دعا ربه أن يجعل كل شيء تمَسّه يده ذهباً
جاءت رسالة للشيخ علي الطنطاوي من موظف يشكو إليه أن راتبه لا يبلغ ربع راتب زميله، وزميله أقل منه في العلم والذكاء.. فكان مما قاله الشيخ له: ولكن لا تَدَعِ اليأسَ يدخل عليك، والحقدَ الأسود يأكل قلبك، ولا تقل: ما لِفلانٍ وفلان؟
فلقد كنتُ يوماً مثلك؛ أجِدُ من هُم دُوني ومن كانوا تلاميذي قد حازوا الجَاه والمال، وبلغوا أعلى المناصب.. فأتألم
ثم قلت لنفسي: “يا نفسُ وَيْحَكِ، وَمَن أعطاكِ العهد على أن تكوني أبداً فوق الناس؟!…
وبرئتُ من مرض الحسد فاسترحت…
وليس في الدنيا أحدٌ لا يجد من هو أفضل منه في شيء، ومن هو أقلّ منه في أشياء..
إن كنتَ فقيراً ففي الناس من هو أفقر منك، وإن كنت مريضاً أو معذَّباً ففيهم من هو أشدّ منك مرضاً وأكثر تعذيباً..
فلماذا ترفع رأسك لتنظر من هو فوقك، ولا تَخْفِضُه لتُبْصِر مَن هُو تحتك؟
إن كنتَ تعرف مَن نال من المال والجاه ما لم تَنَلْه أنت وهو دونك ذكاءً ومعرفةً وخُلقاً، فلِمَ لا تَذكُر مَن أنت دونه أو مثله في ذلك كله، وهو لم ينل بعض ما نلت؟…
وهذه المزايا التي تقول إن الله أعطاكها: (مَزيّة الفهم والجِدّ والدأب والاستقامة والأمانة) أليست نِعَماً تستحق أن تحمد الله عليها؟
أَوَتَرضى أن تزداد مالاً وأن تكون عَيِيًّاً غبياً، أو جاهلاً أو خاملاً، أو لصاً أو مجرماً؟
فلا تأسف إذا أُعطيت هذه النعم كلها وحُرمت المال الوفير، بل ائسَفْ إن حُرِمتَها وأُعطيتَ أموال قارون.
وهل السعادة -يا أخي- بالمال؟
ما المال إن لم تُشْرَ به متعة عيشٍ، أو لذّةُ نفسٍ، أو مكرمةٌ يبقى ذكرها، أو صالحةٌ ينفع أجرها؟
المال وسيلة، فإن لم يُتوسَّل به إلى نعيم الدنيا أو سعادة الآخرة كان ورقاً مُصَوَّراً أو معدناً برّاقاً..
كالذي زعموا أنه كان له دعوتان مُستجابتان، فدعا ربه أن يجعل كل شيء تمَسّه يده ذهباً، فأُعطِيَها.. فكاد يطير عقله من الفرح
وانطلق يلمس كلَّ ما يجد فيُحَوِّله ذهباً..
حتى جاع، فأخذ الصحن ليأكل، فصار ما فيه من الطعام ذهباً، وعطش فحمل الكأس ليشرب فصار ما فيها من الماء ذهباً.. فقعد جوعان عطشان
فأقبلت ابنته تواسيه، فعانقها، فصارت تمثالاً من الذهب..
فدعا ربه الدعوة الثانية: أن يعيد كل شيء كما كان؛ لأنه أدرك أن الرغيف للجائع والكأس للعطشان والبنت للأب خيرٌ من مِلء الأرض ذهباً.
وأنت تستطيع بمُرَتّبك القليل -إن أحسنت التصرف فيه واستشعرت الرضا به- أن تكون أسعد ممن له الآلاف المؤلفة من الليرات…
وما يصنع بالمال مَن يدخل عليه في شهره العشرة الآلاف، والعشرون والخمسون من كبار التجّار والموسرين؟
أيُمكن أن يلبس الرجل عشر بذلات معاً؟ أو أن يأكل عشرين رغيفاً في غداء؟ أو ينام على خمسة أسرة في وقت واحد؟
إلاّ أن يكون الإنفاق في السرف والترف والفسوق والعصيان، وهذا شيء ليس له حدود.
من كتاب (مع الناس) تحت عنوان: طريق السعادة
الشيخ علي الطنطاوي