“إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ”
[سورة الفاتحة، الآية: 5]
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين) آية عظيمة القدر والمعنى والمغزى، في أعظم سورة وأشرفها، سورة الفاتحة، التي جعلها الله تعالى أم الكتاب، وأساس الذكر في الصلوات، فلا تصح صلاة بغير أم الكتاب.
نعيش مع هذه الآية، التي قال عنها ابن القيم في مدارج السالكين : أنزل الله مائة كتاب وأربعة كتب جمع معانيها في التوراة والإنجيل والقرآن وجمع معاني هذه الكتب الثلاثة في القرآن وجمع معاني القرآن في المفصل وجمع معاني المفصل في الفاتحة ومعاني الفاتحة في: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
وهما الكلمتان المقسومتان بين الرب وبين عبده نصفين فنصفهما له تعالى وهو: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ونصفهما لعبده وهو: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
ما معنى العبادة ؟
العبادة فِي اللُّغَةِ مِنَ الذِّلَّةِ يُقَالُ طَرِيقٌ مُعَبَّدٌ أَيْ مُذَلَّلٌ، والعبادة شرعا : هي كمال الحب مع كمال الذل، ولا تتحقق العبودية إلا بالاثنين معاً فقد يحب المرء ابنه ولكن لا يذل له، وقد يذل المرء من الحاكم ولكن لا يحبه، فلا ينبغي أن يجتمع كمال الحب وكمال الذل إلا لله رب العالمين.
وعرفها ابن تيمية بقوله : (العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة)
العبادات الظاهرة كالنطق بالشهادتين والصلاة والصيام والحج والزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومساعدة المحتاج وغيرها .
أما العبادات الباطنة من الرغبة والرهبة والحب والخوف والرجاء والخشوع والذل، فالعبادة القلبية اوسع في الشرع من العبادة البدينة؛ لذا يثاب العبد على فعل قلبه ما لا يُثاب على فعل بدنه.
ما السر في تقديم المفعول ( إياك ) ؟
قُدِّمَ الْمَفْعُولُ وَهُوَ إِيَّاكَ وَكُرِّرَ لِلِاهْتِمَامِ وَالْحَصْرِ أَيْ لَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاكَ وَلَا نَتَوَكَّلُ إِلَّا عليك وهذا هو كمال الطاعة.
والمعنى: نخصك بالعبادة، ونخصك بالاستعانة، فلا نعبد إلا إياك، ولا نستعين إلا بك؛ إذ لا تصح العبادة إلا لله، ولا يجوز الاستعانة إلا به.
ما معنى النون في قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ؟
إشارة إلى أهمية الجماعة في الإسلام، والمراد من ذلك الإخبار عن جنس العباد والمصلي فرد منهم، ولا سيما إن كان في جماعة أو إمامهم، فأخبر عن نفسه وعن إخوانه فكأن العبد إذا قال : ( إياك أعبد ) لكان ذلك تكبراً منه ، ومعناه أني أنا العابد أما لما قال ( إياك نعبد) كان معناه أني واحد من عبيدك، فالأول تكبر، والثاني تواضع، ومن تواضع لله رفعه الله، ومن تكبر وضعه الله .
ما السر في اقتران العبادة بالاستعانة ؟
قرن الله تبارك وتعالى العبادة له وحده بالاستعانة به سبحانه، فقال جل جلاله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} أي لا نعبد سواك ولا نستعين إلا بك ليدل على أن العبد لا يستطيع أن يقوم بأي عبادة إلا بإعانة الله وتوفيقه، فهو إقرار بالعجز عن حمل هذه العبادة.
ما سبب تقديمَ العبادةِ في الآيةِ على الاستعانةِ ؟
يفسر هذا ما جاء في الحديث القدسي : (قَسَمْتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نصفين) فالنصفُ الأولُ لله، والنصفُ الثاني للعبد, فالدِّينَ مُنقسمٌ إلى قسمين, عبادةٌ واستعانة, ولا يَكمُلُ دينُ امرئٍ حتى يقوم بهما على أكمل الوجوه.
فالصلاةُ عبادةٌ واستعانة, وسؤالُ اللهِ ودعاؤه عبادةٌ واستعانة, وأفضلُ الخَلْق مَن كَمَّلَهما وقام بهما على أكملِ وجهٍ وأحسنِ حال, وشَرُّ الخَلْق مَن تَرَكَ عبادةَ اللهِ، وتَرَكَ الاستعانةَ به على قضاءِ الحوائجِ، وكَشفِ الكُرَبِ، وتَيسيرِ الأمورِ، وشرحِ الصدور.
فالعبادة هي الغاية التي خلق الناس لأجلها، والاستعانة هي الوسيلة إليها، فإذا لم يعن الله عبده على طاعته، ولم يطلب العبد إعانته على ذلك؛ لا تحصل منه تمام العبادة، ولذلك علَّم النبي -عليه الصلاة والسلام- معاذاً دعاءً يحافظ عليه بعد كل صلاة مكتوبة، يطلب العون من ربه في أداء عبادته، فعنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخَذَ بِيَدِي يَوْمًا، ثُمَّ قَالَ: “يَا مُعَاذُ! وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ” فَقَالَ مُعَاذٌ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَا وَاللَّهِ أُحِبُّكَ، فَقَالَ: “أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ؛ لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ“(رواه أحمد).
وإذا استعنت فاستعن بالله :
الاستعانة: وهي طلب العون من الله تعالى في أمور الدنيا والآخرة، والتبرؤ من الحول والقوة والتفويض إليه، كما قال الله تعالى: “فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ” [هود:123]. وفي وصيته صلى الله عليه وسلم لابن عباس: وإذا استعنت فاستعن بالله. رواه الترمذي.
قال في تحفة الأحوذي: وإذا استعنت أي أردت الاستعانة في الطاعة وغيرها من أمور الدنيا والآخرة فاستعن بالله، فإنه المستعان، وعليه التكلان.
وقال الحافظ ابن رجب -رحمه الله-: “وأما الاستعانة بالله -عز وجل- دون غيره من الخلق؛ فلأن العبد عاجز عن الاستقلال بجلب مصالحه ودفع مضاره، ولا معين له على مصالح دينه ودنياه إلا الله -عز وجل-، فمن أعانه الله فهو المعان ومن خذله فهو المخذول، وهذا تحقيق معنى قول: “لا حول ولا قوة إلا بالله”؛ فإن المعنى لا تحول للعبد من حال إلى حال ولا قوة له على ذلك إلا بالله، وهذه كلمة عظيمة وهي كنز من كنوز الجنة، فالعبد محتاج إلى الاستعانة بالله في فعل المأمورات، وترك المحظورات، والصبر على المقدورات، كلها في الدنيا وعند الموت وبعده من أهوال البرزخ ويوم القيامة، ولا يقدر على الإعانة على ذلك إلا الله -عز وجل-، فمن حقق الاستعانة عليه في ذلك كله أعانه”.
وفي الحديث الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: “احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز“(أَخْرَجَهُ مُسْلِم)، يعني: لا تعتمد على الحرص فقط ولكن مع الحرص استعن بالله -سبحانه وتعالى-؛ لأنّه لا غنى لك عن الله، ومهما بذلْت من الأسباب فإنّها لا تنفع إلاّ بإذن الله -تعالى-، فلذلك جمع بين الأمرين: فعل السبب مع الاستعانة بالله -عزّ وجلّ-.
فالله جل جلاله يعلمنا في هذه الآية أن نعبده وحده ونستعين به وحده ،وبذلك فإن المؤمن يتعلم أن يستعين بالحي الذي لا يموت. . وبالقوي الذي لا يضعف…. وبالقاهر الذي لا يخرج عن أمره أحد.. . واذا استعنت بالله سبحانه وتعالى كان الله جل جلاله بجانبك، وهو وحده الذي يستطيع أن يحول ضعفك الي قوة وَذُلك الي عز؛ فالاستعانة بالله علاج لغرور العبد وكبريائه، و”يجمع بين ما يتقرب به العباد إلى ربهم، وبين ما يطلبونه ويحتاجون إليه من جهته.
الناس مع: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين) أصناف أربعة:
1- أهل العبادة والاستعانة صدقا وإخلاصا، يجمعون بينهما اعتقادا وعملا ولا يفرقون، ولا يقصرون في ذكر الله تعالى وشكره وحسن عبادته، ولا يشركون به شيئا، لا في الإيمان به ولا في طاعته والتوكل عليه، الذين هم عابدون لله، ومستعينون به على عبادته والاستقامة على دينه، ابتغاء مرضاته، يؤدون له حقه في ذاته وأسمائه وصفاته بالتوحيد الخالص، وحقه في نعمه وآلائه بالاعتراف والحمد والشكر، وحقه في قضائه وقدره، بالتسليم والرضا والصبر، وحقه في أوامره ونواهيه بالاستجابة سمعا وطاعة، وهؤلاء هم المؤمنون حقا، لهم البشرى بالرضا والرضوان: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ)[فصلت: 30] اللهم اجعلنا منهم بمنك وكرمك .
2- أهل عبادة بغير استعانة، وهؤلاء يؤدون فرائض العبادة، ولكنهم يرجون ويطلبون أسباب السعادة والرزق والتوفيق عند غير الله تعالى، وتلك حال المتعلقين بعبودية البشر والسحر والكهانة وغيرها، والكثير من هؤلاء يقع في أمور شركية وهو لا يدري ؛ فالله تعالى هو القادر على إنزال النعم، وإزالة الضر من غير احتياج منه إلى شريك نستعين به أو نعتقد أنه ينفع أو يضر من دون الله.
لكن الاستعانة بالمخلوق على أمر يقدر عليه، فهذه إن كانت على بر وخير فهي جائزة، والمعين مثاب لأنه إحسان، قال -تعالى-: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) [المائدة: 2]، وإن كانت على إثم فهي حرام، قال -تعالى-: (وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) [المائدة: 2]
3- والصنف الثالث يزعمون التوكل على الله والاستعانة به، لكن على حظوظهم الدنيوية وشهواتهم بلا عبادة، وهم في الحقيقة إنما يعبدون دنياهم، ولا يلجئون إلى الله إلا طلبا لقضاء حوائج أهوائهم، وقد يؤتيهم الله من متاع الدنيا، ولكنهم ليس لهم في الآخرة من نصيب: (وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ) [الشورى: 20].
3- وصنف الجاحدين المعرضين المستكبرين على الله تعالى، الذين لا هم له عابدون، ولا هم به يستعينون؛ لأنهم لا يؤمنون به أصلا، يأكلون رزقه ويجحدون فضله ويعبدون غيره، أولئك في الضلال والخسران المبين: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)[غافر: 60].