مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ في الجنة
عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، ذُخْرًا بَلْهَ مَا أُطْلِعْتُمْ عَلَيْهِ».ثُمَّ قَرَأَ: ” { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ “[السجدة: 17].
إن الحديث عن الجنة يسوق النفوس إلى رحاب الملك القدوس ، الجنة هي دار النعيم والجزاء الجزيل الذي أعده الله لأهل طاعته ، وهي نعيم كامل لا يشوبه نقص ولا يعكر صفوه كدر ، لا نكد فيها ولا خصام ،لا مرض ولا أسقام ،لاهم ولا غم ولا حزن ولا تعب ولا نوم .
أحزان قلبي لا تزول حتى أبشر بالقبول
وأرى كتابي باليمين وتقر عيني بالرسول
قيل للإمام أحمد متى الراحة ؟ قال عند وضع أول قدم في الجنة .
وهذا الحَديثُ هو مِن الأحاديثِ القُدُسيَّةِ ، الذي نتناوله بالشرح والتعليق :
“قال اللهُ تبارَك وتعالى: أعدَدْتُ”، أي: خلقْتُ وهيَّأْتُ في الجنَّةِ فالجنة خلقت وهيأت وأعدت للمتقين .
“لعبادِي الصَّالحينَ”، أي: للعبادِ الذي يَعلمون الصَّالحاتِ، ويَسْعَون في الخيرِ، والإضافَةُ في قوله: لعبادِي؛ للتشريفِ، أي: المخلصِينَ منهم بتِلك الأعمالِ.
“ما لا عينٌ رأتْ ولا أُذنٌ سَمِعَت”، أي: ما لم تَرَه عيْنٌ ولم تسمعْ به وبوصْفِه أُذنٌ في الدُّنيا، وتَنكيرُ “عيْن” و”أُذُن” في سِياقِ النَّفيِ يُفيدُ الشُّمولَ، أي: يكونُ في الجنَّةِ ما لم تَرَه أيُّ عيْنٍ مِن الأعيُنِ، ولم تسمَعْ به وبِوصفِه أيُّ أُذنٍ مِن الآذَانِ
“ولا خَطَر على قلب بشَرٍ”، أي: ولم يَمُرَّ على عقل أحدٍ ما يشبِهُه أو يتصوَّرُه من النَّعيمِ، فكلُّ شيءٍ تخيَّله عقلٌ أو قلبٌ من نعيمِ الجنَّةِ؛ ففِيها أفضلُ مما تخيَّله.
يقول ابن القيم رحمه الله : وكيف يقدر العقل القاصر الضعيف قدر جنةٍ غرسها الرحمن بيده ، وجعلها جزاءً لأحبابه ، وملأها برضوانه ورحمته ، وزيَّنها وأتقنها بعظيم قدرته ، ووصف نعيمها بالفوز العظيم ، ووصف مُلكها بالمُلك الكبير ، قال الله : ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً ، عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً ﴾
والله إنه لنعيمٌ لا يستطيع الخيال له تصويرا ، ولا يستطيع اللسان عنه تعبيرا .
قال أبو هريرة: “اقرءوا إن شِئْتُم: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] أي: وهذا مِصدَاقُ ما قاله من كتاب الله الذي أخبَر أنه لا يعلم أحدٌ ولا يتصوَّرُ ما خبَّأه اللهُ عن النَّاسِ من النَّعيمِ الذي تقَرُّ به العينُ، أي: تهدأُ وتسعَدُ وتفرَحُ به يوم القيامةِ عند الله تعالى.
يقول الشيخ الشعراوي في تفسيره لهذه الآية (باختصار يسير):
إن الحق سبحانه أخفى أسرار الخير عن الخَلْق، ولم يُعْطهم منها إلا على قدر حاجتهم منها، فإذا أراد سبحانه أنْ يُجازي عباده المؤمنين لا يجازيهم بما يعملون من خيرات الدنيا وإمكاناتهم فيها، إنما يجازيهم بما يعلم هو سبحانه، وبما يتناسب مع إمكانات قدرته.
وهذه الإمكانات لا نستطيع نحن التعبير عنها؛ لأن ألفاظ اللغة لا تستطيع التعبير عنها، ومعلوم أن الإنسان لا يضع الاسم إلا إذا وُجد المسمى والمعنى أولاً؛ لذلك قال تعالى في التعبير عن هذا النعيم: { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ.. } [السجدة: 17]
وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن الجنة: ” فيها ما لا عين رأتْ، ولا أذن سمعت، ولا خظر على قلب بشر ” إذن: كيف نُسمِّي هذه الأشياء؟ وكيف نتصَّورها وهي فوق إدراكاتنا؟ لذلك سنفاجأ بها حين نراها إنْ شاء الله.
ثم أَلاَ ترى أن الحق سبحانه حينما يعرض علينا طرفاً من ذكر الجنة لا يقول لنا الجنة كذا وكذا، إنما يقول:{ مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ… }[الرعد: 35] أي: أن ما نعرضه عليك ليس هو الجنة، إنما شبيه بها، أما هي على الحقيقة ففوق الوصف الذي تؤديه اللغة، فأنا أعطيكم الصورة القريبة لأذهانكم.
ثم يُنقى الحق سبحانه المثل الذي يضربه لنا من شوائبه في الدنيا، وتأمل في ذلك قول الله تعالى عن نعيم الجنة:{ مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ… }[محمد: 15] وكانت آفة الماء عندهم أن يأسن ويتغير في الجرار، فنقَّاه الله من هذه الآفة.
وكذلك { وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ… }[محمد: 15] وكان العربي إذا سار باللبن يحمض فيعافه
{ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ… }[محمد: 15] وآفة خمر الدنيا أنها تغتال العقل، وتذهب به، وليس في شربها لذة؛ لذلك نرى شاربها والعياذ بالله يتجرَّعها مرة واحدة، ويسكبها في فمه سَكْباً، دليلاً على أنها غير طيبة، وهل رأيت شارب الخمر يمتصُّها مثلاً كما تمتص كوباً من العصير، وتشعر بلذة شربه؟وقد وصف الله خمر الآخرة بقوله:{ لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ }[الصافات: 47]
ثم يقول سبحانه:{ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى… }[محمد: 15] فوصف العسل بأنه مُصفَّى؛ لأن آفة العسل عندهم ما كان يعلَق به من الحصى والشوائب حين ينحدر من بيوت النحل في الجبال، فصفَّى الله عسل الآخرة من شوائب العسل في الدنيا.
ومهما بلغ بنا ترف الحياة ونعيمها، ومهما عَظْمَتْ إمكاناتنا في الدنيا، فلن نرى فيها نهراً من الخمر، أو من اللبن، أو من العسل، ثم إن هذه الأنهار تجري في الجنة بلا شطآن، بل ويتداخل بعضها في بعض دون أن يطغى أحد منها على الآخر، وهذه طلاقة القدرة التي لا حدود لها.
إذن: الحق سبحانه حين يشرح لنا نعيم الجنة، وحين يَصفُها يعطينا المثال لا الحقيقة، ثم يُنقِّى هذا المثال مما يشوبه في الدنيا.
ومن ذلك أن العربي كان يحب شجرة السِّدر أي النبق، فيستظل بظلها، ويأكل ثمرها، لكن كان ينغص عليه هذه اللذة ما بها من أشواك لا بُدَّ أنْ تؤذى مَنْ يقطف ثمارها، فلما ذكرها الله تعالى في نعيم الجنة قال عنها:{ فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ }
[الواقعة: 28] أي: منزوع الشوك، فالمتعة به تامة لا يُنغِّصها شيء.
ولما تكلم عن نساء الجنة قال سبحانه عن الحور العين:{ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ }[الرحمن: 74] فنفى عنهن ما يُنغِّص على الرجل جمال المرأة في الدنيا، وطمأنك أنها بِكْر لم ينظر إليها أحد قبلك.
لهذا قال تعالى عن نعيم الجنة { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ.. } [السجدة: 17] والقرة والقُرور أي: السكون، ومنه قرَّ في المكان أي: استقر فيه، والمعنى أن الإنسان لا يستقر في المكان إلا إذا وجد فيه راحته ومُقوِّمات حياته، فإذا أردتَ أنْ تستقر في مكان أو تشتري شقة مثلاً تسأل عن المرافق والخدمات من ماء وكهرباء وطرق..الخ.
فمعنى (قرة العين) أي: استقرارها على شيء بحيث لا تتحول عنه إلى غيره، والعين لا تستقر على الشيء إلا إذا أعجبها، ورأتْ فيه كل ما تصبو إليه من متعة.
ومن ذلك قولنا (فلان عينه مليانة) يعني: لا يحتاج مزيداً من المرائي غير ما يراه (وفلان عينه فارغة) يعني: لا يكتفي بما يرى، بل يطلب المزيد، فينظر هنا وهناك.
ففي الجنة تقرّ العيون بحيث لم يَعُدْ لها تطلعات، فقد كَمُلَتْ لها المعاني، فلا ينبغي لها أنْ تطمع في شيء آخر إلا الدوام.
لذلك يخاطب الله رسوله صلى الله عليه وسلم:
{ وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ… }[طه: 131]
فالإنسان إذا كانت عينه فارغة تراه زائغ العينين، ينظر هنا وهناك، ولو كانت عينه (مليانة) لانتهى عندها.
ومن معاني مادة (قرَّ) القُرُّ وهو البرد الشديد، وهذا المعنى يَكْنُون به عن سرور النفس، فالعين الباردة أي: المسرورة، أما العين الساخنة فهي الحزينة المتألمة.
بعض ما ورد في نعيم الجنة :
ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الجنة يوماً لأصحابه فقال: (هي ورب الكعبة نور يتلألأ، وريحانة تهتز، ونهر مضطرب، وقصر مشيد، وزوجة حسناء جميلة، وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة، وحلل كثيرة، ثم قال صلى الله عليه وسلم: ألا من مشمر للجنة؟ فقال الصحابة: نحن المشمرون لها يا رسول الله؛ فقال صلى الله عليه وسلم لهم: قولوا إن شاء الله عز وجل). أخرجه ابن ماجة من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما
وقال أبو هريرة : قلنا: يا رسول الله! حدثنا عن الجنة ما بناؤها؟
فقال صلى الله عليه وسلم: لبنة من ذهب، ولبنة من فضة ملاطها المسك – أي مونتها- ، وحصباؤها -الحصى – اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، من دخلها ينعم ولا يبأس، ويخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه)أخرجه أحمد
صفة أهل الجنة :
عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر في ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة، لا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون ولا يتفلون – لا مخاط ولا تفل – أمشاطهم الذهب والفضة ، ورشحهم المسك، وأزواجهم من الحور العين، على صورة أبيهم آدم، ستون ذارعاً في السماء) رواه البخاري ومسلم
(لا يبولون ولا يتغوطون) لا بول ولا غائط في الجنة
إذاً: أين يذهب الطعام والشراب؟
يخرج على الأجساد مسكاً؛ لأنه لا يحق إطلاقاً أن يكون عند الله في جنته بول أو براز
وفي رواية الإمام البيهقي أنه قال: (جمالهم كجمال يوسف، وقلبهم كقلب أيوب) جمال أهل الجنة كجمال يوسف، وقلوب أهل الجنة على قلب أيوب الصابر الذي صبر على قضاء الله وقدره.
طعامهم وشرابهم ولباسهم :
قال تعالى : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ * عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً * إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً * وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ * وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ * وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ * إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً * لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ * ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ )[الواقعة:10-40]
أما لباسهم: (وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ) فاطر:33.
وهم يأكلون ما يشاءون ولا يتخمون أبدا بل إذا أكل الإنسان منهم وأراد أن يأكل غير ذلك أخرج ما أكل رشحا يرشحه ، عرقا يعرقه لا بول ولا غائط وإنما عرق رائحته كرائحة المسك بفضل الله ورحمته وكرمه سبحانه وتعالى .
عن جابر رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: (إن أهل الجنةِ يَأكلُون فيها ويشْرَبُون ولا يتفُلُون ولا يبُولونَ ولا يَتَغَوَّطونَ ولا يمْتَخِطون، قالوا: فما بالُ الطعام؟ قال: جُشاءٌ ورَشْحٌ كَرشحِ المسكِ يُلْهَمُونَ التسبيحَ والتحميدَ كما يُلْهَمُونَ النَّفس)
وعن زيدِ بن أرقمَ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: « والذي نفسُ محمدٍ بيدِه إن أحدَهُمْ (يعني أهل الجنةِ) ليُعْطَى قوةَ مائةِ رجلٍ في الأكل والشرب والجماعِ والشهوةِ، تكون حاجةُ أحدهم رَشْحاً يفيض مِنْ جلودهم كرشْحِ المسْكِ فَيَضْمُر بطنه » أخرجه أحمد والنسائي.
وعن أبي سعيد رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قالَ: « إذا دخل أهل الجنةِ الجنة ينادِي منادٍ: إن لكمْ أنّ تَصِحُّوا فلا تَسْقموا أبداً وإن لكم أن تَحْيَوْا فلا تموتوا أبداً، وإنَّ لكم أن تشِبُّوا فلا تَهرموا أبداًوإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً، وذلك قولُ الله عز وجل: { وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ » الأعراف:43
صفة أزواج أهل الجنة:
قال تعالى : (فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ ) الرحمن:70-78
وقال تعالى : (إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً عُرُباً أَتْرَاباً لأَصْحَابِ الْيَمِينِ ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنْ الآخِرِينَ ) الواقعة:38-40
(إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً ) يعنى إذا ماتت المؤمنة وهي عجوز ترجع إلى سن الشباب، جميلة وحسناء في سن ثلاثة وثلاثين .
(فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً ) إذا جامعتها ألف مرة وجدتها بكراً في كل مرة.
(عُرُباً أَتْرَاباً) عرباً: جمع عروب، والعروب: هي المرأة التي تتفنن في كلمات الحب والعشق والغرام لزوجها و( أَتْرَاباً) يعني في سن واحدة
وعن أنس رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: « لقاب قوسِ أحدِكم أو موضعِ قدمٍ في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيهَا، ولَوْ أنَّ امرأةً من نساءِ الجنة اطلعتْ إلى الأرض لأضاءت ما بيْنَهُمَا ولملأت ما بينهما ريحاً ولنَصِيِفُها (يعني الخمارَ) خيرٌ من الدنيا وما فيها » رواه البخاري.
أدنى أهل الجنة منزلة وآخر من يدخلها :
عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سأل موسى بن عمران عليه السلام ربه جل وعلا وقال: يا رب! ما أدنى -أي: من أقل– أهل الجنة منزلة؟
فقال له رب العزة جل وعلا: أدنى الناس منزلة في الجنة يا موسى رجل يأتي بعدما يدخل أهل الجنة الجنة, فيقال له: ادخل الجنة, فيقول العبد لربه: يا رب! كيف أدخل الجنة وقد أخذ الناس أماكنهم وأخذاتهم, لقد وجدتها ملأى!!!!
فيقول الله عز وجل له: أترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت يا رب, فيقول الله عز وجل له: لك ذلك وعشرة أمثال ذلك معك, ولك ما اشتهت نفسك، ولذت عينك, يقول موسى: يا رب! فهذا أدنى أهل الجنة منزلة، فكيف يكون حال أعلاهم منزلة؟
فقال الله جل وعلا: يا موسى! أولئك الذين غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها فلم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر) صحيح مسلم
آخر الناس دخولاً الجنة:
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (إن آخر رجل يدخل الجنة رجل يمشي على الصراط مرة ويكبو مرة، وتسفعه النار مرة, حتى إذا ما جاوز الصراط نظر إلى خلفه -أي: إلى للنار- وقال لها: تبارك الذي نجاني منك, الحمد لله الذي أعطاني ما لم يعط أحداً من الأولين والآخرين من خلقه!!!
فيرفع الله له شجرة غرسها الله بيديه, وهنا يقول العبد: أدنني منها -قربني من هذه الشجرة- أستظل بظلها وأشرب من مائها؟
فيقول الله جل وعلا: عبدي فهلاّ إن أعطيتكها -أي: إن أعطيتك وقربتك إلى هذه الشجرة- هل ستسألني شيئاً غير ذلك؟
يقول: لا يا رب لا أسألك غير ذلك أبداً, لقد نجيتني من النار، وسوف تقربني إلى هذه الشجرة أستظل بظلها، وأشرب من مائها، لا أسألك شيئاً بعد ذاك،
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: وربه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه, فيقربه الله من الشجرة, فيستظل العبد بظلها، ويشرب من مائها,
فيرفع الله له شجرة هي أحسن من الأولى، فيقول العبد بعد فترة: يا رب! فيقول الله جل وعلا: ماذا تريد يا عبدي؟ فيقول: يا رب أدنني من هذه الشجرة, أستظل بظلها وأشرب من مائها؟
فيقول الله جل وعلا: عبدي ألم تعط العهود والمواثيق ألا تسأل غير الذي سألت؟ فيقول: وعزتك لا أسألك غير هذا، قربني من هذه ولن أسأل بعد ذلك, فيقربه الله عز وجل؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه, فيمكث العبد تحت هذه الشجرة الثانية،
وبعد فترة يرفع الله له شجرة على باب الجنة, فينظر إليها ويقول: يا رب! أدنني من هذه الشجرة أستظل بظلها وأشرب من مائها؟
فيقول الله جل وعلا: عبدي ألم تعط العهود والمواثيق ألا تسأل غير الذي سألت؟ فيقول: وعزتك لا أسأل غير هذا, فيقربه الله عز وجل؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه, فإذا ما جاء العبد تحت هذه الشجرة التي هي على باب الجنة, استمع إلى أصوات أهل الجنة قال: يا رب! أدخلني الجنة -أتدرون ماذا يقول له رب العزة؟– يقول له رب العزة جل وعلا: عبدي ما الذي يرضيك مني؟ أترضى أن أعطيك الدنيا ومثلها معها؟ فينظر العبد إلى الرب جل وعلا ويقول: أتهزأ بي وأنت رب العالمين؟ فيضحك عبد الله بن مسعود ويقول للصحابة: لماذا لا تسألوني عن سبب الضحك؟! فيقولون له: مم تضحك؟ فيقول ابن مسعود : أضحك لضحك رسول الله!!!
حدث النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث فضحك فسأله الصحابة: مم تضحك يا رسول الله؟ قال: أضحك لضحك رب العزة( لأن العبد حينما يقول لربنا: أتهزأ بي وأنت رب العالمين؟! يضحك الله من عبده ويقول: (إني لا أستهزئ بك ولكني على ما أشاء قادر) صحيح مسلم
رؤية الله في الجنة:
إن نعيم الجنة الحقيقي ليس في طعامها ، ولا في ثمرها، ولا في حريرها، ولا في عسلها، ولا في بنائها، ولا في قصورها، ولا في حورها، ولكن نعيم الجنة الحقيقي في رؤية وجه الله الكريم : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ *) القيامة:22-23
و( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ )يونس:26
والحسنى: هي الجنة، والزيادة: هي التمتع بالنظر إلى وجه رب الجنة جل وعلا, هذه هي غاية المنى، وهذا هو غاية المراد، أن نتمتع بالنظر إلى وجه
الكريم عز وجل, والحديث رواه أكثر من عشرين صحابياً في الصحيحين وغيرهما.
عن صهيب الرومي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أهل الجنة الجنة ينادي عليهم رب العزة جل وعلا ويقول: يا أهل الجنة! هل أزيدكم شيئاً؟ فيقول أهل الجنة: يا رب! وأي شيء تزيدنا؟ ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة؟ ألم تنجنا من النار؟ فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئاً أعظم من النظر إلى وجه الله الكريم )
وفي حديث آخر عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا ما دخل أهل الجنة الجنة نادى عليهم رب العزة جل وعلا وقال: يا أهل الجنة! يا أهل الجنة! فيقول أهل الجنة: لبيك ربنا وسعديك، والخير كله في يديك.
فيقول لهم ربنا: يا أهل الجنة! إني قد رضيت عنكم فهل رضيتم عني؟ فيقولون: سبحانك ربنا وما لنا لا نرضى وقد أدخلتنا الجنة, وبيضت وجوهنا، ونجيتنا من النار؟
فيقول الله جل وعلا: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟
فيقول أهل الجنة: وأي شيء أفضل من ذلك يا ربنا؟
فيقول الله جل وعلا: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً) أخرجه البخاري ومسلم
فأعظم نعيم الجنة هو أن نتمتع بالنظر إلى وجه الله عز وجل؛ لأن الله سبحانه سيكلمنا ليس بيننا وبينه ترجمان
عن عدي بن حاتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر العبد أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم, وينظر العبد أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم, وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه, فاتقوا النار ولو بشق تمرة) صحيح البخاري
هذه هي الجنة، والحديث عن الجنة يطول وهذا كله ما هو إلا تقريب للمعاني .
ويروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال:
واعمل لدار غد رضوان خازنها والجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها
أنهارها عسل مصفى ومن لبن والخمر يجري رحيقاً في مجاريها
والطير تجري على الأغصان عاكفة تسبح الله جهراً في مغانيها
فمن يشتري الدار في الفردوس يعمرهـا بركعة في ظلام الليل يخفيها
اللَّهُمَّ ارزقنا الخُلْدَ في جنانِك، وأحِلَّ علينا فيها رضوانَك، وارزقْنا لَذَّة النظرِ إلى وجهك والشوقَ إلى لقائك من غيرِ ضرَّاءَ مُضِرَّة ولا فتنةٍ مُضلةٍ ، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل ، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل.
بعض القصص عن السلف :
يروى عن ثابت أنه قال : كان أبي من القوّامين لله في سواد الليل.. يقول أبوه : رأيت ذات ليلة في منامي امرأة لا تشبه النساء ، فقلت لها : من أنت يا أمة الله ؟!
قالت : أنا حوراء من حور الجنة .
فقلت : زوجيني نفسك .
فقالت: اخطبني من عند ربي وادفع مهري.
فقلت : وما مهرك ؟!
فقالت : مهري طول التهجد ، والقيام في الظلام.
فقالت : مهري طول التهجد ، والقيام في الظلام .
ولله در من قال :
يا خاطب الحور في خدرها*** وطالباً ذاك على قدرها
انهض بجدٍ لا تكن وانياً*** وجاهد النفس على صبرها
وقم إذا الليل بدا وجهه*** وصم نهاراً فهو من مهرها
فلو رأت عيناك إقبالها*** وقد بدت رمانتا صدرها
وهي تمشي بين أترابها*** وعقدها يشرق في نحرها
لهان في نفسك هذا الذي*** تراه في دنياك من زهرها
وقال مالك بن دينار : كان لي أحزاب أقرؤها كل ليلة ، فنمت ذات ليلة فإذا أنا في المنام بجارية ذات حسن وجمال وبيدها رقعة ، فقالت : أتحسن أن تقرأ ؟..
فقلت : نعم ، فدفعت إلي الرقعة ، فإذا مكتوب فيها هذه الأبيات :
لهاك النوم عن طلب الأماني *** وعن تلك الأوانس في الجنان
تعيش مخلداً لا موت فيها*** وتلهو في الخيام مع الحسان
تنبّه من منامك إن خيراً*** من النوم التهجد بالقرآن
لهذا كله بادر المبادرون، وتنافس المتنافسون يوم سمعوا بما سمعوا من هذا الوصف، ماذا كان منهم ؟أحدهم قال: لأشترين حورية من الحور العين بثلاثين ختمة للقرآن في قيام الليل ، وجد الرجل حتى بلغ تسعاً وعشرين ختمة فغلبه النوم في آخرها ، فنام فرأى حوراء من حوريات الجنة ذات حسن وجمال وبيدها رقعة ، فقالت : أتحسن أن تقرأ ؟..
فقال : نعم ، فدفعت إليه الرقعة ، فإذا مكتوب فيها هذه الأبيات :
أتخطُبُ مثْلِي وعنِّي تَنَامُ ونومُ المُحبِّينَ عنِّي حَرَام
لأنا خُلِقْنَا لكلِّ امرئٍ كَثيرِ الصلاةِ كثيرِ القِيام
فقام بعدها، وأكمل ذلك واجتهد لإتمام ما عزم عليه .
وأبو سليمان الداراني -عليه رحمة الله- نام ليلة من الليالي، وهو عابد زاهد يقول : فرأيت -فيما يرى النائم- كأن حورية جاءتني، وقالت: ما هكذا يفعل الصالحون يا أبا سليمان ؟! أتنام وأنا أربى لك في الخدور من خمسمائة عام؟!لا إله إلا الله! فما نام بعدها إلا قليلاً.