الهجرة النبوية دروس وعبر

تاريخ الإضافة 18 يوليو, 2023 الزيارات : 23615

يأتي لقاء هذا اليوم ونحن نقف على عتبات عام هجري جديد ونودع عاماً مضى.

وتعاقب الليالي والأيام والأشهر والأعوام بالنسبة للمسلم يعني الكثير… يعني الوقوف وقفة المعتبر المتعظ الذي يحاسب نفسه وينظر فيما مضى وفيما هو مقبل عليه،  نسأل الله تبارك وتعالى أن يكون عام خير ورشد وبركة .

والأمة الإسلامية لها أحداث و ذكريات لها أعظم الأثر في حياتها ، وحدث الهجرة غيّر مسيرة التاريخ ، و تجلى فيه صدق الإيمان ، فقد كانت الهجرة مؤشراً لانطلاق الدعوة ، و لم تكن الهجرة فرارا من المحنة ، أو مجرد انتقال مكاني ، و إنما كانت فاتحة العمل الجاد المتواصل.

بداية التأريخ الهجري :

و لأهمية الهجرة المباركة و مكانتها بين الأحداث الإسلامية أرخ المسلمون بالهجرة كمعلمٍ بارز في تاريخ الدعوة   .

وأول من أرخ بالهجرة هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه في سنة سبع عشرة للهجرة، فقد أرسل عمر إلى أبي موسى يسأله عن أمر حدث في شعبان فقال عن أي شعبان يسأل عمر ؟!!

فكتب أبو موسى إلى عمر: إنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ.

 فجمع عمر الناس يستشيرهم ، فقال بعضهم: أرّخ بالمبعث، وبعضهم قال أرّخ بالهجرة، فقال عمر: الهجرة فرقت بين الحق والباطل، فأرخوا بها.

وعلى الرغم من أن هجرة الرسول من مكة إلى المدينة كانت في 22 ربیع الأول الموافق (24 سبتمبر عام 622م) إلا أنهم بدأوها من شهر المحرم من نفس السنة وذلك لسببين هما :

1-  لأن شهر محرم كان بدء السنة عند العرب قبل الإسلام .

2-  شهر محرم هو الشهر الذي استهل بعد بيعة العقبة بين وفد من أهل يثرب والنبي صلى الله عليه وآله وسلم أثناء الحج في شهر ذي الحجة فكأن الهجرة بدأت في ذلك الوقت فقد أذن بها صلى الله عليه وسلم وكان أول هلال يهل بعد الإذن هو شهر محرم.

ويلاحظ أنهم أعرضوا عن التأريخ بمولده و مبعثه و ومماته صلى الله عليه و سلم – لأن المولد و المبعث لا يخلو واحد منهما من النزاع فى تعيين الوقت ، و أما الوفاة فأعرضوا عنه لما توقع بذكره من الأسف عليه صلى الله عليه و سلم.

لقد كان عمر رضى الله عنه و من معه يحرصون كل الحرص على ألا تذوب شخصية هذه الأمة في شخصية غيرها من الأمم ، إذا لم يرضوا أن يكونوا في تاريخهم تبعاً لأمة من الأمم ، بل كانوا مبدعين فى كل شىء.

دروس من الهجرة

لم تكن الهجرة فراراً، و لم تكن خوفاً من الأذى، و لكن توطيداً لدفعه، و لم تكن جزعاً من المحنة، و لكن توطيناً للصبر عليها، أجل لم تكن فراراً من القدر، و لكنها كانت فراراً إلى القدر.

الدرس الأول: الهجرة والتخطيط الجيد:

إن التخطيط أساس نجاح أي عمل من الأعمال؛  وهو الطريق الذي يرسم بصورة مسبقة ليسلكه فرد أو جماعة عند اتخاذ قرارات أو تنفيذ عمل، وهو سلوك إسلامي قويم، ومنهج رشيد حثَّ الإسلام على ممارسته في جميع شؤون الحياة؛ لأنه بالتخطيط يحقق المسلم فاعلية في عمله وإنتاجه، وكفاءة في أدائه .

وفي حدث الهجرة خطط النبي صلى الله عليه وسلم خطة متينة محكمة: 

 1- علىٌّ – رضي الله عنه- على فراشه صلى الله عليه وسلم متغطيا ببرده، وبات المجرمون ينظرون من شق الباب، يتهافتون أيهم يضرب صاحب الفراش بسيفه .

2- عبدالله بن أبي بكر كان يصبح مع قريش فيسمع أخبارها ومكائدها فإذا اختلط الظلام تسلل إلى الغار وأخبر النبي  صلى الله عليه وسلم الخبر فإذا جاء السحر رجع مصبحاً بمكة .

3- كانت أسماء تعد لهما الطعام ثم تنطلق  بالسفرة إلى الغار …ولما نسيت أن تربط السفرة شقت نطاقها فربطت به السفرة وانتطقت بالآخر فسميت بـ( ذات النطاقين )

4- ولأبي بكر راعٍ اسمه عامر بن فهيرة ، كان يرعى الغنم حتى يأتيهما في الغار فيشربان من اللبن، فإذا كان آخر الليل مر بالغنم على طريق عبدالله بن أبي بكر عندما يعود إلى مكة ليخفي أثر أقدامه .

5- واستأجر رسول الله  صلى الله عليه وسلم رجلاً  كافراً اسمه عبدالله بن أريقط وكان ماهراً بالطريق ليكون دليلهم وواعده في غار ثور بعد ثلاث ليال.

فتوزيع الأدوار جاء مرتباً مخططاً منظماً وفق خطة علمية مدروسة: 

 فالقائد : محمد ، والمساعد : أبو بكر ، والفدائي : علي ، 

والتموين : أسماء ، والاستخبارات : عبدالله ،

والتغطية وتعمية العدو : عامر ،

ودليل الرحلة : عبدالله بن أريقط ، والمكان المؤقت : غار ثور ،

وموعد الانطلاق : بعد ثلاثة أيام ، وخط السير : الطريق الساحلي.

وهذا كله شاهد على عبقريته وحكمته صلى الله عليه وسلم ، وفيه دعوة للأمة إلى أن تحذو حذوه في حسن التخطيط والتدبير وإتقان العمل واتخاذ أفضل الأسباب مع الاعتماد على الله مسبب الأسباب أولاً وآخراً .

إن الله قادرٌ على حمل نبيه على البراق أو يسخر له الريح – كما سخرها لسليمان – فتحمله في طرفة عين من مكة إلى المدينة، ولكن الله يريد أن يعطينا درساً لا ننساه وهو التخطيط والأخذ بالأسباب.

الدرس الثاني :  الهجرة والأخذ بالأسباب و التأييد الإلهي

إن الهجرة يتجلى فيها التعامل مع الأسباب مع التوكل على الله ؛ لأن ذلك من الدين ، إذ الأسباب ما هي إلا أدوات للقدرة العليا ، و مفاتيح لخزائن رحمة الله عز وجل .

 ومن تأمل الهجرة ، و رأى دقة الأخذ بالأسباب من ابتدائها إلى انتهائها ، يدرك أن الأخذ بالأسباب عبادة تحقق معنى التوكل على الله.

ومع هذا لابد وأن نعلم أن هذه الدقة في التخطيط ، ما كان بها وحدها يكون النجاح ، لولا التوفيق الإلهي ، و الإمداد الرباني ، فالهجرة جرى فيها القدر الإلهي من خلال الأخذ بالأسباب البشرية.

صور من التأييد الإلهي في حادث الهجرة النبوية

ذكرت كتب السيرة صوراً من معجزات الهجرة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة المنورة ؛ و يلاحظ أنها جاءت بعد أن أخذ الرسول صلى الله عليه و سلم بكافة الأسباب المتاحة ، و هذا شأن المؤمن مع الأسباب ، أن يقوم بها كأنها كل شيء في النجاح ثم يتوكل – بعد ذلك – على الله ؛ لأن كل شيء لا قيام له إلا بالله ، فالنبي صلى الله عليه و سلم خطط و دبر للهجرة و أخذ بكل أسبابها الممكنة للبشر ، في المكان و الزمان ، و الدليل ، و الراحلة ، و الصاحب ، و الاتجاه ، و الزاد ، و الغار ، و الخروج بليل ، و تسجية على رضى الله عنه على فراشه صلى الله عليه و سلم – كل ذلك مع توكله المطلق على ربه و مولاه الذى كان يجرى له الخوارق بعد استفراغ غاية الجهد ؛ و لذلك قال لصاحبه : { لا تحزن إن الله معنا } و لم يقل : لا تحزن إن خطتنا محكمة ، و هي بالفعل محكمة ، لكن الأمر كله لله من قبل و من بعد.

ومن هذه المعجزات:-

المعجزة الأولى: خروج النبي من بينهم سالما بعد اجتماع قريش على قتله

فقد اجتمعت قريش في دار الندوة لينظروا في أمر محمد وذلك بقيادة أبي جهل؛ وأجمعوا في نهاية المؤتمر على قتل النبي صلى الله عليه وسلم.

فأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول الله سبحانه:{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ…} الآية ( الأنفال: 30 ) 

فأخبر جبريل النبي صلى الله عليه وسلم بمؤامرة قريش، وأن الله أذن له في الخروج، وحدد له وقت الهجرة، قائلاً: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه. 

وذهب النبي صلى الله عليه وسلم في الهاجرة إلى أبي بكر وأخبره بأن الله أذن له في الخروج، فقال أبوبكر: الصحبة بأبي أنت وأمي يا رسول الله؟

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، فبكى أبوبكر من شدة الفرح، تقول عائشة: ما كنت أعلم أن أحداً يبكي من شدة الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ.

فلما كانت عتمة من الليل؛ أي الثلث الأول اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام فيثبوا عليه، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانهم؛ وعلم ما يكون منهم قال لعلي بن أبي طالب: نم على فراشي وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام في برده ذلك إذا نام.

ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم واخترق صفوفهم وأخذ حفنة من تراب فجعل يذره على رؤوسهم وقد ضرب الله على أبصارهم الغشاوة فلا يرونه وهو تلو هذه الآيات: {يس وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ } إلى قوله: { وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} ( يس: 1- 9 )  ولم يبق منهم رجل إلا وضع على رأسه تراباً.

ومضى إلى بيت أبي بكر فخرجا من خوخة في دار أبي بكر ليلاً حتى لحقا بغار ثور في اتجاه اليمن….

فأتاهم آت لم يكن معهم فقال: ما تنتظرون ههنا؟ 

قالوا: محمداً فقال: خبتم وخسرتم والله قد خرج عليكم محمد ثم ما ترك منكم رجلاً إلا وقد وضع على رأسه تراباً، وانطلق لحاجته فما ترون ما بكم قالوا: والله ما أبصرناه فوضع كل رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب؛ ثم جعلوا يتطلعون فيرون علياً على الفرش مسجى ببرد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون: والله إن هذا لمحمد نائم عليه بُرده، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا وقام علي عن الفراش فقالوا: والله لقد صدقنا الذي كان قد حدثنا. 

فسقط في أيديهم وقالوا: أين صاحبك؟ قال: لا أدري !!!

إنها معجزة عظيمة أن يمر بين الرجال فلا يرونه ويضع على رؤوسهم التراب..

المعجزة الثانية : حفظه وصاحبه في الغار

لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج أتى أبا بكر فخرجا من خوخة أبي بكر في ظهر بيته ومضيا إلى جبل ثور، ولما انتهيا إلى الغار قال أبوبكر: والله لا تدخله حتى أدخله قبلك فإن كان فيه شيء أصابني دونك….

 وكان في الطريق مرة يمشي أمام النبي صلى الله عليه وسلم ومرة خلفه ؛ فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: يا رسول الله أذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون خلفك . 

وتبعتهما قريش،واهتدت إلى المكان بتتبع آثالر الأقدام ،  فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم فصعدوا الجبل حتى وقفوا أمام الغار!!!

فقال أبو بكر :  يا رسول الله لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا !!
قال: ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما “

فانظر كيف أعمى الله أبصارهم عن رؤيتهما ؟ ! بل لم يدر في خلدهم وجود أحد في الغار !!

المعجزة الثالثة: حادثة سراقة بن مالك بن جعشم.

لما أيست قريش منهما أرسلوا لأهل السواحل أن من أسر أو قتل أحدهما كان له مائة ناقة، وكان من دأب أبي بكر أنه كان خلف النبي صلى الله عليه وسلم وكان معروفاً فيلقى الرجل أبا بكر فيقول: من هذا الرجل الذي بين يديك؟

فيقول: هذا الرجل هاد يهديني الطريق؛ فيفهم من كلام أبي بكر أنه يعني به الطريق وإنما يعني سبيل الخير .

وتبعهم في الطريق سراقة بن مالك بن جعشم وكان قد علم من رسل كفار قريش أنهم يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر دية كل واحد منهما مائة ناقة لمن قتله أو أسره، 

قال سراقة: بينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج إذ أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس فقال: يا سراقة إني رأيت آنفاً أسودة بالساحل أراها محمدا أو أصحابه….

قال سراقة: فعرفت أنهم هم  ، فقلت له: ليسوا هم ولكنك رأيت فلاناً وفلاناً انطلقوا بأعيننا ؛ ثم لبثت في المجلس ساعة ثم قمت، فأمرت جاريتي أن تخرج فرسي وهي من وراء أكمة فتحبسها علي، وأخذت رمحي فخرجت من ظهر البيت ، حتى أتيت فرسي فركبتها فدفعتها حتى دنوت منهم فعثرت بي فرسي فخررت عنها …. فقمت فأهويت بيدي إلى كنانتي، فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها أضرهم أم لا؟ 

فخرج الذي أكره فركبت فرسي وعصيت الأزلام،  حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات، ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغنا الركبتين فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها، فلما استويت قائمة إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره.

فناديتهم بالأمان فوقفوا فركبت فرسي حتى جئتهم ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيته من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له : إن قومك قد جعلوا فيك الدية وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزآني ولم يسألاني إلا أنه قال: اخف عنا .

قال سراقة: فسألته أن يكتب لي كتاب أمن فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أديم ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولما همّ سراقة بالانصراف قال له النبي صلى الله عليه وسلم : كيف بك يا سراقة إذا لبست سواري كسرى؟! 

قال سراقة: كسرى بن هرمز ؟!!!!!!!

قال عليه السلام: كسرى بن هرمز .

ودارت الأيام دورتها فإذا بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي خرج من مكة مستتراً بجنح الظلام مهدوراً دمه يعود إليها سيداً فاتحاً تَحُفُّه الألوف المؤلفة من جند المسلمين … ويأتي سراقة النبي صلى الله عليه وسلم، ويعلن إسلامه بين يديه، ويتراءى له ذلك اليوم الذي هم فيه بقتل محمد صلى الله عليه وسلم من أجل مائة من النوق، وبعد أن أسلم أصبحت نوق الدنيا لا تساوي عنده قلامةً من ظفر النبي صلى الله عليه وسلم.

 ودارت الأيام دورتَها كرةً ثانية وآل أمر المسلمين إلى الفاروق عمر رضوان الله تعالى عليه، وفي ذات يوم من آخر أيام خلافته قَدِم على المدينة رُسُلُ سعد بن أبي وقاص، يبشرون عمر بالفتح، ويحملون إلى بيت مال المسلمين الغنائم، وكان من بين هذه الغنائم تاج كسرى المرصع بالدر، وثيابه المنسوجة بخيوط الذهب، ووشاحه المنظوم بالجوهر، وسواراه، وما لا حصر له من النفائس، نظر عمر إلى هذا كله في دهشة، وجعل يقلبها بقضيب كان بيده زهداً بها، ثم قال: إن قوماً أدوا هذا لأمناء، وكان في حضرته سيدنا علي رضي الله عنه، قال يا أمير المؤمنين: أعجبت من أمانتهم، لقد عففت فعفوا، ولو رتعت لرتعوا، وهنا دعا الفاروقُ عمر سراقة بن مالك فألبسه قميص كسرى، ووضع على رأسه تاجَه، وألبسه سواريه، ثم قال عمر لسراقة: بخٍ بخٍ أعيرابي (تصغير أعرابي)من بني مدلج على رأسه تاج كسرى، وفي يديه سواره.

فحمل عَهْدُ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لسراقة عدّة نبوءات: منها فتح بلاد فارس، ومنها بقاء سراقة على قيد الحياة إلى أن تُفتح فارس ويلبس سواري كسرى، وهو ما تمّ بعد وفاته صلّى اللّه عليه وسلّم.

المعجزة الرابعة: شاة أم معبد.

 اجتاز النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وصاحبه في طريقهما بأم معبد فسألاها هل عندك شيء؟ فقالت: والله لو كان عندنا شيء ما أعوزناكم القرى (الضيافة)والشاة عازب؛ لأنهم كانوا مسنتين (مجدبين) ؛ 

فنظر رسول الله إلى شاة في كسر الخيمة فقال: ما هذه الشاة يا أم معبد؟ 

قالت: شاة خلفها الجهد عن الغنم .

قال: هل بها من لبن؟ 

قالت: هي أجهد من ذلك، فقال: أتأذنين لي أن أحلبها قالت: بأبي وأمي إن رأيت بها حلباً فاحلبها، فمسح بيده ضرعها وسمى الله ودعا فدرت ؛ فدعا بإناء فشربت حتى رويت وسقى أصحابه حتى رووا ؛ ثم شرب وكان آخرها شرباً وقال: ساقي القوم آخرهم شرباً ثم حلب فيه ثانياً حتى ملأ الإناء وتركه عندها ثم ارتحلوا.

قالت أم معبد في رواية: وكنا نحلبها صبوحاً وغبوقاً (بكرة وعشية) وما في الأرض قليل ولا كثير مما يتعاطى الدواب أكله، ولما جاء زوجها أبو معبد عند المساء يسوق أعنزاً عجافاً ورأى اللبن الذي حلبه عجب فقال: من أين لك هذا؟ والشاة عازب ولا حلوب بالبيت؟ 

قالت مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت ومن حاله كذا وكذا، قال: صفيه، فوصفته فقال لها : هذه والله صفة صاحب قريش ولو رأيته لاتبعته.

الدرس الثالث : الثقة في نصر الله

و أصحاب الدعوات لا ينظرون إلى الأمور على ضوء الحاضر المؤلم ، و الآفاق المظلمة ، الحاضر الذي يحكم فيه الحصار حول الدعوة و التضييق على الدعاة ؛ لأن ثقتهم في وعد الله رغم العقبات تجعل هذه العقبات هباءً منثوراَ ، و هذا اليقين هو الذى نطق به صلى الله عليه وسلم و هو يسوق هذه البشرى لسراقة بن مالك ( كيف بك إذا لبست سوارى كسرى).

الدرس الرابع : الجميع أسهم في الهجرة 
لقد قدم على بن طالب دورا عظيم في الهجرة حيث نام رضي الله عنه في مكان الرسول الكريم، وهو يعلم ان أربعين سيفا تنتظره  ستهوى عليه بعد قليل ، ولكنه لإيمانه بعظيم عمله ثبت وتشجع وأدى دوره على أحسن وجه.

فالعمل على تنمية طاقات الشباب ودفعهم الى الامام واستغلال ما بداخلهم من طاقة عظيمة تمكنهم من تغيير الوضع الحالي ،ويتذكر شبابنا أن الصبر دائما تكون نهايته سعيدة ، إلا أنه يجب أن يكون مصحوب بالتوكل على الله، والأخذ بالأسباب ،فعلى شبابنا أن يسعوا ويجتهدوا في عملهم مع الصبر ،وليعلموا دائما أن بعد العسر يسر

وكذلك الرفع من شأن المرأة وحثها على التقدم ،وعدم الاقلال من شأنها في المجتمع فهي التي بإمكانها أن تخرج لنا دعائم لبناء أمة إسلامية قوية ،تعمل على رفع راية الإسلام عالية مرفوعة ،ولا أحد فينا يستنكر الدور الذي أدته أسماء بنت أبى بكر عندما صمدت أمام قادة قريش وأبت أن تفشي سر رسول الله ،علاوة على ما قامت به أثناء الرحلة العظيمة من حرصها على أن تقدم المؤن للرسول الكريم وتذهب له بالطعام والشرابعلى الرغم من كونها حاملا  .

فالالتحام والتعاون فيما بيننا نحن المسلمين ،والثبات أمام الأزمات ،والحرص الدائم أن يكون هدفنا واحد ،نسعى دائما من أجل الوصول إليه ،وأن نتخلى عن روح العصبية التي قد تؤدي بنا إلى الانقسام ،ومن ثم إلى الانهزام الذي لا يجني ثماره إلا نحن .

ولا يخفى علينا ما كنا بين المهاجرين والانصار من تلاحم وايثار جمعهم الاسلام ليوحد كلمتهم وهدفهم في الحياة ألا وهو بناء دولة اسلامية عالية الشأن.

بالهجرة أصحبت الأمة قوية ، و كانت الهجرة بداية القوة عند المسلمين قاعدة و قيادة ، و أسهم الجميع في صنع أحداث الهجرة و ما بعدها ، أفراداً و أسر ، رجالاً و نساءً ، شيوخاً و شباباً ، أغنياءً و فقراءً ، أصحاءً و مرضى ، فبنوا جميعا الدولة الإسلامية و ثبتوا أركانها ، إن الذى صنع تاريخ الأمة هي الأمة بكاملها التفت حول رسولها و قائدها و منهجها ، و الأمة اليوم مدعوة أن تصنع تاريخها و تغيير حاضرها بنفسها ، فتوجه الأحداث و تؤثر فيها.

الدرس الخامس: الهجرة تضحية بكل شيء في سبيل الدين

إن أعز ما يملكه الإنسان في هذه الحياة هو دينه ، و الذى لابد له من تكاليف ، و التكاليف لابد لها من تضحيات ، و أبرز دروس الهجرة المباركة هي التضحية ، و التضحية قاسم مشترك لكل من هاجر ، و الهجرة شهادة صدق و تأييد لصاحبها بأنه يؤثر ما عند الله على هوى نفسه ، و يضحى بكل ما يملك في سبيل العقيدة التي آمن بها ، و اختلطت بروحه ودمه .

 لقد اشتملت الهجرة المباركة على نماذج رائعة ، تملك علينا كل المشاعر ، و نرى فيها سلوكيات تربوية رائدة ، نحتاج إليها في مسيرتنا و تحتاج إليها الأمة في جهادها و صناعة تاريخها ، فهذا أبو بكر ، و هذا على بن ابى طالب ، و هذا صهيب الرومي ، و هذا ضمرة بن جندب ، و هذه أم سلمة ، و هؤلاء أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نماذج ضحت بكل شيء ، المال و النفس و الوطن و الولد و الزوجة و الزوج.

الدرس السادس: مداومة الدعوة و الحرص على استمرارها

إننا نجد من معانى الهجرة الانتقال إلى موقع أفضل للدعوة ، و التماس المناخ الأرحب لنشرها بين الناس ، إن واجب الدعوة إلى الله ليس له وقت محدد كالصلاة و الصيام ، فهي واجب كل وقت ، و هي شاغل المؤمن و همه في كل حين ، و هذا الدرس نتعلمه من النبي صلى الله عليه و سلم و هو في طريقه إلى المدنية ، حيث لقى بريدة بن الحصيب الأسلمي فدعاه فاسلم بريدة هو و من معه.

كلمة أخيرة: الهجرة الباقية المستمرة

الهجرة منهج للتغيير و الإصلاح

إننا فى حاجه ماسة اليوم إلى تحقيق هذه الهجرة في حياتنا ، هجرة إلى الله و رسوله بفعل الطاعات و ترك المنكرات ، هجرة من الشر و الرذيلة إلى الخير و الفضيلة ، هجرة من الفرقة إلى الوحدة ، هجرة من السلبية إلى الإيجابية لتغيير الواقع المؤلم الذى تعيشه الأمة.

قال الإمام العز بن عبد السلام: الهجرة هجرتان: هجرة الأوطان، وهجرة الإثم و العدوان، و أفضلها هجرة الإثم و العدوان؛ لما فيها من إرضاء للرحمن و إرغام النفس و الشيطان.

و قال الإمام ابن القيمالهجرة فرض عين على كل أحد في كل وقت ، و أنه لا انفكاك لأحد من وجوبها ، و هي مطلوب الله و مراده من عباده ، إذ الهجرة هجرتان : هجرة بالجسم من بلد إلى بلد.

و الهجرة الثانيةالهجرة بالقلب إلى الله و رسوله ، و هذه الهجرة الحقيقية ، و هى الأصل و هجرة الجسد تابعة لها ، و هي هجرة تتضمن ( من ) و ( إلى ) فيهاجر بقلبه من محبة غير الله إلى محبته ، و من عبودية غيره إلى عبوديته ، و من خوف غيره و رجائه و التوكل عليه إلى خوف الله و رجائه و التوكل عليه ، و من دعاء غيره و سؤاله و الخضوع له و الذل و الاستكانة له إلى دعائه و سؤاله و الخضوع له و الذل و الاستكانة له.

فأول مراحل الهجرة ترك المعاصي، والبُعْد عن مواطن الشبهات، ولن ينصر الدين رجل غرق في شهواته، والمعروف أن ترك المعاصي مقدم على فعل فضائل الأعمال، والإنسان قد يُعذر في ترك قيام أو صيام نفل أو صدقة تطوع، لكنه لا يُعذر في فعل معصية.

 وذلك كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : “إِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ”؛ رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة

ولذلك عرَّف الرسول صلى الله عليه وسلم المهاجر الحقيقي بتعريف عميق من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، فقال فيما رواه أحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: “إِنَّ الْمُهَاجِرَ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ“.


اترك ردا

بدريك الإلكتروني لان يتم نشره.


قناة فتاوى أون لاين

تم إنشاء قناة جديدة تحت عنوان فتاوى أون لاين للإجابة على الفتاوى الشرعية
رابط الانضمام

رابط تيليجرام

الواتس اب

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

رسالة الدكتوراة المناهج الدعوية للأنبياء من خلال سورة هود

 رسالة الدكتوراة المناهج الدعوية للأنبياء من خلال سورة هود   ما أجمل أن يتلمس الدعاة في عصرنا الحاضر السير على خطى الأنبياء، والتخلق بأخلاقهم، والاقتداء بهم في الدعوة إلى الله بالحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، من خلال المنهج القرآني في عرض قصصهم، وأحوالهم مع أقوامهم؛ من خلال دراستي لأحد سور القرآن (سورة هود)

تاريخ الإضافة : 24 أبريل, 2024 عدد الزوار : 28 زائر

خطبة الجمعة

تفسير القرآن

شرح صحيح البخاري

شرح مدارج السالكين

جديد الموقع