محاسن دين الإسلام
تكلمنا في الأسبوع الماضي عن معنى الإسلام وأنه رسالة رسالة سماوية وليس حقبة تاريخية ، وأنه دين جاءت شريعته ومنهجه لتحرير الإنسان من أي عبودية لغير الله سبحانه وتعالى (الإسلام وتحرير الإنسان ) وحتى تكتمل الصورة نتكلم اليوم عن محاسن هذا الدين العظيم .
أولاً :الإسلام دين عملي وواقعي :
نعم فالإسلام ليس دعوة نظرية؛ ولا دينا خياليا يحلق في آفاق المثالية؛ وإنما هو نظام عملي وواقعي يعرف حاجات الناس الحقيقية ويعمل على تحقيقها ، ويجعل منظومة الحياة منسجمة ومتكاملة ، وجعل الله هذا الدين كاملا وشاملا لكافة مجالات الحياة ؛ فمنه ما ينظم علاقات العباد بربهم ومنه ما ينظم علاقاتهم فيما بينهم ومنه ما يبين الأصول العقدية التي على أساسها ينبني العمل كله، ومنه ما يهذب الأخلاق، ومنه ما يكفل مصالح الدنيا ويجعلها تمهيدا للآخرة وعمارة لها .
فالإسلام بالنسبة للمسلمين منهج حياة ، يقول الله عز وجل: قال تعالى : -( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين )- [الأنعام 162 /163]
سبب نشأة العلمانية :
ولعل الغرب نبذ الدين وفصله عن الحياة وقصره على دور العبادة؛ لأنه كفر بالكنيسة وتعاليمها ؛ فقد عاشت أوروبا في القرون الوسطى فترة قاسية، تحت طغيان رجال الكنيسة وهيمنتهم، وفساد أحوالهم، واستغلال السلطة الدينية لتحقيق أهوائهم، وإرضاء شهواتهم، تحت قناع القداسة التي يضفونها على أنفسهم، ثم اضطهادهم الشنيع لكل من يخالف أوامر أو تعليمات الكنيسة المبتدعة في الدين، والتي ما أنزل الله بها من سلطان، حتى لو كانت أموراً تتصل بحقائق كونية تثبتها التجارب والمشاهد العلمية.
وقد شمل هيمنة الكنيسة النواحي الدينية، والاقتصادية، والسياسية، والعلمية، وفرضت على عقول الناس وأموالهم وتصرفاتهم وصاية لا نظير لها على الإطلاق ، وصارت الكنيسة تبيع صكوك الغفران ، وتبيع الجنة لمن يدفع!!!
ونتيجة لانحراف الكنيسة قامت الثورة الفرنسية الرامية إلى تغيير الأوضاع السائدة، وفي مقدمتها عزل الدين عن الحياة، وحصره في داخل الكنيسة، ورفعوا شعار اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس.
ثانياً: من محاسن الإسلام : التوازن :
في سبيل تحقيق هذه الواقعية سعى الإسلام إلى تحقيق التوازن ، فوازن أولاً في نفس الفرد بين حاجات الجسد وحاجات العقل وحاجات الروح ، ولم يترك جانباً منها يطغى على جانب آخر، فلا يكبت الطاقة الحيوية في سبيل الارتفاع بالروح فلا رهبانية في الإسلام ، ولا يبالغ في الاستجابة لشهوات الجسد إلى الحد الذي يهبط بالإنسان إلى مستوى الحيوان ، ويجمع بين ذلك كله في نظام موحد لا يمزق النفس الواحدة بين الشد والجذب، ولا يوجهها وجهات شتى متناقضة .
فالمسلم كما يقرأ قوله تعالى : -( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون )- [الذاريات/56] يقرأ أيضا -( هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها)- [هود/61] أي طلب منكم عمارتها.
كما يقرأ المسلم قوله تعالى : -( يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون )- [الجمعة/9] يليها مباشرة قوله تعالى : -( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون )- [الجمعة/10]
هذا هو التوازن كما جاء به الإسلام : علاقتك بربك ، ثم حركة في الكون وتفاعل مع الأسباب ،عبادة لله وعمارة للكون سبحان الله العظيم!!!
ويقرأ المسلم أيضا قوله تعالى : -( هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور )- [الملك/15] فعلّمنا الحركة في الكون طلبا للرزق والسعي للحصول عليه بأسبابه.
وقرن الله في القرآن الكريم بين من يسعون في الأرض طلبا للرزق وبين من يقاتلون في سبيله فقال تعالى : -(علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله )- [المزمل/20]
نافق حنظلة :
وقد تنبه أحد الصحابة لهذا الأمر وهو حَنْظَلَةَ الْأُسَيِّدِيِّ ، حينما لقيه أَبُو بَكْرٍ ، فسأله : كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ ؟ قَالَ : نَافَقَ حَنْظَلَةُ، قَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ ، مَا تَقُولُ ؟
قَالَ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ ، حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ ، فَنَسِينَا كَثِيرًا
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا ، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
قُلْتُ : نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ!!! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : وَمَا ذَاكَ ؟
قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ ، عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ أن لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ ، لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ ، سَاعَةً وَسَاعَةً ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ) .
ومعنى عافسنا أي: خالطنا ولاعبنا، والضيعات بمعنى: المعايش من حرث ووظيفة وتجارة وغير ذلك
ومعنى ساعة وساعة، أي: ساعة تحضرون مجلس الذكر، وساعة تتعبدون لله تصلون وتذكرونه وتقرأون القرآن، وساعة تقومون بحقوق الزوجات والأولاد، وبما يصلح معايشكم من الأمور التي لابد للإنسان منها، وهذه سنة الله في هذه الحياة،
فليس المقصود أن تتبتل وتنقطع للعبادة فلا تفارق المسجد ، ولا أن تجعل علاقتك بربك ثانوية من خلال طقوس معينة أو أيام أو ساعات في الأعياد فقط ، كلا توازن بين الأمرين .
هذا التوازن ثمرته في حياة المسلم الشعور بالاستقرار ،والسعادة ، والاطمئنان ، لأن عدم الاتزان يؤدي إلى الخلل والأمراض ، ولا يخفى علينا أن أمراض الحياة المادية الحديثة الآن أغلبها ناتج عن عدم التوازن بين حاجات الإنسان الروحية والجسدية.
ثالثا / أنه دين يوازن بين مطالب الفرد ومطالب المجتمع :
فلا يطغى فرد على فرد ، ولا يطغى الفرد على المجتمع ، ولا المجتمع على الفرد ، ولا طبقة على طبقة ؛ وإنما يقف الإسلام بين هؤلاء جميعاً يحجز بينهم أن يتصادموا ، ويدعوهم جميعاً إلى التعاون في سبيل الخير للجميع .
ثم هو أخيراً يوازن في نظام المجتمع بين مختلف القوى : يوازن بين القوى المادية والقوة الروحية ، وبين العوامل الاقتصادية والعوامل ” الإنسانية ” ، فلا يعترف – كما تصنع الشيوعية – بأن العوامل الاقتصادية أو القوى المادية هي وحدها المسيطرة على الإنسان ، ولا يؤمن – كما تصنع الدعوات الروحية الخالصة أو المذاهب المثالية – بأن العوامل الروحية أو المثل العليا تستطيع وحدها أن تنظم حياة البشر ؛ وإنما يؤمن بأن هذه جميعاً عناصر مختلفة يتكون من مجموعها ” الإنسان ” ، وأن النظام الأفضل هو النظام الأشمل ، الذي يستجيب لمطالب الجسد ومطالب العقل ومطالب الروح في توازن واتساق .
فالإسلام نظام لا يبالغ في الفردية كما هو النظام في الغرب ، والذي يعتبر الفرد هو الأساس ، وهو الكائن المقدس الذي تصان حرياته ، ولا يجوز للمجتمع أن يقف في سبيله .. فنشأت الرأسمالية القائمة على أساس حرية الفرد في استغلال الآخرين .
والإسلام أيضا لا يبالغ في الاتجاه الجماعي الذي يقوم في شرق أوروبا ، ويعتبر المجتمع هو الأساس ، والفرد ذرة تائهة لا كيان له بمفرده ، ولا وجود له إلا في داخل القطيع ، فالمجتمع وحده هو صاحب الحرية وصاحب السلطان ، وليس للفرد أن يحتج عليه أو يطالبه بحقوقه ، وهناك تنشأ الشيوعية القائمة على سلطان الدولة المطلق في تكييف حياة الأفراد>
إنما الإسلام نظام وسط بين هذا وذاك ، يعترف بالفرد ويعترف بالمجتمع ، ويوازن بينهما ؛ فيمنح الفرد قدراً من الحرية يحقق به كيانه ولا يطغى به على كيان الآخرين ، ويمنح المجتمع – أو الدولة ممثلة المجتمع – سلطة واسعة في إعادة تنظيم العلاقات الاجتماعية والاقتصادية كلما خرجت عن توازنها المنشود .
وكل ذلك على أساس الحب المتبادل بين الأفراد والطوائف ، لا على أساس الحقد والصراع الطبقي الذي تقيم عليه الشيوعية فلسفتها النظرية وتطبيقاتها العملية .
العقوبات تشمل الجميع :
ومن التوازن في الإسلام بين حاجات الفرد وحاجات المجتمع أن المحرم حرام على الجميع وليس على طائفة دون طائفة والعقوبة عند المخالفة يتساوى فيها الجميع ، عن عائشة أن قريشاً أهمّهم المرأة المخزومية التي سرقت ، فقالوا : من يكلم فيها رسول الله ، ومن يجترئ عليه إلا أسامة ، فكلمه أسامة ، فقال الرسول : أتشفع في حد من حدود الله ، ثم خطب فقال : إنما أهلك من كان قبلكم إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد ، وأيم الله ! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ، فأمر النبي بقطع يدها .رواه البخاري ومسلم
وقد انهارت أمم ودول كثيرة لأنهم جعلوا القوانين خادمة للكبار والعقوبات الرادعة للصغار فالكبير لا يعاقب والصغير لا يخدمه قانون .
تحريم الحرام أمان للمجتمع كله :
ذكر الشيخ الشعراوي في كتابه الحلال والحرام : إن البعض ينظر إلى مسألة الحلال والحرام نظرة ضيقة فيري أن الله حرم عليه السرقة، وحرم عليه القتل، وحرم عليه الزنا ، لو وسعت الدائرة لعلمت أن الله لم يحرم عليك وحدك القتل؛ بل حرم على جميع أهل الارض أن يقتلوك ، ولم يحرم عليك أنت وحدك السرقة ، بل حرم على جميع أهل الأرض أن يسرقوك، ولم يحرم عليك وحدك الزنا ، إنما حرم على جميع الأرض أهل الأرض أن ينالوا من عرضك من أمك أو زوجتك أو أختك أوابنتك!!
أخيرا / أن الإسلام لا يرتفع فيه أحد على أحد :
لا في لون ولا جنس ولا عرق ، وهذا المعنى وإن توصلت إليه البشرية في أيامنا تلك ويعدونه الآن من المسائل الحضارية، وهناك الاتفاقيات و جمعيات حقوق الإنسان والأمم المتحدة ،لكن أنت تبصر هذا واقعا في الإسلام وليس حبرا على ورق.
وقف النبي -صلى الله عليه وسلم- يؤسس لهذا الدستور الأخلاقي العظيم يوم حجة الوداع وقف قائلا: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى )
فالإسلام نجح أن يحول هذه المبادئ من كلام إلى واقع يراه العالم كله ، وربى النبي أصحابه على هذا المبدأ العظيم فعَنْ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ وَعَلَى غُلَامِهِ حُلَّةٌ فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلًا فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :(يَا أَبَا ذَرٍّ أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ) رواه البخاري
وبهذه الروح انطلق الصحابة كأمواج البحر الطاهرة فغسلوا الأرض من دنس الشرك والكبر والقهر والظلم والعنصرية ،وفتحوا مشارق الأرض ومغاربها ودانت لهم الدنيا بالطاعة ، وما عرف أن أمة توحدت وارتبطت حتى كانت كجسم واحد رغم تفاوت أجناسها ولغاتها ، إلا أمة الإسلام .
وهذا هو السر في انتشار الإسلام في جميع أنحاء العالم ، فالناس فيه سواسية كأسنان المشط لا يتافضلون عند الله إلا بالتقوى .
وبعد ثلاثة عشر قرناً من الزمن عرفت الأمم هذا المبدأ وفخرت به وظنت أنها وقعت على شيء جديد لم يعرف من قبل ، وتجاهلت أن الإسلام العظيم قد جاء بهذه المثل العليا قبل زمن طويل في وقت كان البشر غارقين في العبودية بل وتقديس الطغيان ، فجاء الإسلام العظيم بهدم مزايا الأجناس والظلم وإلغاء الفروق الجنسية والتمييز العنصري والتعويل على التقوى والعمل الصالح وحدهما .