“الاستغفار”
أولا / معنى الاستغفار
معناه طلب المغفرة ؛وأصل معنى المغفرة الستر، فغفر أي: ستر.
والمراد بها عندما يطلبها العبد من ربه التجاوز عن الذنب وعدم المؤاخذة به، وستره وعدم العقوبة عليه، وعدم الفضيحة به.
ثانيا / الحث عليه في القرآن
ورد الحث على الاستغفار في آيات كثيرة من القرآن منها:
1- قال تعالى: “وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ “[البقرة:199]
2- وقوله: “وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ” [هود:3]
3- وقوله تعالى: “وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ” [آل عمران:17]
4- وقوله: “وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ” [الذاريات:18]
5- وقوله: “وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ” [آل عمران:135]
6- وقوله: “وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً “[النساء:110].
ثالثا / الحث عليه من السنة
ورد الحث على الاستغفار في أحاديث كثيرة من السنة منها:
1- في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم (أن عبداً أذنب ذنباً، فقال: ربِّ أذنبت ذنباً، فاغفر لي، فقال الله عز وجل: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله، ثم أذنب ذنباً آخر، فاستغفر، وقال مثلما قال في الأولى، فقال الله سبحانه وتعالى: قد غفرت لعبدي، فليعمل ما شاء)
لأنه كلما عمل معصية، استغفر منها استغفاراً صحيحاً، وتاب بشروط التوبة الصحيحة، ولذلك فإن الاستغفار المقرون بعدم الإصرار يقبله الله سبحانه وتعالى، وما أصر من استغفر.
وأما استغفار اللسان مع إصرار القلب على الذنب، فهو دعاء مجرد إن شاء الله أجابه وإن شاء رده، وربما يكون الإصرار مانعاً من الإجابة ، فما معنى أن يستغفر بلسانه وهو مقيم بحاله على الذنب؟!! قال بعض السلف : إن المستغفر من الذنب وهو مقيمٌ مصرٌ عليه كالمستهزئ بربه.
فالاستغفار التام ينبغي ألا يرافقه إصرار على المعصية، حينئذٍ تكون توبةً نصوحاً، وحينئذٍ يكون المستغفر مقلعاً عن الذنب.
أما من قال: اللهم اغفر لي وهو مقيم على المعصية، فإنها تسمى توبة الكاذبين، لأن التوبة الصحيحة لا تكون مع الإصرار، فإذا قال العبد أستغفر الله وأتوب إليه، فله حالتان: أن يكون مصرّاً بقلبه على ذنبه، فهذا كاذب في قوله: وأتوب إليك، لأنه غير تائب، لأن كلمة (أتوب) تقتضي الإقلاع، وهذا غير مقلع وليس بتائب. وكذلك من يعاهد ربه على الإقلاع عن المعصية، ثم هو يصر عليها، أما من أقلع فإنه حريٌ أن يقبل الله توبته.
2- وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (طوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً) رواه ابن ماجة وهو حديث صحيح
3- وعن حذيفة رضي الله عنه قال: (يا رسول الله! إني ذرب اللسان، وإن عامة ذلك على أهلي ، فماذا أفعل؟- قال صلى الله عليه وسلم: أين أنت من الاستغفار؟ إني لأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة) رواه الإمام أحمد بسند رجاله ثقات
4- وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ يَقُولُ مَنْ يدعوني فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يسألني فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ »متفق عليه.
5- وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يا أيها الناس توبوا إلى ربكم، فوالذي نفسي بيده إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة) وقال: (إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة).
6- وفي المسند عن عبدالله بن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من أكثر من الاستغفار جعل الله لـه من كل هَمٍّ فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ورزق من حيث لا يحتسب».
رابعا/ الاستغفار في كلام السلف
1- قال الحسن رحمه الله: أكثروا من الاستغفار في بيوتكم، وعلى موائدكم، وفي طرقكم وأسواقكم، وفي مجالسكم أينما كنتم، فإنكم لا تدرون متى تنزل المغفرة.
2- وقال بعض الصالحين لولده موصياً: “يا بني عود لسانك: اللهم اغفر لي، فإن لله ساعات لا يرد فيها سائلاً”
3- وأقبل رجل إلى الحسن البصري رحمه الله تعالى فقال له: إني فقير لا مال عندي .
قال: أكثر الاستغفار.
فأقبل إليه آخر واشتكى إليه أنه قد تزوج ولم يرزق بأولاد.
قال: أكثر الاستغفار.
فأقبل إليه ثالث فاشتكى إليه أنه عنده مزرعة لكن لا مطر ولا زرع.
قال: أكثر الاستغفار.
فسأله بعض من عنده : يا أبا سعيد هؤلاء سألوا أسئلة مختلفة وأجبتهم جوابا واحدا ؟
فقال: نعم ، أما سمعتم الله تعالى يقول : { فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا} [نوح/10/11/12]
4- ولما سئل شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله-: “أيهما أنفع للعبد التسبيح أم الاستغفار؟ قال: إذا كان الثوب نقي فالبخور أنفع له، وإذا كان الثوب دنساً فالصابون أنفع له”.
خامسا / آلات الاستغفار
الاستغفار يكون بالقلب واللسان والجوارح:
- فاستغفار القلب هو إقراره بعظيم نعم الله على العبد واعترافه بخطيئته وظلمه لنفسه وتقصيره في حق ربه بجرأته على محارمه وندمه على ما جرى منه وعزمه على أن لا يعود إليه، وخوفه من خطر ذلك عليه في العاجل والآجل إن لم يتجاوز الله عنه ويغفر له.
- و استغفار اللسان هو مناجاته لله وابتهاله إليه في طلب المغفرة، وإبداء المعذرة ودفع أثر السيئة بالحسنة .
- واستغفار الجوارح هو تصديقها للقلب واللسان وذلك بالانكفاف عن المعاصي ومباشرة أسباب المغفرة من فعل الطاعات والتقرب بالأعمال الصالحات .
سادسا / صيغ الاستغفار
جاءتِ السُّنة النبويَّة الصحيحة بذِكْر عدَّة صِيغ للاستغفار؛ منها الآتي:
الصيغة الأولى: سيِّد الاستغفار: كما جاء في الحديثِ الذي أخرجَه البخاري: عن شدَّاد بنِ أوس – رضي الله عنه – قالَ: قالَ رَسولُ اللهِ – صلَّى الله عليه وسلَّم -: (سيِّدُ الاستغفار أن يقول العبدُ: اللهمَّ أنت ربي، وأنا عبدُك، لا إله إلا أنت، خلقْتَني وأنا عبدك، أصبحتُ على عهدِك ووعدك – ثابتًا ومستمرًّا – ما استطعت، أعوذ بكَ مِن شر ما صنعتُ، أبوء لك – أُقِر وأعترِف – بنِعمتك عليَّ، وأبوء لك بذُنوبي، فاغفرْ لي؛ إنَّه لا يغفِرُ الذنوب إلا أنت)، فهذه أفضل صِيغة.
الصيغة الثانية: ما جاء في الصحيحين عن أبي بكْرٍ الصِّدِّيق – رَضيَ الله عَنه – أنَّه قالَ لرَسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: علِّمني دعاءً أدعو به في صَلاَتي؟ قال: (قل: اللهمَّ إني ظَلَمتُ نَفْسي ظلمًا كَثيرًا، وَلاَ يَغفر الذنوبَ إلا أنتَ، فَاغفرْ لي مَغفرَةً مِن عندكَ، وارحَمني، إنَّكَ أنتَ الغَفورُ الرحيم).
الصِّيغة الثالثة: ما جاءَ في الحديث الذي أخْرَجه أبو داود في صحيحه، وصحَّحه الألباني: عن زَيد مَولَى النبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – أنَّه سَمِعَ رسولَ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – يَقول: (مَن قالَ: أَستغفِر اللهَ العظيم الذي لا إلَهَ إلا هوَ الحَي القَيوم وَأَتوب إلَيه؛ غفر له وإنْ كانَ فَرَّ مِن الزحف)
الصيغة الرابعة: ما جاء في الحديثِ الذي أخرجَه النَّسائيُّ في الكبرى، وهو حديث حسن: عَن خَبَّاب بن الأرتِّ – رضي الله عنه – قالَ: سَأَلتُ النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – قلت: يَا رَسولَ الله، كَيفَ أَستَغفر؟ قَالَ: (قل: اللهمَّ اغفرْ لَنا وارحَمْنا، وَتُب عَلَينا، إنَّكَ أنتَ التوَّاب الرَّحيم).
الصيغة الخامسة: ما جاء في صحيح ابن حبَّان: عن أَبي هرَيرَةَ – رضي الله عنه – قالَ: (مَا رأَيتُ أَحَدًا أَكثَرَ أَن يَقولَ: أَستَغفر اللهَ وَأَتوبُ إليه مِن رسولِ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم).
الصيغة السادسة: ما جاء في صحيحِ مسلم عن ثَوبانَ – رضي الله عنه – قالَ: كانَ رَسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – إذا انصَرَفَ مِن صلاته: استَغْفَرَ ثَلاثًا، وقالَ: (اللهمَّ أَنْتَ السلامُ ومِنكَ السلامُ تَبارَكتَ ذا الجَلالِ وَالإكرَام)، قالَ الوَليد: فقلتُ للأَوزَاعي: كَيفَ الاستغفَار؟ قَالَ: تَقول: أَستَغفر اللهَ، أَستَغفر اللهَ.
الصيغة السابعة: ما جاء في سُنن أبي داود عن ابنِ عمَرَ – رضي الله عنهما – قالَ: (إنْ كنَّا لَنَعدُّ لرسولِ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – في المجلس الواحد مائَةَ مَرَّة: رَبِّ اغفرْ لي وَتبْ عَلَيَّ، إنَّكَ أَنتَ التوَّاب الغفور)؛ رواه أبو داود، وفي رواية ابن حبان : (ربِّ اغفِرْ لي وتُبْ علَيَّ إنَّكَ أنتَ التَّوّابُ الرَّحيمُ)
الصيغة الثامنة: ما جاءَ في صحيح مسلم من قوله – عليه الصلاة والسلام – في الدُّعاء بين التشهُّد والتسليم: (اللهمَّ اغفرْ لي ما قدَّمتُ وما أخَّرت، وما أسررتُ وما أعلنتُ، وما أسرفْت، وما أنت أعلمُ به منِّي، أنت المقدِّم وأنت المؤخِّر لا إله إلا أنت)
فهذه بعضُ الصِّيغ الواردة في السُّنة النبويَّة الصحيحة.
سابعا / ثمار الاستغفار
1- الاستغفار سبب لتكفير السيئات ورفع الدرجات :
قال تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً [النساء:110]
و ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ )[التحريم:8]
و: { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) } [آل عمران/135-137]
وعَنْ أَنس عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم – فِيمَا يَرْوِى عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ قَالَ : “يا ابنَ آدمَ، إنك ما دعَوتَني ورجَوتَني غفرتُ لك على ما كان منك ولا أُبالي، يا ابنَ آدمَ لو بلغَتْ ذنوبُك عَنانَ السماءِ، ثم استغْفَرْتني، غفرتُ لك، يا ابنَ آدمَ إنك لو أتيتَني بقُرابِ الأرضِ خطايا، ثم لَقِيتَني لا تشركُ بي شيئًا، لأتيتُك بقُرابها مغفرةً.” رواه الترمذي وحسنه الألباني.
فإِنْ كَانَ الاِسْتِغْفَارُ عَلَى وَجْهِ الاِفْتِقَارِ وَالاِنْكِسَارِ دُونَ تَحَقُّقِ التَّوْبَةِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ، فَالشَّافِعِيَّةُ قَالُوا: إِنَّهُ يُكَفِّرُ الصَّغَائِرَ دُونَ الْكَبَائِرِ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ تُغْفَرُ بِهِ الذُّنُوبُ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ.
2- سعة الرزق:
الاستغفار يسبب سعة الرزق قال تعالى : “فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً “[نوح:10-12]
وقال تعالى : “وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ” [هود:3].
3- قوة البدن:
كذلك يقوي البدن قال تعالى: “وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ ” [هود:52]
4- دفع للعذاب:
الاستغفار سبب في دفع العذاب قال تعالى: “وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ” [الأنفال:33].
وعَنْ أَبِى بُرْدَةَ بْنِ أَبِى مُوسَى عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم – « أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَىَّ أَمَانَيْنِ لأُمَّتِى: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (33) سورة الأنفال،إِذَا مَضَيْتُ تَرَكْتُ فِيهِمْ الاِسْتِغْفَارَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ » .
5- جلاء القلب:
إن الاستغفار أيها الإخوة: يجلو القلب ويزيل عنه الران، يزيل سواده وغباره وقترته، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن المؤمن إذا أذنب، نكت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر، صقل قلبه -يرجع القلب إلى حاله الأولى- وإن زاد زادت حتى يعلو قلبه وذاك الرين الذي ذكر الله عز وجل في القرآن ( كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ )[المطففين:14]) ولذلك فإن الذي يستغفر ربه، يجلو قلبه وهذا معنى حديث: (وإنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة) يغان على القلب، ويرين عليه ما يرين ويصبح عليه غشاوة، فالاستغفار يجلو ذلك كله، يجلو سحائب المعاصي وغبارها.
6-الاستغفار زاد الداعية إلى الله :
لقوله تعالى:{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} (55) سورة غافر
7-إذا أعيتك المسائل ففر إلى الاستغفار:
يقول ابن القيم رحمه الله: “شهدتُ شيخَ الإسلام ابنَ تيميه رحمه الله إذا أعيَته المسائل واستعصَت عليه فرَّ منها إلى التوبة والاستغفار والاستعانة بالله واللجوء إليه واستنزال الصوابِ من عنده والاستفتاح من خزائن رحمته، فقلَّما يلبثُ المددُ الإلهي أن يتتابَع عليه مدًّا، وتزدلِف الفتوحات الإلهية إليه، بأيتهن يبدأ”.
ثامنا / أوقات الاستغفار ومواطنه
1- الاستغفار بالأسحار:
وقت الأسحار من أعظم أوقات الاستغفار وأفضلها لأنه مظنة القبول ووقت الإجابة وقد وردت جملة نصوص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في بيان فضل عبادة الله تعالى في الأسحار من صلاة وذكر ودعاء واستغفار فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها من كل الليل قد أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أوله وأوسطه وآخره فانتهى وتره إلى السحر.
وثبت أنه صلى الله عليه وسلم سئل: أي الدعاء أسمع؟ قال: «جوف الليل الآخر»، وذلك لأنه وقت النزول الإلهي؛ فقد ثبت في الصحاح وغيرها عن جماعة من الصحابة منهم أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟.
ولقد أثنى الله تبارك وتعالى على المستغفرين في ذلك الوقت فقال: ﴿ وَالمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ ﴾ وأحسن ما يكون الاستغفار في الصلاة.
ووعد الله المستغفرين بالأسحار وعداً كريماً فقال: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ *وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ (الذاريات:15 – 18)
وقال تعـالى: ﴿ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ﴾ (آل عمران:15-17)
وقال تعالى: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (السجدة:16 – 17)
فأثنى عليهم بالقيام والإنفاق والدعاء ووعدهم كريم الجزاء، ومن ذلك إجابة دعوتهم، فالسحر أحرى ما يكون بالإجابة وتحصيل المغفرة.
وقد ذكر بعض المفسرين أن يعقوب عليه السلام قال لبنيه ﴿ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ﴾ أي: أخرهم إلى وقت السحر.
وروى ابن مردويه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنا نؤمر إذا صلينا من الليل أن نستغفر في آخر السحر سبعين مرة. وكان يقول: رب أمرتني فأطعتك وهذا السحر فاغفر لي.
وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يصلي من الليل ثم يقول: يا نافع – يعني مولاه – هل جاء السحر ؟ فإذا قال: نعم. أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح (تفسير ابن كثير3/35).
2- الاستغفار في الصباح والمساء:
للاستغفار في الصباح والمساء شأن عظيم ولذلك أمر الله عز وجل به رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ﴾ (غافر: 55).
وفي صحيح البخاري عن شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. من قالها من النهار موقناً بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة».
3- الاستغفار في الصلاة:
الصلاة هي أعظم مظاهر العبادة، وأحسن أحوال الداعي، وأحرى مواطن الإجابة؛ لأنها هي التوحيد الفعلي؛ ولأن المصلي يناجي ربه والله يُقبل عليه بوجهه ما دام مقبلاً على صلاته فأقرب ما يكون العبد إذا كان في صلاته ولذا فهي من أعظم مواطن الاستغفار وأحراها بنيل المغفرة، ولذلك ذكر الله تعالى عن عبده داود أنه استغفر في صلاته فغفر الله لـه قال تعالى: ﴿ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ﴾ (ص25)؛ ولهذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الاستغفار في عدد من أركان الصلاة في الاستفتاح وفي الركوع، وفي السجود، وفي آخر التشهد قبل التسليم، وبعد السلام.
فكان صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم اغفر لي ذنوبي» كلما دخل المسجد أو خرج منه.
وفي الاستفتاح كان يقول: «اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعاً إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك والخير كله في يديك، والشر ليس إليكن، والمهدي من هديت أنا بك وإليك، لا منجى ولا ملجأ منك إلا إليك تباركت وتعاليت أستغفرك وأتوب إليك» رواه مسلم.
وكان يقول في استفتاحه أيضاً: «اللهم لك أسلمت، وعليك توكلت، وبك آمنت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، أنت ربي وإليك المصير، فاغفر ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدِّم وأنت المؤخِّر وأنت إلهي، ولا حول ولا قوة إلى بك» رواه البخاري ومسلم.
وكان صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: «سبحانك وبحمدك اللهم اغفر لي». رواه البخاري ومسلم.
وكان صلى الله عليه وسلم يقول بين السجدتين: «رب اغفر لي وارحمني واجبرني وارفعني واهدني وعافني وارزقني» رواه أبوداود والترمذي.
وكان يقول فيه أيضاً: «رب اغفر لي، رب اغفر لي» رواه الإمام أحمد وابن ماجه بسند حسن.
وعلَّم النبي صلى الله عليه وسلم أبابكر الصديق رضي الله عنه أن يقول في صلاته: «اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم» رواه البخاري ومسلم.
ودعا رجل فقال: اللهم إني أسألك يا الله الواحد الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، أن تغفر لي ذنوبي إنك أنت الغفور الرحيم. فقال صلى الله عليه وسلم : «قد غفر لـه». رواه أبو داود والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
وكان من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم: «اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت». رواه مسلم.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا سلم من صلاته استغفر ثلاثاً: أي يقول: استغفر الله. استغفر الله. استغفر الله.
وروى مسلم في صحيحه عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه قال: كان الرجل إذا أسلم علمه النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة ثم أمره أن يدعو بهؤلاء الكلمات: «اللهم اغفر لي وارحمني وأهدني وعافني وأرزقني».
4- الاستغفار عقب الأعمال الصالحة:
وفي الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا انصرف من صلاته، استغفر ثلاثاً، وقال: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام) وهو منصرف من صلاة ؟ !! وليس منصرفاً من معصية ؟؟ لماذا ؟ المعنى المقصود من ذلك : أستغفر الله من التقصير في الصلاة، أستغفر الله من العجب، أستغفر الله من الرياء، أستغفر الله، من كل تقصير، ومن كل عيب ومن كل شيء يدخل علي.
ومثله قوله تعالى : فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198] إلى أن قال: وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:199] هذا في الحج بعد عرفة مطلوب من الحاج، فلا مجال للعجب بالعمل، ولا ليرى الإنسان أنه في حجه قد عمل شيئاً عظيماً وكفر به سيئاته، وقد ضمن به الجنة، بل إن عليه أن يستغفر ليشعر العبد نفسه أنه لا زال يحتاج إلى رحمة ربه ومغفرته، وبالرغم من عبادته أنه لا زال في تقصير، فهل أدى شكر نعمة البصر بهذا الحج؟ وهل أدى شكر نعمة السمع بهذه الصلاة؟ وهل أدى شكر نعمة اليد بهذا الصيام؟
وقال تعالى: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ [آل عمران:17]” يعني: بعد قيام الليل، في وقت السحر.
وقد أمر الله نبيه بعد أن بلغ الرسالة وجاهد في الله حق جهاده، بعد هذا العمر الطويل، والحياة المباركة من النبي عليه الصلاة والسلام في الدعوة والتعليم والجهاد وإقامة الدين، وبعد العبادات، وبعد التربية التي قام بها الناس يقول له: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً [النصر:1-3] فقد أتى صلى الله عليه وسلم بما أمره الله تعالى به مما لم يصل إليه أحد غيره، ولا يستطيع أحد أن يفعل مثلما فعل النبي عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك قال له: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ [النصر:3].
ولذلك يحتاج العبد إلى الاستغفار دائماً حتى في الأعمال الصالحة؛ حتى لا يكون العجب بنفسه، وكلنا ذوو تقصير، فمن الذي لا يقصر في صلاته، ولا يقصر في صيامه، ولا يقصر في حجه؟
5- الاستغفار في المجلس وعند القيام منه:
المجالس من مجتمعات الناس التي لا بد لهم منها، يتحدثون فيها، وخير المجالس ما اشتمل على ذكر الله تعالى، وخير الجالسين أكثرهم لله ذكراً ومن كان لإخوانه في الله أكثر تذكيراً ففي صحيح البخاري عن أبى هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجتكم. قال: فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا. قال: فيسألهم ربهم عز وجل ـ وهو أعلم منهم ـ ما يقول عبادي؟ قال: تقول: يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك…» إلخ وفي آخره قال: «فيقول ـ يعني الله عز وجل ـ: فأشهدكم أني قد غفرت لهم».
وشر المجالس ما خلا من ذكر الله تعالى، ففي سنن أبي داوود بإسناد جيد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله تعالى فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان لهم حسرة».
وكان صلى الله عليه وسلم يعمر مجالسه بذكر الله تعالى وتذكير أصحابه ومن ذلك الاستغفار، وقد تقدم حديث ابن عمر رضي الله عنهما الذي رواه أبو داود والترمذي بسند صحيح قال: كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة يقول: «رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم».
وفي كتاب الترمذي وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من جلس من مجلس فكثر فيه لغطه ـ أي: ما لا فائدة منه من الكلام ـ فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك، إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك».
ونحوه في سنن أبي داوود عن أبي برزة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بآخره – أي في آخر عمره – إذا أراد أن يقوم من المجلس: «سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك». فقال رجل: يا رسول الله، إنك لتقول قولاً ما كنت تقوله فيما مضى ؟ قال: «ذلك كفارة لما يكون في المجلس».
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول ـ قبل أن يموت ـ: سبحانك وبحمدك استغفرك وأتوب إليك. قالت: قلت: يا رسول الله، ما هذه الكلمات التي أراك أحدثتها تقولها؟ قال: «جعلت لي علامة في أمتي ـ أي على دنو أجله صلى الله عليه وسلم ـ إذا رأيتها قلتها ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ﴾ إلى آخر السورة.
6- الاستغفار عند النوم:
النوم خاتمة اليقظة في اليوم والليلة وربما كان خاتمة الحياة قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (الأنعام:60) فالتوفي بالنوم ـ أي قبضٌ مؤقتٌ للروح ثم تبعث ـ بعده ولهذا ثبت في الصحيحين عن حذيفة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام قال: «باسمك اللهم أموت وأحيا»، وإذا استيقظ من منامه قال: «الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور»
وقد يموت الإنسان في منامه حقيقة بحيث لا يستيقظ إلا في موقف القيامة يوم ينفخ في الصور ويبعثر ما في القبور كما قال تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الزمر:42)، وقال تعالى: ﴿نُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ﴾ (يس: 51- 52)
ولهذا ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وإذا اضطجع فليقل: باسمك اللهم رب وضعت جنبي وبك أرفعه، فإن أمسكت نفس فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين» وذلك لأن الأرواح إذا ذهبت إلى ربها حال النوم يمسك منها عنده ما شاء ويرسل منها إلى الأبدان ما شاء، فمن أرسلت روحه إلى بدنه استيقظ واستأنف حياته واتصل عمله، فينبغي لـه أن يحمد الله على ذلك كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند استيقاظه من النوم: «الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور»، ويقول: «الحمد لله الذي عافاني في جسدي وردَّ علي روحي وأذن لي بذكره»، ومن حمد العبد لربه وشكره لنعمه عليه ـ إذ رد عليه روحه ـ أن يغتنم حياته الجديدة في طاعة الله وما يقرب إليه.
ومن أمسكت روحه عند ربها فقد تم عمره وختم أجله وانقطع عمله والأعمال بالخواتيم ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يستعد للنوم بالطهارة وحسن الهيئة والذكر والاستغفار والدعاء استعداداً من يغلب على ظنه أن نومته تلك هي آخر نومة في الدنيا كما ثبت في الصحيحين عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك – أي جنبك – الأيمن وقل: اللهم إني أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت، واجعلهن آخر ما تقول، فإنك إن مت من ليلتك فأنت على الفطرة، وإن أصبحت أصبت خيراً».
وفي سنن أبى داود عن حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يرقد وضع يده اليمنى تحت خده الأيمن ثم يقول: «اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك». ثلاث مرات.
وكان صلى الله عليه وسلم يستغفر عند النوم ففي صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن أمر رجلاً إذا أخذ مضجعه أن يقول: «اللهم أنت خلقت نفسي وأنت تتوفاها لك مماتها ومحياها، إن أحييتها فاحفظها وإن أمتها فاغفر لها، اللهم إني أسألك العافية». قال ابن عمر سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وفي الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قال حين يأوي إلى فراشه: استغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه ـ ثلاث مرات ـ غفرت ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر، وإن كانت عدد ورق الشجر، وإن كانت عدد رمل عالج، وإن كانت عدد أيام الدنيا».
تاسعا / فوائد ومسائل
ما الحكمة من تقديم الاستغفار على الدعاء؟
جاء تقديم الاستغفار على الدعاء في بعض المواضع في الكتاب والسنة، ومن ذلك ما جاء في قصة سليمان عليه السلام قال: ﴿ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ ﴾ (ص:35)، وقولـه تعالى: ﴿ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ﴾ (آل عمران: من الآية 193).
وروى مسلم في صحيحه عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه قال: كان الرجل إذا أسلم علّمه النبي صلى الله عليه وسلم ثم أمره أن يدعو بهؤلاء الكلمات: «اللهم اغفر لي، وارحمني، واهدني وعافني وارزقني» وفي رواية لـه أيضاً قال: «قل: اللهم اغفر لي وارحمني وارفعني واهدني وارزقني».
ففي هذه النصوص من الفوائد:
1- تقديم الاستغفار على الدعاء في بعض الأحوال، لأنه نوع اعتذار وإظهار لغاية الانكسار بين يدي الله والافتقار إليه.
2- أن المذنب والداعي لا يقتصر على سؤال المغفرة فقط بل يسأل الله من واسع فضله وجزيل عطاياه .
3- وأن على الداعي أن يلح في الدعاء ويعظم الرغبة ويعزم المسألة فإن الله لا مكره له ولا يتعاظمه شيء أعطاه.
هل يجوز للإنسان أن يطلب من شخص آخر يظن فيه الصلاح أن يستغفر له؟
من أهل العلم من ذهب إلى أنه لا حرج في طلب الاستغفار من الرجل الصالح، واستدلوا على ذلك بأدلة، فمنها
وحديث أويس القرني أن عمر رضي الله عنه وأرضاه قد كان يسأل عن القرنيين، ومنهم رجل اسمه أويس حتى استدل عليه، فأخبره بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن رجلاً يأتيكم مع أمداد أهل اليمن( هم الذين جاءوا بطلب من عمر كمدد من المسلمين ليوافوا جيوشقوله تعالى: “وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً “[النساء:64].
أيضاً استدلوا بقول إخوة يوسف لأبيهم: “قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ” [يوسف:97] المسلمين في الشام والعراق ) وكان في أهل اليمن رجلٌ من قرن يقال له أويس له أم هو برٌ بها، وقد كان به بياض، فدعا الله فأذهبه عنه إلا موضع الدرهم، فمن لقيه منكم، فليستغفر لكم) وفي رواية في صحيح مسلم : (إن خير التابعين رجل يقال له أويس ، وكان به بياض، فمروه فليستغفر لكم، فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن ، سألهم: أفيكم أويس بن عامر ؟ أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى على أويس ، فقال: أأنت أويس بن عامر ؟ قال: نعم، قال: من مرادٍ، ثم من قرنٍ؟ قال: نعم، قال: فكان بك برصٌ فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم -وجاء في رواية أن هذا الموضع في السرة، يذكر مرضه ونعمة ربه، وفي نفس الوقت لا يشوهه في أعين الناس- قال: لك والدة؟ قال: نعم ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مرادٍ، ثم من قرنٍ، كان به برص، فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدةٌ هو بها برٌ -هذا من أسباب رفع منزلة هذا الرجل- لو أقسم على الله لأبره ، فإن استطعت أن يستغفر لك، فافعل) فاستغفر لي، فاستغفر له.
استغفار المسلم لغيره
كما يستغفر المسلم لنفسه قولاً وفعلاً فإن من حق إخوانه المسلمين عليه ومن نصحه لنفسه لهم وإحسانه إليهم أن يستغفر لهم، قال الله تعالى ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ﴾ (محمد: من الآية 19)، وذكر تعالى عن نوح وإبراهيم عليهما السلام قولهما: ﴿ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ﴾ (نوح: من الآية 28)، ومن دعاء الملائكة حملة العرش ومن حوله عليهم السلام قولهم: ﴿الذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ (غافر:7). وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه».
وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «دعوة المسلم لأخيه المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه مَلَكٌ موكّل كلما دعا لأخيه بخير قال المَلَك الموكّل: آمين، ولك بمثل».
وعند الطبراني ـ بسند حسن ـ عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كما قال تعالى وذكر سبحانه عن رسله الكرام أنهم يستغفرون لأنفسهم ولقراباتهم ولإخوانهم في الإيمان .
فيستغفر المسلم لنفسه ولوالديه ولأهله وأرحامه ومن لـه فضل عليه، ولإخوانه في دينه السابقين والمعاصرين واللاحقين، وتخص بالاستغفار – أيضاً – من أخطأت في حقه فظلمته في نفسه أو عرضه أو ماله أو أي شيء من حرماته ولم يمكنك أن تتخلص من مظلمته فتكثر الاستغفار لـه والصدقة عنه، لتحسن على مقابل ظلمه حتى تسلم من نقص حسناتك يوم القيامة أو أن تحمل شيئاً من سيئاته وتكون من المحسنين إليه.