أسرار مناسك الحج والعمرة .خالد أبو شادي

تاريخ الإضافة 4 يونيو, 2024 الزيارات : 6691

أسرار مناسك الحج والعمرة .خالد أبو شادي

منقول من كتابه رحلة المشتاق الحج والعمرة

الحمد لله الذي جعل الكعبة البيت الحرام مثابة للناس وأمنا ، وخص بزمزم والمقام من زار بيته فرضا ونفلا ، واصطفى للصفا والمروة من غمره حبا ووصلا ، والصلاة والسلام على من أمرنا أن نأخذ عنه مناسك حجنا ، ودلّنا على ما فيه خيرنا وسر نجاتنا ، أما بعد …
أيها الحجاج .. أنتم ضيوف الله وزوّاره ، ووفدنا السنوي الذي يحمل وثيقة تجديد العهد مع الله ، أنتم أشراف الناس ، وأكرم الخلق على الله ، أيها المصطفون الأخيار ، لو لم يحبكم ما دعاكم ، ولا في بيته لقيكم وهداكم ، وها قد أذن لكم اليوم أن تعيشوا معه مرة في العمر بعد أن عشتم مع نعمه عليكم طيلة أيام حياتكم….. أيها الحجاج .. كان إخوانكم من حجاج الرعيل الأول يذهبون إلى الحج ليتعلموا المزيد عن الإسلام ، ويجددوا البيعة على الثبات عليه ، ويقابلوا النبي – صلى الله عليه وسلم – فيسألون ويتعلمون ، ثم يعودون إلى بلادهم سفراء لهذا الدين وشهداء على الناس ، فهل علمتم مهمتكم؟! وهل فهمتم قدركم؟! أنتم سفراء من لم يُكتب لهم الحج هذا العام ، لتعودوا إليهم محمّلين بالنور العظيم والطُّهر العميم ؟! أنتم من تصلحون ما أفسده الدهر ، أنتم من تزيلون ما تراكم على قلوب الخلق من ران وأقفال ، أنتم من وقع عليهم اختيار الله لهداية الناس وإنقاذ العالمين ، أنتم من عناهم الله بقوله : ? فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ? ]التوبة : من الآية122[.

أسرار الحج والعمرة

هل صحيح أن أعمال الحج والعمرة مبهمة لا معنى لها؟! وأن الله عز وجل تعبّدنا بما لا نفهمه؟!

أم أن في كل عبادة من عبادات الحج والعمرة تذكرة للمتذكر ، وعبرة للمعتبر ، وتنبيه للغافل ، وإشارة للعاقل؟!

فإذا عرفنا إلام ترمز هذه العبادات اهتدينا لأسرارها فصفا القلب وسمت الروح وتم الفهم عن الله.أما الزاد : فاعلم أن هذه الرحلة رحلة عبودية ، ولابد لك فيها من الزاد حتى تستغني عن الناس فتخلص عبوديتك لله ، وتظل ذلتك بالكامل له ، فلا تسأل في هذه الرحلة غير الله بل لا تستشرف ولو بقلبك إلى سؤال أحد سواه.
واطلب الزاد من حلال ، فكيف تحج بيت الله برزق خبيث؟!

بأي وجه يقابل الله من سرق عباد الله؟! أيجوز التطهر بماء نجس؟! أيرجو القبول وقد طُرد قبل الوصول!!
إذا حججت بمال أصله سُحت فما حججتَ ولكن حجّت العير.

لا يقبل الله إلا كل طيّبة ما كُلّ من حجّ بيت الله مبرور
وتعلم من التزود في الرحلة الفانية التزود للرحلة الأبدية ، ولتحدّثك نفسك أخي المشتاق أن الزاد الحقيقي هو التقوى ، فكما أنه لا يصل المسافر إلى مقصده إلا بزاد يبلغه إياه ، فكذلك المسافر إلى الله تعالى والدار الآخرة لا يصل إلا بزاد من التقوى ، وقد جمع الله بين الزادين في قوله : ? وَتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ? ]البقرة : من الآية 197].
وإن كنت تريد أن تحصل على القوة التي تعينك على أداء المناسك والتلذذ بالعبادة ، فلتحرص على كثرة الذكر فهو الذي يضاعف قوتك ، فإن من ثمرات المداومة عليه منح الحاج قوة وعزما وصلابة وبأسا ، ولذا كان الذكر أفضل أعمال الحج.
سئل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : أي الحج أفضل ؟! قال : ” العَجّ والثَّجّ “. ( حسن ) انظر حديث رقم : 1101 في صحيح الجامع.. والعجّ : رفع الصوت بالتلبية ، والثجّ : هو نحر البُدن.

أفضل الحجاج والمعتمرين
قال ابن القيم (ت : 751هـ) في الفائدة السادسة والخمسين من فوائد ذكر الله عز وجل :
” إن أفضل أهل كل عمل أكثرهم فيه ذكرا لله عز وجل ، فأفضل الصُّوَّام أكثرهم ذكرا لله عز وجل في صومهم، وأفضل المتصدقين أكثرهم ذكراً لله عز وجل ، وأفضل الحجاج أكثرهم ذكراً لله عز وجل ، وهكذا سائر الأحوال “.

أما شراء ثوبي الإحرام :
فتذكر بلبسك ثياب الإحرام الكفن ولفّك فيه ، فإنك ستلقى الله عز وجل ملفوفاً في كفن أشبه ما يكون بثياب الإحرام ، إذ ليس في ثياب الإحرام مخيط تماما مثل الكفن ، وما أشبه المُحرِم اليوم بالميت ، فكلاهما يغتسل ، وكلاهما ذاهب للقاء ربه ، وهذا ما يذكِّر كل حاج بإخوانه الموتى وبحاله الذي يشبه حال كل ميت ، ويعبِّر عن ذلك الشاعر بقوله :

لعمرك لو كشفتَ التُّرب عنهم    فما تدري الغني من الفقير
ولا الجلد الملامسَ ثوبَ صوفٍ     من الجلدِ الملامسِ للحرير
إذا أكل الثرى هذا وهذا فما      فضل الغني على الفقير؟

وتذكر أن هذه الحال تبعث في النفس أكبر درجات الخضوع وأسمى منازل الخشوع وأقصى تذلل للخالق سبحانه ، فأنت اليوم ليس معك من متاع الدنيا سوى ما تلبس ، وإن كان نعيم الدنيا وزخرفها قد أنساك أن الملك كله لله فقد جاءك اليوم الذي تقف فيه بين يدي ربك كيوم ولدتك أمك ، ليس عليك من دنياك سوى ما تستر به عورتك ، أنت اليوم أشبه ما تكون برضيع لُفّ في قطعة قماش ، لا يملك لنفسه شيئا ويحتاج من خالقه إلى كل شيء.
وتذكر بلبسك ثياب الإحرام أن الناس سواسية من الملوك إلى الصعاليك لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى ، فالكل يخلع صنعة الخيّاط ليلبس خرقة البسطاء ، ويلحق بذلك أفقر الفقراء بأغنى الأغنياء ، ولا تجد دينا كالإسلام يغرس المساواة في قلوب أتباعه بمثل هذه الطريقة العملية ، ويفرضها في أجلّ العبادات لتتصل بالضمير وتمتزج بالتركيبة النفسية ، فيغرس ذلك في قلب كل حاج ولا شك خلق التواضع.
أجل .. هنا تلتقي كل الألوان والأجناس والأعراف واللغات والأعمار دون ذرة واحدة من تفرقة أو تمييز ، ولو رآنا دعاة حقوق الإنسان اليوم لقالوا : انظرونا نقتبس من نوركم .. ولكنهم قوم يجهلون!!لكنه وإن تساوى الظاهر فالله أعلم بالسرائر ، فلعل فقيرا يعيش على الكفاف يكون خيرا عند الله من ملئ الأرض من غني ضاقت خزائنه بالمال ، ولعل رجل من عامة الحجاج أشعث أغبر لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره.
وتذكر بلبسك ثياب الإحرام الزهد في الدنيا ، والزهد كما قال ابن الجلاء : النظر إلى الدنيا بعين الزوال فتصغر في عينك فيسهل عليك الإعراض عنها ، أو كما قال الإمام أحمد : الزهد في الدنيا عدم فرحه بإقبالها ولا حزنه على إدبارها ، ولذلك لما سئل عن الرجل يكون معه ألف دينار هل يكون زاهدا؟! قال : نعم بشرط أن لا يفرح إذا زادت ولا يحزن إذا نقصت.
وهل هناك فرصة لغرس الزهد في القلوب أعظم من فرصة الحج الذي نخلع فيه فاخر الثياب فلا فخر ولا مباهاة ، ونرتدي ملابس الإحرام البسيطة التي ليس لها جيوب!! وقد دلّنا النبي – صلى الله عليه وسلم – على معنى الزهد بحاله فضلا عن مقاله ، فقد حجّ – صلى الله عليه وسلم – على رحل رثٍّ وقطيفة خلِقة تساوي أربعة دراهم أو لا تساوي كما روى ذلك عنه أنس بن مالك – رضي الله عنه -.
وتذكر بلبسك ثياب الإحرام أن تُبيّض قلبك كما بيّضت ثيابك ، فرب مبيِّض لثيابه مدنِّس لدينه.
واستشعر كذلك بياض المنهج الذي تحمله ونقاء رسالة الإسلام التي تحويها بين أضلاعك.

وأما الإحرام من الميقات :

فاعلم أن لحظة الإحرام من أهم اللحظات ، لأنها البداية ، وفساد النهايات من فساد البدايات ، فَتَحَرَّ الإخلاص بأقصى ما تستطيع ، ونَقِّ القلب من أي مُرَادٍ سوى الله ، مستعينا في ذلك بالدعاءُ بما دعا به نبيك – صلى الله عليه وسلم – :
” اللهم حجة لا رياء فيها و لا سمعة “. ( صحيح ) انظر حديث رقم : 1302 في صحيح الجامع
وتذكر بوصولك إلى الميقات أن الله تعالى يؤهِّلك للقدوم عليه ، والقرب من حضرته ، فالزم الأدب معه لتكون أهلا لإقباله عليك بمزيد الإحسان وعظيم الإنعام.

واعلم أن الميقات فاصل بين الأرض التي تحل فيها محظورات الإحرام لأنك غير متلبس فيها بنسك ، وبين الأرض التي تُحظر فيها لأنك قد تلبّست بالنسك ، واعلم أنك ستتحلل من إحرامك عما قريب فتحل لك هذه المحظورات ، فتذكّر ساعتها ميقات الدنيا بما فيه من تعب ومحرمات ونصب ومحظورات ، وكيف أن هذا الميقات ما هو إلا منزل مؤقت ومعبر مُوصِّل إلى مكان آخر يحلّ لك فيه كل ما حُرّم عليك ، وتنعم فيه بكل ما حُرمت منه .. ألا إنها الجنة!!
وأول ما يجب فعله في الإحرام الاغتسال ، لكن لماذا الاغتسال؟!

كأن المراد بالاغتسال أن تمحو عنك آثار الدنيا إن كانت لا تزال عالقة بك تأبى أن تفارقك ، فتعود كلك لله لا يبقى للدنيا فيك شيء ، وتبدأ رحلتك نقيا من غبار الدنيا وشهواتها ومشاغلها ، وليس الاغتسال لطهارة الظاهر فحسب بل لطهارة الباطن كذلك ، فيغسل هذا الماء ذنوبك ويخلصك من آثامك.
فإذا أحرمت فلا تتطيّب ولا تتزين ولا تقص شعرك أو تحلقه ، لأن رحلة الروح قد ابتدت فلا تنشغل عنها بمظاهر المادة الزائلة مهما كانت.
وأما التلبية : فبعد أن تنوي الإحرام تبدأ التلبية بصيغته المعروفة :
” لبيك اللهم لبيك .. لبيك لا شريك لك لبيك .. إن الحمد والنعمة لك والملك .. لا شريك لك “.
ومعنى التلبية : إجابة نداء الله عز وجل على الفور مع كمال المحبة والانقياد ، وتكرار كلمة (لبيك) وعدٌ منك لربك بطاعة بعد طاعة وشهادة منك على نفسك بإجابة بعد إجابة ، فارْجُ الله أن تكون صادقا في دعواك ، واخْشَ أن تكون غير ذلك فيُقال لك : لا لبيك ولا سعديك.
قال سفيان بن عيينة ]ت : 198هـ[ : حج علي بن الحسين ]ت : 94هـ[ رضي الله عنهما فلما أحرم واستوت به راحلته اصفر لونه وانتفض ووقعت عليه الرعدة ولم يستطع أن يلبي فقيل له لم لا تلبي؟ فقال : أخشى أن يقال لي لا لبيك ولا سعديك ، فلما لبى غشي عليه ووقع من على راحلته فلم يزل يعتريه ذلك حتى قضى حجه.ولما حجّ جعفر الصادق ]ت : 148هـ[ أراد أن يلبي فتغيّر وجهه ، فقيل له : ما لك يا حفيد بنت رسول الله – صلى الله عليه وسلم -؟ فقال : أريد أن ألبي وأخاف أن أسمع غير الجواب!!
تلبية شامية
يروي لنا أديب الفقهاء وفقيه الأدباء الشيخ علي الطنطاوي تجربته مع التلبية قائلا :” فكنت أروِّض نفسي على استحضار معنى التلبية ، فأتصوّر أوامر الشرع وأن الله يدعونا إلى اتباعها ، وأتصوّر أنه يدعونا لترك ما نهى عنه ، فأقول لبيك اللهم لبيك ، لبيك جئت طائعا مستجيبا ، عازما على اتباع أوامرك ، والوقوف على محارمك ، وتصوّرتُ أني خلّفت الدنيا ورائي بصداقاتها وعداواتها ومطامعها ومخاوفها ، وأني قادم على الله فلا أرجو معه صديقا ولا أخشى معه عدوا ، وعرتني هذه النفحة من السمو الإلهي التي لا تعرض للمرء مرة في السنين الطوال ، وغمرتني موجة من لذة التأمل وحلاوة الإيمان لا يمكن أن تسمو إلى وصفها الأقلام “.

النشيد السماوي
يصف حافظ بك عامر هذه الكلمات فيقول :” كلمات روحانية فيها أنوار السماء تضيء على كل ما في الأرض وكل ما في النفس ، وتجعل الإنسان سماويا إلهيا في بعض أوقاته ليتذكَّرها في سائر أيامه الأخرى ، فإذا رجع إلى دنياه العادية نبّهته معانيها فكانت له كالقانون الروحي ، هذا النشيد دويّ عام يهتف به مئات الألوف من المؤمنين بصوت واحد فلا يمكن أن ينساه من سمعه ، وبذلك يكون قد انغرس في نفسه ، وحمل معه الهيئة التي تذكر به الحاج دائما ، فيرتبط به في الذاكرة فلا يمحى ولا يُنسى “.

وابدأ بالتحرك إلى مكة من الميقات ، وأنت تردد هذا النشيد الإلهي الذي تضجّ به الصدور وتنطلق به الحناجر لمئات أو آلاف المرات ، وقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يقطع هذه المسافة على ظهر البعير في يوم وليلة ، لا يمل ولا يكل من التلبية ، ونحن اليوم نقطعها في أربع ساعات تقريبا ، ومع هذا نستشعر الرتابة والملل!!

قال أبو حازم : ” كان أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا أحرموا لم يبلغوا الرَّوْحاء حتى تُبَحَّ أصواتهم ” ، وما ذلك إلا لأنهم موقنون في ثواب الله ، واثقون من عطائه ، منفذون لأمره الذي نقله إليهم نبيه فقال : ” أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي ومن معي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية “. ( صحيح ) انظر حديث رقم : 62 في صحيح الجامع.

 الرَّوْحاء بلد تقع على بُعد 75 كيلومتراً من المدينة.
وفي رفع الصوت بالتلبية قهر للوسواس وطرد للنعاس ، وهو أيضا أجلب للخشوع وأقرب للدموع ، والنساء في التلبية كالرجال لعموم الأحاديث الواردة في ذلك ، فيرفعن أصواتهن ما لم تُخشَ الفتنة.

معين الملبين
مما يعينك على التلبية بشارة النبي – صلى الله عليه وسلم – لك : ” ما أهل مُهِلّ قط ولا كبّر مُكبِّر قط إلا بُشِّر “. قيل : يا رسول الله .. بالجنة؟! قال : نعم. ( حسن ) انظر حديث رقم : 1621 في السلسلة الصحيحة.
ومما يعينك على التلبية قول النبي – صلى الله عليه وسلم – : ” ما من مُلبٍّ يلبي إلا لبّى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من هاهنا وهاهنا عن يمينه وشماله “. ( صحيح ) انظر حديث رقم : 2363 في صحيح ابن ماجة.
ومما يعينك على التلبية أن تتأكد أن كل ما مررت عليه من زرع وشجر وجماد وحجر سيشهد في حقك أمام الله يوم القيامة. قال أبو الدرداء – رضي الله عنه – : اذكروا الله عند كل حجيرة وشجيرة لعلها تأتي يوم القيامة فتشهد لكم.
ومما يعينك على التلبية أن تحس أن تلبيتك ما هي إلا طلب في إلحاح ودعاء في إصرار أن يحضر قلبك ويفيض دمعك وتخشع جوارحك.
ومما يعينك على التلبية أن تحدّث نفسك بقرب الوصول إلى الكعبة المشرفة ، فيزداد شوقك مع كل خطوة ، وكلما دنوت شبرا زادت ضربات قلبك لهفة واضطربت مشاعرك لوعة.

لبيك لبيك! ضجّ الركب وانطلقت جموعه والنشيد العذب يدفعه
أصداؤه في فجاج الأرض صاخبة والبِيد في رحبها نشوى تُرَجِّعُه
وفي الجوانح من وَجْدٍ ومن وَلَهٍ ما جاش في النفس حتى فاض مَتْرَعُه
ما الطير مارقة الأجواء ضاحكة ما الزهر في الروض أذكاه وأضوعه
أنقى وأجمل من ترداد تلبية يشدو بها محرمٌ والكون يسمعه

كلمات لها ما بعدها
تعقد المعاهدات دومًا في بداية أمر ما ، والتلبية معاهدة مقدّسة بين العبد وربه ، فهي ليست نهاية بل بداية ، ومن عاد من الحج فقد رجع بعد أن أبرم العهد مع الله ، ليعود بعدها من مقام العهد إلى مقام العمل ، ومن وعد اللسان إلى تصديق الجوارح ، فعملك الحقيقي أخي المشتاق إنما يبدأ بعد حجك ، لذا فالواجب عليك أن تخجل من مخالفة الله بعد انطلاق هذه الكلمات من فمك ، فإن رجوع الرجل عن وعده لمخلوق ضرب من الدناءة وانخلاع من صفات الرجولة ، فكيف إذا كان الوعد مع الخالق؟!

وأما دخول مكة :

فاستشعر قدرها وعظمتها وأنها مهبط الوحي ، وقبلة الدنيا ، وموطن الأمن والأمان ، فيها وُلد خير خلق الله ، وفيها ماء زمزم خير ماء على وجه الأرض ، وفيها الحجر الأسود الذي هو من الجنة ، ولطهارتها ليس فيها دين غير الإسلام ، ولا يدخلها غير مسلم ، وهي أحب بقاع الأرض إلى الله ورسوله ، ومن كرامتها على الله أن نية المرء بالمعصية فيها تعرضه إلى عذاب الله ، ومن كرامتها أنه لا يجوز حمل السلاح فيها إلا للضرورة ، ومن كرامتها أنه يحرم صيدها على جميع الناس ، بل ولا ينفر صيدها ، ولا يُقطع شجرها ، ومن كرامتها أن الدجال سيدخل جميع البلاد إلا مكة ، وحين يقدمها يخسف به ومن معه.

طُف بي بمكة إني هدني تعبي واترك عناني فإني ها هنا هدفي
ودَعْ فؤادي يشدو في جوانبها ففي مرابعها يهيم القلب من لهفي

احذر أخي أنت الآن في بلد الله الحرام ، وهو بلد تُضاعف فيه الحسنات وكذلك السيئات ، لأن من عصى الملك على بساط ملكه ليس كمن عصاه بعيدا عن داره ، وقد توعّد الله عز وجل من يُرِد فيه الفساد بعذاب اليم فقال :  (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)  [الحج: من الآية25].

قال ابن كثير رحمه الله : أي يُهِمّ بأمر فظيع من المعاصي الكبار ، وقال ابن مسعود – رضي الله عنه – : الهمة في الحرم تُكتب ذنبا

، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال :” أبغض الناس إلى الله ثلاثة : مُلحِد في الحرم ، .. “.( صحيح ) انظر حديث رقم : 40 في صحيح الجامع ، و في الصحيحة 778 ، وأخرجه البخاري في صحيحه.
قال ابن حجر العسقلاني في فتح الباري : وظاهر سياق الحديث أن فعل الصغيرة في الحرم أشد من فعل الكبيرة في غيره.

ولأن الله قد جمع في الحج حرمة الزمان وحرمة المكان ، فقد أرسل عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – تحذيره الشديد إلى أهل مكة وإلى كل من سكن مكة فقال :” يا أهل مكة .. اتقوا الله في حرمكم هذا. أتدرون من كان ساكن حرمكم هذا قبلكم؟ كان فيه بنو فلان ، فأحلوا حرمته فهلكوا ، وبنو فلان فأحلوا حرمته فهلكوا ، حتى عدّ ما شاء الله ، ثم قال : والله لأن أعمل عشر خطايا بغيره أحب إليّ من أعمل واحدة بمكة “.

ومن أكثر الذنوب شيوعا في مكة إطلاق البصر لاختلاط الرجال بالنساء أثناء الطواف وغيره .

قال ابن الجوزي (ت : 597هـ) : ” اعلم أن غضّ البصر عن الحرام واجب ، ولكم جلب إطلاقه من آفة ، وخصوصاً في زمن الإحرام وكشف النساء وجوههن ، فينبغي لمن يتقي الله عز وجل أن يزجر هواه في مثل ذلك المقام ، تعظيماً للمقصود ، وقد فسد خلق كثير بإطلاق أبصارهم هنالك “.وأما دخولك المسجد الحرام : فكأنك تستأذن الله في الدخول عليه والوقوف بين يديه والكون في حضرته ، فكن على مستوى الحدث وجلال الموقف ، واشعر بما شعر به علي الطنطاوي حين دخل المسجد الحرام فقال مناجيا ربه :

” إن ذنوبي سوّدت صحيفتي ، وأنا لا أستحق الدخول عليك ، ولكن الكريم يقبل من يكون مع الضيف إكراما للضيف ، وأنت أكرم الأكرمين ، فهل تطرد من بابك من جاء مع أضيافك؟! “.

وأما وقوع البصر على البيت :

فاحسب نفسك أمام الله وفي حضرته داخل بيته المقدس ، واملأ قلبك بالعظمة الإلهية والهيبة الربانية وأنت تري جموع الطائفين التي لا تنتهي ، وليرتجف قلبك وأنت تتأمل هذا الموكب الذي وصفه أستاذنا الطنطاوي فقال :
” لا يزال يمشي لا ينقطع ساعة لا في حج ولا في غير حج ، لا في ليل ولا نهار ، لا في صيف ولا شتاء ، منذ بنى إبراهيم هذه البَنِيّة من خمسة آلاف سنة إلى الآن ، إنكم لتعجبون إن رأيتم موكبا يسير خمس ساعات لا ينقطع ، أو جيشا يمر أمامكم خمسة أيام لا ينفد ، فكيف وهذا الموكب يمشي مستمرا متصلا لم ينقطع سيره ساعة واحدة من خمسة آلاف سنة!! “.

واملأ عينك بالنظر إلى الكعبة حتى تسد الأفق أمامك ، فإن لذلك سحرا عجيبا وأثرا بالغا في تعظيم أمر الله وزيادة قوة الإيمان ، وراحة القلب وطمأنينة البال ، وقهر الوساوس وقتل الأحزان ، وصدق ابن القيِّم حين وصف البيت فقال :
إذا ما رأته العين زال ظلامها وزال عن القلب الكئيب التألم

واعلم أن الكعبة ليست أحجارا وأستارا ، وإنما هي كما وصفها عمر بهاء الدين الأميري فقال شارحا مذهبه :

الكعبةُ الشَّماءُ في مذهبي قيمتُها ليستْ بأحجارِها
والقُربُ مِنْ خالِقِها ليسَ في تَشَبُّثِ المرءِ بأستارها
قُدسيَّةُ الكعبةِ في جَمْعِها أُمَّتَنا مِنْ كُلِّ أقطارِها

وأنها محورُ أمجادها وأنها مصدرُ أنوارِهاواستحضر بقلبك معاني الحب ولقاء الحبيب ، وحصول المنى برؤية بيت الله والتشرّف بالوقوف فيه ، واشكر الله تعالى على تبليغه إياك هذا الشرف ، وإلحاقه إياك بزمرة الوافدين عليه ، وأحسن الظن أنه لن يضيع جهدك سدى قائلا :

وما أظنك لما لبّى القلب دعوتكم شوقا إلى الدار تدنيني من النار
وها أنا جارُ بيتٍ أنت قلتَ لنا حجوا إليه وقد أوصيت بالجار

وأما الطواف بالبيت :

فاعلم أنك في صلاة فاعصر قلبك لتُخرج منه كل معاني الخوف والاحترام والتبجيل لأنك في حضرة ملك الملوك ، فقلبك منظور ، وعملك مشهود ، وطوافك مرقوب ، واعلم أن الطواف هو أحب عمل يُتقرب به إلى الله في بيته ، فاستزد منه ما استطعت.

ولماذا عكس عقارب الساعة؟!

والجواب : كأنك تطوف باتجاه الماضي ، لتتصل بالجذور ، وتعب من الينابيع الأولى ، وترتبط بتاريخ بالنبوة الخالد ، وتستلهم الهُدى من مهبط الوحي ، وتعيش على هذه البقعة المباركة فترة من الزمان ، مستحضرا ذكريات النبي – صلى الله عليه وسلم – وصراعه الطويل مع الباطل ، ومُقدِّرا تضحياته العظيمة لتصلك الرسالة نقية جلية وأنت على فراشك!!

إنها كذلك رحلة في ماضيك أنت ، لتقف على أخطائك ، وتكتشف مواطن الخلل في تاريخك ، فتعود لصناعة مستقبل أفضل بعيدا عن زلات الماضي وعثرات العمر ، لتكون الخطوات القادمة راسخة وفي الاتجاه الصحيح بإذن الله.
وانْوِ وأنت ترمل في الأشواط الثلاثة الأولى من طواف القدوم أنك هارب من ذنوبك فارٌّ من خطاياك ، وإذا مشيت في بقية الأشواط فما هو إلا أثر الرجاء الذي ملأ قلبك بأن يغفر الله ذنبك ويقبل عَوْدك.
واستشعر أنك بالطواف متشبه بالملائكة المقربين الحافين حول العرش الطائفين حوله ، فأنت تطوف عندك والملائكة تطوف فوقك ، وفي نفس النقطة وبنفس الحركة التي تتحرك بها بل وفي نفس الاتجاه ، فاستحضر عندها أنك تطوف حافيا حول العرش ترجو الرحمة وتطلب الرضا وتتمنى القبول.وتأمّل خشوع الملائكة وذلهم لله تبارك وتعالى ، وقلّدهم واقتد بهم تبركا وتشبها ، فقد قال رسول – صلى الله عليه وسلم – :” من تشبه بقوم فهو منهم “. ( صحيح ) انظر حديث رقم : 6149 في صحيح الجامع.

وشاهد هذا المشهد بعين بصيرتك ، وأصغِ إليه بسويداء قلبك لتسمع هذا الهدير الذي لن تخطئه أذنك بإذن الله ، وكأنه ترنيمة تقديس أو أنشودة تسبيح تنطق بها كل الكائنات لا الحجاج وحدهم ، وتفكر كيف لو أتيح لك أن تسمع على الحقيقة تسبيح كل الخلائق مرة واحدة ” وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ” ] الإسراء : من الآية44 [ ، فإنك إن استشعرت ذلك زاد إيمانك وعلا يقينك ولا شك.

تناغم مع الكون
قال عز وجل : ( وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) [ يس : من الآية40 ]
تلفت هذه الآية الأنظار إلى الحركة الدورانية أو الطواف كسنة كونية تتجلى في الخلق كله ، فالذرة لا ترى بالعين المجردة ، ومع ذلك تدور الإلكترونات فيها حول النواة في مدارات خاصة ، ويعني ذلك أن جميع ذرات المواد الصلبة والسائلة والغازية في هذا الكون تعمل فيها ظاهرة الطواف ، بل حتى سائل الخلية يطوف حول نواتها!! فالكل في هذا الكون يطوف ، والذي يطوف حول البيت إنما يساير سنن الله الكونية ويتوحد مع مخلوقاته ، ويصير ترسا في نظام كوني محكم خاضع لله يسبح الله ويمجده ويطيع أمره ولا يجحده.

حتى لا تملوا
اجعل لكل شوط عملا خاصا به ، فمثلا : اجعل الشوط الأول للاستغفار ، والثاني ادع فيه لنفسك ولأهلك ، والثالث اذكر الله تعالى فيه ، والرابع تذكر نعمة الله عليك من ساعة خلقك حتى مجيئك إليه في بيته ، والخامس ادع فيه للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها لنصرة الإسلام والمسلمين ، والسادس ادع فيه لوالديك خاصة ، والسابع اطلب منه عز وجل القبول ، ويمكنك بعد ذلك أن تجعل لكل طواف هدفا ، فطف طوافا للذكر فقط وآخر للدعاء وهكذا..،

وأخلص في الطواف وأحضر قلبك فيه مستحضرا أنه استجداء الملحين من الكريم أن يغفر ، وتكرار الطلب منه أن يقبل ، وأكثر من الطواف ثم أكثر منفذا وصية علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – :” استكثروا من الطواف بهذا البيت قبل أن يُحال بينكم وبينه “.

وأما استلام الحجر الأسود :
فاستشعر عند استلامك الحجر الأسود ( مسحه باليد ) أو تقبيلك له أو إشارتك إليه بشيء كالعصا ونحوها ثم تقبيل ذلك الشيء أو إشارتك إليه بيدك ( كل ذلك ورد ) أنك تبايع الله على طاعته فيجب عليك الوفاء ، لأن الحر الكريم لا ينكث عهده ولا يخلف وعده ، ومن غدر استحق المقت والإبعاد ، ومن تكرر منه نقض العهد لم يوثق به بعد ذلك على الدوام. قال عكرمة (ت : 105 هـ) : “الحجر الأسود يمين الله عز وجل في الأرض ، فمن لم يدرك بيعة رسول الله ، فمسح الركن فقد بايع الله ورسوله “.

واشتق إلى الجنة لأنك تقبل قطعة منها ، فنسائم الجنة تفوح ، وأنوارها تلوح. قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ” نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضاً من اللبن فسوَّدته خطايا بني آدم “. ( صحيح ) انظر حديث رقم : 6756 في صحيح الجامع

 فاستحضر عندها ذنوبك السوالف كيف سوَّدت الحجر الأصم ، أفلا تسوِّد قلبك المسكين وهو من لحم ودم؟! قال عليه الصلاة والسلام : ” لولا ما مس الحجر من أنجاس الجاهلية ما مسّه ذو عاهة إلا شفي ، وما على الأرض شيء من الجنة غيره “. ( صحيح ) انظر حديث رقم : 5334 في صحيح الجامع.
ولذا ( كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا يدع أن يستلم الركن اليماني والحجر في كل طوفة ). ( حسن ) انظر حديث رقم : 1652 في صحيح أبي داود ، ولعل شفتيك تلامس موضع شفتي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فتسعد سعادة الأبد ، وهذا من علامات المحبين الصادقين : الأنس بآثار الحبيب ، ولا سيما إذا تعذّر اللقاء وطال الفراق.

أمر على الديار ديار ليلى فألثم ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا

واغتنم أوقات السحر حين يقل الزحام كما اغتنمها قبلك محمد ضياء الدين الصابوني ثم قص علينا تجربته قائلا :

كعبة الحسن تبدَّت سحرا ما أحلاها بوقت السحر
كلما طُفت بها في لهف هزني الشوق للثم الحجر
فرسول الله قد قبَّله كيف لا أهنا بلثم الحجر

أجر يمحو المشقة
أرشدنا – صلى الله عليه وسلم – إلى فضل ذلك في قوله :” إن لهذا الحجر لسانا و شفتين يشهد لمن استلمه يوم القيامة بحق “. صحيح حديث رقم (2184) في صحيح الجامع.
وقوله – صلى الله عليه وسلم – :” إن مسح الحجر الأسود و الركن اليماني يحطان الخطايا حطا “. صحيح انظر حديث رقم (2194) في صحيح الجامع.

إياك والمزاحمة
عن عابس بن ربيعة قال : رأيت عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يُقبل الحجر ويقول :إني أقبلك وأعلم أنك حجر ، ولولا أني رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقبلك لم أقبلك.
وكان عمر – رضي الله عنه – قد امتثل لوصية النبي – صلى الله عليه وسلم – حين قال له :
” أنت رجل قوي لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعيف ، إن وجدت خلوة فاستلمه وإلا فاستقبله وهلل وكبّر “. صحيح انظر حديث رقم 185 في مسند أحمد وصححه الألباني في الحج الكبير

والعمل على هذا عند أهل العلم فهم يستحبون تقبيل الحجر ، فإن لم يمكنك استلمته بيدك ، فإن لم تصل إليه استقبلته بوجهك إذا حاذيته وقلت : بسم الله .. الله أكبر ، واحذر فقد يكون إثم إيذاء مسلم ومدافعته أعظم من ثواب تقبيل الحجر واستلامه ، فإن تقبيل الحجر سنة وإيذاء المسلم حرام ، فهل يليق بك أن تقع في الحرام لتحقق سنة؟!

للنساء أوجب
قالت مولاةٌ لأم المؤمنين عائشة : يا أم المؤمنين! طفتُ بالبيت سبعا ، واستلمتُ الركن مرتين أو ثلاثاً. قالت عائشة : لا آجركِ الله .. لا آجرك الله .. تدافعين الرجال؟! ألا كبّرت ومررتِ!!

الدعاء قلب لا فصاحة
جاءت امرأة من الأعراب إلى الحجر الأسود فسمعت طائفة منهم يدعون بدعاء حسن ، ويسألون مطالب لهم ، فقالت : اللهم إنك تعلم أني لا أحسن مثل دعائهم ، وتعلم أني أسأل منك مثل الذي يسألون ، فأعطني مثل ما تعطيهم ، ثم انصرفت!!

وأما الالتصاق بالملتزم :
وفي الالتزام اقتداء بالنبي – صلى الله عليه وسلم – في التصاقه بالملتزم فقد ( كان يلزق صدره ووجهه بالملتزم ). حديث حسن رقم ( 5012) في صحيح الجامع ، والملتزم هو ما بين باب الكعبة والحجر الأسود ، ويُقَال له أيضا : المدعا والمُتَعَوَّذ وهما من أسماء المُلتَزَم ، وسُمِّي الملتزم لأن الناس يعتنقونه ويضمونه إلى صدورهم ، فأنت تلصق صدرك حيث ألصق النبي – صلى الله عليه وسلم – صدره ، وتدعو حيث دعا ، وتخالط أنفاسك أحجار الكعبة التي تشرفت بملاقاة أنفاس الحبيب وزفراته.وفي الالتزام طلب القرب وإظهار الشوق إلى البيت ورب البيت.

وفي الالتزام تبرك بمماسة الكعبة ورجاءُ التحصن من النار لكل جزء من بدنك لامس أحجارها.
وفي الالتزام إلحاح في طلب المغفرة وسؤال الأمان كالمذنب المتعلق بثياب من أذنب في حقه ، المظهر أنه لا ملجأ له منه إلا إليه ، ولا مفزع له إلا كرمه ، وأنه لن يفارق ذيله إلا إذا عفا وصفح وأنعم وغفر ، ولذا كان الحسن البصري { ت : 110هـ } إذا رأى الملتزم تعلق به وقال لمن معه :
تنحوا عني حتى أقرّ لربي بذنبي.

وأما الصلاة في مقام إبراهيم :
فإذا انتهيت من الطواف فاقرأ : ” وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً ” { البقرة : من الآية125 } ، ثم تقدّم إلى مقام إبراهيم فصلِّ ركعتين كأنك بهما تشكر الله أن بلّغك مرادك ووفّقك لغايتك.
ومقام إبراهيم هو الحَجَر الذي كان الخليل يعلوه عند بنائه البيت ليتمكن من رفع الحجارة ، لذا يعتبر أكبر مساهم في بناء بيت الله الحرام ، وما يدرينا لعلنا أُمرنا بالصلاة خلفه ردا للجميل ، فقد قدّم هذا الحجر أكبر خدمة لبناء بيت الله وأعظم مساعدة لنبي الله ، فاستحق أن يُصلّى خلفه ليتشرف بأعظم عبادة من أطهر عباد ، فاغرس في قلبك أعظم الرجاء ، وكيف لا وقد كافأ الله الحَجَر على إحسانه ، فكيف لا يكافئ البشر وقد زاروه طمعا في فضله ورضوانه؟!واستشعر عراقة النسب بينك وبين أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام ، وتأمل أوجه التشابه بين حجتك وبين ما فعل ، فقد فارقتَ وطنك كما فعل إبراهيم عليه السلام حين خرج من العراق متوجهًا إلى الحجاز ، وتخليتَ عن ملابسك ولففت حول جسدك رداءين بسيطين يشبهان اللباس الذي ارتداه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، وطفتَ حول الكعبة كما طافا ، وستسعى بين الصفا والمروة مقلدا سعي هاجر بحثاً عن الماء ، وستنحر قربانك كما فعل إبراهيم حين افتدى ولده ، وسترمى الشيطان بالجمرات مكررا عمل إبراهيم حين رمى الشيطان بالجمرات ، فتذكّر هذا التاريخ وامزج صلاتك بذكرى نبي الله إبراهيم الذي ضحّى وبذل وجاهد وصبر حتى استحق تقدير الله له بأن جعله أمة وحده ، بل وقرّبه وأدناه منه حتى أنعم عليه بلقب الخليل.

وأما الشرب من زمزم :
ثم انزل للشرب من زمزم المباركة لقول النبي – صلى الله عليه وسلم – :
* ” ماء زمزم لما شُرِب له “. ( صحيح ) انظر حديث رقم : 5502 في صحيح الجامع ، وذلك لأن زمزم سقيا الله وغياثه لولد خليله إبراهيم فبقي غياثاً لمن بعده ، فمن شربه بإخلاص وجد ذلك الغوث.
* ” خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم ، فيه طعام من الطعم و شفاء من السقم “. ( صحيح ) انظر حديث رقم : 3322 في صحيح الجامع.
وليس أدل على بركتها من أن الله اختار ماءها لغسل قلب سيد المرسلين محمد – صلى الله عليه وسلم – ، لما لهذا الماء من دور في تطهير القلوب وتقوية الأرواح ، وفهم الصحابة بركتها فكانوا يسمونها شَبَّاعة حتى قال عنها عبد الله بن عباس – رضي الله عنه – : ” وكنا نجدها نعم العون على العيال “.( صحيح ) انظر حديث رقم : 2685 في السلسلة الصحيحة.

وفهِم علماؤنا الأجلاء قدرها فكان الإمام الشافعي يشربها بنية عجيبة ويخبرنا عن ذلك بقوله :شربنا ماء زمزم لتعلم العلم فتعلمناه ، ولو شربناها للتقوى لكان خيرا لنا.

ولما أتاها عبد الله بن المبارك (ت : 181هـ) شرب شربة , ثم استقبل القبلة , وقال : اللهم إن ابن أبي الموال حدثنا عن محمد بن المنكدر عن جابر عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال : ” ماء زمزم لما شُرب له ” ، وهذا أشربه لعطش القيامة ثم شربه.
ذكاء طالب علم
قال أبوبكر الحميدي : كنا عند أبي محمد سفيان بن عيينة (ت : 198هـ) فحدثنا بحديث زمزم إنه لما شرب له ، فقام رجل من المجلس ، ثم عاد فقال : يا أبا محمد .. أليس الحديث صحيحا الذي حدثتنا به في زمزم أنه لما شُرِب له؟! فقال سفيان : نعم. قال : فإني شربت الآن دلوا من زمزم على أنك تُحدِّث بمائة حديث ، فقال سفيان : اقعد ، فحدّثه بمائة حديث.

تعلّم من الأعراب
إن خانك لسانك ولم تُسعِفك فصاحتك ، فليس أقل من أن تكون مثل هذا الأعرابي الذي وقف على زمزم فوجد الناس يشربون ، ويسألون مطالب لهم مختلفة ، فرفع إناء مملوءا منها إلى فمه وقال : اللهم إن هؤلاء قد اختاروا لأنفسهم ، فاختر أنت لي ، ثم شرب.
فجهّز أخي المشتاق كل ما ترغب فيه من نوايا ودعوات ورجاء وأمنيات لتتقدم بها إلى الله وأنت تشرب من ماء زمزم ، فإنك مُجاب بإذن الله.

وأما السعي بين الصفا والمروة :
فاستشعر أنك عبد تسعى بين يدي مولاك ذاهبا وآتيا مرة بعد أخرى إظهارًا لإخلاصك له .. رجاء أن يلمحك بعين الرحمة ، ويشملك بعطايا خير ومِنَح بِرّ تطلّق بعدها الشقاء إلى الأبد ، ولا تزال تسعى مرة بعد مرة ترجو أن تُرحم في الثانية إن لم تُرحم في الأولى.
واستشعر كذلك أنك تبحث عن شيء هنا وهناك وتنشد ضالة هي عندك أغلى ما تملك وهذه الضالة هي رحمة الله تعالى ، عسى الله أن يرحمك برحمته الواسعة كما رحم هاجر وابنها فأفاض عليهما ماء زمزم ، فالسعي في حقيقته ركض في طلب الرضا ، وتشمير لنيل الأجر ، وكدح لجمع الحسنات وحط السيئات.

وتعلّم الثقة بالله والتوكّل عليه ، إذ أن الصفا والمروة من شعائر الله ، والشعيرة هي العلامة أو التذكار ، ذلك أن الصفا والمروة يذكِّران بأصل عظيم هو الثقة بالله والتوكل عليه ، فقد أسكن إبراهيم عليه السلام زوجه وابنه في منطقة جرداء لا زرع فيها ولا ماء امتثالا لأمر الله ويقينا فيه مع انقطاع الأسباب ، وأطاعت زوجه هاجر الأمر قائلة في يقين : آلله أمرك بهذا؟! إذن لن يضيّعنا ،

فكانت نِعم العون لزوجها على طاعة الله حين قالت : اذهب لما أمرك الله ، فأحب الله منهما هذا الصنيع ، وخلّد ذكره على مر الأجيال لنقتدي به ونتعلّم منه ، فجعل الصفا والمروة من أركان الحج والعمرة لتظل أبدا تنطق بهذا المعنى وتتكلم ، وأبقى زمزم تفيض بالماء إلى قيام الساعة ببركة هذا التوكل ليستلهم الناس هذا المعنى ، ويملئوا الروح به كلما اغترفوا منها وشربوا.
وتعلم الإصرار واقتل اليأس فقد كانت هاجر تسعى هنا وهناك دون أن تهدأ حتى حصلت على بغيتها عن طريق تكرير سعيها سبع مرات! بتصميم وثبات وعدم يأس من تحقيق هدفها ، في رحلة أصدق ما توصف به أنها رحلة الألم والأمل ، ولقد كان بإمكانها أن تُعذِر إلى الله بأن تسعى مرة أو مرتين.

إنه الدرس العظيم في حقيقة الإيمان الراسخ ، وفي إثبات أن رحمة الله فوق اليأس ، وأن الإيمان واليأس لا يجتمعان في نفس المؤمن ، وأن نفس المؤمن فوق قوى الطبيعة.

وابذل الأسباب وتعلّق بربها فقد سعت هاجر بحثا عن الماء حتى انفجر تحت قدم إسماعيل ، ليس في المكان الذي سعت فيه بل في مكان آخر أمام الكعبة وتحت قدم رضيع لا حول له ولا قوة ، دلالة على أن الأخذ بالأسباب واجب لكنه ليس سبب النجاة ، بل الأمر كله لله الذي أمر جبريل فضرب بجناحه تحت قدم إسماعيل لتتفجّر زمزم بضربة ملَك تحت قدم نبي ، فتعلّم الدرس وامضِ سعيا وراء الأسباب على أن تتعلّق بربها ، وابذل غاية المجهود ليعين الرب المعبود.

وأما الحلق :

وبعد الانتهاء من السعي يبقى ركن واحد حتى تتحلل من إحرامك وهو أن تحلق ، وكأنك تزيل عنك كل ما يذكرك بالماضي لتفتح صفحة جديدة مع الله ، وهو تفاؤل بحطّ السيئات ، وانسلاخ من حياة الإثم ، وتوبة مما مضى ، وعزْم على إصلاح ما بقي ، وليس الحلق محوا السيئات فحسب بل ربحا للحسنات كذلك ، وقد مرّ بك : ( فإن لك بكل شعرة تسقط حسنة ). ( حسن ) انظر حديث رقم : 1360 في صحيح الجامع.

وتذكّر عند الحلق أنك طأطأت رأسك لتحلق شعرك معلنا أنك راض بفعل كل شيء يُرضي الملك ، وأنك أسلمت ناصيتك له ليس الآن فحسب بل وفي كل وقت وحين.
والحلق أوْلى فقد ترحّم النبي – صلى الله عليه وسلم – على المحلقين ثلاثا , وعلى المقصرين مرة ; لأن الحلق أكمل امتثالا للأمر ، فالإنسان يحب بقاء شعره للزينة والتجمل , وقد يتألم من حلقه , فإذا حلق هذا الشعر طواعية , كان ذلك دليلا على كمال عبوديته لله و تضحيته في سبيله.

يوم التروية :
اليوم هو اليوم الثامن من ذي الحجة المعروف باسم يوم التروية ، وسُمّي بذلك لأن العرب كانوا يملئون قربهم في ذلك اليوم ويرتوون ليوم عرفات إذ لم يكن فيها يومئذ ماء ، فاستحضر في هذا اليوم معنى التزود للآخرة ، واعترف بعطشك الشديد لزاد التقوى والإيمان ، وحاجتك الماسّة لغيث الهدى والإحسان ، واستشعر أنك ساع في سفر طويل بزاد قليل ، فاملأ حنايا قلبك اليوم بما تستطيع من ماء التقوى ذلك خير.
وهذه الليلة ليلة مصيرية في عمرك ، فغدا يوم عرفة ؛ وهو أهم يوم في الحج بل أهم يوم في حياتك ، فغدا ترجع من ذنوبك كيوم ولدتك أمك ، وغدا تبدأ بداية جديدة مع الله ، وغدا تهزم الشيطان وتبطل كيده.
والذهاب إلى منى فيه إعداد نفسي لك قبل وقوفك بعرفة حيث الانقطاع في الصحراء للعبادة فقط فلا مخالطة للناس ولا تشتيت للهم ، ومن فاته المبيت بمنى جاز حجه لكن فاته خير كثير.واستشعر الخوف وأنت في منى من عدم قبول حجتك وردك غدا على أدبارك مطرودا غير مقبول ، وهل ستكون ممن اطلع الله على قلوبهم فرضي عنهم أم علم خبثهم فسخط عليهم؟!
واقلق من عدم توفيق الله لك ، فلعلك لا تصل غدا إلى عرفة فتضيع حجتك وتُحرم الخير كله ، فهل ستدرك الموقف أم لا؟! وهل ستعيش حتى تصل هناك أم أن الموت سيدركك قبل ذلك؟!

وأما الوقوف بعرفة وما أدراك ما عرفة :
فاعلم أن اليوم فاصل لك بين عهدين ، وتحول جذري في مسار حياتك ، ولذا حصر رسول الله- صلى الله عليه وسلم – الحج فيه فقال : ” الحج عرفة “. ( صحيح ) انظر حديث رقم : 3172 في صحيح الجامع.

واستشعر مثولك أمام الله في ميدان الحشر ، وحيرتك في هذا الموقف بين الرد والقبول ، وطمعك في شفاعة الرسول ، وأجْرِ على نفسك اليوم تأملا ما سيجري عليك غدا حقيقة وواقعا.
وألزم قلبك الضراعة والخشوع والتوبة والخضوع ، وأخرج كل خاطر من خواطر الدنيا من قلبك ، وأقبل على الله بكل ذرة من كيانك ، فمنذ سنين وأنت تحاول الوصول إلى ساحل القبول وما أدركت الشط ، وها هو اليوم أمامك على مرمى البصر ، فإن كتبت جواب توبتك بدموع الأسف غُفِر لك ما قد سلف.

وأشهر فيه إفلاسك واعترف بفقرك ، وأقر بعجزك وجهلك ، واستحضر صحيفة ذنوبك الماضية وقبيح سوابقك المهلكة ، واذكر الساعات الضائعة من عمرك ، واندم على التفريط في زمن الصبا ، فكم أتعبت الحفظة سنين ، وسهرت في المعاصي حينا بعد حين ، وأظهر الفاقة والمسكنة حتى تكون ممن مستحقي للصدقات ، ألم تقرأ قول ربك : ” إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ” [ التوبة : من الآية60]

 وتعبيرا عن ذلك : ارفع يديك إلى صدرك متمثِّلا أعلى درجات الذل والعبودية مقلدا نبيك الذي قال عنه ابن عباس – رضي الله عنه – : رأيتُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يدعو بعرفة ويداه إلى صدره كاستطعام المِسكين.

يا الله .. يفعل هذا وقد حُشرت له جزيرة العرب عن بكرة أبيها بقبائلها وأبطالها وشعرائها وبطونها ، تأتمر بإشارة واحدة منه ، لكنه – صلى الله عليه وسلم – كان كلما ملك زاد فقرا ، وكلما علا سجد ذلا ، لعلمه أن الفضل كل الفضل لله رب العالمين ، فليتعلَّم ذلك كل من مسته نفحة كبر أو أصابته نوبة غرور ليتواضع.

وأكثر فيه من الدعاء ، فهو عبادة الوقت وأفضل الأعمال في هذه الساعات ، وأقرب دعاء من القبول على الإطلاق ، فإن ” أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة “. ( حسن ) انظر حديث رقم : 1102 في صحيح الجامع

 والدعاء معناه الأمل ، والأمل معناه اليقين ، وفي اليقين الراحة الغامرة والسكينة الرائعة التي لا تساويها كل كنوز الدنيا.
وقد منعك الله من صيام هذا اليوم وحّرمه عليك حتى لا تضعف عن الدعاء ، ، وفي قصر الصلاة وجمعها اليوم دلالة واضحة على ذلك ، وكأن المقصود أن يطول دعائك وتضرعك إلى أقصى ما تستطيع ، فسبحان من أعانك على ما فيه نفعك ثم تنساه!! وأرشدك إلى ما فيه فوزك ثم تغفل عنه!!
قلد نبيك وإلا..
لا تضيع اليوم لحظة واحدة مقتديا في ذلك بنيك – صلى الله عليه وسلم – الذي شغله الذكر والدعاء يوم عرفة عن كل شيء حتى عن طعامه وشرابه ، حتى ظن كثير من الصحابة أنه صائم ، فعن أم الفضل بنت الحارث أن ناسا تماروا عندها يوم عرفة في صوم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ، فقال بعضهم هو صائم وقال بعضهم ليس بصائم ، فأرسلت إليه بقدح لبن وهو واقف على بعيره بعرفة فشرب. ( صحيح ) انظر حديث رقم : 2132 في صحيح أبي داود وهو في البخاري ومسلم.نعم لم يضيع لحظة واحدة ، وكأنه يقول لك : الوقت اليوم لا يقدر بثمن ، فكل لحظة تُنفقها في غير طاعة أعظم خسارة ، ودعاك إلى ذلك بفعله لتكون استجابتك أسرع وطاعتك أقرب ، فعن أسامة بن زيد – رضي الله عنه – : ” كنتُ رديف النبي – صلى الله عليه وسلم – بعرفات فرفع يديه يدعو ، فمالت به ناقته فسقط خطامها ، فتناول الخطام بإحدى يديه وهو رافع يده الأخرى “. ( صحيح ) انظر حديث رقم : 2961 في سنن النسائي وحديث رقم : 20820 في مسند أحمد.
واسمع إلى حديث جابر – رضي الله عنه – وتعلم منه : ” …..، ثم ركب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته إلى الصخرات ، وجعل جبل المشاة بين يديه ، واستقبل القبلة فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس “. ( صحيح ) انظر حديث رقم : 2494 في صحيح ابن ماجة.
تأمل قوله : ” فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس “… داعيا دون ملل ، راجيا دون كلل ، وظل على تلك الحال حتى بعد غروب شمس عرفة وأثناء سيره لمزدلفة ، وهو وقت ينشغل فيه الناس بالزحام إن لم يكن بالجدال واللغو من الكلام ، لكن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يُعلمنا غير ذلك حيث أفاض – صلى الله عليه وسلم – وردفه أسامة بن زيد ، فجالت به الناقة وهو رافع يديه لا تجاوزان رأسه فما زال يسير على هينته حتى انتهى إلى جمع (مزدلفة).

العجلة من الشيطان
قال النبي – صلى الله عليه وسلم – : ” أنا دعوة إبراهيم ، وكان آخر من بشَّر بي عيسى بن مريم “. ( صحيح ) انظر حديث رقم : 1463 في صحيح الجامع.ومن العجيب أن بين دعوة إبراهيم : ? رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ? [البقرة : 129] وبين إجابتها ببعثة النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – ما يزيد على ألفي عام ، فلماذا يتعجل المتعجلون ؟ ولماذا يقنط الداعون ، ولماذا يتذمرون ويقولون : دَعَوْنا دَعَوْنا فلم يُستجب لنا؟ مع أن الإجابة أكيدة فالخير عميم والرب كريم والفضل عظيم وحق الزائر مصون وتعبه غير مضيع.

متى تدعو في حجتك؟
قال ابن القيم [ت : 751هـ] رحمه الله في زاد المعاد :
” تضمنت حجته – صلى الله عليه وسلم – ست وقفات للدعاء :
* … الموقف الأول :على الصفا
* … والثاني : على المروة
* … والثالث : بعرفة
* … والرابع : بمزدلفة
* … والخامس : عند الجمرة الأولى
* … والسادس : عند الجمرة الثانية “.

وأحسن الظن بالله ، فالموقف موقف إجابة ، والساعة ساعة إجابة ، وكل ما في الموقف يدعو إلى الإجابة ، فما أقربك اليوم من الله وأنت لا تشعر ، وما أحبك إليه وأنت لا تُبصر ، وما أعظم رحمته بك وأنت من القانطين ، ويكفيك أنه ( ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا أو أمة من النار من يوم عرفة ). ( صحيح ) انظر حديث رقم : 5796 في صحيح الجامع.

ولذا كان من أعظم الذنوب أن يحضر عبد عرفة وهو يظن أن الله تعالى لن يغفر له ، وكان أول ذنب تقترفه فور النزول من عرفة أن يبادرك شك أن الله لم يغفر لك ، فإلى كل مريض أعيى أطباء القلوب وأحيا مجالس الذنوب : أبشر فقد حانت ساعة الخلاص.
قال عبد الله بن المبارك : جئت سفيان الثوري ( ت : 161 هـ ) عشية عرفة وهو جاث على ركبتيه وعيناه تذرفان ، فقلت له : من أسوأ هذا الجمع حالا ؟ فقال : الذي يظن أن الله لم يغفر له.ورُوي عن الفضيل بن عياض ( ت : 186 هـ) أنه نظر إلى نشيج الناس وبكائهم عشية عرفة ، فقال : أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجل فسألوه دانقاً – يعني سدس درهم – أكان يردهم؟ قالوا : لا. قال : والله للمغفرة عند الله أهْوَن من إجابة رجل لهم بدانق!!

ولم لا يُستجاب دعاؤك وأنت وسط مئات الألوف من الألسنة الذاكرة والأفئدة الخاشعة ، ولابد أن يكون فيهم من هو مجاب الدعوة بإذن الله ، فتدخل في من قال الله فيهم : ” هم القوم لا يشقى بهم جليسهم “. ( صحيح ) انظر حديث رقم : 2173 في صحيح الجامع ، فإن لم تُرحم بسبب عملك رُحِمتَ بسبب من حولك ، وإن لم يُغفر لك بضراعتك فقد كفاك الله بضراعة من جاورك.
كثُر خير الله وطاب!!

وقف النبي – صلى الله عليه وسلم – بعرفات وقد كادت الشمس أن تؤوب فقال : يا بلال .. أنْصِتْ لي الناس ، فقام بلال فقال : أنصتوا لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – ، فأنصت الناس ، فقال : معشر الناس .. أتاني جبرائيل عليه السلام آنفا فأقرأني من ربي السلام وقال : إن الله عز وجل غفر لأهل عرفات وأهل المشعر وضمن عنهم التبعات ، فقام عمر بن الخطاب – صلى الله عليه وسلم – فقال : يا رسول الله .. هذا لنا خاصة؟ قال : هذا لكم ولمن أتى من بعدكم إلى يوم القيامة ، فقال عمر بن الخطاب – صلى الله عليه وسلم – : كثر خير الله وطاب. ( صحيح ) انظر حديث رقم : 1151 في صحيح الترغيب والترهيب .
خذوها من غير فقيه

سمع عبد الله بن عباس – رضي الله عنه – أعرابيا يقرأ : ” وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا “[ آل عمران : من الآية103] ، فقال الأعرابي : والله ما أنقذهم منها وهو يريد أن يوقعهم فيها ، فقال ابن عباس : خذوها من غير فقيه.

الله أكرم منك يا حكيم

كان حكيم بن حزام – رضي الله عنه – [ت : 54هـ] يقف بعرفة ومعه مائة ناقة ومائة رقبة ، فيتصدق بها يبغي بها أن يُعتق الله رقبته من النار فيضجّ الناس بالبكاء والدعاء ويقولون : ربنا.. هذا عبدك قد أعتق عبيده ، ونحن عبيدك فأعتقنا.
يوم الصلح مع الله
قال رسول – صلى الله عليه وسلم – : ” إن الله تعالى يباهي ملائكته عشية عرفة بأهل عرفة يقول : انظروا إلى عبادي أتوني شعثا غبرا “. ( صحيح ) انظر حديث رقم : 1868 في صحيح الجامع.
( شُعْثا ) أي متغيري الأبدان والشعور والملابس لقلة تعهدهم إياها ، ( غُبْرا ) ركبهم غبار الطريق من طول مشيهم وتعبهم فيه ، وهذه المباهاة دليل على أن الله قد غفر لهم ورفعهم إلى مقام أعلى من مقام الملائكة ، إذ لا تُباهى الملائكة المُطَهَّرون إلا بمن هو أطهر منهم ، لذا تجد الوجوه غير الوجوه ، فالوجوه آخر ذلك اليوم ليست وجوه أول النهار ، فقد علاها النور وكساها البِشر والسرور ، ولذا لا يُرى الشيطان في يوم أخزى له من هذا اليوم ، لأن الذي فعله طيلة العام جعله الله اليوم هباء منثورا ونسفه من الأساس.
من نسي ذكّرناه
وجدد العهد مع ربك إن كنت قد نسيت عهدك الأول معه وأنت في عالم الذر ، واسترجع ذكريات الماضي لتستفيق من غفلة الحاضر ، فقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم – : ” إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم بنعمان يوم عرفة و أخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالذر ثم كلمهم : ( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ) ( صحيح ) انظر حديث رقم : 1701 في صحيح الجامع

 والحر الكريم لا ينقض العهد القديم ، والبَرُّ الوفي لا ينسى عهد من لا ينساه طرفة عين ، وكأن الله فرض عليك الحج لتعود إلى نفس المكان تذكيرا لك لتستحي من نقض عهدك ، بل لتجدده معلنا أنك ستظل وفيا لما تعلّمته أثناء حجك ، وستداوم عليه بقية حياتك بعد رجوعك إلى وطنك ، وإلا فمن لم يوفِّ بعهده اليوم عوقب بالصَّد غدا.وإذا غربت شمس يوم عرفة توجه إلى مزدلفة ، ويُقَال لها أيضا (جَمْع) لاجتماع الناس بها ، وقيل لجمع المغرب والعشاء فيها ، وهي المشعر الحرام الذي قال الله تعالى فيه : ” فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ ” [البقرة : من الآية 200]

 وذلك حكم مسبق من الله ومعجزة بالغة منه فقد أخبر أن عرفات ستمتلئ عند الخروج منها عن آخرها وتضيق عن العدد المحدد لها حتى وكأنها تفيض ، فنفّذ أمر ربك ، واقض ليلتك -ما استطعت-متفرّغا للذكر والعبادة ، مغتنما الدفعة الهائلة المكتسبة من الدورة الروحية المكثّفة أثناء الوقوف بعرفة ؛ مقتديا بنبيك – صلى الله عليه وسلم – الذي ظل يدعو ويذكر الله في مزدلفة حتى أسفر الصبح جِدّا ( إسفارا بليغا ) ، لتبدأ عندها في التحرك من المزدلفة بعد أن يكون نور التوبة والإيمان قد أسفر في قلبك مبددا ظلام الغفلة والعصيان كما أسفر النور على الأرض فبدّد الظلام.

قال تعالى : ” ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ” [البقرة : من الآية 199] ، لكن لماذا الاستغفار؟! والجواب : سدّا للخلل الذي قد يكون بدر منك أثناء أداء عبادتك وخلال نسكك ، وسبب آخر لذلك : أنك لست إلا واحدا من الناس ، فإذا خطر ببالك أنك فعلت شيئا أو تستحق شيئا ، أو بدر لك أنك خير من فلان أو فلان ، أو حدّثتك نفسك بزهو أو غرور أو إعجاب ، فاستغفر الله وجدد إيمانك ، فإن الرضا عن النفس أخفى مكائد الشيطان.

واستشعر وحدة المسلمين وأنت ترى هذا الجيش الجرّار الذي تزدحم به الأودية الفسيحة والأرجاء الممتدة ، مبتداهم عرفات ومنتهاهم مزدلفة ، وحدة في المشاعر ، ووحدة في الشعائر ، ووحدة في الهدف ، ووحدة في العمل ، ووحدة في القول ، فابكِ لذلك فرحًا وابتهاجًا ، وابتهل إلى الله أن يؤلف بين قلوبهم مدى الدهر كما ألّف بينهم اليوم ، ليكونوا كما وصفهم نبيهم : جسدا واحدا.

أخي أنا أنتَ وأنتَ أنا رباطُ العقيدةِ قد ضَمَّنا
فإمّا أُصبتَ بسهمٍ هناك تلمّستُ جرحاً بقلبي هنا

ولماذا لا نكون كذلك ونحن كما قال إقبال :
ألم يبعث لأمتكم نبي يوحِّدكم على نهج الوئام
ومصحفكم وقبلتكم جميعا منار للأخوة والسلام
وفوق الكل رحمن رحيم إله واحد رب الأنام

إن رحلة الحج من مبتداها إلى منتهاها تصوير عملي لمعاني الأخوة الإسلامية السامية ، والحج مقدمة ضرورية لإحياء عقد الأخوة المقدس مع إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها ، وتوطئة لابد منها تمهد الطريق لرفع الظلم عنهم.
أخي في العقيدة لن نيأسا قريباً سيجلو الصباحُ المسا
وسوف نزفُّ إلى العالمين بشائرَ تُنسي ظلام الأسى
فإنّا مع الفجر في موعدٍ عساه يكون قريباً ..عسى
وهذا الجمع سبق واستثار مشاعر عمر بهاء الدين الأميري فأطلق لخياله العنان في حج عام 1388 هـ ، وقام ينادي على الحشود الهائلة متمنيا لو أنهم كما توجهوا إلى الكعبة توجهوا إلى قبلتهم الأولى متسلِّحين بسلاح الإيمان ، ممتشقين سيف الوحدة والإخاء ، محتمين بركن الله الذي لا يُضام ، فانبرى يحثهم على الزحف المقدّس ويرغِّبهم في الجهاد في سبيل الله ويقول :
يا حجيج البيت الحرام المُفدَّى وجِّهوا حشدكم إلى القدس سعيا
في فلسطين حفنة من يهود تتحدّى الإسلام حربا وبغيا
أيها الناحرون أكباش عيد الحج وعيا لخطبه الضخم وعيا
لو نحرنا تفريطنا وبدَلْنا الحج مالا يُساق للقدس هديا
ونهينا ونحن في شدة الكرب النـ فوس الغفلى عن اللهو نهيافإذا ما تحرر المسجد الأقصى فحج حقٍّ وعيدٌ ولُهيا
ولا يريد الشاعر منا أن نلغي حجنا اليوم وننفر إلى فلسطين على الحقيقة ، لكنه يريد أن يذكِّّرنا : كنتم بالأمس تطوفون بالبيت وثالث الحرمين بين أيديكم ، واليوم تطوفون بالبيت وبيت المقدس تحت قهر يهود ، وتقفون بعرفة بينما يحطّ أخس الأنجاس على باب مسرى رسول الله ، وتنفرون إلى مزدلفة في وقت تنفر عصابات الشر من الصهاينة إلى ساحات المسجد الأقصى سعيا لهدمه وتنافسا على تدميره وحرصا على شرف إقامة الهيكل المزعوم على أنقاضه!!

وأما رمي الجمار:
فاقصد به الانقياد لأمر الله إظهارًا للرق والعبودية ؛ وليكن رميك الجمار في كل يوم من أيام منى بمثابة إصرار منك على رمي أهوائك وشهواتك وغفلتك وزلاتك بجمرات العزم والتوبة النصوح ، فهو رجم حسي يُراد به الرجم المعنوي ، وانوِ به مواجهة عدوك الأول والأوحد في الحياة ، واقصد به الإصرار على عداوتك له وجعلها محور حياتك كلها ، وإظهار هذه العداوة بدلا من أن تكون باطنة فحسب ، دحرا لعدوك وإرغاما لأنفه حتى يقطع الأمل منك وييأس من خضوعك له ، وبإعلانك هذا العداء يرضى عنك الله ويفرح ، فإن دعوتَه في هذه اللحظة كانت إجابتك مؤكدة ، وقد سهّل الله عليك الطريق إلى هذا الكنز وحماك من أن تضيِّعه أو تنساه ، فعلّمك عن طريق نبيك أن تستقبل القبلة عقب كل جمرة وتدعو بما تشاء ، فقد كان – صلى الله عليه وسلم – يغتنم هذه الفرصة فيدعو عقب الجمرة الأولى والثانية دعاء طويلا طويلا أطول مما تتصور ، بمقدار قراءة سورة البقرة!!
وفي دعائك عقيب الرمي استعانة بسلاح الدعاء في كل موقف ، وإعلان افتقارك دوماً إليه سبحانه ؛ فبعونه فحسب يأتي النصر والغلبة في معركتك ضد عدو الله وعدوك إبليس.

والرمي جهاد ، يقول حافظ بك عامر :” ذلك أن اليد المؤمنة يجب أن تكون يدا ممرنة على أساليب الجهاد التي أهمها وأعظمها الرمي لإصابة الهدف ، ومن هنا يقرر بعض الفقهاء أن الرمية إذا أخطأت لم تحتسب من العدد ويجب إعادتها حتى تصيب هدفها ، فهذا الرمي تحقيق لوصف اليد الحربية ، فلا يريد الإسلام يدا عاطلة ولا يدا مخطئة ولا يدا عاجزة “.

وأما ذبح الهدي :

فاستشعر أنك تقربه إلى الله تعالى لتفتدي به نفسك ، وارْجُ الله أن يعتق بكل جزء من هديك عضوا منك من النار ، ورحم اللهُ الإمام القفَّال حين قال عن الهَدْي : ” كأنَّ المتقرِّبَ بها وبإراقةَ دمائها مُتَصَوِّرٌ بصورة مَنْ يَفدي نفسه بما يُعادِلها ، فكأنه يبذُل تلك الشاةَ بَدَلَ مُهْجته ؛ طَلَبا لمرضاة الله تعالى واعْتِرافا بأن تقصيره يستحق مُهْجته! “.
وعاهد ربك على تمام طاعته ولو أمرك بذبح ولدك وفلذة كبدك اقتداءً بالخليل إبراهيم عليه السلام حين أمره ربه بذبح ولده فلبى كلاهما وأطاع ، فكافأهما الله بذِبح عظيم ، وما أجمل قول القائل يستفزّنا للتضحية ويستنفرنا للبذل والفداء :
من كالخليل يُرينا خيرَ تضحية جلّت مواقفها عن كل تبيين
صحا مع الفجر صوت الوحي يُفزِعه قم يا بني فصوت الله يدعوني
إني بذبحك قد أُلهمتُ يا ولدي أمرُ السماء فهل تعصي وتُخزيني
فشمّر الطفل إيمانا بلا جزعٍ جمِّع قواك أبي خُذْ تلك سكيني

وتذكّر أن ( أعظم الأيام عند الله يوم النحر ). ( صحيح ) حديث رقم (1064) في صحيح الجامع ، والجمهور على أن يوم عرفة أفضل ثم يوم النحر ، فمعنى قوله (أعظم) هنا أي من أعظم.

وأما المبيت بمنى :

فبعد التحلل من الإحرام ترجع إلى منى مرة أخرى لتستقر فيها ثلاثة أيام تذكر الله فيها وتأكل وتشرب. قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ” أيام التشريق أيام أكل و شرب و ذكر الله “.( صحيح ) انظر حديث رقم : 2689 في صحيح الجامع.
لماذا الأكل والشرب؟!
لذلك ثلاث حكم والله أعلم :الأولى : أن الله تعالى دعا عباده إلى زيارة بيته فأجابوه ، وقد أهدى كل منهم إليه على قدر طاقته فذبحوا هديهم ، وقبله منهم بل وقدّم لهم منه ضيافة وأطعمهم مما تقربوا به إليه ، والضيافة ثلاثة أيام ، فأكرم الله زواره بالطعام والشراب ثلاثة أيام ، وعادة الملوك أنهم إذا أضافوا أطعموا من على الباب من الفقراء والمساكين ، لذا قال تعالى : ( فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ) [الحج : من الآية28]
سئل جعفر بن محمد الصادق (ت : 148هـ) : لم كُره الصيام أيام التشريق؟ فقال : لأن الحجاج في ضيافة الله ، ولا يجب على الضيف أن يصوم عند من أضافه.
الثانية : ما قال ابن رجب (ت : 795هـ) : إشارة إلى أن الأكل في أيام الأعياد والشرب إنما يستعان به على ذكر الله تعالى وطاعته.
الثالثة : أنها أيام عيد تتحلل فيها من الإحرام ، لترتاح فيها بعد تعب وتتمتع بعد حرمان ، وتساعدك في ذلك لياليها التي يكتمل فيها ضوء القمر ، لتبعث إليك بهوائها اللطيف ونسيمها العليل الذي يزيل عنك كل مشقة وعناء.
وانوِ بذكر الله في هذه الأيام مخالفة أعراف الجاهلية ، فقد كان للعرب تقليد آخر في مِنى ، وهو عقد مجالس المفاخرة بعد الانتهاء من مناسك الحج ، قال ابن عباس – رضي الله عنه – : كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم فيقول كان أبي يطعم ويحمل الحمالات و يحمل الديات ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم فأنزل الله على محمد – صلى الله عليه وسلم – : ( فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ) [البقرة : من الآية 200] ، فأمرنا الله بذكره والتحدث بنعمه بدلاً من ذلك ، وفي الآية كذلك تنبيه واضح بضرورة متابعة العمل والاستمرار في العبادة ، وتحذير إلهي مخيف من خطورة النكوص والانتكاس.والأمر بالمبيت بمنى أمر عجيب غاية العجب .. إذ كيف تُضحّي بصلاة ثلاثة أيام في المسجد الحرام .. الصلاة الواحدة منها بمائة ألف صلاة لتبيت في منى؟! والجواب والله أعلم : إن الله تعالى أدرى بك منك ، وأحرص عليك من نفسك ، فشرع لك ذلك حتى تحافظ على حرارة الإيمان وشحنة التقوى التي حصّلتها فلا تتسرب منك بالتنزه في الأسواق ومخالطة الناس.

إنه كذلك مشاركة إخوانك من سائر البلدان ومن مختلف الأجناس في حضور اجتماعات مصغرة أشبه ما تكون بفرق العمل أو اللجان المنبثقة عن مؤتمر عرفات السنوي الكبير ، وذلك بهدف تقوية الصلات وتعميق الروابط ومعرفة الأخبار وتفقد الأحوال وأخيرا : الخروج بالتوصيات.

يا حسرة النوّام
فرّّط أحد السلف في حجته وما قام بحقها ، ولم يُفِق من غفلته إلا في منى ، فأنشد يقول :
بلغ المُنَى من بات في وادي مِنى غيري فإنّي ما بلغت مُرادي
وبكيت من ألم الفراق وشِقوتي فبكى الحجيج بأسره والوادي

فلا تكن أخي المشتاق أخاه في التفريط وصديقه في الغفلة وشريكه في الجرم ، وأدرك نفسك اليوم قبل أن يبكي عليك الحجيج غدا.
وأما طواف الوداع : وما أدراك ما طواف الوداع ، إنها ساعة الفراق ، ولعل من حكمتها أن من لم يذق مرارة الفراق لم يدرِ ما حلاوة اللقاء ، فسائل نفسك : هل سيكون بعدها لقاء جديد أم فراق أبدي؟‍! لترتجف عندها كل خلية في جسدك وتهتف في ضراعة :
روحي ستُنزع مني موتي ببعدك عني
هل لي بعود قريب حقّق بفضلك ظني
نداء قلبك ودعاء روحك :
لئن أصبحت مرتحلا بشخصي فروحي عندكم أبدا مقيم
وهي وصية رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لنا : ” لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده الطواف بالبيت “. ( صحيح ) انظر حديث رقم : 7805 في صحيح الجامع ، وكأنه يريد بذلك أن يفجِّر العاطفة في كل قلب لا زال قاسيا ، ويبعث الروح في أي صنم لا زال جامدا ، إنه كذلك إلقاء آخر نظرة على بيت الله الحرام لتبقى صورته ماثلة للعين وذكراه خالدة في النفس.أخي المشتاق .. اشحن كل قواك لتوديع بيت الله ، فإنها لحظة حاسمة في حجتك ، فكن على وجل ، وألزم قلبك الخوف من الرد وعدم القبول ، واعلم أنك قد تعرف علامات القبول ، فتبدو لك بوجه من الوجوه ، فقد تبدو في راحة قلبية وطمأنينة عجيبة ، أو في دمعات غزيرة وعبرات متوالية ، أو في عبء ثقيل أحسست أخيرا أنه انزاح عن صدرك ، أو في شوق عظيم إلى الطاعات والقربات ، أو في كراهية شديدة لذنب كنت تعشقه وتفعله وأنت اليوم تبغضه وتركله.
هكذا حجوا فأين حجك؟!
* … كان أنس بن مالك – رضي الله عنه – (ت : 93هـ) إذا أحرم لم يتكلم في شيء من أمر الدنيا حتى يتحلل من إحرامه.
* … حج مسروق بن الأجدع الهمداني الفقيه العابد صاحب ابن مسعود (ت : 62هـ) وهو من كبار التابعين ، فلم ينم إلا ساجدا على وجهه حتى رجع من الحج.
* … قال الربيع بن سليمان : حججتُ مع الشافعي (ت : 204هـ) فما ارتقى شرَفا ولا هبط واديا إلا وهو يبكي.
* … قال حمزة بن ربيعة : حججنا مع الأوزاعي (ت : 157هـ) سنة خمسين ومائة ، فما رأيته مضطجعا في ليل ولا نهار قط ، كان يصلي فإذا غلبه النوم استند إلى القتب.
* … قال ابن وهب : رأيت الثوري ] ت : 161 هـ [ ساجدا في الحرم بعد المغرب فما رفع حتى نودي للعشاء.
* … كان شريح (ت : 78هـ) إذا أحرم كأنه حية صماء.
وقبل أن يدبّ اليأس إلى قلبك من إدراك هؤلاء ويستولي عليك القنوط من تحصيلهم أبعث إليك ببارقة أمل متّقِد وشعلة عزم مُستعِر على لسان الحارث المحاسبي :
” اجتهد ولا تيأس ، ولا تقل عند ذكر الصالحين : لولا ذنوبي لرجوت طريقة الصالحين ، فيُفتِّرك ذكر ذنوبك عن العمل ، فإن صاحب الحمل الثقيل أولى أن يجتهد في إسقاط ما قد حمل من المُخِف الذي ليس على ظهره شيء “.
أطهر ميِّت!!
عن ابن عباس أن رجلا كان مع النبي – صلى الله عليه وسلم – فوقصته ناقته (كسرت عنقه) وهو محرم فمات ، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – :” اغسلوه بماء وسدر ، وكفنوه في ثوبيه ، ولا تمسوه بطيب ، ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا “.
ويالها من خاتمة صالحة يتمناها كل مُحرم ، ويسعى إليها كل مشتاق ، فاعزم صادقا هذه العزمة ، وجدِّد مخلصا هذه النية ، فمن يدري لعلك تدركها كما أدركها الحافظ البرزالي (ت : 738هـ) الذي كان كلما قرأ هذا الحديث بكى ورقّ قلبه ، فمات مُحرما في ثالث ذي الحجة سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة لسان حاله :

روح دعاها للوِصال حبيبها فسعت إليه تُطيعه وتُجيبه
يا مُدَّعي صدق المحبة هكذا فعل الحبيب إذا دعاه حبيبه


اترك ردا

بدريك الإلكتروني لان يتم نشره.


قناة فتاوى أون لاين

تم إنشاء قناة جديدة تحت عنوان فتاوى أون لاين للإجابة على الفتاوى الشرعية
رابط الانضمام

رابط تيليجرام

الواتس اب

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر مشرف الموقع

هو الشيخ  الدكتور/ حسين محمد عامر من مواليد بلبيس بمحافظة الشرقية -مصر-عام 1976 م . الشهادات العلمية : 1- أتم حفظ القرآن وهو ابن الرابعة عشر عاما ، وحصل على إجازة برواية حفص بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على يد شيخه يوسف عبد الدايم -رحمه الله- . 2-  حصل على الإجازة

تاريخ الإضافة : 14 مايو, 2024 عدد الزوار : 1034 زائر

خطبة الجمعة

تفسير القرآن العظيم

شرح صحيح البخاري

شرح مدارج السالكين

جديد الموقع