعني ارتجز بعض الأبيات الشعرية فكان الصحابة ينشدونها وهو يحفرون الخندق فكان يقول معهم النبي صلى الله عليه وسلم
اللهم لولا أنت ما اهتدينا * ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا * وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الأحزاب قد بغوا علينا * إن أرادوا فتنة أبينا
نعم فلولا الله ما اهتدينا، لولا الله ما تصدقنا ولا صلينا.
فالحمد لله الذي أكرمنا بنعمة الإسلام وأكرمنا بنعمة الهداية، وأكرمنا بنعمة البصيرة وأكرمنا بنعمة السجود بين يديه، وأكرمنا بهذه النعم كلها.
فلا ينظر الإنسان إلى عمله…. أنا فعلت وفعلت وفعلت… أنا حججت كذا مرة، أنا أقمت الليل، أنا أنفقت على الفقراء كذا، أنا ساهمت في مسجد كذا… حينما تبرز الأنا فهذه سبب للهلاك.
احذر الإعجاب بالنفس:
احذر بروز الأنا وحظوظ النفس في أي عمل لله فإن ذلك يفسده.
إبليس يذكر عنه أنه كان من أعبد المخلوقات لكن لما برزت عنده الأنا وردّ الأمر على الله وقال حينما أمر بالسجود لآدم أنا خير منه. قال الله تعالى “فاخرج منها فإنك رجيم.” أنت ملعون “وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَىٰ يَوْمِ الدِّينِ”.
فالإنسان لا يغتر بطاعته، لا يغتر بهدى الله، لا يغتر بعطاء الله، لا يغتر بمال، لا يغتر بعلم، لا يغتر بأي شيء.
لو اغتررت بنفسك تهلك، تضيع. سبحان الله العظيم!.
هذا من فضل ربي
ولذلك يا إخواني، ينبغي على المؤمن دائما أن يستشعر معنى الإفتقار إلى الله، معنى الحاجة إلى الله… أنه مهما ازداد سواء في علم أو مال أو مكانة أو من الدنيا أو كذا أو كذا… فليعلم أن هذا كله من عطاء الله سبحانه وتعالى.
نبي الله سليمان سبحان الله أعطاه الله ما أعطاه من الملك، ملك عظيم فماذا قال ؟ “قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي …”.
يعني كل ملوك الدنيا لن يصلوا إلى ما آتاه الله لسليمان جن وإنس وطير وحيوانات وكل شيء سخره الله والريح رخاء وعاصفة والشياطين كل بناء وغواص ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه… كل هذا !
لما رأى عرش بلقيس أمامه لم يتذكر قوته أو أنه الزعيم أو أنه الملك صاحب الألقاب والفخامة والضخامة… هذه الأشياء التي يخلعونها على أنفسهم إنما قال لله متواضعا: (هذا من فضل ربي.) الإنسان فينا ممكن يتكبر بشهادة أو يتكبر بمال أو كذا… سيدنا سليمان ملك عظيم كما قلت لن يتحقق ملكه لأحد من بعده. دعوة دعا بها فاستجابها الله و”… قَالَ هَٰذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ۖ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ”.
والرسول صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة فاتحا دخلها ومعه عشرة آلاف…. عشرة آلاف بالنسبة للأعداد الموجودة في هذا الوقت جيش ضخم، جيش كبير…. فيدخل النبي صلى الله عليه وسلم على أهل مكة بهذا الجيش الكبير.
ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
عندما استقبل جهة مكة وهو داخل إليها أحنى رأسه حتى كادت لحيته أن تمس الرحل (ظهر الناقة) التي كان يركبها تواضعا وإجلالا لله سبحانه وتعالى.
لم تغنى له الأغاني ولا الأشعار ولا التمجيد ولا خلعت عليه الألقاب ولا أي شيء.
كان صلى الله عليه وسلم وهو سيد ولد آدم بقول : (إنما أنا عبد أجلس كما يجلس العبد وآكل كما يأكل العبد. )
أنا عبد لله، لا ملك متغطرس ولا متجبر ولا ظالم …….
ذات مرة رأى رجل الرسول صلى الله عليه وسلم فبدأ يرتعد ( والنبي من رآه يهابه ، سيدنا عمرو بن العاص يقول: والله ما ملأت عيني من رسول الله هيبة له. عمرو بن العاص أسلم سنة سبعة هجرية يقول ما ملأت عيني من رسول الله هيبة له ولو قيل لي صف رسول الله ما استطعت)
فلما رآه الرجل هابه وارتعد. قال هون عليك يا أخي. الرسول يقول هون عليك فإنما أنا ابن امرأة من مكة كانت تأكل القديد (القديد هو اللحم لما يكون هنالك ذبيحة يقطعون اللحم شرائح ويستقبلون به الشمس فيقدد يعني يصير يابس، وسيلة من وسائل الحفظ في هذا الوقت ثم بعد ذلك يأكلونه إذا أرادوا. فهذا كان حال الناس البسطاء لكن الغني لا يأكل اللحم إلا طازج، يعني بعد ذبحه مباشرة)
فالنبي مع ما أعطاه الله سيد ولد آدم، خاتم الأنبياء والمرسلين وإمامهم صلى الله عليه وسلم وخير خلق الله كان سيد المتواضعين لله عز وجل. كان يجلس بين أصحابه كواحد منهم لا يتكبر ولا يتعال.
ما أنتما بأقوى على المشي مني وما أنا بأغنى عن الأجر منكما:
لما كان في غزوة بدركان عدد الجمال التي يركبونها سبعون جملا فقط، سبعون بالنسبة لثلاثمئة وأربعة عشر يعني كانوا ثلاثة على كل بعير على كل جمل. فالرسول قسم الطريق مراحل. كل مرحلة من الطريق يركب شخص شخص من الثلاثة. يركب واحد ويمشي الإثنان.
مع النبي علي بن أبي طالب ومرثد بن أبي مرثد الغنوي…. فلما ركب رسول الله، اتفقا ألا ينزلا إكبارا واحتراما له صلى الله عليه وسلم.
فلما انتهت المرحلة من الطريق، أراد أن ينزل قالوا لا يا رسول الله اتفقنا أن تظل راكبا.
قال ما أنتما بأقوى على المشي مني وما أنا بأغنى عن الأجر منكما…. تواضع !!!
وحق له صلى الله عليه وسلم أن يكون له ركوبة وحده يستقل بها طوال الطريق فهو القائد لكن كان قدوة كواحد من أصحابه.
يقول لهم أنتم سيأتي وقت وتضعفون عن المشي لأن الطريق طويل وأنا راغب في الأجر. (ما أنتما بأقوى على المشي مني وما أنا بأغنى عن الأجر منكما. )
فأنت مهما أعطاك الله مهما كنت في خير وفي فضل فهو من نعمة الله عليك.
أي نجاح، أي إنجاز، انسب الفضل فيه لله يزدك الله سبحانه وتعالى. “وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ”.
لماذا تتكبر؟ أنت لا شيء بالنسبة لله ولذلك قال :”وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا”.
لو المسألة بكثرة الشحم واللحم فالفيلة فيها من الشحم واللحم ما هو أكثر.
لو بالطول فهنالك الزرافة أطول منك…
المسألة أن الله اصطفاك أيها الإنسان لتكون خليفة في هذه الأرض. سخر الله لك هذا الكون لتعبده وحده لا شريك له فكل ما فيك هو من الله من عطائه، من فضله.
فلا تعجب بنفسك، لا تغتر، لا تتكبر مهما آتاك الله لا تتعال على الخلق.
ولذلك قال النبي: من تواضع لله رفعه.
تأملها جيدا.
كلما تزداد علما تواضع لله، تزداد مالا تواضع لله، تزداد مكانة إجتماعية تواضع لله.
فالله يحب من يتواضع بين خلقه ولا يحب المستكبرين.
“يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ۖ قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ ۖ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ”.
فلا فضل لي زائدا على أحد ولا ولا فضل لأحد زائدا علي. الفضل لله، هو الذي هدانا وهو الذي كفانا وهو الذي آوانا وهو الذي أطعمنا وسقانا وهو الذي سبحانه وتعالى قادر على أن يسلب أي نعمة منا فنصير لا حول لنا ولا قوة إلا به … جل الله في علاه.
(قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ ۖ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ…) الله صاحب المنة، الله صاحب العطاء.
(بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ.) ولذلك يا إخواني، إحذر أن يأتيك الخير إلى بابك ثم ترده متعاليا، أن يفتح لك باب وطريق إلى خير أو إلى الجنة أو إلى مساعدة محتاج أو إلى نصرة مظلوم ثم تتكبر وتقول لا… هذا ليس طريقي، أنا لا أحب ذلك، أنا أنا أنا ……
“وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ”.
لو فتح لك باب خير، فاعلم أن الله أحبك أيا كان هذا الخير.
لو جعلك الله تعالى في مقام طاعة منضما إلى مكان فيه خير إعانة لفقير، مساعدة لمحتاج، نصرة لمظلوم، تخفيف لألم مريض، فافرح إفرح أن الله هيأ لك ذلك.
لكن أنك تعرض أو تستكبر أو كما قال الكفار قديما : “أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ…”. نحن ما لنا شأن بالفقراء؟ أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ ؟!!
لا يا أخي الحمد لله الذي هداك لهذا.
الحمد لله الذي فتح لك باب خير يرضى ربك عليك به. “بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ”.
إخواني وأحبابي الكرام
وتختتم السورة بقوله تعالى : “إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ”.
فالله تعالى يعلم الغيب ويعلم العلانية.
إذا كان يعلم الغيب فمن باب أولى أنه يعلم العلانية والمقصود هنا أن الله لا يخفى عليه شيء من أحوالكم ولا يخفى عليه شيء مما يدور في نفوسكم وفي قلوبكم.
فهو مطلع على كل شيء ولا يغيب عنه شيء.
فيا أخي أنت تعامل الله في كل أحوالك، في كل أمرك حينما تأتمر بأمر الله أوتنتهي عن أمر نهى الله عنه، اجعل ذلك لله، حسبة لله، الذي ترضيه يعلم كل شيء، الذي تسعى في مرضاته وأخذ الأجر منه هو الله يعلم غيب السماوات والأرض.
يعني أنا لا أنتظر حينما ألتزم بإشارة المرور إذا كانت حمراء أن يقف الشرطي ليصفق لي مشجعا. أنا لا أنتظر ذلك. فأنا حينما أحترم إشارة المرور الحمراء فإنما أحترم حق غيري في الحياة كما أن غيري يحترم حقي في الحياة … لأن معنى كسر إشارة المرور معناه تعريض حياة الآخرين للخطر. هذا مثال أضربه، فنفس الحال أنت إذا نهاك الله عن نهي لا تنتظر أن الخلق يصفقون لك، لا تنتظر ماذا سيقول الناس عنك إنما إنتظر رضى الله عز وجل. أنت تعامل من لا تخفى عليه خافية. أنت تعامل من هو عليم بذات الصدور. “وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا”.
فأنت تقوم بالعمل ولا تنتظر من العباد شيئا إنما تنتظر الأجر من الله. تعلم أن الذي يراقب باطنك هو الله.
الناس ينظرون إلى ظاهرك والله ينظر إلى باطنك.
“إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ …”. لا تغتر بعمل عملته.
لا تنتظر من الناس ماذا قالوا أو ماذا منعوا.
انتظر من الله، راقب الله، أرج عطاءه كما قال السلف: لا يرجون أحد إلا ربه ولا يخافن إلا ذنبه.
لا ترج إلا ربك ولا تخش إلا ذنبك.
فإذا كنت بهذه الصورة فأنت بإذن الله تعالى من المؤمنين الصادقين الذين عافاهم الله تعالى من الرياء ومن العجب ومن الأنانية وبروز البخل والشح…
“إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ…”. فعامل ربك كما ينبغي وأخلص لربك كما يحب واقصد وجهه في كل عمل تعمله .
ولذلك ختم الآية بقوله “…وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ”.