عظمة الله رب العالمين
6- وصف ملك من حملة العرش
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أُذِنَ لي أن أتكلم عن ملكٍ من حملة العرش، أُذِنَ لي أن أتكلم عن ملكٍ من ملائكة الله من حملة العرش، ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام”. رواه الإمام أبو داود في سننه، وصححه الشيخ الألباني
هذا الحديث، إخواني، يبيّن لنا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم آيةً من آيات الله في مخلوقٍ من مخلوقاته. هذا الملك من حملة العرش، لم يصف لنا النبي صلى الله عليه وسلم جميع هيئته أو طوله أو عرضه، بل وصف لنا جزءًا يسيرًا من خلقته، وهو ما بين شحمة الأذن – وهي قطعة اللحم في نهاية الأذن – إلى العاتق، وهو الكتف. هذه المسافة، التي لا تتجاوز سنتيمترات عندي وعندك، هي مسيرة سبعمائة عام عند هذا الملك.
معنى مسيرة سبعمائة عام: أي كما يسافر المسافر إلى مكان؛ فمثلًا، لو ركبت السيارة من هنا إلى تورنتو، كم ساعة تأخذ؟ ست ساعات، سبع ساعات؟ هذا الملك، هذه المسافة عنده مسيرة سبعمائة عام، أي يقطعها الراكب في سبعمائة عام.
ماذا عن بقية خلقه؟ ماذا عن هيئته؟ ماذا عن عظمته؟ كيف يكون حجمه؟
أنت تتكلم عن ملك من خلق الله عز وجل!!! هذا الملك يحمل عرش الله عز وجل؛ فماذا عن عرش الله جل جلاله؟
هذا الملك وهذا العرش من مخلوقات الله سبحانه وتعالى؛ فماذا عن رب العزة جل في علاه؟
يعجز الإنسان عن إدراك ذاته، ويعجز العقل عن أن يعي مدى جلاله وعظمته.
فهو سبحانه وتعالى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا أُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك”.
عِظَم هذه الخلقة دال على خالقها: عظمة هذه الخلقة تدل على عظمة الله وجلاله، وتدل على مدى ضعف الإنسان وضآلة حجمه في هذا الكون، كما قال الله تعالى:“وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا” (سورة النساء: 28).
العرش أعظم المخلوقات:
العرش هو أعظم المخلوقات، أعظم من خلق السماوات والأرض وما فيها من مجرات وكواكب وأفلاك وشموس وأقمار.
كل هذا لا شيء بالنسبة إلى عظمة الله وجلاله.
ومن أَدَلّ الدلائل على عظمته هذا العرش.
العرش هو كالقبة لهذا العالم، هو سقف هذا العالم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا سألتم الله، فاسألوه الفردوس الأعلى؛ فإنه أعلى الجنة ووسط الجنة، وأعلاه عرش الرحمن”.
الرحمن على العرش استوى:
الإمام مالك، رحمه الله، لما سأله سائل عن قول الله تعالى: “الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى” (سورة طه: 5)، قال: “الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة”.
إذن، العرش هو سرير الملك أو كرسي الملك، وجلوس الملك على العرش إشارة إلى تمكنه من هذه المملكة وقدرته على تصريف الأمور وتدبيرها. وعندنا الهدهد لما رأى ملكة سبأ قال: “ولها عرش عظيم” (النمل: 23). هذا بالنسبة للمعنى اللغوي حتى لا نتشتت.
طيب، بالنسبة لرب العزة ذي الجلال، الاستواء معلوم، يعني مفهوم ما هو الاستواء في اللغة.
لكن كيف استوى الله؟
الكيف مجهول. فلا تُكلِّف عقلك ما لا يعيه ولا يدركه.
ولذلك قال العلماء: إن من أراد أن يدرك ذات الله وجلاله، فأنت كمن يُكلِّف نملة أن تحرك جبلاً! نملة تحرك جبلاً؟! فكل البشر مجتمعين لا يستطيعون تحريك الجبل.
فهنا الكيف مجهول. لماذا الكيف مجهول؟
لأنك لن تُحيط علماً بجلال الله وعظمته، وعقلك لا يعي ولا يدرك مدى هذا الجلال وهذه العظمة.
فهنا ندرك تماماً أن كل حاسة من حواس الإنسان لها مدى، لها حدّ لا تتجاوزه.
فبصرك له حدود، وسمعك له حدود، وصوتك إذا رفعته له حدود.
أيضاً، عقلك له حدود؛ هذا الحد لا يستطيع الإنسان أن يدركه ولا يستطيع الإنسان أن يعلو عليه.
فهنا هناك أمور من عظمة الله وجلاله لا نستطيع أن ندركها إلى حدّ معين.
لماذا؟
لأن العقل يدرك المحسوسات أو يدرك المعقولات إذا قارن بالمحسوسات.
يعني مثلاً: العرب لما تحب أن تضرب مثلاً بالعلم أو بالكرم يقولون: هذا فلان كالبحر. هذا اسمه تشبيه.
مثال: فلان كالبحر، البحر زاخر بالماء وكذا، فهذا من سعة علمه كالبحر أو من سعة كرمه كالبحر، ويقولون عن الشجاع: فلان كالأسد.
أنا إذا أردت أن أُقرب صفة من صفات الله إلى عباده، كيف أضرب بها المثل؟ هل أقول: إن كرم الله كالبحر؟
البحر من صنعته، البحر خلق من خلق الله عز وجل.
هل أضرب المثل باتساع السماوات والأرض؟
هذه أيضاً من خلقه، هذه من عظمته.
ولذلك هنا حينما تريد أن تبين هذا المعنى، تستعمل صيغ المبالغة في اللغة والصيغ الجامعة: “إن الله على كل شيء قدير”، “إن الله بكل شيء عليم”. ولذلك قال: “فلا تضربوا لله الأمثال” (النحل: 74).
الله “ليس كمثله شيء” (الشورى: 11). لا تقل: الله في علمه مثل كذا.
لا أحد يضاهي الله أو يشابه الله في علمه.
لا أحد كمثل الله في قدرته.
لا أحد كمثل الله في عظمته.
فلله العظمة التامة الكاملة، ولله العلم المطلق، ولله القدرة التامة، ولله الوصف بكل كمال، جل جلاله.
إذن، فالاستواء معلوم، يعني معروف في اللغة، أي معنى الاستواء.
أما الكيف إذا أُضيف إلى ذات الله وجلاله، فهو مجهول، أنا وأنت لا ندركه.
ثم قال: والإيمان به واجب: أن تؤمن لأن هذه آيات القرآن وردت في مواضع عدة من القرآن: “الرحمن على العرش استوى” (طه: 5).
والسؤال عنه بدعة: يعني السلف كانوا أو الصحابة في زمن النبي ﷺ سمعوا هذه النصوص وفهموها على ما هي عليه، ولم يتكلفوا السؤال ولا الفحص ولا البحث عنها.
ثم قال الإمام مالك: “وإنك لرجل سوء! أخرجوه من المسجد”. يعني لم يرضَ أن يفتح الباب لمثل هذه الأسئلة، لأنه يُشوِّش على الناس دينهم وفطرتهم.
ولذلك، لما حدث بعد ذلك في قرون الترف العلمي، وبدأ العلماء يتكلمون في تفاصيل التفاصيل، حصل موضوع التشويش.
فقيل: نؤول! هل كذا؟ هل كذا؟ فجاءت فرقة وقالت: لا، الله تعالى ليس كخلقه، فنفوا عن الله أي صفة تشابه صفات البشر.
قالوا: إن رب العالمين سميع لكن ليس له سمع، وبصير بلا بصر، إلى آخر هذا التحريف!
الله سميع بلا كيف. الله بصير بلا كيف. يعني أنا وأنت نسمع بالأذن، نبصر بالعين. الله عز وجل بلا كيف يسمع، نحن لا ندرك كيف يسمع الله، لكنه يسمع دبيب النملة السمراء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء. إذن، فالله سميع، والله بصير لا يشابه خلقه.
البعض قالوا: لا نؤول. نقول: “ولتصنع على عيني” (طه: 39)، يعني بعنايته. “والسماء بنيناها بأيدٍ” (الذاريات: 47)، إشارة إلى القدرة.
طيب، لو أراد الله أن يقول هذا، لقال هذا.
فنُبقي هذه الصفات على ما هي عليه في القرآن كما تلاها النبي ﷺ وكما سمعها الصحابة، على ما هي عليه، بدون كيف ولا تشبيه ولا تمثيل. “فلا تضربوا لله الأمثال” (النحل: 74).
وهناك قاعدة، وليست حديثاً كما يظن البعض، قعَّدها العلماء، وهي: “كل ما خطر ببالك، فالله بخلاف ذلك”.
ورد في الحديث: “تفكروا في آلاء الله” يعني في نعم الله وخلق الله، استدلوا على عظمته بما بثه في كونه. “تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في ذات الله، فإنكم لن تقدروا الله قدره”.
إذاً يا إخواني، الحديث عن هذا يطول. لكن يكفينا أن نعلم أو نستدل من هذا الحديث على عظمة الله وجلاله.
بهذا الكائن أو هذا الملك من مخلوقات الله، يقول النبي ﷺ: “أُذن لي أن أتكلم عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش، ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام”.
سبحانك ما أجلك وما أعظمك!
سبحانك ما أجلك وما أعظمك!
سبحانك لا نحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.