الْمُؤْمِنُ مَرْآةُ أَخِيهِ
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الْمُؤْمِنُ مَرْآةُ أَخِيهِ” رواه أبو داوود بسند حسن.
ثلاثُ كلماتٍ .. ولكنَّها ليستْ كسائرِ الكلماتِ .. لأنَّها خرجت من فمِ الذي لا ينطقُ عن الهوى .. إن هو إلا وحيٌ يُوحى ، وهو الذي أوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم.
فتعالوا نستخرجُ بعضَ ما في هذه الكلمات الثلاث من فوائد نعرف من خلالها ما هو وجهُ الشَّبهِ بينَ المرآةِ وبينَ أهلِ الإيمانِ.
1- من صفاتِ المرآةِ الصَّفاءُ :
فلا تُسمى المرآةُ مرآةً ولا تعكسُ صورةً حتى تكونَ صافيةً .. وهكذا المؤمنُ صافياً نقيَّاً.
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: (قيل يا رسول الله، أي الناس أفضل؟ قال: كل مخموم القلب صدوق اللسان، قيل صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: هو التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي، ولا غل ولا حسد) رواه ابن ماجه.
وكيفَ يكونُ في قلبِ المسلمِ على أخيه شيءٌ من الشَّحناءِ وقد قَالَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا”
وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” لا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانا ” رواه البخاري ومسلم
فالمسلم يُحبُ لأخيه ما يُحبُه لنفسِه .. يتمنَّى له الخيرَ ولا يحسدُه .. ولا يغُشُّه ولا يخدعُه ولا يخونُه.
قال سفيان بن دينار لأبي بشر : أخبرني عن أعمال من كان قبلنا، قال: كانوا يعملون يسيرًا ويؤجرون كثيرًا، قال سفيان: ولم ذاك؟! قال أبو بشر: “لسلامة صدورهم”.
2- من صفاتِ المرآةِ الصدق :
فالمرآةُ تعكسُ الصُّورةَ على طبيعتِها الحقيقيَّةِ ، ولا يُمكن أن ترى فيها إلا الواقعَ ، فهي تَتَعامَلُ مَعَ الجَميعِ على السَّواء, لا تُفرِّقُ بينَ صَغِيرٍ وكَبيرٍ, وجَمِيلٍ وقَبيح, وغَنيٍّ وفقير, وشَريفٍ وَوَضِيع، فَلَو اجْتَمَعَ أَمامَها كُلُّ أَصْنافِ البَشَرِ في وقتٍ واحِدٍ لأَعْطَت كلَّ واحد منهم صورته.
وهكذا ينبغي أنْ يكونَ المؤمن صادقاً مع أخيه في كلِّ أحيانِه ، وقد قيل: الصديق مَن صَدَقَك لا مَن صدَّقك؛ فصدقُ الأخوة يكمُن فيمن يَصدُقك النصيحة والقول، ويكون عونًا لك على طاعة الله والعمل الصالح، لا من يُصَدِّقك مجاملة وتَملقًا ومداراةً؛ خوفًا من فِقدان صُحبتك، وما أكثرهم في زمننا هذا! وما أندر النَّوع الأوَّل!
3- ومن صفاتِ المرآةِ أنَّها ناصحةٌ:
فهي تُريكَ ما فيكَ دونَ زيادةٍ أو نُقصانٍ، تريك العَيْبَ كَما هُو, لا تُصَغِّرُه ولا تُكَبِّرُه ، وكذلكَ المؤمنُ لأخيه، إذا رأى عيبا أو خطئا ينصحه، كما قالَ صلى الله عليه وسلم : “الدِّينُ النَّصِيحَةُ” والنصيحة من حقوقِ المُسلمِ على أخيه كما في الحديثِ: “حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ ومنها: وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ”.
وقال جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قُلْتُ: أُبَايِعُكَ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَشَرَطَ عَلَيَّ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ، فَبَايَعْتُهُ عَلَى هَذَا”
والمسلم إذا أرادَ أن ينصحَ أخاه فإنَّه يتحرَّى أرَقَّ الكلماتِ، وأفضلَ العِباراتِ ، وأصفى الأوقاتِ ، بعيداً عن النَّاسِ فينصح سرا ولا يفضح .
قالَ الفضيلُ -رَحمَه اللهُ-: “المؤمِنُ يَسْتُرُ ويَنْصَحُ، والفَاجرُ يَهتِكُ ويُعيِّرُ”.
وكما قالَ الشافعي:
تَعَمَّدْني بِنُصْحِكَ فِي انْفِرَادِي *** وَجَنِّبْنِي النَّصِيْحَةَ فِي الجَمَاعَه
فَإِنَّ النُّصْـحَ بَيْنَ النَّاسِ نَوْعٌ *** مِنَ التَّوْبِيْخِ لا أَرْضَى اسْتِمَاعَه
وَإنْ خَالَفْتَنِي وَعَصَيْـتَ قَوْلِي *** فَلاَ تَجْزَعْ إِذَا لَمْ تُعْـطَ طَاعَه
4 – ومن صفاتِ المرآةِ أنها كما أنها تبدي العيوب تبدي المحاسن:
فكن كهذه المرآة إن كان في أخيك محاسن أو فضيلة،أو خير، أبرز هذه المحاسن، لأننا كثيرا ما ننتبه للأعمال السيئة ونغفل عن الأعمال الحسنة التي قد تكون أكثر بكثير من السيئة .
قل له يعجبني فيك كذا …أطيب صفة فيك لم أرها إلا في قليل من الناس هي كذا وكذا…، وهكذا علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته في تزكيته لأصحابه يقول لأشج عبد القيس : “إنك فيك خصلتين يحبهما الله : “الحلم والأناة “ والأناة : من التأني وعدم التسرع.
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبيّ. “
وروى ابن أبي شيبة عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: « … ولا أظلّت الخضراء، ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر“
إلى غير ذلك من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو موجود في الصحيحين وكتب السنن في أبواب الفضائل والمناقب ، يتكلم الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذا الأمر في كل من حوله من أصحابه الكرام ، وهذه كانت عادته صلى الله عليه وسلم ، وهكذا وظف النبي كل واحد من أصحابه فيما يحسن ويجيد ورأيناهم من بعده كل رجل منهم بأمة .
ولاحظوا يا إخواني شيئا هناك فارق بين أن تذكر الشخص بما فيه ، وأن تبالغ في مدحه بما ليس فيه ، يعني أنا لوقلت لفلان أنت فيك خصلة يحبها الله وهي الحلم أقولها صدقا لأن الناس يلمسون منه هذه الصفة فهذا لا بأس به أبدا ، وهو من باب نشر الخير بين الناس ، إما إذا كان هذا الشخص لا حليم ولا كريم ثم أزكيه بما ليس فيه فهذا كذب .
يقول سعيد بن المسيب : ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا فيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه، فمن كان فضله أكثر من نقصه ذهب نقصه لفضله، ولا تذكر عيوب أهل الفضل تقديراً لهم.
فما أحد يسلم من العيوب فلا توجد زوجة بلا عيوب، ولا صديق بلا عيوب، ولا رئيس ولا مرؤوس بلا عيوب .وكان الشاعر قديما يقول : كفى بالمرء فخرا أن تعد معايبه .
وكان الإمام الذهبي رحمه الله إذا أرّخ لبعض العلماء يقول : “وله سيئات تغمر في بحر حسناته ” هذا هو فهم العلماء .
أيضا تجد في الخلافات الزوجية التركيز دائما على السلبيات وتعميقها وتكبيرها ، ويصاب كل واحد من الزوجين بهذه المسألة فلا يرى من الطرف الآخر إلا النقائص ، والنبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا فيقول : ” لا يفرك مؤمن مؤمنة ؛ إن كره منها خلق رضي منها آخر ” الفرك البغض والكره .
5- ومن صفاتِ المرآةِ أنها لا تَعكسُ صورتَك إلا في حضورِكَ؛ فإذا غِبتَ زالتْ صورتُكَ:
وهكذا المؤمنُ يحفظُ أخاهُ في غيابِه ، ويسترُ عُيوبَه، ولا يذكرهُ بسوءٍ أمامَ الآخرينَ ، جاءَ في الحديثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: “أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟”، قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: “ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ”، قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ، قَالَ: “إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ”.
يقولُ يحيى بنُ مَعينٍ -رحمَه اللهُ تعالى-: “ما رأيتُ على رجلٍ خطأً إلا سترتُه، وأحببتُ أن أُزيِّنَ أمرَه، وما استقبلتُ رجلاً في وجهِه بأمرٍ يكرهُه، ولكنْ أُبيِّنُ له خطأهَ فيما بيني وبينَه، فإن قَبلَ ذلكَ وإلاَّ تركتُه”.
7- ومن صفاتِ المرآةِ أنها تظهرالمحاسن والعيوب، ولا تنتظر مغنماً:
ولا شكراً، ولا تقديراً، وهكذا المؤمن، لا ينتظر على نصيحته جزاءً، ولا تقديراً، ولا مديحاً، ولا ثناءً، ولا شكراً ، فهو يقدم كل ذلك لله.
8- ومن صفاتِ المرآةِ أنها لا تُريكَ إلا الظَّاهرَ، ولا تعكسُ شيئاً من الباطنِ :
وهكذا المؤمنُ يُعاملُ النَّاسَ بما يظهرُ منهم .. ولا يتكلَّفُ بواطنَ الأمورِ .. وقد أعطى النَّبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- درساً للصَّحابةِ .. بأن يحكموا على الظَّاهرِ .. كما في قصَّةِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: “بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الْحُرَقَةِ، فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ، فَهَزَمْنَاهُمْ، وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ رَجُلًا مِنْهُمْ، فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَكَفَّ الْأَنْصَارِيُّ، فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: “يَا أُسَامَةُ، أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟”، قُلْتُ: كَانَ مُتَعَوِّذًا، إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السِّلاَحِ، أَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَقَتَلْتَهُ؟، “أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا؟” فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ، حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
فلا تجدُ المؤمنُ إلا وهو يُحسنُ الظَّنَّ بأخيه .. ويحملُ كلامَه على أحسنِ محملٍ .. ويلتمسُ لخطئه عُذراً .
قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ -رحمَه اللهُ-: “إِذَا بَلَغَكَ عَنْ أَخِيكَ الشَّيْءُ تُنْكِرُهُ، فَالْتَمِسْ لَهُ عُذْرًا وَاحِدًا إِلَى سَبْعِينَ عُذْرًا، فَإِنْ أَصَبْتَهُ، وَإِلا قُلْ: لَعَلَّ لَهُ عُذْرًا لا أَعْرِفُهُ”.
كلمة أخيرة : الحرص على اختيار الصديق الصالح :
فاحرصْ على اختيار الصديق المؤمنِ الصَّالحِ كما قال صلى الله عليه وسلم: (المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل) فصديقك الناصح كالمرآة الذي ترى فيه نفسَك .. وتُصلحْ به عيبَك .. يُذكِّرُكَ إذا نسيتَ .. ويُعينُكَ إذا ذكرتَ .
كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَقُولُ: “لَوْلَا ثَلَاثٌ لَمَا أَحْبَبْتُ الْبَقَاءَ: لَوْلَا أَنْ أَحْمِلَ عَلَى جِيَادِ الْخَيْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمُكَابَدَةُ اللَّيْلِ، وَمُجَالَسَةُ أَقْوَامٍ يَنْتَقُونَ أَطَايِبَ الْكَلَامِ كَمَا يُنْتَقَى أَطَايِبُ التَّمْرِ”.
اللهم ارزقنا صحبةَ الأخيارِ، وأوردنا طريقَ الأبرارِ، واجعل الجنَّةَ لنا خيرَ دارٍ، اللهم زيِّنا بالإيمانِ واجعلنا هُداةً مهديِّينَ.