توبة الشيخ أحمد القطان
يقول الشيخ أحمد القطان عن توبته: إن في الحياة تجارب وعبرًا ودورسًا، لقد مررت في مرحلة الدراسة بنفسية متقلبة حائرة، لقد درست التربية الإسلامية في مدارس التربية ولا تربية -ثمانية عشر عامًا وتخرجت بلا دين-، وأخذت ألتفت يمينًا وشمالاً: أين الطريق؟ هل خلقت هكذا الحياة عبثًا؟
أحس فراغًا في نفسي وظلامًا وكآبة، وحدي في الظلام لعلي أجد هناك العزاء، ولكني أعود حزينًا كئيبًا وتخرجت في معهد المعلمين سنة 1969 م، وفي هذه السنة والتي قبلها حدث في حياتي حدث غريب تراكمت فيه الظلمات والغيوم، إذ قام الحزب الشيوعي باحتوائي ونشر قصائدي في مجلاتهم وجرائدهم، والنفخ فيها، وأخذوا يفسرون العبارات والكلمات بزخرف من القول يوحي بعضهم إلى بعض .. حتى نفخوا فيَّ نفخة ظننت أنني أنا الإمام المنتظر، وما قلت كلمة إلا وطبلوا وزمروا حولها .. وهي حيلة من حيلهم، إذا أرادوا أن يقتنصوا ويفترسوا فردًا، ينظرون إلى هويته وهوايته، ماذا يرغب؟
ثم يدخلون عليه من هذا المدخل، رأوني أميل إلى الشعر والأدب فتعهدوا بطبع ديواني ونشر قصائدي، وعقدوا لي الجلسات واللقاءات الأدبية الساهرة .. ثم أخذوا يدسون السم في الدسم، يذهبون بي إلى مكتبات خاصة ثم يقولون: اختر ما شئت من الكتب بلا ثمن فأحمل كتبًا فاخرة .. أوراقًا مصقولة .. طباعة أنيقة عناوينها “أصول الفلسفة الماركسية” “المبادئ الشيوعية”
وهكذا بدأوا بالتدريج يذهبون بي إلى المقاهي الشعبية، فإذا جلست معهم على طاولة قديمة تهتز .. أشرب الشاي بكوب قديم وحول العمال .. فإذا مر رجل بسيارته الأمريكية الفاخرة قالوا: انظر، هذا يركب السيارة من دماء آبائك وأجدادك .. وسيأتي عليك اليوم الذي تأخذها منه بالثورة الكبرى التي بدأت وستستمر .. إننا الآن نهيئها في “فارط” ونعمل لها، وإننا نهيئها في الكويت ونعمل لها، وستكون قائدًا من قوادها، وبينما أنا أسمع هذا الكلام أحس أن الفراغ في قلبي بدأ يمتلئ بشيء .. لأنك إن لم تشغل قلبك بالرحمن أشغله الشيطان، فالقلب كالرحى .. يدور .. فإن وضعت به دقيقًا مباركًا أخرج لك الطحين الطيب .. وإن وضعت فيه الحصى أخرج لك الحصى، ويقدر الله بعد ثلاثة شهور أن نلتقي برئيس الخلية الذي ذهب إلى مصر وغاب شهرًا ثم عاد.
وفي تلك الليلة أخذوا يستهزئون بأذان الفجر .. كانت الجلسة تمتد من العشاء على الفجر .. يتكلمون بكلام لا أفهمه مثل “التفسير المادي للتاريخ” “والاشتراكيون والشيوعية في الجنس والمال”، ثم يقولون كلامًا أمرره على فطرتي السليمة التي لا تزال .. فلا يمر .. أحس أنه يصطدم ويصك .. ولكن الحياء يمنعني أن أناقش فأسكت، ثم بلغت الحالة أن أذن المؤذن لصلاة الفجر .. فلما قال “الله أكبر” أخذوا ينكتون على رسول الله، وهنا بدأ الانفعال الداخلي والبركان الإيماني الفطري يغلي، وإذا أراد الله خيرًا بعبده بعد أن أراه الظلمات يسر له أسباب ذلك ..
إذ قال رئيس الخلية: لقد رأيت الشيوعية الحقيقية في لقائي مع ( … ) بمصر هو الوحيد الذي يطبقها تطبيقًا كاملاً، فقلت: عجبًا .. ما علامة ذلك؟!!
قال: إذا خرجنا في الصباح الباكر عند الباب فكما أن زوجته تقبله تقبلني معه أيضًا، وإذا نمنا في الفراش فإنها تنام بيني وبينه .. وهكذا يقول .. والله يحاسبه يوم القيامة .. فلما قال ذلك نزلت ظلمة على عيني وانقباض في قلبي، وقلت في نفسي: أهذا فكر؟!! أهذه حرية؟!! أهذه ثورة؟!! لا ورب الكعبة إن هذا كلام شيطاني إبليسي!!
ومن هنا تجرأ أحد الجالسين فقال له: يا أستاذ ما دمت أنت ترى ذلك، فلماذا لا تدع زوجتك تدخل علينا نشاركك فيها؟ قال: إنني ما أزال أعاني من مخلفات البرجوازية وبقايا الرجعية وسيأتي اليوم الذي نتخلص فيه منها جميعًا ..
ومن هذه الحادثة بدأ التحول الكبير في حياتي إذ خرجت أبحث عن رفقاء غير أولئك الرفقاء .. فقدر الله أن ألتقي بإخوة في “ديوانية” كانوا يحافظون على الصلاة .. وبعد صلاة العصر يذهبون إلى ساحل البحر ثم يعودون .. وأقصى ما يفعلونه أنهم يلعبون “الورقة”، ويقدر الله أن يأتي أحدهم إليَّ ويقول: يا أخ أحمد، يذكرون أن شيخًا من مصر اسمه “حسن أيوب” جاء إلى الكويت ويمدحون جرأته وخطبته، ألا تأتي معي؟ قالها من باب حب الاستطلاع .. فقلت: هيا بنا .. وذهبت معه .. توضأت .. ودخلت المسجد .. وجلست .. وصليت المغرب .. ثم بدأ يتكلم .. وكان يتكلم واقفًا لا يرضى أن يجلس على كرسي .. وكان شيخًا كبيرًا شاب شعر رأسه ولحيته، ولكن القوة الإيمانية البركانية تتفجر من خلال كلماته؛ لأنه كان يتكلم بأرواح المدافع لا بسيف من خشب، وبعد أن فرغ من خطبته أحسست أني خرجت من عالم إلى عالم آخر .. من ظلمات إلى نور .. ولأول مرة أعرف طريقي الصحيح .. وأعرف هدفي في الحياة .. ولماذا خُلقت، وماذا يراد مني، وإلى أين مصيري.
وبدأت لا أستطيع أن أقدم أو أؤخر إلا أن أعانق هذا الشيخ وأسلم عليه، ثم عاد هذا الأخ يسألني عن انطباعي؟
فقلت له: اسكت وسترى انطباعي بعد أيام .. عدت في الليلة نفسها واشتريت جميع الأشرطة لهذا الشيخ .. وأخذت أسمعها إلى أن طلعت الشمس .. ووالدتي تقدم لي طعام الإفطار فأرده .. ثم طعام الغداء .. وأنا أسمع وأبكي بكاء حارًا .. وأحس أني قد ولدت من جديد .. ودخلت عالما آخر .. وأحببت الرسول – صلى الله عليه وسلم -، وصار هو مثلي الأعلى وقدوتي .. وبدأت أنكب على سيرته قراءة وسماعًا .. حتى حفظتها من مولده إلى وفاته، فأحسست أنني إنسان لأول مرة في حياتي .. وبدأت أعود فاقرأ القرآن، فأرى كل آية فيه تخاطبني أو تتحدث عني {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122].
نعم .. لقد كنت ميتًا فأحياني الله .. ولله الفضل والمنة .. ومن هنا انطلقت مرة ثانية إلى أولئك الرفقاء الضالين المضلين .. وبدأت أدعوهم واحدًا واحدًا .. ولكن {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56]
أما أحدهم فقد تاب بإذن الله وفضله، ثم ذهب إلى العمرة .. فانقلبت به السيارة ومات وأجره على الله.
وأما رئيس الخلية فقابلني بابتسامة صفراء وقال: يا أستاذ أحمد .. إنني أحسدك لأنك عرفت الطريق الآن .. أما أنا فاتركني .. فإن لي طريقي ولك طريقك .. ثم صافحني وانصرف ..
وظل هو كما هو حتى الآن، وأما البقية فمنهم من أصبح ممثلاً، ومنهم من أصبح شاعرًا يكتب الأغاني وله أشرطة “فيديو” يلقي الشعر وهو سكران .. وسبحان الذي يخرج الحي من الميت .. من تلك اللحظة بدأت أدعو إلى الله رب العالمين .
مائة قصة وقصة- الهندي: 55 – 60.