نتكلم اليوم عن خلق من أخلاق الإسلام وهو خلق العزة ، هذا الخلق الذي نحتاج إليه لأن ديننا يعلمنا العزة ،وطاعتنا لله تعلمنا العزة ، ومن منا لا يحب أن يحيا عزيزا ويموت عزيزا ، نسأل الله أن يرزقنا العز في الدنيا والآخرة اللهم آمين .
معنى العزة :
تأتي العزة بمعنى القوة كقوله تعالى -( فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون )- [يس/14] يعني قوينا الرسولين بثالث ، وتأتي بمعنى الرفعة كقوله تعالى -( من كان يريد العزة فلله العزة جميعا)- [فاطر/10]
والعلماء يقولون :إن العزة خلق محمود بين خلقين مذمومين : الذل والكبر ، فالعزة أرفع من الذل وليست كبرا .
ما الفارق بين العزة والكبر ؟
المتكبر يحاول أن يظهر أمام الناس بحجم أكبر من حجمه يختال بما أوتي إما بثروة ومال ، وإما بعلم ، وإما بوظيفة ومكانة ، وجاه وسلطان ،المتكبر يتعالى على الناس ولا يقبل الحق ، يحتقر الناس ولا يقبل الحق أبدا ، أما العزة فإنها قوة النفس ولذلك العزة ليست شيئا عضليا يأتي بممارسة تمارين رياضية مثلا ، وليست طول ولا عرض ، العزة طاقة روحية ، شيء قلبي ،يظهر أثره على الأقوال والأفعال ، وصاحب العزة يوصف دائما بأنه كريم بين الناس متواضع ، يقول الحق ويكره الظلم ، لا يجبن ، في مواقف الإقدام شجاعا ، متوكلا على الله -سبحانه وتعالى– لا يخاف على رزق ولا يخاف من أجل .
الطاعة طريق العزة :
وقد علمنا الله أن الاتصاف بالعزة لا يكون إلا من خلال طاعته قال تعالى : -( من كان يريد العزة فلله العزة جميعا )- [فاطر/10]
ومعنى الآية : من أراد أن يكون عزيزا حرا كريما فليكن عبدا لله وحده ، كل من كان عبدا لغير الله ذل ،كن عبدا لله تكن حرا ،كن عبدا لله تكن عزيزا .
كما قال الشاعر :
العز في كنف العزيز ومن عبد العبيد أذله الله
هذه سنة الله الجارية ، أن من انذلّ لشيء قهره وسلطه الله عليه ، بعض الناس فهموا أن العزة مع السلطان كما قال سحرة فرعون : -( بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون )- [الشعراء/44] فما أغنى عنهم فرعون شيئا وقُضي على سحرهم بعصا موسى فلما رأوا ذلك سجدوا لله -( وألقي السحرة ساجدين )- [الأعراف/120] فتوعدهم فرعون بالقتل والصلب -( قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين )- [الشعراء/49]
وقالها صاحب الجنتين -( أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا )- [الكهف/34] فما أغنى عنه ماله ولا أغنى عنه رجاله وعماله شيئا -( وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا )- [الكهف/42]
وهذا قارون آتاه الله من الكنوز الكثير -( إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين )- [القصص/76] فلما اغتر بماله واستعز به وقال : -( إنما أوتيته على علم عندي )- [القصص/78] خسف الله به وبداره الأرض فلم يغن عنه ماله الذي استعز به شيئا -( فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين )- [القصص/81] وعقب الله بعدها فقال : -( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين )- [القصص/83]
ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم- (تعس عبد الدينار ،تعس عبد الدرهم ، تعس عبد الخميصة (نوع من الثياب) تعس وانتكس )
لماذا قال تعس وانتكس ؟ لأن هذه الأشياء تذل صاحبها ،تصنع منافقا ذليلا حريصا ، هين على الناس رخيصا يرضى بالمذلة والدون لينال المال أو يرضى بمنصب زائل أو يفرح برضا ظالم عنه -سبحان الله العظيم–
كن عبدا لله تكن حرا:
هذه الكلمة ما أروعها كن عبدا لله تكن حرا ،لا تكن عبدا لعبد مثلك ، أو لمظهر من مظاهر الدنيا الزائفة -( من كان يريد العزة فلله العزة جميعا )- [فاطر/10]
وكان علي بن أبي طالب يقول : (إلهي كفاني فخرا أن تكون لي ربا وكفاني عزا أن أكون لك عبدا )
أي عبودية لغير الله فإنه يأخذ من خيرك له استخدام واستنزاف للطاقة تخدمه وتتفنن في إسعاده ليرضى عنك ، وفي الأخير هو الفائز وأنت الخاسر هو الفائز بالراحة وعدم التعب وأنت الخاسر لأنك مهما بذلت فلن يرضى عنك عبد مثلك ، لأن قدراتك قدرات عبد ، لكنك إذا كنت عبدا لله فكل نعمة وكل خير عندك فهو من الله .
وعطاء الله لعباده يكون للجميع المؤمن والكافر لكن خص عباده المؤمنين بالعطاء الروحاني انشراح الصدر ، اطمئنان القلب ، سعادة وطاقة تشعر بها ليست بالشيء الذي يرى ويحكى بل هي شيء يُحس بالقلب وشفافية الروح -( من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه )- [فاطر/10]
فمن أراد العزة فليكن عبدا لله -( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون )- [المنافقون/8]
العزة في طلب الرزق :
العزة حينما تكون في المسلم تجعل عنده كل ما يخاف الناس منه هينا ، لا قيمة له ، الناس يخافون على لقمة العيش ، ومن أجل هذا يستذلهم من يستذلهم ، ومن أجل ذلك قد ينافق وقد يتنازل عن دينه ، من أجل هذا يقول قولة باطل ، ويصفق ويسعى بركاب الظالمين .
أما أنا كمسلم فأنا أعلم أن رزقي بيد خالقي وحده وليس بيد أحد أبدا قال تعالى : -( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين )- [الذاريات56 /58]
كم من أشخاص كانوا أئمة في الدعوة وهداة يهتدى بهم فأذلهم الحرص ، والخوف على الرزق ، فما أسهل الكلام لكن المواقف تثبت معادن الرجال وتوضح من اتصف بالعزة ومن لبس لباس الذل عياذا بالله.
وعلمنا النبي -صلى الله عليه وسلم- ( اطلبوا الحوائج بعزة الأنفس ، فإن الأمور تجري بالمقادير )وقال أيضا: (ليس الغِنى عن كثرة العرَض، ولكن الغِنى غِنى النفس) والعرَض المقصود به المال من غير النقدين، يعني: الدراهم والدنانير الذهب والفضة هذا نقد، والعرَض يقال لغير ذلك عادة، كالزروع، والدواب، والمراكب، والدور وما شابه ذلك.
يعني: ليس الغِنى الحقيقي بسبب كثرة ما عند الإنسان من الثروات من العقارات والمراكب، والشركات، (وإنما الغِنى غِنى النفس) قد يكون الإنسان عنده الشيء الكثير، ولكنه دائماً يرى الفقر يطارده ويلاحقه حيث ذهب .
إذن فأنا لا أخاف على رزقي لأن الرزق بيد الله وكل هذه أسباب قدرها الله ، وقد علمنا رسول الله اليقين والعزة في طلب الرزق فقال : ” إنّ رُوحَ القُدُسِ نَفَثَ في رُوعِي أنّ نَفْساً لنْ تَمُوتَ حَتّى تَسْتَكْمِلَ أجَلَها وَتَسْتَوْعِبَ رِزْقَها، فاتّقُوا الله وأجْمِلُوا في الطَّلبِ، ولا يَحْمِلنَّ أحَدَكُمُ اسْتِبْطاءُ الرِّزْقِ أنْ يَطْلُبَهُ بِمَعْصِيَةِ الله، فإنّ الله تعالى لا يُنالُ ما عِنْدَهُ إلاّ بِطاعَتِهِ ” فهذا اليقين يولد عندي كمسلم العزة في طلب الرزق ، فأحيا كريما عزيزا غير ذليل ولا منافقا و لا أرضى بالدون من العيش إرضاء لفاجر أو ظالم .
من يمد رجله، لا يمد يده:
كان الشيوخ يلقون دروسهم العلمية على طلبتهم في الجامع الأزهر وقت أن كان الأزهر مسجد و جامعة ومع طول الجلوس مد أحد العلماء رجليه مستندا على عمود المسجد خلفه .
ودخل الخديوي إسماعيل حاكم مصر وقتها، وقام الناس لينالوا الرضا والبركة من الخديوي إسماعيل ، إلا الشيخ بقي على جلسته وهيئته مادا رجله لم يحركها ، فاستاء الخديوي إسماعيل ، واغتاظ غيظاً شديداً ، وخرج من المسجد ، وقد أضمر في نفسه شراً بالشيخ .
وأراد أن ينتقم من الشيخ ، لكن أشار عليه بعض رجال حاشيته أن أي إساءة للشيخ ستفتح له أبواباً من المشاكل لا قبل له بإغلاقها.
وهداه تفكيره إلى طريقة أخرى ينتقم بها من الشيخ، طريقة الإغراء بالمال ، فإذا قبله الشيخ فكأنه يضرب عصفورين بحجر واحد، يضمن ولاءه، ويسقط هيبته في نفوس المسلمين ، فلا يبقى له تأثير عليهم .
وأسرع الخديوي إسماعيل فأرسل إلى الشيخ ألف ليرة ذهبية ، وهو مبلغ يسيل له اللعاب في تلك الأيام ، وطلب من وزيره أن يعطي المال للشيخ على مرأى ومسمع من تلامذته ومريديه .
وانطلق الوزير بالمال إلى المسجد ، واقترب من الشيخ وهو يلقي درسه ، فألقى السلام ، و قال للشيخ بصوت عال سمعه كل من حول الشيخ : هذه ألف ليرة ذهبية يرى أفندينا أن تستعين بها على أمرك .
ونظر الشيخ نظرة إشفاق نحو الوزير ، وقال له بهدوء وسكينة: يا بني، عد بالنقود فلا حاجة لنا بها ، وقل لأفنديكم : إن الذي يمد رجله، لا يمد يده.
فمن يمد يده لا بد وأن يحافظ على رضا من يعطيه ولو أدى إلى نفاق أو تنازل أو قول زور ،وهذا ما نراه بأعيننا و لا حول ولا قوة إلا بالله .
وهذا الحسن البصري لما قال أحدهم إنك متكبر قال : لا ولكني عزيز .
وسألوا رجلا من أهل البصرة بم سادكم الحسن البصري ؟ قال: احتاج الناس إلى علمه واستغنى هو عن دنياهم فسادهم .
وسئل الحسن البصرى عن سر زهده في الدنيا فقال أربعة أشياء:
1- علمت أن رزقي لا يأخذه غيرى فاطمأن قلبي.
2- وعلمت أن عملي لا يقوم به غيرى فاشتغلت به وحدى.
3- وعلمت أن الله مطلع علي فاستحييت أن يراني عاصيا.
4- وعلمت أن الموت ينتظرني فأعددت الزاد للقاء ربى.
فأنا كمسلم في مسألة الرزق لا أخضع لأحد لأجل لقمة عيشي إنما أخضع لله الرزاق ذي القوة المتين .
فديننا علمنا أن نعيش مرفوعي الرؤوس أعزة بالله الذي قال : -( وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين )- [هود/6]
ومن مواطن العزة : اليقين بأن الذي يقبض الأرواح هو الله :
فقد يقع الناس في المذلة خوفا من الموت، وهذه المسألة طمأننا الله فيها فقال : -( الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون )- [الزمر/42]
لن يموت أحد مرتين ، ولن يستطيع بشر مهما كان أن يصدر قرارا بقتلك أو إعدامك وينفذه إلا إذا شاء الله ،فالوقوع إنما يكون بأمر الله وقدره ، ولذلك ربى النبي أصحابه على ذلك فقال لابن عباس : ( وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ )
فأنا لا أنذل خوفا على حياة لا يملكها بشر إنما يملكها الله -سبحانه وتعالى–
لا أخاف من كلمة حق استعز بها بين يدي الله وليكن ما يكون ،فلا أخاف الموت لا أهاب ظالما ، إنما أعلم يقينا أن ما يصيبني قد أصابني بقدر الله كما في الحديث : (واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك ،وأن ما أخطاك لم يكن ليصيبك)
فمن أيقن أن الرزق مقسوم والأجل محتوم سيحيا عزيزا بهذا اليقين .
ومن مواطن العزة : دينك دينك لحمك دمك :
بعض الناس ليس عنده استعداد أن يتنازل عن حقه المالي أو عن كرامته لكن من الممكن أن يتنازل عن دينه ، فيكون الدين رخيصا عنده شيئا هينا لا يلتفت إليه ،كلا فنحن المسلمين ليس عندنا أغلى من ديننا ورضي الله عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حينما قال : لقد كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام ، فإذا ابتغينا العزة بغيره ِ أذلنا الله “
حينما ترى أن دينك أرخص شيء تضحي به ، أو تشعر بالحرج عند الانتساب إليه ، فهذه من المصائب دينك دينك لحمك دمك ؛ فكما أنك حريص على ألا تؤذى في لحمك ودمك فإن دينك أغلى من لحمك دمك هو أرفع شيء تعتز به لأن هذا الدين هو أمانة الله التي ائتمننا عليها قال تعالى -( هو سماكم المسلمين )- [الحج/78]
وقد أخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن هذه الفتن فقال ( فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مسلمًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا، ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا)
والنبي -صلى الله عليه وسلم- لما ذهب إليه عمه أبو طالب قائلا له: يا ابن أخي، إن قومك قد جاءوني فقالوا لي: كذا وكذا، فأبق عليّ وعلى نفسك، ولا تحملنى من الأمر مالا أطيق. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا عمّ، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك دونه.
عزة ما بعدها عزة صلوات ربي وتسليماته عليه .
ولا يغيب عنا أن من أنبياء الله من قتل في سبيل هذا الدين ، ومن صحابة رسول الله من عذب وأوذي لينطق بكلمة كفر فأبوا وثبتوا حتى أدوا الأمانة وبلغوها فوصلت إلينا كاملة ، فليكن أغلى شيء عندنا هو ديننا نربي أنفسنا وأبناءنا على ذلك ، ولنعلم أن من أعز دين الله أعزه الله ، ومن ظن أن أسهل شيء يضحي به هو دينه فهذا يذله الله نسأل الله عافيته .
ديننا الذي علمنا العزة.
ديننا الذي علمنا الرفعة .
ديننا الذي به عز الدارين .
( من كان يريد العزة فلله العزة جميعا )- [فاطر/10]
نسأل الله أن يعزنا بطاعته وألا يذلنا بمعصيته .