هل الإنسان خليفة الله في الأرض؟
وهل عاش آدم في جنة الخلد؟
كنا نتكلم في الأسبوع الماضي عن قصة إسلام البروفيسور الأمريكي جيفري لانج وكان من الأمور التي توقفنا عندها هي مسألة استخلاف الله تعالى لآدم على الأرض، وقوله تعالى للملائكة: (إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال إني أعلم ما لا تعلمون) [البقرة 30]
والسؤال الذي تكرر بعد لقاء الجمعة الماضية هو:
ما معنى (إني جاعل في الأرض خليفة)؟ وهل الإنسان هو خليفة الله في الأرض؟
الجواب
خلق الله -سبحانه وتعالى- الجن قبل الإنس كما قال تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون والجان خلقناه من قبل من نار السموم) [الحجر 26، 27]
من قبل: يعني من قبل الإنس؛ فالجن أفسدوا في الأرض، حتى أن الملائكة قاتلوهم وألحقوهم بجزائر البحور، فلما قال الله تعالى للملائكة: (إني جاعل في الأرض خليفة؟) قالوا بناء على ما عرفوه عن الجن، (قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال إني أعلم ما لا تعلمون) [البقرة 30]
فما معنى: (إني جاعل في الأرض خليفة)؟
العلماء فسروها بتفسيرين:
التفسير الأول: أن الإنسان هو خليفة الله تعالى في الأرض، استخلفه الله -عز وجل- للإصلاح فيها وعمارتها، وإقامة شريعة الله تعالى ودينه، وهذا المعنى المقصود به تشريف الإنسان بهذا الاستخلاف، وهذا ورد في القرآن الكريم في عدة مواضع منها قول الحق جل وعلا لداوود: ﴿يَٰدَاوُۥدُ إِنَّا جَعَلۡنَٰكَ خَلِيفَةٗ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱحۡكُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ ٱلۡهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۚ ﴾ [ص: 26]، فالذي جعله خليفة في الأرض، فهنا داوود مستخلف من الله -عز وجل- في الأرض ليحكم بين الناس بالحق، وفي الآية الأخرى يقول الحق جل وعلا على لسان موسى لما شكا بنو إسرائيل اشتداد أذى فرعون، قال: ﴿قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمۡ أَن يُهۡلِكَ عَدُوَّكُمۡ وَيَسۡتَخۡلِفَكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَيَنظُرَ كَيۡفَ تَعۡمَلُونَ﴾ [الأعراف: 129]، وقال الله -عز وجل- ﴿أَمَّن يُجِيبُ ٱلۡمُضۡطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكۡشِفُ ٱلسُّوٓءَ وَيَجۡعَلُكُمۡ خُلَفَآءَ ٱلۡأَرۡضِۗ ﴾ [النمل: 62]
أيضا ورد قول الحق تعالى في سورة الحديد: ﴿ءَامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسۡتَخۡلَفِينَ فِيهِۖ ﴾ [الحديد: 7] والمقصود هنا مما ملككم الله تعالى من عطائه ونعمته، فالإنسان مستخلف من الله على المال، وأمره الله أن يؤدي حق الله في المال بالزكاة وإطعام الفقير والمسكين وإعطاء المحتاج إلى آخر ذلك.
وداوود مأمور من الله -عز وجل- ومن ورائه كل من هيأ الله له ملكا وسلطانا أن يحكم بين الناس بالحق ولا يتبع الهوى.
وكل بني آدم مكلفون بعبادة الله -عز وجل- وعمارة الأرض وإقامة أمر الله تعالى فيها هذا هو المعنى من هذه الآية.
فمعنى خليفة أي أنه وكيل موكل من الله -عز وجل- بهذه المهمة، وهذه الوكالة ليست كوكالة الملائكة فإن الملائكة إذا كلفوا بأمر فهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، أما بنو آدم ففيهم الطائع وفيهم العاصي فيهم المؤمن وفيهم الكافر، فهناك من يحرم نفسه من شرف الاستخلاف في الأرض فيصير من أتباع الشيطان، وهناك من يشرف بهذا الشرف العظيم فيقيم شعائر الله ويقيم أمر الله ويصلح في الأرض ويعمرها ويصلح فهذا يؤدي حق الاستخلاف في الأرض.
التفسيرالثاني : (إني جاعل في الأرض خليفة ) يعني خلقا يخلفون الجن في الأرض، أو خلقا يخلف بعضهم بعضا، كما قال تعالى ﴿وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَكُمۡ خَلَٰٓئِفَ ٱلۡأَرۡضِ ﴾ [الأنعام: 165]، خلائف يعني جيل بعده جيل بعده جيل، يخلف بعضهم بعضا، وفي الآية ﴿فَخَلَفَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ خَلۡفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّهَوَٰتِ﴾ [مريم: 59]، وحتى الناس في الدارجة البعض يقول عن الأولاد الخلفة، فالخلف المقصود به أن هناك خلقا يخلفه خلق وجيلا يخلفه جيل وهكذا، أي أن الله تعالى يجعل نسل وتكاثر وعمارة في الأرض بهؤلاء الخلق، وإن هذا الأمر أراده الله تعالى في الحياة لحكم كثيرة منها، الابتلاء وعمارة الأرض ، وأن يظهر الصالح من الفاسد، قال تعالى : ﴿ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَيَوٰةَ لِيَبۡلُوَكُمۡ أَيُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗاۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡغَفُورُ﴾ [الملك: 2]، إلى غير ذلك من الحكم.
والخلاف في التفسير يعني إذا أخذنا بقول من القولين هو خلاف صحيح، لأن الألفاظ في اللغة العربية تحتمل المعنيين أن بني آدم فعلا خلفوا الجن في الأرض بعد أن أفسدوا فيها فهم أجيال تتوارثها أجيال خلف من بعد خلف وجيل من بعده جيل، أو كما قلت إن الإنسان خلقه الله تعالى ليكون موكلا ومكلفا بتنفيذ أمر الله تعالى وإقامة شرعه وإصلاح الأرض.
إخواني وأحبابي الكرام هناك مسألة أخرى وهي:
هل آدم أبو البشر عندما خلق سكن جنة الخلد؟
هذا هو القول المشهور عند الناس أن آدم كان في جنة الخلد، وأن إبليس وسوس لآدم في الجنة، وهذا قال به بعض أهل العلم من باب الأمانة العلمية، لكن القول الذي رجحته في خطبة الأسبوع الماضي أنها جنة في الأرض وسأكرر الكلام عليه لإيضاح هذه النقطة بالأدلة التالية:
الدليل الأول: أن الله تعالى قال ( إني جاعل في الأرض خليفة) في الأرض وليس في الجنة، لم يخلقنا الله لنكون خلقا للجنة، بداية، -إن شاء الله- الجزاء والعقبى الجنة، نسأل الله أن نكون من أهلها، لكن في البداية ما خلق الله آدم ليسكن هو وذريته جنة الخلد ، وكما قال جيفري لانج في أسباب إسلامه إن عقيدة المسيحية مبنية على أن الإنسان وجد في الأرض كعقوبة لأكل أبيه آدم من الشجرة وأنه سيظل هكذا معاقب وأن الله أرسل عيسى ابنه ليكفر عن خطيئة آدم وخطايا البشرية إلى غير ذلك.
فالإنسان لم يخلق ليعيش في الجنة، الإنسان خلق ليكون خليفة الله في الأرض، (إني جاعل في الأرض خليفة) كيف أن الإنسان من البداية قبل أن يخلقه الله تعالى يقول الله لملائكته (قال إني جاعل في الأرض خليفة) ثم يسكنه الله تعالى في جنة الخلد، ثم يخرجه الله منها عقوبة على أكله من من الشجرة التي نهي عنها؟
إذن ليس للابتلاء هنا معنى وكأن العقوبة مجهزة قبل أن يقوم بالذنب، وحاشاه جل وعلا أن يفعل ذلك.
وعلى سبيل التقريب مثلا في قصة إسماعيل وإسحاق، البعض يقول إن الذبيح هو إسحاق- عليه السلام-، والجمهور على أن الذبيح هو إسماعيل، لو أننا قرأنا في سورة هود لما جاءت الملائكة إلى إبراهيم قال تعالى : ﴿وَٱمۡرَأَتُهُۥ قَآئِمَةٞ فَضَحِكَتۡ فَبَشَّرۡنَٰهَا بِإِسۡحَٰقَ وَمِن وَرَآءِ إِسۡحَٰقَ يَعۡقُوبَ﴾ [هود: 71]
فمعنى هذا أن سارة زوج إبراهيم ستنجب إسحاق وأن إسحاق سيعيش حتى ينجب يعقوب، فلو أن الذبيح هو إسحاق وأن الله أمر إبراهيم حينما بلغ معه السعي أن يذبح ولده إسحاق، فما معنى البشرى بأن من وراء إسحاق يعقوب؟
إذن فليس المراد هنا أن يكون هو إسحاق إنما الذبيح هو إسماعيل، فالمبشر بالخلف والذرية هو إسحاق، وهذه البشارة سابقة على ولادته، يعني لم يولد بعد، فكيف تبشر بأنها ستنجب؟ وذكر اسمه إسحاق ومن نسله يعقوب، ثم يأمر تعالى حينما يبلغ معه السعي أن يذبحه؟
بالإضافة إلى أنه في سورة الصافات بعد ذكر القصة قال يا بني أني أرى في المنام أني أذبحك، قال الله تعالى: (وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين)، فكيف تجري القصة؟ ويقول الشاب لأبيه (يا أبت افعل ما تؤمر)، ثم يأتي بعد ذلك البشرى بإسحاق، (وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين)فالبشرى بإسحق كانت عقب الابتلاء بذبح ولده إسماعيل.
فالله تعالى من بادئ الأمر قبل أن يخلق آدم قال إني جاعل في الأرض خليفة.
الدليل الثاني : أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم تكريما له، ومن ضمن المأمورين بالسجود لآدم إبليس، والسياق لم يذكر هذا صراحة لكننا نفهمه من خلال آيات القرآن، لأن الله تعالى قال لإبليس: ﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسۡجُدَ إِذۡ أَمَرۡتُكَۖ ٖ﴾ [الأعراف: 12]
إذن فهو صدر له الأمر من الله أيضا مع الملائكة، لكن القرآن دائما يترك مساحات للمستمع أو للقارئ حتى يستوعب ويفهم دون ذكر تفاصيل، وهذه من بلاغة القرآن الكريم، فأنت تفهم أن الملائكة أمرت بالسجود لآدم، وأن إبليس كان من المأمورين بالسجود لآدم، فأبى واستكبر أن يسجد طاعة لأمر الله.
الشاهد أن الله تعالى طرده من الأعلى أي من السماء كلها، ومسألة الخلق والسجود كانت في الملأ الأعلى، ﴿قَالَ فَٱهۡبِطۡ مِنۡهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَٱخۡرُجۡ إِنَّكَ مِنَ ٱلصَّٰغِرِينَ﴾ [الأعراف: 13]، إذن الآن إبليس غير موجود في السماء ولا في الملأ الأعلى، فلو كان آدم- عليه السلام- في جنة الخلد كيف وسوس له إبليس؟ وكيف وصل له إبليس بالوسوسة؟
هذا مستحيل، لأنه ملعون ومطرود من الملأ الأعلى فهو لا يصل إلى الملأ الأعلى، بالإضافة إلى أنه بعد مشهد الوسوسة والأكل من الشجرة، الله تعالى قال: ﴿قُلۡنَا ٱهۡبِطُواْ مِنۡهَا جَمِيعٗاۖ﴾ [البقرة: 38] من أي مكان؟ من السماء من الملأ الأعلى، إبليس مطرود من الملأ الأعلى، إذن (اهبطوا منها ) أي من جنة موجودة في الأرض، آدم وحواء وإبليس، ﴿وَقُلۡنَا ٱهۡبِطُواْ بَعۡضُكُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوّٞۖ وَلَكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُسۡتَقَرّٞ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٖ﴾ [البقرة: 36]، إذن بهذا يتضح لنا هذا المعنى أن آدم لم يكن في الأرض، إنما كان في جنة على الأرض.
الدليل الثالث: هناك تداخل في اللفظ ما بين جنة الخلد وكلمة جنة من الناحية اللغوية، العرب تطلق على البستان الممتلئ بالأشجار والثمار جنة، وهذا إطلاق وارد في القرآن الكريم نحن نقرأ في سورة الكهف كل جمعة ﴿۞وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلٗا رَّجُلَيۡنِ جَعَلۡنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيۡنِ مِنۡ أَعۡنَٰبٖ وَحَفَفۡنَٰهُمَا بِنَخۡلٖ وَجَعَلۡنَا بَيۡنَهُمَا زَرۡعٗا﴾ [الكهف: 32]، والله تعالى اخبر عن إنزال المطر من السماء فقال : ﴿وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلۡمُعۡصِرَٰتِ مَآءٗ ثَجَّاجٗا لِّنُخۡرِجَ بِهِۦ حَبّٗا وَنَبَاتٗا وَجَنَّٰتٍ أَلۡفَافًا﴾ [النبأ: 14-16] ، وعندنا قصة سورة القلم ﴿إِنَّا بَلَوۡنَٰهُمۡ كَمَا بَلَوۡنَآ أَصۡحَٰبَ ٱلۡجَنَّةِ إِذۡ أَقۡسَمُواْ لَيَصۡرِمُنَّهَا مُصۡبِحِينَ﴾ [القلم: 17]، ودلائل أخرى كثيرة حتى لا أطيل، فالشاهد كلمة الجنة تطلق ويراد بها المعنى اللغوي وليس جنة الخلد فالجنة في لغة العرب هي المكان الذي فيه الأشجار الكثيرة والثمار فيسمى جنة لأنه لكثرة الأشجار من يدخلها يجنّ يعني يستتر ويختفي، والفعل جنّ يعني اختفى واستتر ومنه (فلما جن عليه الليل) يعني أقبل بظلامه فستر كل شيء، ومنه الجن لأننا لا نراهم، ومنه الجنين لأنه مستور في بطن أمه، ومنه المجنون لأنه استتر عقله فلا يدرك.
فالجنة مكان في الأرض هيأه الله تعالى لآدم ليسكنه هو وزوجه، وكان فيه من الطيبات ومن الظلال لكنه لما عصى أمر الله أخرج منها حتى يكون مسئولا عن نفسه مكلفا بأن يجمع طعامه ويهيئ شرابه وحياته إلى غير ذلك.
الدليل الرابع: البعض يقول إن رب العالمين قال: ( اهبطوا منها) والهبوط يكون من أعلى إلى أسفل.
العلماء قالوا: إن الهبوط نعم يكون من أعلى لأسفل فلعل هذه الجنة كانت على ربوة ( مكان مرتفع) فاهبط منها إلى الأرض.
أو اهبطوا بمعنى الانتقال من مكان إلى مكان، ونبي الله موسى قال لبني إسرائيل: (اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم) ونحن في الدارجة نقول أنا سأهبط إلى المغرب أنا سأهبط إلى الجزائر وهكذا فاهبط هنا ليس معناها أنه سينزل من السماء إلى الأرض إنما سينتقل من كندا إلى المغرب فهذا معنى نتناوله.
فالخلاصة من هذه الخطبة هو إيضاح لنقطتين:
- النقطة الأولى أن الإنسان خليفة الله في الأرض يعني أنه موكل من الله تعالى لإصلاح الأرض وعمارتها وإقامة شعائر الله تعالى فيها وتحقيق العدل وفق منهج الله تعالى ونظامه.
- وهذا التوكيل هو تشريف للإنسان، وتكليف له، فمن أطاع الله فيما استخلفه فيه كان له الجزاء الحسن من الله.
- وأما من خان وبدل وغير أو كفر فله العاقبة السيئة والعذاب الأليم عند الله.
- هناك معنى ثاني أن خليفة الله في الأرض يعني خلقا يخلف بعضهم بعضا
- بالنسبة للمسألة الثانية وهي أن الجنة التي أسكنها آدم في أول الأمر لم تكن هي جنة الخلد إنما هي جنة كانت على الأرض لأن الإنسان كلف أو خلق ليكون خليفة الله تعالى في الأرض.
أرجو من الله أن تكون هذه المعاني واضحة في أذهاننا جميعا، وأسأل الله أن يفقهنا في كتاب ربنا وأن يجعلنا من التالين له العاملين به اللهم آمين.