الإيمان بالله والسكينة وراحة النفس وسكون القلب:
يقول الدكتور محمد الصلابي في كتابه عن القضاء والقدر
الكاتب المشهور “ر. ن. سي. بودلي” مؤلف كتابي “رياح على الصحراء” و”الرسول” وأربعة عشر كتاباً أخرى، والذي أورد رأيه “دبل كارينجي” في كتابه “دع القلق وأبدأ الحياة” في مقالة بعنوان “عشت في جنة الله” يقول بودلي: في عام 1918م وليت ظهري العالم الذي عرفته طيلة حياتي، ويممت شطر أفريقيا الشمالية، الغربية، حيث عشت بين الأعراب في الصحراء وقضيت هنالك سبعة أعوام، وأتقنت خلالها لغة البدو، وكنت أرتدي زيهم وآكل من طعامهم، واتخذ مظاهرهم في الحياة، وغدوت مثلهم أمتلك أغناماً وأنام كما ينامون في الخيام، وقد تعمقت في دراسة الإسلام حتى إنني ألفت كتاباً عن محمد صلى الله عليه وسلم وعنوانه “الرسول”،
وكانت تلك الأعوام السبعة التي قضيتها مع هؤلاء البدو الرحل من أمتع سني حياتي، وأحفلها بالسلام، والإطمئنان والرضا بالحياة، وقد تعلمت من عرب الصحراء كيف أتغلب على القلق، فهم ـ بوصفهم مسلمين ـ يؤمنون بالقضاء والقدر، ساعدهم هذا الإيمان على العيش في أمان، وأخذ الحياة مأخذاً سهلاً هيناً، فهم لا يتعجلون أمراً، ولا يلقون بأنفسهم بين براثن الهم قلقاً عل أمر، إنهم يؤمنون بأن ” ما قدر يكون” وأن الفرد منهم “لَّن يُصِيبَه إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَه”،
وليس معنى هذا أنهم يتواكلون أو يقفون في وجه الكارثة مكتوفي الأيادي كلا . ثم أردف قائلاً: ودعني أضرب لك مثلاً لما أعنيه، هبت ذات يوم عاصفة عاتية حملت رمال وادي “الرون” في فرنسا وكانت العاصفة حارة شديدة الحرارة، ولكن العرب لم يشكو إطلاقاً، فقد هزوا أكتافهم، وقالوا كلمتهم المأثورة “قضاء مكتوب”، لكنهم ما أن مرت العاصفة حتى اندفعوا إلى العمل بنشاط كبير فذبحوا صغار الخراف قبل أن يودي القيظ بحياتهم، ثم ساقوا الماشية إلى الجنوب نحو الماء، فعلوا هذا كله في صمت وهدوء، دون أن تبدو من أحدهم شكوى، قال رئيس القبيلة الشيخ: لم نفقد الشئ الكثير، فقد كنا خليقين بأن نفقد كل شئ، ولكن حمداً لله وشكراً، فإن لدينا نحو أربعين في المائة من ماشيتنا، وفي استطاعتنا أن نبدأ بها عملنا من جديد .
وثمة حادثة أخرى، فقد كنا نقطع الصحراء بالسيارة يوماً فانفجرت إحدى الإطارات، وكان السائق قد نسي استحضار إطار إحتياطي، وتولاني الغضب وانتابني القلق والهم، وسألت صاحبي من الأعراب: ماذا وعسى أن نفعل؟ فذكرني بأن الاندفاع إلى الغضب لن يجدي فتيلاً، بل هو خليق أن يدفع الإنسان إلى الطيش والحمق، ومن ثم درجت بنا السيارة وهي تجري على ثلاث إطارات ليس إلا، لكنها ما لبثت أن كفت عن السير، وعلمت أن البنزين قد نفذ، وهنالك أيضاً لم تثر ثائرة أحد من رفاقي الأعراب، ولا فارقهم هدوؤهم، بل مضوا يقطعون الطريق سيراً على الأقدام .
وبعد أن استعرض بودلي تجربته مع عرب الصحراء علق بقوله: قد اقنعتني الأعوام السبعة التي قضيتها في الصحراء بين الأعراب الرحل ـ أن مرض النفوس، والسكيرين الذي يحفل بهم أمريكا، وأوربا ـ ما هم إلا ضحايا المدنية التي تتخذ السرعة أساساً لها، إنني لما أعان شيئاً من القلق قط وأنا أعيش في الصحراء، بل هنالك في جنة الله وجدت السكينة والقناعة والرضا .
وأخيراً ختم كلامه بقوله: وخلاصة القول أنني بعد انقضاء سبعة عشر عاماً على مغادرتي الصحراء ـ ما زلت أتخذ موقف العرب حيال قضاء الله، فأقبل الحوادث التي لا حيلة لي فيها بالهدوء والامتثال والسكينة، ولقد أفلحت هذه الطباع التي اكتسبتها من العرب في تهدئة أعصابي أكثر مما تفلح آلاف المسكنات والعقاقير .